«لوزة» لا تدفع الحساب

لم يكُن الرجل سوى … المفتِّش «سامي».

وترك الأصدقاء جميعًا المائدة، واندفعوا إليه يحيِّونه بمنتهى الحرارة … فقد كانت مفاجأة لهم لا يمكن تقديرها.

وحمل المفتش «سامي» «لوزة» بين ذراعَيه كالمُعتاد، وقال مُبتسمًا: إنني أشمُّ رائحة سمك مَقلي!

قالت «لوزة» ووجهها كله يبتسم: ألمْ تتناول غداءك بعد؟

المفتش: لا.

لوزة: يا لها من صدفةٍ مُمتِعة … هذه أول مرة نأكل فيها معًا … لقد شرِبنا معًا كثيرًا من الشاي … والمثلَّجات … وأكلنا معًا قِطع «الجاتوه» … ولكن السمك المقلي … لا أظن!

ودخل المفتش يغسل يدَيه ثم عاد، وجلس إلى المائدة وقال: من هو الطبَّاخ العبقري الذي فعل كل هذا؟

رد «عاطف» بسرعة: أنا طبعًا.

صاحت «لوزة»: أبدًا … إننا جميعًا قد اشتركنا في العمل!

ابتسم المفتش وهو يُمسِك بقطعة سمك ويرفعها إلى فمه: وهل كنت تظنِّين يا «لوزة» أنني يمكن أن أصدِّق «عاطف»، إنني أعرف أنه يَسخر بالطبع، ولعله أقل واحد فيكم قد اشترك في العمل.

ضحِك «عاطف» وقال: كيف عرفت؟

المفتش: ألا تذكُر أنني أشتغل مُفتشًا في المباحث الجنائية؟

عاطف: وهل جئت إلى «سيدي عبد الرحمن» بهذه الصفة؟

غابت الابتسامة عن وجه المفتش لحظةً سريعة، ثم قال بهدوء: دعُونا نتناول هذا الغذاء الشهيَّ دون الحديث في العمل … فهو يُفسِد الشهيَّة.

تختخ: وكيف عرفت أننا هنا؟

وعاوَد المفتش الابتسام وقال: هل هذه مشكلة يا «توفيق»؟ لقد اتَّصلت بمنزلكم وقال لي والدك إنكم هنا … وقد كانت مفاجأةً مُفرحة لي أن أعلم أنني سأراكم هنا.

ومضى الجميع يأكلون في شهيَّة … حتى إذا انتهى الغداء قال المفتش: دون مبالغةٍ هذه الأكلة من أمتع الأكلات التي تناولتُها في حياتي!

محب: بالهناء والشفاء.

نوسة: هل تأكل بِطِّيخًا … أم تفضِّل كوبًا من الشاي؟

المفتش: بل كوب من الشاي هو ما أحتاجه … فإنني لم أنَم طول الليل، وأريد شيئًا ينشِّطني.

نوسة: دقائق قليلة.

خرج الجميع إلى الشُّرفة، وتمدَّد المفتش في كرسيٍّ طويل من القماش «شيزلونج»، ووضع ساقًا على ساق … وألقى برأسه إلى الخلف، وأطلق آهةً دلَّت على تعبه الشديد.

جلس المغامرون صامتين … حتى «زنجر» أخذ يتناول طعامه في صمتٍ هو الآخر، وكان هواء البحر البارد يهبُّ هادئًا … ويتلاعب بشعر المفتش … ومضت بضع دقائق دون أن يتحدث أحد … ثم ظهرت «نوسة» وهي تحمل كوب الشاي … واقتربت من المفتش، وهي تمدُّ يدَيها بالصينية … ولكن المفتش لم يمدَّ يده … ونظرت «نوسة» إليه ووجدت أجفانه مُطبِقة … وقد ذهب في نومٍ عميق.

عادت «نوسة» بالصينية، ونظر إليها الأصدقاء، فقالت هامسةً: لقد نام.

أشار «تختخ» للأصدقاء فانسحبوا جميعًا في هدوء … وعندما ابتعدوا مسافةً كافيةً قال «تختخ»: إنه في أشد الحاجة إلى الراحة … فدعوه نائمًا، وهيَّا بنا نذهب إلى الفندق … نشرب شيئًا باردًا.

لوزة: لعل الصحف تكون قد وصلت.

عاطف: ولا نجد فيها شيئًا عن السيارة المفقودة … وتدفعين أنت الحساب …

لوزة: موافقة.

واتَّجهوا جميعًا إلى الفندق … وتركوا «زنجر» بجوار المفتش، وعندما وصلوا إلى الفندق سألوا عن الصحف، فقال موزِّع الصحف: إنها لم تأتِ بعد … ربما بعد نصف ساعة.

وقرَّروا أن ينتظروا … فاختاروا مائدةً قريبة من البحر، وجلسوا حولها يتحدَّثون.

فقال «محب»: إن المفتش كما يقول لم ينَم طول الليل … ومن الواضح أنه مُجهَد جدًّا، فهل جاء في إجازة؟

لوزة: لا أعتقد … فما الذي يجعله لا ينام طول الليل إذا كان في إجازة؟

محب: لعل إجازته تبدأ اليوم … وسهِر أمس في إنجاز ما عنده من أعمال.

نوسة: جائز جدًّا.

تختخ: أرجِّح جدًّا أنه جاء في عمل.

محب: كيف عرفت؟

تختخ: عندما سأله «عاطف»: هل جئت إلى «سيدي عبد الرحمن» بصفتك ضابط مباحث؛ أي في عمل؟ … لاحظت أن الابتسامة غابت عن وجهه لحظةً، وبدا عليه الضِّيق … وأرجِّح أن هناك قضيةً غامضة يحقِّقها المفتش، أو أنه يُطارد مُجرمًا عاتيًا مُختبئًا في هذه المنطقة.

عاطف: ولماذا تُتعِبون أذهانكم بالاستنتاج؟ سوف نعرف بعد أن يستيقظ من النوم.

لوزة: لعله يُخفي عنا … فقد تكون المسألة خطيرة جدًّا … وأحيانًا يُحب المفتش أن يُبعدنا عن القضايا الخطيرة حتى لا نُصاب بأذًى.

وجاءت زجاجات «الكوكاكولا» المثلَّجة … وانهمكوا جميعًا في الشُّرب. وقال «تختخ»: لقد جئنا إلى «سيدي عبد الرحمن» في المرة السابقة دون أن يكون في ذهننا أي شيء عن أي مغامرة، ولكننا اشتركنا في مغامرة من أخطرِ ما مرَّ بنا.

محب: من يدري … لعلنا لا نعود من هذه الرحلة بأيدينا فارغة؟

ومضَوا يتحدثون … وظهر موزِّع الجرائد يحمل إليهم الصحف … وأسرعَت «لوزة» ملهوفةً، وأخذت إحدى الصحف وانهمكت في قراءتها، وكذلك فعل «عاطف» و«نوسة».

وبعد لحظاتٍ قال «عاطف»: آسف جدًّا يا «لوزة»، ستدفعين الحساب … وهو مَبلغٌ محترم، قد يعلِّمك ألا تندفعي في الحديث عن الألغاز والمغامرات بمناسبة وبدون مناسبة.

كانت «لوزة» تُخفي وجهها في الصحيفة. لقد بحثت جيدًا في جميع الصفحات، وبخاصةٍ صفحة الحوادث، دون أن تعثُر على كلمةٍ واحدة تُشير إلى اختفاء السيارة … وأخذت «لوزة» تحسب ثَمن الكوكاكولا، ووجدته مَبلغًا باهظًا … ولكن لم يكُن هناك بدٌّ من الدفع.

ووضعَت الصحيفة جانبًا ونظرت إلى المغامرين … ووجدتهم جميعًا يبتسمون، فوضعَت يدها في جيبها وأخرجت ثمن الكوكاكولا، ثم وضعته على المائدة، وغادَرتها مُسرعةً.

نظر الأصدقاء إليها في دهشة … ولكن «تختخ» وحده كان يفهم … إنها حسَّاسة جدًّا ولا تُحبُّ أن تخسر معركة … وهكذا قام هو الآخر خلفها — وبرغم سِمنته — فقد جرى مُسرِعًا حتى لحِق بها وهي تمشي في الرِّمال … وقال وهو يمدُّ يده يُمسِك بذراعها: ماذا جرى؟! إننا نتسلَّى ولا نتحدَّى!

التفتت إليه «لوزة» وقالت: صدِّقني أنا لستُ آسفة لأنني خسرت المعركة.

تختخ: أمنْ أجل النقود إذن؟

لوزة: أبدًا … أبدًا …

تختخ: فهمت.

لوزة: إنك دائمًا تفهمني.

تختخ: كنتِ تُريدين مغامرة.

لوزة: تمامًا.

تختخ: ستكون بين يدَيك مغامرةٌ مُدهِشة بعد قليل!

احمرَّ وجه «لوزة» الجميل وهي تقول: كيف عرفت؟

تختخ: ما دُمنا وحدنا فسأقول لك … إنني أظن …

ثم توقَّف عن الحديث، فقالت «لوزة»: تظنُّ ماذا؟

تختخ: لا داعيَ لأن أقول من الآن … المسألة كلها دقائق وتعرفين.

لوزة: إنك تبدو أكثر غموضًا من المفتش.

تختخ: هيَّا بنا إليه … لعلَّه قد استيقظ.

وسارا معًا على مهل … يقِفان أحيانًا يرقُبان الشمس التي اقترب مَوعِد غروبها، أو يُلاحظان بعض الأطفال يلعبون الكُرة، أو بعض الكبار يتمشَّون وهم يضحكون … ثم يُعاودان المسير.

وعندما اقتربا من الكشك، كانت في انتظارهما مفاجأة …

لم يكُن المفتش موجودًا … وقالت «لوزة» بضِيق: لقد انصرف المفتش؛ فهو ليس موجودًا في الشُّرفة!

تختخ: إنه لم ينصرف.

لوزة: كيف عرفتَ؟

تختخ: لأن باب الكشك مفتوح … ولو كان المفتش قد انصرف لأغلقه.

لوزة: أنت مُدهِش.

وفعلًا ظهَر المفتش خارجًا من الكشك وفي يده كوب الشاي، وعندما رآهما لوَّح لهما بيده من بعيد.

ووصلا إليه، وكان جالسًا يشرب الشاي، وعيناه تنظران بعيدًا في الفضاء. وقال «تختخ»: هل نِمتَ ما يكفي؟

المفتش: لقد ارتحت تمامًا … كنت في حاجة إلى هذه الساعة من النوم، وإلا سقطت من طولي.

تختخ: إنك لم تأتِ إلى «سيدي عبد الرحمن» للتنزُّه أو النوم!

المفتش: لا طبعًا.

تختخ: جئت تبحث عن …

المفتش: عن سيارةٍ اختفت بين ميناء «الحمراء» و«الإسكندرية»!

وأطلقت «لوزة» صرخةَ ابتهاجٍ عالية … والتفت إليها المفتش في دهشة … وابتسم «تختخ» …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤