حقول الموت

فكَّر المفتش لحظاتٍ ثم قال ردًّا على سؤال «لوزة»: في هذه المنطقة على يمين السائر في الطريق إلى الإسكندرية … توجد أكبر منطقة ألغام في العالم … ويُطلِقون عليها اسم غابة الألغام أو حقول الموت، وهي ممتدَّة من ميناء «الحمراء» إلى «العلمين» على امتداد حوالَي ٤٠ كيلومترًا … وهي حقول ألغام مُتخلفة من الحرب العالمية الثانية … في أثناء الصِّراع الذي دار بين قوات الألمان بقيادة «روميل» من ناحية … والقوات الإنجليزية بقيادة «مونتجمري» من ناحيةٍ أخرى … وقد ضاعت خرائط الألغام وبقِيَت هذه المنطقة من أخطر مناطق العالم … ولا يمكن الدخول إليها …

قال «محب»: ومعنى ذلك أن السيارة لا يمكن أن تكون قد دخلت فيها!

المفتش: تمامًا … ويكون أمامنا الجانب الآخَر من الطريق … أي على يسار الذاهب إلى الإسكندرية … وهذا عبارة عن شريطٍ ضيِّق من الساحل به رِمال لا يمكن أن تسير فيها سيارة، إلا السيارات الخفيفة من طِراز «جيب» … أما سيارة طِراز «كينور» تحمل مَعملًا كاملًا وخمسة رجال … فمُستحيل!

تختخ: شيءٌ مُدهِش!

المفتش: جدًّا … ولكن حصر البحث منطقةً محدودة — مهما كان إخفاء السيارة فيها مُستحيلًا — معقولٌ أكثر من البحث في مناطق شاسعة لا أول لها ولا آخِر.

نوسة: إن المهمة صعبة في جميع الأحوال يا سيادة المفتش!

المفتش: فعلًا يا «نوسة» مهمةٌ صعبة … ولكنَّا بدأنا نفحص المنطقة شبرًا شبرًا، ولو وجدنا أي دليل فلن يكون العثور على السيارة مشكلة؛ فهي ليست إبرة، إنها ضِعف حجم الأتوبيس!

وجاء العشاء وانهمك الأصدقاء في الأكل، وقد بَدت الصورة تدور في رءوسهم … السيَّارة الضخمة تخرج من ميناء الحمراء ليلًا، وبعد فترة لا تزيد عن ساعتَين تختفي …

كيف؟

وفجأةً قالت «لوزة»: لقد سألت «تختخ» عن سرعة السيارة «الكينور» فقال: إنها ربَّما تسير بسرعة بين ٤٠ إلى ٦٠ كيلومترًا في الساعة.

المفتش: لا أكثر من ٤٠ كيلومترًا لوجود المعمل … فقد سألنا الشركة التي تَتبَعها السيارة السؤال نفسه.

لوزة: في هذه الحالة من الممكن تحديد الوقت الذي اختفت فيه السيارة.

المفتش: تمامًا يا «لوزة» … وقد فعلنا ذلك.

لوزة: ومتى كان وقت الاختفاء؟

المفتش: بين الساعة التاسعة والتاسعة وخمس عشرة دقيقة تقريبًا … فنحن لا نعرف السرعة التي سارت بها السيارة بالضبط!

وعلى صوت الموسيقى الهادئة مضى المغامرون يأكلون … وتقدَّم أحد الأشخاص وهمس في أُذُن المفتش «سامي» بكلمات، فقام واقفًا واستأذن من الأصدقاء، وشاهَدوه يتَّجه إلى التليفون … وعاد بعد لحظات قائلًا: أرجو أن تُتمُّوا عشاءكم … فإنني مضطرٌّ للسفر فورًا.

تختخ: ألَا تعود قريبًا؟

المفتش: لا أدري، لقد حدَّثني مُدير الأمن العام، وطلب مني العودة إلى القاهرة.

وانصرف المفتش على الفور، ومضى الأصدقاء يُكمِلون عشاءهم، وقد استغرقوا في خواطرهم.

عندما كانوا في طريقهم إلى الكشك الخشبي … كان الظلام يَفرش الصحراء والبحر …

وقال «محب»: يا لها من ليلة للسهر.

ولكن «تختخ» ردَّ قائلًا: سننام مبكِّرين … فسوف نستيقظ في الفجر!

محب: للصيد؟

تختخ: نعم … ولكن ليس لصيد السمك … سنبحث عن صيدٍ أكبر!

فهِمت «لوزة» ما يعني «تختخ»، وقالت: هل نتدخَّل؟

تختخ: طبعًا … إنها من المغامرات التي تستهويني … فكلُّ شيء يبدو غريبًا وغامضًا، وهذا يبعث على التحدِّي.

وفعلًا استيقظوا قبل طلوع الشمس، وقال «تختخ» وهم يلبسون ثيابهم: نريد إفطارًا ثقيلًا … فلسنا نعرف متى نأكل مرةً أخرى!

عاطف: إن هذا يُشبِه عادة الحيوانات في الغابة!

محب: أو الجنود في الحرب … كُلِ الآن؛ فلست تعرف متى تأكل المرة القادمة.

وفتحت «نوسة» بعض عُلَب الفول المدمَّس … وكان «محب» يَقلي البَيض … و«لوزة» تُعدُّ المائدة، وكالمُعتاد كان «عاطف» لا يفعل شيئًا … ولكن كان أول من يجلس إلى المائدة.

وغادَروا الكشك وضوء الشمس يبدو بعيدًا في الأفق، وأخذوا معهم «زنجر» وساروا مُسرِعين، ووِجهتُهم كما قال «تختخ» قريةُ «العلمين» … وكانوا بالطبع يعرفون طريقها جيدًا؛ فقد سبق أن جاءوا إلى المكان نفسه في «لغز شاطئ السموم».

وعندما وصلوا إلى السوق كانت الحياة قد دبَّت في القرية الصغيرة، وكان القِطار القادم من «مرسى مطروح» يقف في مكانه … وقوة من رجال الشرطة تُحيط به كالمُعتاد للتفتيش …

لم يتوقَّف الأصدقاء أمام هذا المشهد طويلًا … وكان «تختخ» يسير في المقدمة، فاتَّجه على الفور إلى حيث تقف عشرات الحمير التي يأتي بها القَرويُّون محمَّلةً بالخُضَر والفاكهة، وشمِل المكان بنظرةٍ سريعة، ثم تقدَّم من أحد الرجال وقال له: نريد أن نستأجر خمسة حمير …

الرجل: خمسة مرةً واحدة؟

تختخ: نعم.

الرجل: ليس عندي إلا ثلاثة، وسآتي لكم باثنين من «حماد».

ولم يكُن «حماد» إلا ولدًا صغيرًا … أقبل مُسرعًا يقود حِمارَيه، وأخذ يُجادل كرَجلٍ كبير فيما سيدفعه الأصدقاء … ثم قال في النهاية: إنني لا أستطيع ترك الحِمارَين وحدهما … لا بد أن أذهب معكم.

وافَق «تختخ» على الشرط مُتحمسًا … فقد كان يريد دليلًا معهم يعرف المنطقة جيدًا … فهم هنا لا يسيرون في شوارع المعادي … إنهم يسيرون في شوارع الألغام … حيث يصبح أي خطأ معناه الموت …

وبدأت القافلة سيرها … ستة حمير في خطٍّ واحد طويل على جانب الطريق الأيمن … في المقدمة «حماد»، بعده «تختخ»، ثم «نوسة»، ثم «لوزة»، ثم «عاطف»، ثم «محب» … أما «زنجر» فقد كان يجري من أول القافلة إلى آخرها … سعيدًا فرِحًا بهذه الرحلة غير المتوقَّعة في هذا الجوِّ الصَّحو …

تجاوَزت القافلة منطقة المساكن … وبدأت تسير في الخلاء … على الجانبَين كانت الصحراء تمتدُّ يمينًا حيث حقول الألغام … واسعةً لا نهاية لها … فهي بداية الصحراء الكبرى … ويسارًا الشريط الضيِّق من الرِّمال الذي يفصل الطريق الأسفلت عن البحر.

كان «محب» يسير في آخِر القافلة يفكِّر فيمَ يبحثون الآن … لقد فحص رجال الشرطة هذه المنطقة أمس الأول وأمس، وربما اليوم، دون أن يعثروا للسيارة على أثر … لا على اليمين حيث توجد حقول الألغام … ولا على اليسار حيث الشريط الضيِّق من الصحراء لا يُخفي سيارة … ولا حتى عنزًا …

برغم هذه الخواطر كان «محب» سعيدًا … فهي رحلةٌ غير عادية لهدفٍ غير عادي في يومٍ جميل.

وتقدَّم «تختخ» بحماره الأسود حتى «حماد»، وقال له: هل تعرف هذه المنقطة جيدًا يا «حماد»؟

ردَّ «حماد» برجولةٍ تَسبق سِنَّه الصغير: لقد وُلدتُ هُنا، وتعلَّمت المشيَ في هذه المنطقة؛ فأنا أعرفها شبرًا شبرًا … أعرف غابة الشيطان!

قاطَعه «تختخ» قائلًا: غابة الشيطان؟!

حماد: نعم … نحن نُسمِّيها غابة الشيطان … فلم يدخلها شخص وعاد منها حيًّا أبدًا … حتى أبي.

تختخ: أبوك أنت؟

حماد: نعم، لقد كان أبي خيرَ من يعرف الصحراء وغابة الشيطان، برغم هذا نسَفه لغمٌ من الألغام ذات يوم …

غيَّر «تختخ» مَجرى الحديث سريعًا وقال: هل سمِعت عن السيارة التي اختفت في هذه المنطقة منذ يومَين؟

حماد: طبعًا، فلا شيء يحدُث هنا لا نعرفه … بل إنني أعرف السيارة؛ فقد قضت نحو ستة أشهُر تتجوَّل بالمنطقة … وكثيرًا ما أحضرت للرجال الأطعمة من القرية … وخاصَّةً اللبن والخضروات.

شجَّعَت «تختخ» هذه المعلومات وقال: إننا نبحث عن هذه السيارة يا «حماد»!

حماد: أنتم؟

تختخ: نعم … فنحن من أصدقاء الشرطة، ونريد أن نُساعد في العثور على السيارة.

ومضى «تختخ» يقول: لو استطعنا أن نعثُر على أثرٍ واحد يدلُّ على مكان السيارة، فتأكَّد أن رجال الشرطة سوف يُعطونك مكافأةً سخيَّة.

تحمَّس «حماد» وقال: وما هو المطلوب مني بالضبط؟

تختخ: نريد أن نستخدم معلوماتك عن المنطقة … إن السيارة لم تَطِر في الهواء، ولم تَغُص في الأرض … ولم تتجاوز منطقة «العلمين» … فأين ذهبت؟!

لم يردَّ «حماد» … فمضى «تختخ» يقول: إن رجال الشرطة بحثوا في الجانب الأيسر … ولا أدري هل فكَّروا في البحث في الجانب الأيمن، حيث لا يستطيع أحدٌ أن يدخل حقول الألغام … أم لا!

حماد: إن دخول السيارة في غابة الشيطان معناه نسفُها في ثانيةٍ واحدة … ولو نُسِفت لرأينا آثارها … وسمِعنا صوتها … إن هذا مُستحيل!

تختخ: وأنا … أبحث عن المُستحيل … إنني لسببٍ لا أدريه أعتقد أن المُستحيل في بعض الأحيان هو الشيء الوحيد المعقول.

ولم يردَّ «حماد»، وساد صمتٌ لا يقطعه سوى صوت حوافر الحمير على الطريق … وفكرة «تختخ» المُلحَّة تدور في ذهنه … هل يعثُر رجال الشرطة على السيارة قبلهم … أو سيسبقون هم رجال الشرطة! وهل هناك طريقٌ ثالث لخطف السيارة لم يُفكروا فيه؟!

كانت الصحراء الصامتة تمتدُّ أمامهم وبجِوارهم … مُنبسِطة بلا نهاية … والسيارات القادمة من الإسكندرية والذاهبة إليها تطير مُسرعةً … و«تختخ» يفكِّر كيف يمكن خطف سيارة في مِثل هذا المكان!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤