مقدمة

يتكون الجينوم البشري — أي المجموعة الكاملة من الجينات البشرية — من ثلاثة وعشرين زوجًا منفصلًا من الكروموسومات. رُقِّمت اثنان وعشرون من هذه الكروموسومات وفق الترتيب التقريبي لحجمها، بدءًا من أكبرها حجمًا (الكروموسوم ١) وصولًا إلى أصغرها (رقم ٢٢)، في حين يتكون الزوج الأخير من الكروموسومين المحددين للجنس، وهما كروموسوما إكس (X) كبيرا الحجم في النساء، وكروموسوم إكس كبير مع كروموسوم واي (Y) صغير في الرجال. ومن حيث الحجم، يحتل الكروموسوم إكس ترتيبًا بين الكروموسومين ٧ و٨، في حين يعد الكروموسوم واي الأصغر حجمًا.

ليس للعدد ثلاثة وعشرين مغزى معين، فالعديد من الأنواع — منها أقرب أقربائنا من القردة العليا — تملك عددًا أكبر من الكروموسومات، والعديد غيرها يملك عددًا أقل. إضافة إلى ذلك، لا يلزم أن تتجمع الجينات ذات الوظائف والأنواع المتشابهة فوق الكروموسوم نفسه. لذا منذ بضع سنوات، وأنا جالس أمام جهاز الكمبيوتر المحمول أتحدث مع ديفيد هيج، أحد علماء الأحياء التطورية، تعجبت قليلًا حين سمعته يقول إن الكروموسوم ١٩ كان الكروموسوم المفضل لديه، موضحًا لي أن هذا الكروموسوم يحمل كل أنواع الجينات المؤذية. لم يسبق لي قط أن فكرت في الكروموسومات من قبل على أن لها شخصيات متمايزة، فهي — على أي حال — ليست سوى مجموعات اعتباطية من الجينات. بيد أن تلك الملحوظة التي قالها هيج مصادفة غرست برأسي فكرة لم أستطع إخراجها منه وهي: لِمَ لا نحاول أن نحكي قصة الجينوم البشري التي تجلت لنا — والتي تُكشَف الآن كشفًا تفصيليًّا للمرة الأولى — كروموسومًا تلو الآخر، وذلك من خلال انتقاء جين من كل كروموسوم بحيث يتناسب مع القصة كما نرويها؟ لقد فعل بريمو ليفي شيئًا مشابهًا مع الجدول الدوري للعناصر وذلك في قصص سيرته الذاتية القصيرة التي كتبها؛ إذ ربط كل فصل في حياته بأحد العناصر التي كان يعمل عليها إبان تلك الفترة التي يصفها من حياته.

بدأت أنظر إلى الجينوم البشري كنوع من السيرة الذاتية في حد ذاته — أي كسجل مكتوب باللغة «الجينية» — يتناول كل التقلبات والاختراعات التي ميزت تاريخ نوعنا وأسلافه منذ فجر الحياة، فهناك جينات لم تتغير كثيرًا عن حالها وقت سكنت المخلوقات وحيدة الخلية مستنقعات العصور البدائية، وهناك جينات تطورت حين كان أسلافنا أشبه بالديدان، وجينات من المؤكد أنها ظهرت لأول مرة حين كان أسلافنا أسماكًا، وجينات توجد على صورتها الحالية فقط بسبب الأوبئة التي تفشت منذ وقت قريب. أيضًا توجد جينات يمكن استخدامها في كتابة تاريخ الهجرات البشرية في البضعة آلاف سنة الأخيرة. فمنذ أربعة مليارات عام مضت إلى بضع مئات من السنوات الماضية، ظل الجينوم نوعًا من السيرة الذاتية لنوعنا، مسجلًا الأحداث المهمة وقت حدوثها.

لقد وضعت قائمة بالكروموسومات الثلاثة والعشرين، وإلى جوار كل منها بدأت في ذكر موضوعات عن الطبيعة البشرية. وتدريجيًّا، وبعناية تامة، شرعت في العثور على الجينات التي ترمز إلى قصتي. كثيرًا ما كنت أشعر بخيبة الأمل حين لم أستطع العثور على الجين المناسب، أو حين كنت أجد الجين المثالي لقصتي ويكون ذلك الجين على الكروموسوم الخطأ. كانت هناك معضلة شديدة حيال ما يجب عمله مع الكروموسومين إكس وواي، اللذين وضعتهما بعد الكروموسوم ٧، استنادًا إلى حجم الكروموسوم إكس. لا بد أنك عرفت الآن سبب تسمية الفصل الأخير في كتاب يفتخر في عنوانه الفرعي بأنه مكون من ثلاثة وعشرين فصلًا باسم «الفصل ٢٢».

قد يبدو، للوهلة الأولى، أن في هذا تضليلًا كبيرًا؛ إذ قد يُفهم مما أقول أن الكروموسوم ١ جاء أولًا، وهو ما لم يحدث، وقد يُفهم أن الكروموسوم ١١ معني فقط بالشخصية، وهذا غير صحيح. فهناك ما بين ٦٠ ألفًا إلى ٨٠ ألف جين في الجينوم البشري، وليس بوسعي أن أخبرك عنها جميعًا، ويرجع هذا في جزء منه إلى أن أقل من ثمانية آلاف منها فقط هي التي اكْتُشفت (مع أن هذا الرقم آخذ في التزايد بمعدل مئات عديدة كل شهر)، وفي جزء آخر إلى أن الأغلبية العظمى من الجينات هي مجرد وسطاء بيوكيميائيين ذات عمل ممل.

غير أنني أستطيع أن أمدك بنظرة مترابطة للموضوع بأكمله؛ إذ سأصطحبك في رحلة مكوكية نتوقف فيها عند بعض أكثر المواضع إثارة للاهتمام في الجينوم وما تخبرنا به عن أنفسنا. أعتقد أن هذا الجيل المحظوظ سيكون أول جيل يقرأ ذلك السجل الذي نسميه بالجينوم، وستخبرنا قدرتنا على قراءة الجينوم بالكثير عن أصولنا وتطورنا وطبيعتنا وعقولنا، أكثر مما استطاعت الجهود العلمية مجتمعة عمله إلى الآن. هذا من شأنه إحداث ثورة في علم دراسة الإنسان وعلم النفس والطب وعلم الحفريات وكل علم آخر تقريبًا. لا يعني كلامي هذا أن كل شيء موجود في الجينات، أو أن الجينات لها أهمية تفوق العوامل الأخرى، فمن الواضح أن هذا الزعم غير صحيح، ومع ذلك فإن لها أهميتها، وهذا أمر مؤكد.

هذا الكتاب لا يتحدث عن مشروع الجينوم البشري، المَعْنِيّ بوضع خريطة للجينات وتقنيات تحديد تتابعها، بل هو معنيٌّ بالحديث عما وجده هذا المشروع من نتائج. ففي ٢٦ يونيو (حزيران) عام ٢٠٠٠، أعلن العلماء أنهم انتهوا من وضع مسودة أولية للجينوم البشري الكامل، وفي غضون بضع سنوات سنكون قد انتقلنا من الجهل شبه التام بجيناتنا إلى معرفة كل شيء عنها. إنني مؤمن من أعماقي بأننا نعيش في أعظم لحظة فكرية في التاريخ بلا جدال. وقد يحتج البعض قائلين إن الإنسان مكون مما هو أكثر من جيناته فحسب. ولا أنكر ذلك؛ فكل شخص منا مكون مما هو أكثر من مجموعة من الجينات وحسب، لكن حتى وقتنا هذا ظلت الجينات البشرية أمرًا غامضًا تمامًا. وسيكون هذا الجيل هو أول جيل يسبر أغوار هذا الغموض. إننا على وشك الوصول، ليس إلى إجابات جديدة عظيمة فقط، بل إلى أسئلة جديدة عظيمة كذلك. وهذا هو ما حاولت أن أوصله من خلال هذا الكتاب.

مقدمة تعريفية

الجزء الثاني من هذا التمهيد هو مقدمة تعريفية مختصرة، أشبه بقاموس للمصطلحات مصاغ صياغة سردية عن موضوع الجينات وكيفية عملها. وإنني لآمل أن يلقي القارئ نظرة سريعة عليه في البداية، ثم يعود إليه من وقت لآخر إن حدث أن قابل مصطلحات متخصصة غير مشروحة، فعلم الوراثة الحديث أشبه بأيكة هائلة متشابكة الأغصان من المصطلحات المتخصصة. وقد حاولت قدر جهدي أن أستخدم أقل قدر من المصطلحات الفنية في هذا الكتاب، لكن كان من المحتم أن أستخدم بعضها.

يحتوي الجسم البشري بالتقريب على ١٠٠ تريليون (مليون المليون) خلية. وداخل كل خلية توجد كرة صغيرة سوداء تسمى النواة. وداخل كل نواة توجد مجموعتان كاملتان من الجينات البشرية أو الجينوم (باستثناء خلايا البويضات وخلايا الحيوانات المنوية، التي تحتوي كل واحدة منها على نسخة واحدة فقط من الجينات، وكذلك خلايا كرات الدم الحمراء التي لا تحتوي على نواة). يرث الإنسان إحدى مجموعتي الجينات من الأب، ويرث الثانية من الأم. ومن الناحية النظرية تضم كل مجموعة الجينات نفسها، التي يتراوح عددها من ٦٠ ألف إلى ٨٠ ألف جين، موزعة على الكروموسومات الثلاثة والعشرين نفسها. أما من الناحية الفعلية فعادة ما توجد اختلافات صغيرة دقيقة بين نسخة كل جين في المجموعة الآتية من الأب ونظيرتها الآتية من الأم، وهي الاختلافات المسئولة — مثلًا — عن مولد الطفل بعينين زرقاوين أو بنيتين. ونحن نورِّث عند التناسل مجموعة واحدة متكاملة من الجينات، لكن هذا يحدث بعد تبادل أجزاء من كروموسومات الأب وكروموسومات الأم من خلال عملية تعرف باسم إعادة الاتحاد.

تخيل أن الجينوم كتاب.
يوجد به ثلاثة وعشرون فصلًا تسمى «الكروموسومات».
وكل فصل يحتوي على عدة آلاف من المقالات تسمى «الجينات».
وكل مقالة مؤلفة من فقرات تسمى «الإكسونات»، وتتخللها فقرات إعلانية تسمى «الإنترونات».
وكل فقرة مؤلفة من مجموعة من الكلمات تسمى «الكودونات».
وكل كلمة مكتوبة بحروف تسمى «القواعد».

هناك مليار كلمة في كتاب الجينوم، وهو ما يجعل حجمه أكبر من حجم هذا الكتاب بخمسة آلاف مرة، وأكبر من الكتاب المقدس بثمانمائة مرة، ولو قرأت عليك الجينوم البشري بمعدل كلمة واحدة في الثانية مدة ثمان ساعات يوميًّا، فسأحتاج إلى قرن كامل حتى أنتهي منه. ولو كتبتُ الجينوم البشري، بحيث يحتل كل حرف منه مساحة ملليمتر، فسيكون النص الناتج بطول نهر الدانوب. إنها وثيقة هائلة الحجم؛ كتاب ضخم، وصفة مفرطة الطول، وكلها موجودة داخل النواة ميكروسكوبية الحجم الموجودة بخلية دقيقة أصغر حجمًا من رأس الدبوس.

إن فكرة النظر للجينوم على أنه كتاب ليست تشبيهًا مجازيًّا على الإطلاق؛ بل هي فكرة صحيحة حرفيًّا. فالكتاب ما هو إلا مجموعة من المعلومات الرقمية المكتوبة كتابة خطية، أحادية البُعد والاتجاه، والمحدَّدة من خلال صيغة شفرية تنقل مجموعة صغيرة من حروف الأبجدية إلى معجم كبير من المعاني من خلال الترتيب الذي تتجمع به هذه الحروف. وهذا هو عين ما يجري مع الجينوم. الفارق الوحيد هو أن كل الكتب المكتوبة باللغة الإنجليزية تُقرأ من اليسار إلى اليمين، في حين تُقرأ أجزاء من الجينوم من اليسار إلى اليمين، وأجزاء أخرى من اليمين إلى اليسار، مع أن هذا لا يحدث في الوقت نفسه.

(ومن قبيل المصادفة أنك لن تجد العبارة المبتذلة «مخطط تمهيدي» مذكورة في هذا الكتاب بعد هذه الفقرة، وذلك لثلاثة أسباب؛ أولها: هو أن المهندسين — المعماريين وغيرهم — هم من يستخدمون المخططات التمهيدية، وحتى هؤلاء بدءوا في الاستغناء عنها في عصر الكمبيوتر، في حين لا نزال جميعًا نستخدم الكتب. السبب الثاني: هو أن تشبيه الجينات بالمخططات التمهيدية هو تشبيه رديء؛ فالمخططات التمهيدية هي خرائط ثنائية البُعد، وليست رموزًا رقمية أحادية البعد مثل الجينات. أما السبب الثالث فهو أن المخططات التمهيدية ذات طبيعة حرفية لا تناسب الجينات؛ إذ إن كل جزء في المخطط التمهيدي يكون له جزء مكافئ في الآلة أو المبنى الذي وُضِع المخطط التمهيدي من أجله، في حين لا تجسد كل جملة في كتاب عن وصفات الطبخ قطعة مختلفة من الكعكة.)

وفي حين تُكتب الكتب في اللغة الإنجليزية بكلمات ذات أطوال متباينة باستخدام ستة وعشرين حرفًا، يُكتب الجينوم بالكامل بكلمات ثلاثية الأحرف، باستخدام أربعة حروف فحسب وهي: A وC وG وT (التي ترمز إلى الأدنين والسايتوسين والجوانين والثايمين). وبدلًا من الكتابة على صفحات مفردة، تُكتب هذه الحروف في سلاسل طويلة من السكر والفوسفات تسمى جزيئات الحمض الريبي النووي (المعروف بالاختصار «دي إن أيه» أو «دنا») التي ترتبط بها القواعد كدرجات سلم جانبية. ويتكون كل كروموسوم من زوج طويل (للغاية) من جزيئات الدنا.
إن الجينوم كتاب رائع للغاية، وهذا لأنه قادر، في الظروف المناسبة، على أن ينسخ نفسه ويقرأ نفسه. وتعرف عملية النسخ باسم «التضاعف»، في حين تعرف عملية القراءة باسم «الترجمة». تحدث عملية التضاعف بسبب خاصية متميزة تتسم بها القواعد الأربع: فالقاعدة A (الأدنين) تحب التزاوج مع القاعدة T (الثايمين)، والقاعدة G (الجوانين) تحب التزاوج مع القاعدة C (السايتوسين). وبهذا يستطيع الشريط المفرد من الدنا أن ينسخ نفسه عن طريق تجميع خيط مكمل له، بحيث تقابل قواعد الأدنين قواعد الثايمين، وتقابل قواعد الثايمين قواعد الأدنين، وتقابل قواعد السايتوسين قواعد الجوانين، وتقابل قواعد الجوانين قواعد السايتوسين. وفي حقيقة الأمر يأتي الشكل المعتاد للدنا، ونعني به شكل اللولب المزدوج نتيجة لذلك التزاوج بين كل شريط منفرد والشريط المكمِّل له.
وحين تكتمل نسخة الشريط المكمِّل يعود النص الأصلي إلى الظهور مرة أخرى. وبهذا يتحول التتابع الأصلي ACGT إلى TGCA في النسخة المكمِّلة، ثم يعود مرة أخرى إلى ACGT في النسخة المكمِّلة للنسخة الثانية. وهذا يمكِّن الدنا من التضاعف بطريقة لانهائية، مع الاحتفاظ بالمعلومات نفسها دون تغيير.
أما عملية الترجمة فهي أكثر تعقيدًا من ذلك، ففي البداية «يُنقل» نص الجين إلى نسخة بديلة عن طريق عملية مزاوجة القواعد سالفة الذكر، لكن في هذه المرة لا تنتج نسخة من الدنا، بل من الحمض النووي الريبوزي (المعروف بالاختصار «رنا»)، وهي مادة كيميائية مختلفة قليلًا عن الدنا. يمكن للرنا أيضًا أن يحمل شفرة خطية، وهو يستخدم الحروف نفسها التي يستخدمها الدنا، باستثناء استخدام حرف U (اليوراسيل) محل حرف T (الثايمين). هذه النسخة من الرنا، التي تسمى «الرنا المرسال»، تُعاد صياغتها بحذف كل الإنترونات ولصق جميع الإكسونات معًا (انظر ما سبق).

بعد ذلك يتزامل المرسال مع آلة ميكروسكوبية تسمى الريبوسوم، المكوَّن جزئيًّا من الرنا. ينتقل الريبوسوم على طول المرسال، مترجمًا كل كودون ثلاثي الأحرف إلى حرف واحد من أبجدية مختلفة، أبجدية مكونة من عشرين «حمضًا أمينيًّا» مختلفًا يُنقل كل حمض منها بواسطة نسخة مختلفة من جزيء يسمى «الرنا الناقل». ويرتبط كل حمض أميني بالسابق عليه بحيث تتكون سلسلة تحمل ترتيب الكودونات نفسها. وحين تُترجم الرسالة كلها تُطوى سلسلة الأحماض الأمينية على نفسها بحيث يكون لها شكل مميز اعتمادًا على التتابع الخاص بها. وهنا تعرف باسم «البروتين».

إن كل شيء في جسم الإنسان تقريبًا، من الشعر حتى الهرمونات، يتكون إما من البروتينات أو عن طريقها. وكل بروتين هو جين جرى ترجمته. وعلى وجه الخصوص، تُحفَّز التفاعلات الكيميائية الخاصة بالجسم بواسطة بروتينات تعرف باسم «الإنزيمات». وحتى عمليات تصنيع جزيئات الدنا والرنا نفسها ونسخها وتصحيح خطئها وتجميعها (أي عمليتا التضاعف والترجمة) كلها تجري بمساعدة البروتينات. تعد البروتينات أيضًا مسئولة عن تشغيل الجينات أو إيقاف عملها، وذلك عن طريق ربط أنفسها ماديًّا بتتابعات «المحركات» و«المحفزات» بالقرب من بداية النص الخاص بالجين، وبهذا تنشط جينات مختلفة في أجزاء مختلفة من الجسم.

عند تضاعف الجينات قد تحدث في بعض الأحيان أخطاء، فقد يُتغاضى أحيانًا عن أحد الحروف (القواعد) أو يدخل حرف آخر خاطئ محله، وقد يحدث في بعض الأحيان تكرار عبارات أو فقرات كاملة أو حذفها أو عكسها، وهو ما يعرف باسم الطفرة. ولا تُحدِث أغلب الطفرات ضررًا ولا فائدة، فمثلًا إذا غيرت الطفرات أحد الكودونات إلى آخر يحمل نفس «معنى» الحمض الأميني: يوجد أربعة وستون كودونًا مختلفًا وعشرون حمضًا أمينيًّا فقط، لذا تتشارك العديد من «كلمات» الدنا في المعنى نفسه. يحدث للبشر حوالي مائة طفرة في كل جيل، وهو ما قد يبدو رقمًا ليس بالكبير إذا وضعنا في الاعتبار احتواء الجينوم البشري على أكثر من مليون كودون، لكن إذا حدثت الطفرة في المكان الخطأ فقد تكون النتيجة قاتلة.

كل قاعدة لها استثناء (حتى هذه القاعدة)، فلا توجد كل الجينات البشرية في الكروموسومات الثلاثة والعشرين الرئيسة، بل يعيش القليل منها في نقاط صغيرة تسمى الميتوكوندريا، وهي على الأرجح تعيش هناك منذ الوقت الذي كانت فيه الميتوكوندريا بكتيريا حية حرة. وليست كل الجينات مكونة من الدنا؛ فبعض الفيروسات تستخدم الرنا بدلًا منه. وليست كل الجينات وصفات لبروتينات؛ فبعض الجينات تُنسخ إلى رنا لكنها لا تُترجم إلى بروتين، بل يشرع الرنا في العمل مباشرة إما كجزء من أحد الريبوسومات أو بوصفه رنا ناقلًا. ولا تُحفَّز كل التفاعلات بواسطة البروتينات؛ إذ يُحفَّز بعضها بواسطة الرنا. ولا يأتي كل بروتين من جين واحد وحسب؛ إذ تؤلف بعض الجينات من وصفات متعددة. ولا تصف جميع الكودونات ثلاثية الأحرف الأربعة وستين حمضًا أمينيًّا؛ إذ إن ثلاثة منها هي أوامر «توقف». وأخيرًا، لا ينتج عن كل الدنا جينات، بل إن أغلب الدنا ركام من العبارات المتكررة أو العشوائية التي نادرًا ما تُنسخ أو لا تُنسخ مطلقًا، وهو ما يطلق عليه اسم الدنا المهمَل.

هذا كل ما تحتاج إلى معرفته. يمكننا الآن البدء في رحلتنا داخل الجينوم البشري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤