ليلة الأهوال

كان ذِهن «تختخ» يعمل بسرعة … إنهم في مأزقٍ حقيقي … فهم لا يستطيعون العودة إلى الطريق المرصوف … ومن يدري … لعلهم يعثُرون بلغم بعد أن اتَّضح أن المنطقة ليست خالية من الألغام … وكان يسأل نفسه هذا السؤال: هل «حماد» مُخطئ، أم إن هناك شيئًا غير عادي قد حدَث في هذا المكان؟!

كان صوت الريح مُرعبًا … وكان «حماد» يُمسِك بالحمير الثلاثة الباقية، وهي قلِقةٌ تريد أن تنطلق … ومضت فترةٌ طويلة دون أن يبدوَ أن العاصفة ستهدأ مُطلَقًا … وأكثر من هذا أن بدأت أصوات الذئاب تأتي من بعيد أولًا … ثم بدأت تقترب … وأخذ المغامرون يلتصق بعضهم ببعض في ظل الصخرة … وهم جميعًا يفكِّرون أنهم لم يُواجهوا مأزقًا في حياتهم بهذا الشكل … فهم مُحاصَرون تمامًا بالخطر من كل مكان.

وباقتراب عُواء الذئاب زاد هِياج الحمير الثلاثة، وأخذت تجذب «حماد» خارج المخبأ الذي يحميهم من عصف الريح المُخيف … وقبل أن يتبيَّن المغامرون ما يحدُث … اختفى حماد … جذبته الحمير الثلاثة … واختفى في العاصفة!

صاح «محب»: يجب أن نخرج خلفه.

عاطف: أين نذهب؟ إننا لن نجده مُطلَقًا.

محب: إنه معرَّض لخطر الموت.

ولم يكَد «محب» ينتهي من جملته حتى دوَّى انفجارٌ رهيب … وشاهَد المغامرون وهَج النيران المُفاجئ … وعرفوا أنه لغم قد انفجر … وربما كان الضحيَّة «حماد» أو أحد الحمير الثلاثة … وقام «محب» واقفًا واندفع كالمجنون خارجًا من المخبأ … ولكن «تختخ» مدَّ قدمه في طريقه فتعثَّر فيها وسقط على وجهه، وقام «تختخ» مُسرعًا وصاح: هل أنت مجنون؟! إن خروجك لن يُنقِذ «حماد»، وقد تموت أنت!

قام «تختخ» و«عاطف» بسحب «محب» إلى داخل المخبأ … ومضت العاصفة تدوِّي … ثم سمِعوا صوت انفجار ثانٍ أبعَد من الأول … ولمع وهج النيران من بعيد … وصاح «محب»: إنني أُشاهد أشباحًا تتحرَّك!

لم يفقد «عاطف» روح الفُكاهة في هذا المأزق الرهيب، وقال: إنني أُحسُّ كأننا نخوض معركةً حربية … ألغام … وأشباح … لم يبقَ إلا دبَّابة أو طائرة … أو نقع أسرى حرب.

وبالطبع لم يكن هناك وقت للضحك … وظهَر في هذه اللحظة شبحٌ يجري، ثم ألقى بنفسه وسط المغامرين … قفز «محب» على الشبح … ولكن الشبح لم يكن سوى «حماد» الذي قال بصوتٍ لاهث: هناك أشخاصٌ يتحرَّكون في المنطقة.

محب: هل تعرفهم؟

حماد: لا … إنهم على ما أظنُّ غُرباء، ولكن المُدهِش أنهم يتحرَّكون دون خوف من الألغام.

تحدَّث «تختخ» الذي ظلَّ صامتًا فترةً طويلة قائلًا: لقد عرفت من البداية أن هناك أشخاصًا زرعوا ألغامًا حديثة في هذا المكان … وأن هذا مُرتبط باختفاء السيارة!

حماد: لا أدري كيف حدَث هذا … إنني مُتأكدٌ أن هذا المكان كان خاليًا من الألغام، لقد تجوَّلنا فيه عشرات المرَّات، ورعَيت فيه الغنم أيضًا …

تختخ: لقد حللت لغز اختفاء السيارة منذ انفجر أول لغم، ولكن المهم كيف …

ولم يُتمَّ «تختخ» جملته؛ فقد ظهَر شبح رجل في الظلام يحمل مدفعًا رشَّاشًا، واقترب منهم … وسكت الأصدقاء تمامًا … واقترب الرجل أكثر وأكثر. كانت العاصفة قد هدأت نسبيًّا … وبدَت من بعيدٍ أضواء النجوم، وأصبح في إمكان الأصدقاء مشاهدةُ ما يحدُث حولهم … واقترب الشبح من مكانهم تمامًا … وبدَت قدماه واضحتَين في بداية المخبأ، وفجأةً انقضَّ «محب» على القدمَين، وجذبهما بشدة، وسقط الشبح، وسقط من يده المدفع السريع الطلقات … وانقضَّ «تختخ» على المدفع، ولكن الشبح أو الرجل مدَّ يده وأمسك بقدم «تختخ»، واشتبك الاثنان في صِراعٍ مُميت، وتدحرجا خارج المَخبأ.

وفي هذه اللحظة ظهَر ثلاثة رجال … يحملون أسلحة، ووجَّهوا ضوءًا ساطعًا من كشَّاف على المكان … وصاح أحدهم: لا يتحرَّكْ أحد.

وتوقَّف الصراع بين «تختخ» و«الشبح»، وعاد الرجل يقول: من أنتم؟ وماذا تفعلون هنا؟

لم يردَّ أحد، فقال الرجال بصوتٍ غاضب: إذا لم تتحدثوا فسأُطلِق الرصاص عليكم جميعًا!

قال «حماد»: لقد كنَّا نتنزَّه على ظهور الحمير في هذه المنطقة … وقد كنت مُتأكدًا أنها خالية من الألغام … ولكن …

قال الرجل في خشونة: اخرجوا جميعًا إلى هنا.

وخرج المغامرون الثلاثة و«حماد» … ودار حديث بين الرجال الثلاثة بلُغةٍ أجنبية لم يفهم الأصدقاء منها شيئًا، ثم قال الرجل: ستأتون معنا.

وتحرَّك «تختخ» و«محب» و«عاطف» و«حماد»، وسار الرجال الثلاثة خلفهم … وسار الرابع أمامهم. وقال الرجل الذي يتحدث اللغة العربية: سِيروا خَلْفي تمامًا وإلا انفجرَت فيكم الألغام.

سار الأصدقاء خلف الرجل الذي كان يُطلِق شعاعًا من بطاريته على الأرض، ويختار مكان قدمَيه بعناية … ولاحَظ الأصدقاء أن رَجلَين من الرجال الثلاثة الذين يسيرون خلفهم قد تخلَّفا، ولم يبقَ سِوى الذي يتحدَّث العربية.

مضَوا يسيرون حتى هدأت العاصفة تمامًا … ومرُّوا بعدد من الدبَّابات القديمة المتخلِّفة عن الحرب … ثم انحرفوا خلف سلسلة من الكُثبان الرملية العالية.

استمرُّوا يسيرون فترةً تزيد على نصف الساعة، حتى وجدوا أنفُسهم فجأةً ينحرفون خلف مجموعة من التِّلال … واشتدَّ الظلام … وبهدوءٍ شديد انسلَّ «تختخ» جانبًا، وألقى نفسه على الرمال، وتدحرج بحذر حتى وجد حفرةً صغيرةً عميقة، نزل فيها وقبع في مكانه ساكنًا. وقد فعل ذلك دون خوف؛ فهو يعرف أن التِّلال خالية من المُفرقَعات … وسمِع بعد لحظات أصواتًا غاضبة … وأدرك أنهم اكتشفوا هربه، وأنهم سيبحثون عنه.

كان يلبس قميصًا أبيض اللون، وبنطلونًا رماديًّا … فخلع القميص مُسرعًا؛ فمن السهل رؤية اللون الأبيض في الظلام … ثم حفر الرمال وأخفى القميص … وجلس ساكنًا مكانه.

أخذت أضواء البطاريات تطوف بالمكان … وتقترب أحيانًا منه، وأصبحت على بعد سنتيمترات قليلة … ولكنه ظلَّ هادئًا في مكانه لا يأتي بحركة … وسمِع الرجل الذي يتحدَّث اللغة العربية يسبُّ ويلعن ويقول: لقد هرب … ولكنه على كل حال لن يُغادر المنطقة؛ فسوف ينسفه أحد ألغامنا!

كانت كلمة ألغامنا كافية جدًّا لتأكيد فكرة «تختخ» عن كل ما حدث … إن المنطقة ٥ كانت خالية من الألغام فعلًا، وقد استطاع هؤلاء الرجال اختطاف السيارة وإدخالها هذه المنطقة … ثم بعد ذلك بثُّوا الألغام فيها بحيث يصعُب مطاردتهم.

لقد لمعت هذه الفكرة في رأسه منذ قيامهم أمس برؤية المنطقة … فالشريط الساحلي لا يصلُح لإخفاء السيارة … والصحراء حافلة بالألغام، والخطة الوحيدة المعقولة هي إدخال السيارة من أحد المناطق الخالية من الألغام … ثم تلغيم هذه المنطقة بعد ذلك … خطةٌ بسيطة … ولكنها تحتاج إلى دهاءٍ شديد، وإمكانياتٍ كثيرة … فكيف يمكن تسيير السيارة فوق الرمال دون الغوص فيها؟! … وسُرعان ما تذكَّر «تختخ» أنهم كانوا يسيرون على أرضٍ رملية، فكيف يمكن تسيير السيارة على الأرض الرملية؟! … هل السيارة مجهَّزة لهذا الغرض باعتبارها سيارة أبحاث … أم إن هناك خطةً أخرى لا يعرفها؟!

سمِع أصوات الرجال تبتعد، فأسرع يخرج من مَكمنه ليسير خلفهم … إنه لا يستطيع أن يتجوَّل وحده في المكان … وإلا نسفه لغم فعلًا … وهكذا أسرع يسير خلف الرجل الأخير مُحتفظًا بمسافة بينه وبين الرجل، وإن كان واثقًا أنه لا يمكن أن يسمع خطوه على الرمال.

ساروا نحو نصف ساعة … ثم انحرفوا، ووجدهم «تختخ» يهبطون في طريق بين تلَّين عاليَين من الرِّمال … وكان الطريق ينحدر تدريجيًّا حتى وصلوا إلى منطقةٍ واسعة تُشبِه الدائرة، تُحيط بها التِّلال الرملية من كل جانب، وشاهَد «تختخ» على الفور هيكل السيارة «الكينور» الضخمة رابضًا في الظلام كأنه حيوانٌ خُرافي … وقد أُخفيَ بمهارةٍ شديدة بالشِّباك … وبجِوارها معسكرٌ مكوَّن من ثلاث خيمات؛ إحداها كبيرة، والباقيتان صغيرتان.

أخذ قلب «تختخ» … يدقُّ سريعًا … فها هي السيارة الضخمة … وفيها عيِّنة المَعدِن الثمين الذي يدور حوله الصِّراع. لقد حُلَّت مشكلة اختفاء السيارة، ولكن كيف السبيل إلى إخطار رجال الشرطة؟

اختار تلًّا رمليًّا مُرتفعًا، وقبَع فيه يُراقب ما يحدُث … كانت هناك أضواءٌ خافتةٌ يمكن رؤية أشباح الرجال وهي تتحرك عندها … وشاهد «تختخ» «محب» و«عاطف» و«حماد» وهم يدخلون خيمةً من الخِيَم المنصوبة في الدائرة الواسعة … وشاهَد شخصًا يقبع أمام الباب مُمسكًا ببندقيةٍ سريعة الطلقات.

كانت الساعة قد تجاوَزت منتصف الليل بنصف ساعة، كما تُشير ميناء ساعة «تختخ» الفسفورية، وكان يشعر بطعم الرمال يملأ فمه وأنفه … وبالتعب يحلُّ بجسده … وأخذ بَردُ الصحراء الليلي يتسلَّل إلى عظامه وهو بلا قميص … وبرغم ذلك استسلم للنوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤