تختخ يعمل وحده

استيقظ «تختخ» على لسعة البرد، فقُرب الفجر حَلُم أنه نائم في حَوض من الثلج، وأنه يتألم، وعندما استيقظ وجد أسنانه تصطكُّ بردًا … وأطرافه تكاد تتجمَّد، وبجوعٍ قاسٍ يجتاح مَعدته … لحظةٌ رهيبة لم يرَ «تختخ» مِثلها في حياته … وتذكَّر بمجرَّد يقظته كل ما حدَث في تلك الليلة وكأنه كابوسٌ مُخيف … وأخذ يدلِّك وجهه وذراعَيه، ويحرِّك قدمَيه؛ فقد خشيَ أن تتجمَّد الدماء في عُروقه.

ونظر «تختخ» إلى ضوء الفجر الوليد … كان المعسكر نائمًا … وكل شيء هادئًا تمامًا … لا صوت ولا حركة … ولكنه بخِبرته كان يُدرك أنه لا بد من وجود حراسة في مكانٍ ما … وتحرَّك بهدوء، ونزل التلَّ يحبو على قدمَيه ويدَيه … حتى وصل دون أن يصدُر عنه أي صوت إلى حافة المعسكر؟ وأخذ يفحص ما حوله … كثير من المَعاول والفئوس … والمَقاطف … لفَّات كبيرة جدًّا من البلاستيك تُشبِه السجاجيد … أغرب شيء رآه «تختخ» كان ثلاثة قوارب من المطَّاط مفرَّغة من الهواء … ماذا تفعل قوارب المطَّاط في الصحراء؟! وأخذ «تختخ» يبحث عن الحارس … وأخيرًا شاهَده مُتمددًا نائمًا وقد تغطَّى حتى وسطه ببطَّانية … ووضع بندقيَّته السريعة الطلقات بجِواره، وأخذ «تختخ» يفكِّر: هل يمكن السيطرة على المعسكر بهذه البندقية وحدها؟ إن هذا صعب؛ فهناك ثلاث خيمات منصوبة … ولا يدري كم عدد الرجال فيها، وقرَّر أولًا أن يعرف مصير المصريين الخمسة الذين كانوا في السيارة، واقترب من السيارة حذرًا … كانت غائصة في الرِّمال قليلًا … وبابها الخلفي مُغلَق … وحاوَل «تختخ» تجربة فتحه فلم يستطع … وأدرك أن الرجال الخمسة محبوسون داخل السيارة … وأن الباب مُغلَق بالمِفتاح.

ذهب «تختخ» إلى الخيمة التي يوجد بها «محب» و«عاطف» و«حماد»، وفضَّل أن يدخل من تحت الخيمة لا من الباب … فقد يكون أحد الرجال معهم … ورفع طرف الخيمة ونظر داخلها … كانت مُظلِمة تمامًا … وبعد لحظاتٍ استطاع أن يألَف الظلام، وبمساعدة خيوط ضوء الفجر المتسلِّلة … شاهَد الثلاثة وقد رُبطوا بالحبال أحدهم إلى الآخر، مكوَّمين في طرف الخيمة وقد استغرقوا في النوم.

كان مَنظر الثلاثة يدعو إلى الرثاء … فقد غطَّت الرمال أجسامهم … وملأت شعورهم … وبدَوا كأنهم قادمون من كوكبٍ آخَر … تسلَّل «تختخ» داخلًا إلى الخيمة … ثم مدَّ يدَيه وأخذ يفكُّ وثاقهم … وكان «محب» أول من فتح عينَيه ونظر إلى «تختخ» … لم يصدِّق عينَيه … وخاصَّةً أمام شكل «تختخ» العجيب بلا قميص وقد غطَّته الرمال.

وهمس «تختخ»: كيف الحال؟

محب: أين ذهبت؟

تختخ: لقد انتهزت فرصة الظلام واختفيت في حفرةٍ قريبة!

وانهمك «تختخ» في حل الحِبال، واستيقظ «عاطف» ثم «حماد». وقال «عاطف»: إنني في غاية الجوع!

تختخ: لا تذكُر الطعام … إنني أكاد أموت جوعًا وعطشًا معًا!

عاطف: ماذا يحدُث في هذا المكان الآن؟

تختخ: إنهم نائمون جميعًا … وخُطتي أن نُحاول العودة من الطريق نفسه الذي جئنا منه!

حماد: إن ذلك صعب جدًّا … فقد ظلَّت العاصفة فترةً طويلة بعد سيرنا، وأعتقد أنها غطَّت آثار الخطوات التي يمكن اتباعها … ولكن عندي خطةٌ أخرى.

تختخ: ما هي؟

حماد: في إمكاننا الدَّوران من مكانٍ آخَر … إن المسافة طويلة حقًّا، ولكن سبق لي أن جرَّبتها.

تختخ: وإلى أين تصل؟

حماد: إلى مَقابر العَلمين … ومن هناك يمكن الاتصال بأي مكان.

تختخ: معقول جدًّا … ولكن سننقسم إلى قسمَين … سأبقى أنا و«محب» لمراقبةِ ما يحدُث هنا … وتذهب أنت و«عاطف» … من هذا الطريق الطويل.

عاطف: وكم يستغرق هذا الطريق؟

حماد: بين أربع وخمس ساعات إذا سِرنا مُسرِعين.

عاطف: وهل تظنُّ أن في إمكاننا أن نسير أربع ساعات ونحن في هذه الحالة … إنني أفضِّل أن أقع أسيرًا مهما كانت النتائج!

تختخ: هل تسخَر يا «عاطف»؟

عاطف: أبدًا … إننا لن نصِل مُطلَقًا … ومن الأفضل أن نضع خطتنا على أن نفعل شيئًا الآن وهم نائمون.

تختخ: في هذه الحالة فلنُسرِع وهاتوا معكم الحبل.

عاطف: ولعلَّنا نجد طعامًا!

وخرج الأربعة من الخيمة من حيث دخل «تختخ» حتى يبقى باب الخيمة مُغلَقًا كما هو … وارتكز «تختخ» على ركبتَيه ونظر … كان المعسكر ما زال هادئًا … واتَّجه وخلفه الثلاثة إلى حيث كان الحارس … كان ما زال نائمًا وسلاحه بجانبه … فانحنى «تختخ» بهدوء، وسحب المدفع الرشَّاش … ثم أشار إلى الثلاثة … فأمسك «محب» و«عاطف» بيدَي الرجل وكمَّما فمه … وأسرع «حماد» يربطه بالحبل … واستيقظ الرجل … وبدَت في عينَيه نظرةُ دهشة حتى إنه لم يُقاوم … وتمَّ ربطه بإحكام، وأشار «تختخ» للأصدقاء الثلاثة فسحبوه إلى الخيمة التي كانوا أسرى فيها، ووضعوه مكانهم.

قال «تختخ»: الخطوة التالية هي السيطرة على بقيَّة المعسكر … ويَلزمنا البحث عن بقيَّة الأسلحة، وهي بالتأكيد داخل الخيمتَين حيث ينام بقيَّة هؤلاء الأشرار.

محب: والسيارة «الكينور» … ما هي أخبارها؟

تختخ: أظنُّ أن الرجال الخمسة محبوسون فيها.

محب: إنها فرصتنا أن نُغادر المعسكر بها.

عاطف: والطريق الملغَّم؟!

تختخ: ما رأيكم في الحارس الأسير؟! … إنه خيرُ دليل لنا في عبور الطريق إلى حافة الصحراء.

محب: عندي فكرةٌ مُمتازة … ولكن إدارة محرِّك السيارة سيكفي لإيقاظ هؤلاء الرجال.

تختخ: إذا استطعنا تجريدهم من أسلحتهم … فلن يُمكِنهم أن يتعرَّضوا لنا … هيَّا بنا.

وسار الأربعة إلى الخيمة الأولى … ووقف «تختخ» مصوِّبًا مدفعه إلى باب الخيمة، على حين دخلها «محب» وخلفه «عاطف»، وغابا لحظاتٍ ظنَّها «تختخ» سنةً كاملة، ثم ظهَرا وهما يحملان رشَّاشَين، وفي يد «عاطف» صندوق من البسكويت. وقال «محب»: إنهما رجلان!

تختخ: هيَّا إلى الخيمة الأخرى!

وأسرعوا إلى الخيمة الأخرى.

دخل «محب» أولًا … كان في انتظاره مفاجأة … فقد وجد أحد الرجلين مُستيقظًا … وكانت لحظةً مُثيرة … فلم يكُن مع «محب» سلاح، وكان بجِوار الرجل — معلَّقًا في جانب الخيمة، بجِانب الفِراش مباشرةً — مدفعٌ رشَّاش، لم يكُن واضحًا تمامًا … ولكن «محب» أدرك من هيكله أنه مدفعٌ سريع الطلقات. كانت عينا الرجل مفتوحتَين … وكانت يده على بُعد سنتيمترات من المدفع، وفي إمكانه أن يتناوله ويضرب في لحظةٍ واحدة قبل أن يتمكَّن «محب» من عمل أي شيء … ولكن المُدهِش أن الرجل ظلَّ مُبحلقًا دون أن يتحرك. وفكَّر «محب» … أنه ميت … وأحسَّ برعب لا يوصف … ولكن نظرةً أخرى إلى صدر الرجل أقنعته أنه يتنفَّس … إذن فهو ليس ميتًا … وليس مُستيقظًا في الوقت نفسه … شيءٌ غريب … ثم تذكَّر «محب» شيئًا … إن أحد أقاربه كان معروفًا بأنه ينام وعيناه مفتوحتان … وتنهَّد «محب» … حدَث كل هذا في أقل من نِصف دقيقة … و«عاطف» يقف صامتًا في انتظار أن يتحرَّك «محب»، فلما وجده واقفًا لا يتحرك، مدَّ يده وهزَّ كتفه … فالتفت إليه «محب»، ثم أشار إلى الرجل وهمس: نائم وعيناه مفتوحتان …

عاطف: أسرِع!

وتقدَّم «محب» لأخذ المدفع، ولكن مرةً أخرى حدَث شيءٌ مُثير … فقد تقلَّب الرجل في فِراشه المُلتصِق بالأرض، وطوَّح بساقه، فوقفت على قدم «محب» الذي تقدَّم بها إلى الأمام، وتوقَّف «محب» مرةً أخرى. كان عليه أن ينتظر لحظاتٍ حتى يُعاود الرجل الاستغراق في النوم.

في هذه الأثناء كان «تختخ» خارج الخيمة يكاد يُجَن … لماذا تأخَّر «محب» و«عاطف»؟ إنهما لم يخرُجا! وفي الوقت نفسه لم يسمع أي شيء يدلُّ على وجود صِراع بالداخل … هل استطاع الرَّجلان ضرب «محب» و«عاطف» دون أن يصدُر منهما أي صوت؟ غير معقول …

كانت الثواني في هذا الوقت تُساوي نجاح أو فشل الخطة، حياتهم جميعًا أو موتهم جميعًا … وتحرَّك «تختخ» إلى الأمام بعد أن أعدَّ المدفع للإطلاق، ولكن في هذه اللحظة بَرَز «عاطف» يحمل مدفعًا، ثم تبِعه «محب» وقد لمعت حبَّات العَرق على جبينه.

وابتسم «تختخ» لأول مرة وقال: لقد حقَّقنا نتيجةً مُذهِلة.

محب: المهمُّ أن نتمكَّن من الخروج من هذه الصحراء المُرعِبة.

حماد: من غابة الشيطان!

تختخ: هيَّا إلى الحارس نُحضِره … ابقَ أنت يا «محب» واستعِدَّ بالسلاح حتى نعود.

ووقف «محب» بجِوار السيارة «الكينور» الضخمة وهو يرفع رشَّاشه، وبعد دقائق عاد الثلاثة ومعهم الرجل … وحاوَل الأصدقاء الحديث معه باللغة العربية دون جدوى، وباللغة الإنجليزية دون جدوى، فأشار «محب» إلى مقدِّمة السيارة، فمشى الرجل إلى حيث أشار … ولكن «تختخ» تذكَّر باب السيارة المُغلَق، وقرَّر شيئًا آخَر … أن يقود أسيرهم السيارة بنفسه … فأشار إليه بالمدفع الرشَّاش فصعِد إلى السيارة، وأشار «تختخ» إلى «عاطف» و«حماد» أن يركبا بجواره، وتسلَّق هو و«محب» السيارة، وجلسا على السطح عند حافتها، ودقَّ «تختخ» على السيارة بالمدفع … ففهِم «عاطف» أنه يطلب منهم السير … وأدار الرجل المحرِّك … وبَدَت السيارة الضخمة تهتزُّ وهي تُحاول تخليص عجلاتها من الرمال … وزمجر المحرِّك بشدة وهو يبذُل جهده لتسيير السيارة، وفي تلك اللحظة ظهَر رجلان من الخيمة الأولى … وقد بَدَت على وجهَيهما الدهشة الشديدة … وشاهَدا المدفعَين الرشَّاشين في يد «تختخ» و«محب».

قال «تختخ»: لقد أفادنا التمرين في السويس أيام الحِصار … هل تذكُر «لغز جاسوس السويس»؟

محب: وهل ينساه أحد؟

ظهَر الرَّجلان الآخَران … وقال «تختخ»: ضَع عينَيك على هذين، وسأُراقب أنا الآخَرين.

بدأت السيارة تهتز، ثم بدأت تتحرك … وفي حركةٍ عنيفة مُفاجئة خرَجت من الرمال، ولكن هذه الحركة العنيفة المُفاجئة كانت كافية لأن يفقد «تختخ» و«محب» توازُنهما، ويسقطان على الأرض من ارتفاعٍ كبير …

عندما سقط «تختخ» و«محب» أسرع الرجال الأربعة ناحيتهما … كانت المسافة بينهم وبين السيارة لا تزيد على ثلاثين مترًا … قطعوها مُسرِعين وهم يعرفون أنها فرصتهم الوحيدة النادرة في إعادة السيطرة على المَوقِف … واقتربوا حتى أصبحوا على بُعد خمسة أمتار فقط من السيارة … ولم يكُن «تختخ» ولا «محب» قد وقفا بعد … فقد كانت السقطة مُوجِعة … خاصَّةً أن «تختخ» السَّمين سقط على ذراعه فالتَوَت بشدة … على حين سقط «محب» على رأسه … وأحسَّ بالإغماء يُعمي عينَيه فلا يرى ما أمامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤