لعبة الصبر

اندفعت السيارة الضخمة مُسرعةً إلى الأمام … دون أن يُحسَّ «عاطف» ولا «حماد» بسقوط «تختخ» و«محب»، وفي الوقت نفسه كان الرجال الأربعة قد أصبحوا على بعد خطوات من الصديقَين المُصابَين، ولكن «تختخ» برغم الآلام الهائلة التي كان يُحسُّها في ذراعه … أسرع يجذب المدفع الرشَّاش من الأرض ويرفعه أمام الرجال الأربعة.

توقَّف الرجال أمام حركة «تختخ» المُفاجئة … ونظروا إليه بعيونٍ مملوءة بالغدر … فقد بَدا لهم أن مِثل هذا الولد لا يمكن أن يهدم كل ما فعلوه … وتقدَّم أحدهم خطوةً إلى الأمام مُحاولًا جذب البندقية السريعة الطلقات التي سقطت من «محب»، ولكن «تختخ» هزَّ مدفعه الرشَّاش مهدِّدًا …

وكان واضحًا من حركته ونظراته أنه لن يتردد في إطلاق الرصاص.

ابتعد صوت السيارة حتى لم يعُد يسمع إلا طنينًا بعيدًا، وارتفع قُرص الشمس في الأفق … وظلَّ «تختخ» يرتكز على إحدى ركبتَيه … مُمسكًا بالمدفع الرشَّاش في يدَيه، لا يستطيع أن ينظر إلى «محب» المُلقى إلى جِواره بلا حَراك … فقد كان يُدرك أنه لو حوَّل عينَيه لحظةً واحدة … فقد ضاع …

قال «تختخ»: «محب»!

ولم يسمع إجابة … وأحسَّ بالخوف يَسري إلى قلبه … هل حدَث ﻟ «محب» شيءٌ خطير؟! … إن السيارة مُرتفعة، ولعله سقط فوق صخرة أو حتى فوق المدفع، وأُصيبَ إصابةً خطيرة … وهو لا يستطيع أن يمدَّ له يد المساعدة، وإلا قُضي عليهما معًا.

ظلَّ قُرص الشمس يرتفع في مواجهة «تختخ» … وأحسَّ شيئًا فشيئًا بالحرارة تَلفَحه، خاصَّةً وهو بلا قميص … وما زالت الرمال تَلسع أنفه، وتتخلل فمه … فلم يتَّسع وقته لغسل وجهه … ولم يتناول طعامًا منذ غداء أمس.

كان كل شيء في الحقيقة يدعو إلى اليأس … خاصَّةً وقد أخذَت حرارة الشمس ترتفع تدريجيًّا … وحبَّات العَرق تنعقد على جبهته ثم تنحدر إلى عينَيه فتلسعهما كالنار … كان يفكِّر في السيارة … متى يكتشف «عاطف» أنهما قد سقطا؟! وكيف يتصرف؟ … إنه يحرس السائق، ولا يستطيع مغادرة السيارة، ولعل السيارة لا تستطيع العودة.

كان ذِهنه يعمل في كل الاتجاهات؛ «لوزة» و«نوسة» و«عاطف» و«حماد» والسيارة … «محب» الذي لا يتحرك … الشمس الحارقة التي أصبحت جحيمًا لا يُطاق … العَرق الذي ينزل في عينَيه … الرجال الأربعة وهم يقفون أمامه ينظرون إليه في عداء وضراوة، إنهم غُرباء ما في ذلك من شك … فعيونهم ملوَّنة عدا الواحد الذي يتحدث العربية … وفكَّر «تختخ» أن يطلب منهم التراجع حتى يجد مكانًا ظليلًا … ولكنهم أربعة … وإذا تحرَّكوا فربما استطاع واحد منهم أن يُسرع بالاختباء خلف صخرة أو يفرَّ هاربًا … وربما استطاعوا خِداعه بطريقةٍ ما … وساعتَها لن يتردَّدوا في القضاء عليه وعلى «محب» … إذا كان «محب» ما زال حيًّا … وفي هذه اللحظة سمِع حركةً من «محب» بجِواره … إنَّه يتحرك … فهو حيٌّ … ولكن ما مدى إصابته؟

قال «تختخ»: «محب»!

ردَّ «محب» في صوتٍ واهن: نعم!

تختخ: ماذا حدث؟

محب: لقد سقطت على رأسي وأُغميَ عليَّ.

تختخ: هل أنت أحسن حالًا الآن؟

محب: نعم … ولكنِّي أشعر بدُوارٍ شديد.

تختخ: هل تستطيع رفع المدفع الرشَّاش؟

محب: نعم …

تختخ: لا بأس … فلا بد أن نجد بعض الماء؛ فإنني أكاد أموت عطشًا.

محب: لا تتحرك من مكانك الآن … انتظِر قليلًا حتى أتمالك قُواي.

ووقفا مُتجاوِرَين ينظُران إلى الأسرى الأربعة … وتحدَّث الرجل العربي فقال: ما الفائدة مما تفعلان … لماذا لا نتَّفق؟

تختخ: نتَّفق على أي شيء؟

الرجل: سندفع لكما ما تشاءان، واتركونا نرحل!

تختخ: هل تهزل؟

الرجل: مُطلَقًا … إن معنا قدرًا كبيرًا من المال … وسندفع لكما ما تطلبان وننصرف.

تختخ: اقفلْ فمَك ولا تتكلم.

الرجل: إنكما مُجهَدان كما هو واضح … ولن تتحمَّلا الوقفة طويلًا.

كان يتحدث حقًّا … فقد كان المدفع الرشَّاش ثقيلًا … وأحسَّ «تختخ» أن ذراعَيه ستسقطان به … وأحسَّ برأسه يدور … وفي الوقت نفسه كان يعلم يقينًا أنه لن يُطلِق الرصاص مُطلَقًا.

وكأنما كان الرجال الأربعة يعرفون هذه الحقيقة … فقد بدا واحد منهم يتحرك إلى الأمام في اتجاه «تختخ» … وصاح «تختخ» مُحذرًا: قِف مكانك.

ووقف الرجل، ولكن لحظةً واحدة، ثم تقدَّم مُسرعًا … وفي هذه اللحظة سمِع الجميع صوتًا غريبًا في هذا المكان … كان صوت كلب ينبح في وحشية، وقفز «زنجر» إلى ساحة المعركة … قفزةً كانت أمام «تختخ»، والقفزة الثانية كانت فوق الرجل الذي سقط على الأرض والكلب فوقه.

كانت مُفاجأة من أروع المفاجآت في حياة المغامرين.

وصاح «محب»: «زنجر»!

تختخ: لعلَّه لم يأتِ وحده!

ولم يكَد «تختخ» ينتهي من جُملته حتى ظهَر ثلاثة ضُبَّاط … ومعهم المفتش «سامي»، وبجِواره «نوسة» و«لوزة».

صاح المفتش: «توفيق» … «محب»!

ألقى «تختخ» المدفع الرشَّاش من يده … ثم تَهالَك على الأرض … لقد جاءوا في الوقت المناسب … ولو تأخَّروا ثانيةً واحدة لانتهى كل شيء.

أسرع الضُّباط الثلاثة يقيِّدون الرجال الأربعة، وقال تختخ: ألمْ تُقابلوا السيارة؟

المفتش: أيَّ سيارة؟

تختخ: السيارة الكينور!

المفتش: هل عثَرتم عليها؟

تختخ: طبعًا … وقد رحل «عاطف» بها منذ ساعتَين!

المفتش: لا بد أننا جئنا من طريقٍ آخَر … فقد جئت في الفجر … ووجدت «نوسة» و«لوزة» في الفندق يُحاولان الاتصال بي بعد أن غِبتم طول الليل … فخرجنا للبحث عنكم … وفي الطريق وجدنا آثار انفجار ألغام … وفكَّرنا أنكم أُصبتُم بسوء … ثم قام «زنجر» بالمهمَّة الباقية … بعد أن أفهمَته «لوزة» أن يتجنَّب الألغام؛ فقد شمَّ آثارها، وعرف بذكائه العظيم أنها خطرة … وسِرنا خلفه حتى عثرنا عليكم.

كانت «لوزة» و«نوسة» يمسحان الرمال والعَرق من وجهَي «محب» و«تختخ» وهما لا يصدِّقان ما يرَيانه.

بعد ساعةٍ كان الجميع قد عادوا إلى الطريق الممهَّد مرةً أخرى … وكانت في انتظارهما سيارات رجال الشرطة …

وطارت السيارات في اتجاه «سيدي عبد الرحمن» … ولم تنقضِ نِصف ساعة حتى ظهرت السيارة «الكينور» الضخمة تتدحرج على الطريق في إحدى المُنحنَيات.

اقتربت سيارات رجال الشرطة وهي تُطلِق صفاراتها المدوِّية … وتوقَّفت السيارة الكبيرة، ونزل «عاطف» مُبتسمًا وهو يحمل سلاحه، وخلفه نزل «حماد» … وحاوَل السائق القفز من الجانب الآخر من السيارة في العَراء … ولكن طلقة مسدَّس من أحد الضباط أوقفته مكانه.

وكان اللقاء مؤثِّرًا بين «عاطف» وبقيَّة المغامرين.

•••

في مساء ذلك اليوم استيقظ المغامرون من نومٍ طويل … وجاء المفتش «سامي» يروي لهم اعترافات الرجال الخمسة الذين خطفوا السيارة … إنهم يتبَعون شركةً أجنبية كانت تُريد القيام بأبحاث في الصحراء بحثًا عن المَعدِن الثمين الذي عثَرَت عليه الشركة المصرية … ولما رفضت الحكومة طلب الشركة الأجنبية، قرَّرت الشركة إرسال بعض رجال العصابات الأجنبية للاستيلاء على العيِّنة لأهميتها العلمية البالغة … وقد ثبَت أنهم جاءوا بقوارب المطَّاط من سفينةٍ تنتظرهم في البحر … وانتهزوا فرصة الظلام، ودخلوا المنطقة الملغومة … فقد كان أحدهم من خُبراء المُفرقَعات، ووضعوا خطتهم للاستيلاء على السيارة بارتداء ملابس رجال الشرطة المصريين … ثم انتظروا السيارة «الكينور» في الظلام، وقالوا إن هناك إصلاحات في الطريق … ويجب أن تنحرف قليلًا داخل الرمال ثم تعود إلى الطريق المرصوف مرةً أخرى … ولم تكَد السيارة تدخل المنطقة الرملية حتى انقضُّوا على الرجال الخمسة العُزَّل من السلاح، واقتادوا السيارة إلى معسكرهم، واستولَوا على العيِّنة، وكانوا يستعدُّون للفِرار في الليلة التالية حسب مَوعِدهم مع السفينة.

واختتم المفتش حديثه قائلًا: لقد قمتُم بعملٍ بُطولي لا مَثيل له … ولكن كيف فكَّرتم في منطقة الألغام؟

تختخ: لقد كانت فكرةً بسيطة … لقد فكَّرتم في الممكن … ولم تفكِّروا في المستحيل … وقلَبتُ أنا النظرية … وقرَّرت أن أبحث المُستحيل قبل المُمكِن … وعندما تعرَّفنا على «حماد» وسألته: هل كانت هناك مناطق خالية من الألغام؟ وعرفتُ أنها موجودة، فكَّرت أن أبحث في هذه المناطق …

المفتش: لقد فكَّرت في الخطة نفسها … ولكن كان لا بد من إحضار خُبراء في المُفرقَعات أولًا حتى يمكن السير في منطقة الألغام دون خطورة، وقد قابلت مُدير الأمن العام وممثِّل الجيش للبحث في هذه الخطة.

عاطف: في الواقع أن هناك من ضحَّى بنفسه في سبيل الكشف عن الألغام.

المفتش: من هو؟

عاطف: إنه الحِمار الأول الذي نسَفه اللَّغم.

وضحِك الجميع، فقال «تختخ» معلِّقًا: هذا صحيح … فعندما عرفت أن المنطقة الخالية من الألغام قد بُثَّت فيها الألغام، عرفت على الفور أن هذا تمَّ حديثًا. لقد قام رجال العصابة ببثِّ الألغام بعد الاستيلاء على السيارة ليمنعوا أي شخص من الدخول خلفهم.

المفتش: فعلًا لقد قام الحِمار بواجبٍ هام … فقد كنَّا سنحتاج إلى أيامٍ طويلة حتى نجد المكان … وربما في هذه الفترة كان رجال العصابة قد فرُّوا بغنيمتهم الثمينة.

تختخ: وهل وجدتم العلماء المصريين داخل السيارة؟

المفتش: نعم … وكانوا في حالةٍ يُرثى لها.

لوزة: والآن يا سيادة المفتش … لقد خسِر «حماد» ثروته كلها … الحمير التي نُسِفت.

ربَّت المفتش على رأس «لوزة» وقال: إننا بالطبع سوف نعوِّضه تعويضًا سخيًّا.

عاطف: ويجب أن نشترك نحن أيضًا في الدفع … فقد أنقذ الحمار الأول حياتنا.

وضحِك الجميع وهم يتلقَّون دعوة المفتش لعشاءٍ آخَر بلا مناقشات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤