هذا الجانب … أو هذا الجانب

قال المفتش في دهشة: ما سرُّ ابتهاجك المُفاجئ يا «لوزة»؟

صاحت «لوزة» وهي تطبع قُبلةً سريعة على خد المفتش: إنني سأستردُّ ثمن الكوكاكولا.

زادت دهشة المفتش؛ لأنه لم يفهم شيئًا، فأسرع «تختخ» يقول: لقد سمِعت «لوزة» شخصَين يتحدثان عن اختفاء سيارة، ولما روَت لنا ما سمعت، سخِر منها «عاطف» كالمُعتاد، واتَّفقا على أن تكون الصُّحف هي الحكم بينهما … إذا لم تنشر خبر اختفاء السيارة، دفعت «لوزة» ثمن خمس زجاجات كوكاكولا … وإذا نشرت الخبر دفع «عاطف» الثمن … ولم تنشر الصحف الخبر.

قال المفتش: إن الخبر صحيح … ولكننا وجدنا أنه لمصلحة التحقيق إخفاء الخبر فترةً من الوقت.

تختخ: وهي تُخفي الخبر عنَّا أيضًا؟

فكَّر المفتش لحظاتٍ ثم قال: ليس بسبب خطورة المسألة، ولكن بسبب المساحة الواسعة من الأرض التي اختفت فيها السيارة … إنها اختفت في مساحةٍ تبلُغ ١٥٠ كيلومترًا طولًا … فأنتم لن تتمكَّنوا أبدًا من الاشتراك في البحث عنها.

تختخ: على الأقل نقدِّم بعض الاستنتاجات.

المفتش: سأقول لكم … فأنتم موضع ثِقتي … والمسألة ببساطةٍ أن إحدى الشركات المصرية تقوم بمسح الصحراء في هذه المنطقة، والبحث عن المعادن والبترول وغيرها، وذلك بواسطة مَعمل مُتحرك تحمله سيارة من طِراز «كينور»، وهذه السيارة يُمكِن أن تحمل بيتًا صغيرًا نظرًا لضخامتها.

وسكت المفتش لحظاتٍ ثم مضى يقول: ومنذ أسابيع عثَرَت الشركة على نوع من المعادن المُشعَّة ذات الأهمية العلمية … ولست أُبالغ إذا قلت: إن هذا يُعتبر من أهم الاكتشافات في بلادنا منذ زمنٍ بعيد … وقام العلماء في المَعمل المُتحرك بتحليل العيِّنة، وتأكَّدوا من أهميتها … وأمس الأول تحرَّكوا ليلًا في طريقهم إلى الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة، ولكن السيارة لم تصِل إلى الإسكندرية.

وهزَّ المفتش رأسه ومضى يقول: وأرسلنا عِدَّة دَوريَّات لاسلكية قطعت الطريق بين ميناء الحمراء والإسكندرية عِدَّة مرَّات للبحث عن السيارة، ولكن لم نجد لها أي أثر. وهي كما قلت لكما ليست سيارةً عادية، إنها سيارةٌ ضخمة جدًّا، ونادرة الطِّراز، واختفاؤها أمرٌ لا يمكن تصديقه … إلا إذا كانت قد طارت في الهواء مثلًا، أو اختفت في الأرض … وهما طبعًا فرضان مُستحيلان.

تختخ: إنها مشكلةٌ غريبة فعلًا.

المفتش: ونحن نقوم الآن بفحص المنطقة كلها من منطقة ميناء الحمراء حتى الإسكندرية، وذلك بالطبع أمرٌ غاية في الصعوبة … فالمسافة واسعة جدًّا، وقد هبَّت الريح خلال اليومين الماضيين … فأضاعت ما يمكن أن يوجد من آثار على الرِّمال … بفرض أن السيارة دخلت في الرِّمال لسببٍ لا نعرفه.

كانت «لوزة» تستمع إلى حديث المفتش وذِهنُها اللمَّاح يعمل بسرعةٍ خارقة، ولكن اختفاء السيارة «الكينور» بَدا لها مُستحيلًا … لو كانت سيارةً صغيرة لاختلف الأمر … ولكن سيارة تحمل مَعملًا، وبها رجال، وتختفي هكذا دون أن تترك أثرًا … مسألةٌ مُستحيلة!

تختخ: وهل انتشر الخبر في المنطقة؟

المفتش: إلى حدٍّ ما … بدليل ما سمِعته «لوزة».

تختخ: ومتى كان تحرُّك السيارة؟

المفتش: تحرَّكت في حوالَي الساعة الثامنة مساءً لتصل إلى الإسكندرية قُرب الفجر.

قام المفتش واقفًا وهو يقول: هذه هي كل المعلومات التي لدينا، وسيجد المغامرون الخمسة أنها لا تؤدي إلى شيء.

قام «تختخ» و«لوزة» ومشَيا مع المفتش قليلًا حتى وصلوا إلى قُرب فندق «سيدي عبد الرحمن»، وودَّعاه، وعادا إلى الكشك الخشبي صامتَين، ولكن هذا الصمت تحوَّل إلى صخبٍ شديد عندما وصل بقيَّة المغامرين … فقد قامت «لوزة» فورًا وقالت ﻟ «عاطف»: والآن … عليك أن تدفع لي ثمن الكوكاكولا.

قال «عاطف»: ماذا تقولين؟!

لوزة: ادفع ثمن الكوكاكولا … إن خبر اختفاء السيارة صحيح.

نظر «عاطف» إلى «تختخ» الذي قال مُبتسمًا: فعلًا لقد روى لنا المفتش قصة اختفاء السيارة، وهي قصةٌ مُدهِشة وشديدة الغموض. وما دام الخبر صحيحًا، فعليك أن تدفع ثمن الكوكاكولا ﻟ «لوزة».

وانضمَّ «محب» و«نوسة» إلى صفِّ «لوزة» … ولم يكُن أمام «عاطف» إلا أن يدفع المبلغ، ثم أحاط المغامرون «تختخ» وطلبوا منه أن يرويَ لهم القصة كما سمِعها من المفتش.

أخذ «تختخ» يروي القصة … وبين لحظة وأخرى كان يتوقف عن الحديث … وتبدو عليه علامات التفكير، ثم يعود مرةً أخرى يروي.

وعندما انتهى من حديثه عاد يلخِّص الموقف في أربع نقاط رئيسية:
  • السيارة الضخمة ماركة «كينور» … عليها معمل تحاليل، وبه خمسة رجال.

  • مساحة الأرض التي اختفت فيها السيارة نحو ١٥٠ كيلومترًا مربَّعًا.

  • البحث لم يُسفِر عن وجودها في أي مكان.

  • التحرُّك كان في الساعة الثامنة من قرب ميناء الحمراء، وهو ميناء صغير يُستخدم في تفريغ البترول.

سأل «محب»: ما هي السرعة العادية التي تتحرك بها سيارةٌ ضخمة بها معمل؟

فكَّر المغامرون لحظاتٍ ثم قال «تختخ»: أعتقد أن تكون بين ٤٠ إلى ٦٠ كيلومترًا لا أكثر.

وساد الصمت، وبدأت الشمس تلوِّن البحر باللون الأحمر وهي في طريقها إلى الغروب … والريح تهبُّ باردةً مُنعِشة من البحر … وعشرات من المصيِّفين يسيرون على الشاطئ يستمتعون بالمساء الجميل.

قالت «لوزة» فجأةً: ماذا تفعل؟

رد «عاطف»: لا شيء، إننا حتى لم نأتِ بالدرَّاجات معنا؛ ومعنى ذلك أنَّا لا يُمكِننا الحركة مُطلِقًا … وحتى لو تحرَّكنا فأين نعثُر على السيارة إذا لم يكُن رجال الشرطة بكل ما يملكون من أجهزة وسيارات قد استطاعوا العثور عليها؟!

قالت «لوزة» مُتحمسةً: ليس من الضروري أن يكون عندنا أجهزة وسيارات لكشف غموض اختفاء السيارة … إن الأجهزة الضرورية موجودة هنا.

وأشارت «لوزة» إلى رأسها.

قال «عاطف» ساخرًا: إن العلماء صنعوا أجهزة … ولكن «لوزة» قاطَعَته قائلةً وقد أشارت مرةً أخرى إلى رأسها: إن المخَّ البشريَّ أعظم جهاز؛ لأنه من خَلقِ الله.

أحسَّ «عاطف» بالحرج وقال: معك حق. لقد أردت فقط …

وقبل أن يُكمِل جملته قالت «نوسة»: إنني أرى شخصًا يتَّجه نحونا … شخص لم نرَه من قبل.

التفت الجميع إلى حيث أشارت «نوسة»، وشاهَدوا رجلًا يقترب بنشاط منهم … وعندما وصل إلى الباب حيَّاهم … وقال: إن المفتش «سامي» سيكون بانتظاركم في تمام الساعة الثامنة لتتناولوا العشاء معه.

محب: في الفندق؟

الرجل: نعم … في الصالة العُلويَّة!

ودعا الأصدقاء الرجل ليجلس قليلًا … ولكنه اعتذر بأدب، ثم غادَرهم مُسرِعًا.

نظرَت «نوسة» إلى ساعتها وقالت: الساعة الآن السابعة … أمامنا ساعة لتغيير ملابسنا.

وبدأ المغامرون يستعدُّون للذهاب إلى الفندق الضخم … وفي الثامنة تمامًا كانوا يدخلون الصالة الواسعة في الفندق، وكان في استقبالهم المفتش، وموسيقى خفيفة هادئة …

وكان عددٌ كبير من رُوَّاد الفندق يتناولون عشاءهم ويضحكون، والجوُّ كله يُوحي بالراحة والسكينة … ولكن المغامرين الخمسة كانوا يُفكرون في شيءٍ آخَر.

وجاءتهم قائمة الطعام فاختاروا منها ما شاءوا … وبدءوا يتحدثون عن الجو الجميل في «سيدي عبد الرحمن». وقال «تختخ»: لقد جئنا من قبل … ولكن الجو هذا المَوسم أفضل.

المفتش: الحقيقة كنتُ أتمنَّى أن آتيَ هنا للراحة من العمل، ولكنِّي جئت في عمل.

قالت «لوزة» بخبث وهي تبتسم: ولكنِّي أراك الآن أكثر انتعاشًا.

ابتسم المفتش ومدَّ يده يُمسِك ذقنها وقال: إنكِ غاية في الذكاء!

قالت «لوزة» وابتسامتها تتَّسع: هل يمكن أن أعرف لماذا تبدو في حالةٍ أفضل الآن؟

ضحِك المفتش بصوتٍ مُرتفع وقال: ألا يستطيع الإنسان أن يُخفيَ شيئًا عنك؟!

ثم انحنى إلى الأمام وقال: هناك أنباءٌ مشجِّعة؟

بدا الاهتمام على المغامرين، فقال المفتش: لقد فحصنا الطريق كما قلت لكم، ولم يكُن هناك شيءٌ يدلُّ على اختفاء السيارة!

لوزة: وهل وجدتم الآن شيئًا؟

المفتش: لا … ولكن وصلنا إلى تحديد المسافة التي لا بد أن تكون السيارة قد اختفت فيها … أنتم تعرفون أن هناك نُقطًا للتفتيش في «سيدي عبد الرحمن» و«العَلمين»، ثم في «العَجمي» قبل دخول الإسكندرية، وقد تأكَّدنا من نقطة تفتيش «العجمي» أن السيارة لم تمرَّ عليها … فهي إذن قد اختفت في المسافة بين «العلمين»، وهي آخر نقطة مرَّت بها السيارة في التاسعة مساءً … وبين «العجمي» … والمسافة محدودة، ويمكن البحث فيها … ولكن …!

سألت «لوزة» بلهفة: ولكن ماذا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤