الكروموسوم ١: الحياة

من كل شكل هالك يظهر للنور جديد
(وبدورنا تُبث فينا الحياة ثم نَبيد)
كفقاعات على سطح بحر الحياة تولد،
وترتفع، وتتكسر، ومجددًا للبحر تعود.
ألكساندر بوب، قصيدة «مقالة عن الإنسان»
في البدء كانت الكلمة، ثم اهتدى البحر برسالة الكلمة، التي واصلت نسخ نفسها دون توقف وإلى الأبد. اكتشفت الكلمة كيف تعيد ترتيب المواد الكيميائية كي ترصد النزعات المتواضعة نحو الانتظام داخل تيار الفوضى وتبث الحياة فيها. لقد حولت الكلمة سطح الأرض من جحيم مغبر إلى جنة وارفة. وفي النهاية أينعت الكلمة وصارت على قدرٍ كافٍ من البراعة، بحيث شكلت تلك الآلة العجيبة هلامية الشكل المسماة بالمخ البشري، الذي تمكن من اكتشاف الكلمة والوعي بها بنفسه.1

إن تلك الآلة العجيبة هلامية الشكل الموجودة في رأسي تجفل في كل مرة تراودني فيها هذه الفكرة؛ فخلال أربعة آلاف مليون عام من تاريخ الأرض، أسعدني الحظ بأني على قيد الحياة اليوم. ومن بين خمسة ملايين نوع كنت محظوظًا بما يكفي أن أولد إنسانًا عاقلًا مدركًا. ومن بين ستة آلاف مليون شخص على ظهر هذا الكوكب حظيت بميزة أن ولدت في البلد الذي اكتُشفت فيه الكلمة. وفي كل تاريخ الأرض وكائناتها الحية وجغرافيتها، ولدت بعد خمس سنوات فقط من اللحظة التي اكتشف فيها اثنان من نوعي تركيب الحمض النووي (الدنا). وعلى مسافة مائتي ميل فقط من مكان مولدي كشفا النقاب عن أعظم أسرار الكون وأبسطها وأكثرها إثارة للدهشة. ولك أن تسخر من حماسي إن شئت، وأن تعتبرني أحد أتباع المذهب المادي السخفاء لهذا الحماس الذي أبديه حيال مختصر لفظي، لكن اتبعني في رحلتي إلى أصل الحياة، وآمل أن أتمكن من إقناعك بما لهذه الكلمة من سحر هائل.

تساءل الشاعر والطبيب الموسوعي إرازموس داروين2 عام ١٧٩٤: «لمّا كان محتملًا أن تكون الأرض والمحيطات قد سكنت بأشكال من النباتات قبل وجود الحيوانات بوقت طويل، وأن العديد من سلالات هذه الحيوانات وجدت قبل سلالات أخرى بوقت طويل هي الأخرى، فهل لنا أن نفترض أن نوعًا واحدًا وحيدًا من الخيوط الحية كان ولا يزال هو أصل كل أشكال الحياة العضوية؟» كان ذلك تخمينًا مذهلًا في ذلك الوقت، ليس فقط لأنه افترض في جرأة أن أشكال الحياة على الأرض كافة لها الأصل نفسه قبل خمسة وستين عامًا من كتابة حفيده عن الموضوع نفسه، بل لاستخدامه العجيب لكلمة «خيوط»؛ فالحق أن سر الحياة ما هو إلا خيطٌ.

لكن كيف يمكن لخيط أن يبث الحياة في شيء ما؟ يصعب تعريف الحياة، بيد أن الحياة تتكون من مهارتين مختلفتين للغاية: القدرة على التكاثر، والقدرة على خلق النظام. إن الكائنات الحية تنتج نسخًا مماثلة تقريبًا لأنفسها؛ فالأرانب تلد أرانب، والهندباء البرية تنتج هندباء برية. بيد أن الأرانب تفعل ما هو أكثر من هذا، فهي تأكل العشب، وتحوله إلى لحم على أجسادها، وعلى نحو ما تبني أجسادًا على قدر من التنظيم والتعقيد أكبر من تلك الفوضى العشوائية للعالم. وهي بهذا لا تتحدى القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية الذي ينص على أنه «في أي نظام مغلق ينزع كل شيء إلى التحرك من حالة النظام إلى حالة عدم النظام»؛ وذلك لأن الأرانب ليست نظمًا مغلقة؛ فالأرانب تبني حزمًا من النظام والتعقيد تسمى الأجساد، لكن على حساب استهلاك مقدار كبير من الطاقة. وعلى حسب تعبير إرفين شرودينجر فإن الكائنات الحية «تمتص النظام» من البيئة المحيطة بها.

ومفتاح هاتين الخاصيتين للحياة هي المعلومات؛ فالقدرة على التكاثر لا تصير ممكنة دون وجود وصفة، أي المعلومات المطلوبة لتكوين الجسد الجديد. لذلك تحمل بويضة الأرنب التعليمات الخاصة بتجميع الأرنب الجديد. كذلك، تعتمد القدرة على خلق النظام عن طريق عملية الأيض هي الأخرى على المعلومات؛ أي التعليمات الخاصة ببناء الآلة التي تخلق النظام وصيانتها. إن كل ما عليه الأرنب البالغ — بما في ذلك قدرته على التكاثر والأيض — محددٌ ومصاغٌ مسبقًا داخل تلك الخيوط الحية الموجودة بداخله، على النحو نفسه الذي يكون عليه شكل الكعكة محدد ومصاغ مسبقًا في وصفتها. وهذه الفكرة ترجع مباشرة إلى أرسطو الذي قال إن «مفهوم» الدجاجة موجود ضمنًا في البيضة التي أتت منها، أو إن جوزة البلوط كانت «محددة» حرفيًّا من واقع تصميم شجرة البلوط. وحين عاودت فكرة أرسطو المبهمة هذه الظهور وسط الاكتشافات الخاصة بعلوم الجينات الحديثة، بعد أن ظلت مدفونة تحت أجيال من الكيمياء والفيزياء، اقترح ماكس ديلبروك مازحًا أن يُمنح ذلك الحكيم اليوناني جائزة نوبل من أجل اكتشافه للحمض النووي.3
إن خيط الدنا ما هو إلا معلومات، رسالة مكتوبة برموز مشفرة تتكون من مواد كيميائية؛ فكل حرف هو مادة كيميائية. قد يبدو هذا الأمر رائعًا إلى حد يصعب تصديقه، غير أن هذه الشفرة مكتوبة على نحو يمكننا فهمه. فمثل اللغة الإنجليزية المكتوبة، هذه الشفرة الوراثية هي لغة خطية، مكتوبة على خط مستقيم، ومثل اللغة الإنجليزية، فهي لغة رقمية، أي إن كل حرف منها يحمل أهمية مساوية لغيره. والأدهى من ذلك أن لغة الحمض النووي أبسط من اللغة الإنجليزية بكثير؛ إذ إن أبجديتها مكونة من أربعة أحرف وحسب، وهي: A وC وG وT.

الآن وقد عرفنا أن الجينات هي وصفات مشفرة، فمن العسير أن نتذكر كيف خمن عدد قليل فقط من الأشخاص مثل هذه الاحتمالية، فعلى مدار النصف الأول من القرن العشرين ظل سؤال واحد يتردد في جنبات علم الأحياء دون إجابة: ما الجين؟ لقد بدا الأمر غامضًا على نحو مستحيل. ولو عدنا بالزمن إلى الوراء، ليس إلى عام ١٩٥٣؛ ذلك العام الذي اكتُشفت فيه البنية المتماثلة للحمض النووي، بل عشرة أعوام قبل ذلك؛ إلى عام ١٩٤٣، فسنجد أن من سيحلون الجزء الأعظم من اللغز كانوا يعملون عام ١٩٤٣ في أشياء مختلفة تمامًا؛ فسنجد أن فرانسيس كريك كان يعمل في تصميم الألغام البحرية بالقرب من بورتسماوث، وفي الوقت نفسه يبدأ جيمس واطسون عامه الدراسي الأول في جامعة شيكاغو وهو في سن الخامسة عشرة ولديه إصرارٌ على تكريس حياته لدراسة علم الطيور، وموريس ويلكنز يساعد في تصميم القنبلة الذرية في الولايات المتحدة، أما روزالين فرانكلين فتدرس التركيب البنيوي للفحم لمصلحة الحكومة البريطانية.

وفي أوشفيتز عام ١٩٤٣ عكف جوزيف منجيل على تعذيب توءمين حتى الموت، في تطبيق منفر للبحث العلمي، وذلك في محاولة منه لفهم علم الوراثة. بيد أن تلك الأساليب اليوجينية لم تكن السبيل إلى الحقيقة. ولم يكن للنتائج التي توصل إليها منجيل أي فوائد لعلماء المستقبل.

وفي دابلن عام ١٩٤٣، كان أحد الفارين من منجيل وأبناء جلدته، عالم الفيزياء العظيم إرفين شرودينجر، يلقي سلسلة من المحاضرات في جامعة ترينيتي بعنوان «ما الحياة؟» كان يحاول تحديد مشكلة. كان يعلم أن الكروموسومات تحتوي على سر الحياة، لكنه لم يكن يستطيع فهم كيفية ذلك: «إنها تلك الكروموسومات … التي تحتوي في شكل يشبه النص المشفر على النموذج الكامل لتطور مستقبل الفرد ووظائفه في حالة البلوغ.» وهو يقول إن حجم الجين صغيرٌ للغاية بحيث لا يمكنه أن يكون أي شيء سوى جزيء كبير وحسب، وهي الفكرة التي ستلهم جيلًا من العلماء، ومنهم كريك وواطسون وويلكنز وفرانكلين، للتعامل مع ما بدا فجأة مشكلة قابلة للحل. غير أنه بعد هذا الاقتراب المدهش من الحل حاد شرودينجر عن المسار السليم؛ إذ ظن أن سر قدرة هذه الجزيئات على حمل الصفات الوراثية يوجد في نظرية الكم الأثيرة لديه، وظل يتابع هذا المسعى إلى أن قاده إلى طريق مسدود. ليس لسر الحياة أي علاقة بحالات الكم، ومن ثم لن تأتي الإجابة المنشودة من علم الفيزياء.4
وفي نيويورك عام ١٩٤٣ كان العالم الكندي أوزوالد أفري البالغ من العمر ستة وستين عامًا يضع اللمسات الأخيرة على التجربة التي من شأنها أن تحدد تحديدًا قاطعًا أن الدنا هو التجسيد الكيميائي للوراثة؛ إذ ثبت عبر مجموعة من التجارب العلمية البارعة أن جرثومة الالتهاب الرئوي يمكنها أن تنتقل من الحالة غير الضارة إلى الحالة الخبيثة للغاية فقط عن طريق امتصاص محلول كيميائي بسيط. وبحلول عام ١٩٤٣ خَلص أفري إلى أن المادة المسئولة عن التحول، عند استخلاصها هي الدنا. بيد أنه سوف يصوغ نتائجه هذه بلغة حذرة للغاية عند نشرها، حتى إن القليلين فقط هم من سيلاحظونها بعد وقت طويل. وفي خطاب كتبه إلى شقيقه روي في مايو (أيار) من عام ١٩٤٣، عبر أفري عن الأمر بكلمات أقل تحفظًا حيث قال:5

إن كنا على حق، وهو بالطبع ما لم يثبت بعد، فهذا يعني أن الأحماض النووية [الدنا] ليست مهمة من الناحية البنيوية وحسب، بل إنها مواد وظيفية نشطة لها دور في تحديد الأنشطة البيوكيميائية والسمات المحددة للخلايا، وأنه بالاستعانة بمادة كيميائية معروفة يصير من الممكن إحداث تغيرات وراثية يمكن التنبؤ بها داخل الخلية. هذا هو الحلم الذي طالما راود علماء الوراثة.

لقد شارف أفري على الوصول إلى الحقيقة، لكنه لا يزال يفكر داخل حدود عالم الكيمياء. قال جان بابتيستا فان هلمونت في عام ١٦٤٨ على سبيل التخمين: «الحياة كلها كيمياء». على الأقل تعد الحياة في جزء منها كيمياء؛ كان هذا ما خلص إليه فريدريش فولر في عام ١٨٢٨ بعد أن تمكن من تصنيع اليوريا من كلوريد الأمونيوم وسيانيد الفضة، وبهذا كسر ذلك الحد الفاصل المقدس حتى وقتها بين عالمي الكيمياء والأحياء؛ إذ إنه حتى ذلك الوقت كانت مادة اليوريا شيئًا لا يُنتج إلا من خلال الكائنات الحية وحسب. إن فكرة اقتصار الحياة على الكيمياء وحسب صحيحة، لكنها مملة، مثل النظر إلى كرة القدم بوصفها فيزياء وحسب. فالحياة، تقريبًا، تتكون من كيمياء ثلاث من الذرات هي الهيدروجين والكربون والأكسجين، التي فيما بينها تؤلف ثمانية وتسعين بالمائة من كل الذرات الموجودة في الكائنات الحية، لكن ما يثير الاهتمام حقًّا هو ما ينبثق عن هذا التركيب من خصائص للحياة — مثل قابلية التوارث — وليس المكونات الرئيسية نفسها. عجز أفري عن تصور الكيفية التي يستطيع الحمض النووي أن يحمل بها سر السمات الوراثية. ولن تأتي الإجابة من عالَم الكيمياء. وعام ١٩٤٣ في بريطانيا، في بليتشلي تحديدًا، وفي سرية تامة كان الرياضي العبقري آلان تورينج يرى أهم أفكاره وهي تتحول إلى حقيقة مادية ملموسة. كان تورينج يزعم أن بإمكان الأرقام أن تحوسب الأرقام. ولغرض كسر شفرة آلات تشفير لورنتز التابعة للقوات الألمانية، بُني كمبيوتر يدعى «كولوسوس» استنادًا إلى مبادئ تورينج، وكان هذا الكمبيوتر آلة جامعة ذات برامج مخزنة قابلة للتعديل. لم يدرك أحد هذا في ذلك الوقت، وأولهم تورينج ذاته، لكنه كان أقرب إلى حل لغز الحياة من أي شخص آخر؛ فالوراثة ذاتها هي برنامج مُخزن قابل للتعديل، أما الأيض فهو الآلة الجامعة. والوصفة التي تربط بينهما هي شفرة؛ رسالة مجردة يمكن تجسيدها في صورة مادة كيميائية أو مادية أو حتى صورة غير مادية. وسرها هو قدرتها على جعل نفسها تتكاثر. إن أي شيء قادر على استغلال موارد العالم من حوله ليتمكن من إنتاج نسخ من نفسه هو كائن حي، وأكثر صيغة من المرجح أن يتخذها هذا الشيء هي رسالة رقمية: رقم أو نص أو كلمة.6
وفي نيوجيرسي عام ١٩٤٣ كان عالم هادئ الطبع منعزل عن الناس يدعى كلود شانون يتأمل في فكرة واتته لأول مرة وهو في برينستون منذ عدة سنوات. كانت فكرة شانون تقضي بأن المعلومات والفوضى هما وجهان متضادان لعملة واحدة، وأن كلًّا منهما له علاقة وثيقة بالطاقة. وكلما احتوى النظام على مقدار أقل من الفوضى زادت كمية المعلومات التي يحتويها. إن السبب الذي يجعل محرك البخار قادرًا على تسخير الطاقة من الفحم المشتعل وتحويلها إلى حركة دورانية هو أن هذا المحرك يوجد به محتوى كبير من المعلومات؛ تلك المعلومات التي حقنتها فيه يد مصممه، والشيء نفسه ينطبق على الجسم البشري. لقد التقت نظرية المعلومات لأرسطو بفيزياء نيوتن في رأس شانون. ومثل تورينج لم يفكر شانون قط في علم الأحياء، بيد أن فكرته تقترب من إجابة التساؤل عن ماهية الحياة أكثر من أطنان من معارف الكيمياء والفيزياء. إن الحياة، أيضًا، هي معلومات رقمية مكتوبة بالدنا.7

في البدء كانت الكلمة، لكن هذه الكلمة لم تكن الدنا، إذ جاء الدنا في فترة لاحقة، بعد أن ترسخت الحياة ترسخًا فعليًّا، وبعد أن كانت قد قسمت العمل إلى نشاطين منفصلين: العمل الكيميائي، وتخزين المعلومات؛ أي عمليتي الأيض والتكاثر. ومع هذا يحمل الدنا سجلًّا للكلمة، منقولًا نقلًا صادقًا على مر الدهور إلى حاضرنا المدهش.

تخيل أنك ترى نواة لبويضة بشرية تحت المجهر. رتب الثلاثة والعشرين كروموسومًا، إن استطعت، وفقًا للحجم، بحيث يكون أكبرها حجمًا إلى اليمين وأصغرها إلى اليسار. والآن كبر الصورة على أكبر الكروموسومات؛ ذلك الذي أطلقنا عليه — لأسباب اعتباطية تمامًا — الكروموسوم ١. لكل كروموسوم ذراع طويلة وأخرى قصيرة، تفصلهما نقطة مضغوطة تعرف باسم القسيم المركزي. على الذراع الطويلة للكروموسوم ١، بالقرب من القسيم المركزي ستجد — حين تقرأ قراءة متأنية — أنه يوجد تتابع من ١٢٠ حرفًا، من حروف A وC وG وT، التي تتكرر مرارًا وتكرارًا. وبين كل مجموعة مكررة وأخرى يوجد قدر من النص العشوائي، إلا أن الفقرة المكونة من ١٢٠ حرفًا تواصل الظهور مجددًا كأنها نغمة موسيقية مكررة، وذلك لأكثر من مائة مرة. هذه الفقرة القصيرة هي على الأرجح أقرب ما يمكننا الحصول عليه كصدى للكلمة الأصلية.
هذه الفقرة هي جين صغير، ربما يكون أصغر جين نشط في جسم الإنسان. إن حروفه المائة والعشرين تُنسخ نسخًا متواصلًا إلى خيط قصير من الرنا. هذه النسخة تعرف باسم 5S RNA. وهي تهيئ لنفسها مسكنًا بالاستعانة بكتلة من البروتينات وخيوط الرنا الأخرى المنسوجة نسجًا متأنيًا داخل أحد الريبوسومات، وهي آلات وظيفتها ترجمة وصفات الدنا إلى بروتينات. إن البروتينات هي ما يمكِّن الدنا من التكاثر. ولو أعدنا صياغة كلمات صامويل باتلر لقلنا إن البروتين ما هو إلا سبيل الجين لصناعة جين آخر، والجين ما هو إلا سبيل البروتين لصناعة بروتين آخر. فالطهاة يحتاجون إلى وصفات الطهي، وتحتاج الوصفات كذلك إلى طهاة. والحياة تنشأ من هذا التفاعل المشترك بين هذين النوعين من المواد الكيميائية: البروتينات والدنا.

تمثل البروتينات الكيمياء والعيش والتنفس والأيض والسلوك، وهو ما يطلق عليه علماء الأحياء اسم النمط الظاهري. أما الدنا فيمثل المعلومات والتكاثر والتوالد والجنس، وهو ما يطلق عليه علماء الأحياء اسم النمط الجيني. ولا يمكن أن يوجد أحد النمطين دون الآخر. إنه ذلك السؤال الكلاسيكي الخاص بمن جاء أولًا، البيضة أم الدجاجة، الدنا أم البروتين؟ من المحال أن يكون الدنا هو الذي جاء أولًا، لأن الدنا وحدة رياضية ضعيفة وغير فعالة لا تحفز أي تفاعلات كيميائية. ومن المحال أيضًا أن يكون البروتين هو الذي جاء أولًا، لأن البروتين هو مادة كيميائية صافية لا تملك أي طريقة معروفة لتنسخ نفسها نسخًا دقيقًا. ويبدو من المحال كذلك أن يكون الدنا قد اخترع البروتين أو العكس. كان من الممكن أن يظل ذلك اللغز محيرًا لنا على الدوام لو لم تترك الكلمة آثارها الخافتة في خيوط الحياة. وكما بتنا نعرف الآن على وجه اليقين أن البيضة هي التي جاءت قبل الدجاجة (فالأسلاف الزاحفة لجميع الطيور كانت تضع البيض)، كذلك صارت الدلائل المتزايدة تؤكد على أن الرنا جاء قبل البروتين.

إن الرنا مادة كيميائية تربط بين عالمي الدنا والبروتين. وهي تستخدم استخدامًا أساسيًّا في ترجمة الرسائل من أبجدية الدنا إلى أبجدية البروتين. ومن طريقة عملها يتأكد لنا أن هذه المادة هي السلف الأول للدنا والبروتين على حدٍّ سواء. لقد كان الرنا بالنسبة إلى الدنا بمنزلة حضارة اليونان القديمة بالنسبة إلى روما؛ وكهوميروس بالنسبة لفرجيل.

كان الرنا هو الكلمة. وقد ترك الرنا خلفه خمسة أدلة صغيرة تؤكد وجوده قبل البروتين والدنا؛ فحتى في هذه الأيام تتكون عناصر الدنا من خلال تعديل عناصر الرنا مباشرة. أيضًا أحرف T الخاصة بالدنا مصنوعة من أحرف U الخاصة بالرنا. وتعتمد أيضًا العديد من الإنزيمات الحديثة، على الرغم من كونها مصنوعة من البروتينات، على جزيئات صغيرة من الرنا كي تعمل. إضافة إلى ذلك، يستطيع الرنا، على عكس الدنا والبروتين، أن ينسخ نفسه دون مساعدة، فقط أعطه المكونات المناسبة وسوف يصنع منها رسالة ذات معنى. فأينما نظرت في الخلية فستجد أن الوظائف الأساسية الأكثر بدائية تتطلب وجود الرنا. علاوةً على ذلك، ينقل إنزيم معتمد على الرنا الرسالة — المصنوعة من الرنا — من الجين. أما ما يترجم هذه الرسالة فهو آلة الاحتواء المصنوعة من الرنا؛ الريبوسوم. أما ما يحضر ويحمل الأحماض الأمينية اللازمة لترجمة رسالة الجين فهو جزيء آخر مصنوع من الرنا أيضًا، لكن الأهم من كل هذا هو أن الرنا، على العكس من الدنا، يمكنه العمل كعنصر محفز، بحيث يفصل ويربط بين الجزيئات، وفيها جزيئات الرنا نفسها؛ إذ إنه يستطيع قطعها، ثم وصل النهايات معًا، ويكوِّن بعض الوحدات البنائية الخاصة به ومن ثم يطيل سلسلة الرنا، كما يمكنه العمل على نفسه، بحيث يقتطع جزءًا من النص ثم يصل بين النهايات الحرة مرة ثانية.8
إن اكتشاف هذه الخصائص المدهشة للرنا في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، على يد كل من توماس كيش وسيدني ألتمان، غيّر مفهومنا عن أصل الحياة. والآن يبدو مُرجحًا أن أول الجينات على الإطلاق، الجين البدائي، كان مادة محفزة وقابلة للتكاثر في الوقت نفسه، أي كلمة تمتص العناصر الكيميائية المحيطة بها كي تضاعف نفسها. ومن المرجح أنه كان مصنوعًا من الرنا. فمن خلال الاختيار المتكرر لجزيئات عشوائية من الرنا الموجودة في أنبوبة الاختبار استنادًا إلى قدرتها على تحفيز التفاعلات، من الممكن أن «نطور» جزيئات رنا محفزة من لا شيء، بحيث نحاكي تقريبًا أصل الحياة. ومن أكثر النتائج إثارة للدهشة أن خيوط الرنا هذه المصنّعة عادة ينتهي بها الحال وهي تحمل جزءًا من نص الرنا يشبه شبهًا مثيرًا للدهشة جزءًا من النص الخاص بأحد الجينات الريبوسومية للرنا مثل الجين 5S الموجود في الكروموسوم ١.
قبل أول الديناصورات، وقبل أول الأسماك، وقبل أول الديدان، وقبل أول النباتات، وقبل أول الفطريات، وقبل أول البكتيريا، وُجد عالم من الرنا، منذ حوالي أربعة مليارات عام، وذلك بعد فترة وجيزة من نشأة كوكب الأرض نفسه، وفي الوقت الذي كان فيه عمر العالم نفسه عشرة مليارات عام وحسب. نحن لا نعرف كيف كان يبدو شكل هذه «الكائنات الريبوسومية»، لكن يمكننا تخمين ما كانت تفعله طيلة حياتها، من الناحية الكيميائية. نحن لا نعرف ما الذي وجد قبلها، لكننا واثقون من وجودها، وذلك بسبب الدلائل المؤكدة على دور الرنا التي ظلت موجودة في الكائنات الحية إلى اليوم.9

كان لدى هذه الكائنات الريبوسومية مشكلة كبيرة، فالرنا مادة غير مستقرة، حيث تتحلل في غضون ساعات. ولو وجدت هذه الكائنات في مكان حار، أو حاولت النمو إلى أحجام كبيرة، لوقعت فيما يطلق عليه علماء الأحياء اسم الخطأ الفادح، ويعني التحلل السريع للرسائل المحمولة في جيناتها. وبالمحاولة والخطأ اخترع أحد هذه الكائنات نسخة جديدة أقوى من الرنا يطلق عليها اسم الدنا، إلى جانب نظام لعمل نسخ رنا منه، ويشمل ذلك تلك الآلة التي سنطلق عليها اسم «الريبوسوم الأوَّلي». كان عليها العمل سريعًا، وبدقة. لذا شرعت في تجميع النسخ الجينية بمعدل ثلاثة أحرف في المرة الواحدة، حيث كان للسرعة والدقة أهميتهما هنا. وجاءت كل كلمة ثلاثية الأحرف مزودة ببطاقة تعريف بحيث يسهل على الريبوسوم الأوَّلي العثور عليه، وهذه البطاقة كانت مصنوعة من الأحماض الأمينية. وبعدها بوقت طويل تجمعت هذه البطاقات التعريفية معًا لتكون البروتينات، وصارت الكلمات ثلاثية الأحرف نوعًا من الشفرة للبروتينات، الشفرة الجينية نفسها. (ولهذا السبب تتكون الشفرة الجينية إلى هذا اليوم من كلمات ثلاثية الأحرف، وكل واحدة منها تتهجى واحدًا من الأحماض الأمينية العشرين كجزء من وصفة لأحد البروتينات.) وهكذا وُلِدَ مخلوق أكثر تعقيدًا خزن الوصفة الجينية في حمضه النووي، وصنع آلات العمل من البروتينات، واستخدم الرنا للوصل بين الاثنين.

كان اسمها لوكا، وهو اسم مكون من الأحرف الأولى لعبارة إنجليزية معناها: «آخر سلف مشترك عام». ماذا كان شكلها، وأين كانت تعيش؟ الإجابة التقليدية هي أنها كانت تشبه البكتيريا في شكلها، وتعيش في إحدى البرك الدافئة، غالبًا إلى جوار ينبوع ساخن، أو في بحيرة ضحلة. لكن في الأعوام الأخيرة صار من الشائع إعطاؤها عنوانًا أكثر شؤمًا؛ إذ إنه من الجلي الآن أن الصخور أسفل الأرض والبحر تحمل المليارات من البكتيريا الغنية بالمواد الكيميائية. لذا يُعتقد الآن أن لوكا كانت موجودة في أعماق الأرض، في شقوق الصخور البركانية، حيث كانت تتغذى على الكبريت والحديد والهيدروجين والكربون. وإلى هذا اليوم لا تزال الحياة الموجودة على سطح كوكبنا قشرة سطحية وحسب؛ فحوالي عشرة أضعاف الكربون العضوي الموجود في المجال الحيوي بأسره موجود في البكتيريا أليفة الحرارة التي تقطن أعماق الأرض، حيث تعد هي المسئولة غالبًا عن توليد ما نطلق عليه اسم الغاز الطبيعي.10
ومع ذلك تظل الصعوبة تكتنف محاولة تعريف أول أشكال الحياة. في هذه الأيام من المحال على أي مخلوق أن يكتسب الجينات إلا من والديه، لكن ربما لم يكن الحال كذلك دومًا. فحتى في وقتنا الحاضر لا تزال البكتيريا قادرة على اكتساب الجينات من بكتيريا أخرى بالتهامها فقط. ربما وجدت فيما مضى تجارة واسعة للجينات، بل وسطو واسع عليها. ففي الماضي السحيق كانت الكروموسومات على الأرجح متعددة وقصيرة، بحيث يحتوي الواحد منها على جين واحد لا أكثر، قد يفقد أو يكتسب في سهولة. ولو كان الأمر كذلك — كما يوضح لنا كارل ووز — فإن الكائنات لم تكن وقتها كيانات ثابتة، بل لم تكن إلا تجمعات مؤقتة من الجينات. وعلى هذا ربما تكون الجينات التي استقر بها الحال في أجسامنا قد أتت من العديد من «الأنواع»، وبذا يكون من العبث محاولة تصنيفها إلى أنساب متباينة. إننا لم ننحدر من لوكا واحد هو سلفنا، بل من مجموعة الجينات الموجودة بكل الكائنات. إن الحياة — كما يقول ووز — لها تاريخ فيزيائي، لكن ليس لها تاريخ خاص بالأنساب.11

يمكنك النظر إلى هذه النتيجة كفكرة مبهمة مريحة من أفكار الفلسفة الشمولية الجمعية — فنحن جميعًا منحدرون من مجتمع كامل وليس من أنواع فردية — أو يمكنك النظر إليها بوصفها الإثبات الأعظم لنظرية الجين الأناني؛ ففي تلك الأيام كانت تدور حرب ضروس بين الجينات — حتى أكثر من الأيام التي نعيشها الآن — تُستخدم فيها الكائنات الحية بوصفها مَركبات وتُعقد تحالفات وقتية فقط؛ أما اليوم فقد أصبحت اللعبة أشبه بلعبة جماعية. اختر وجهة النظر التي تحلو لك.

حتى لو كان هناك أكثر من لوكا واحد، فبمقدورنا أن نتخيل أين عاشوا وماذا كانوا يفعلون في حياتهم. وهنا مكمن المشكلة الثانية في فرضية البكتيريا المحبة للحرارة، فبفضل العمل الاستقصائي الرائع الذي أداه ثلاثة من النيوزيلنديين ونشر عام ١٩٩٨، يمكننا أن نلمح فجأة إمكانية أن تكون شجرة الحياة — كما تظهر في كل مرجع علمي تقريبًا — مقلوبة في حقيقة الأمر. فتلك الكتب تصر على أن المخلوقات الأولى كانت أشبه بالبكتيريا؛ خلايا بسيطة بها نسخ فردية من الكروموسومات الحلقية، وكل الكائنات الحية الأخرى جاءت نتيجة اتحاد مجموعات من البكتيريا معًا بحيث كونت الخلايا المعقدة، لكن أكثر الاحتمالات قبولًا أن العكس تمامًا هو الصحيح؛ فأولى الكائنات الحية الحديثة لم تكن أشبه بالبكتيريا، ولم تعش في الينابيع الساخنة أو الشقوق البركانية الموجودة في أعماق البحار، بل كانت أشبه بالأوليات؛ الجينات بها موزعة على عدد من الكروموسومات الخطية وليست مجمعة في كروموسوم واحد حلقي الشكل. كذلك كانت متعددة الصبغات، أي كانت تحمل نسخًا إضافية متعددة من كل جين بغرض المساعدة في عملية تصحيح أي خطأ يقع في الهجاء. والأكثر من ذلك أنها كانت تحب العيش في الأماكن الباردة نسبيًّا. وكما حاول باتريك فورتير أن يبرهن وقتًا طويلًا فإنه يبدو الآن وكأن البكتيريا جاءت في مرحلة لاحقة، وأنها السليل المبسط الأكثر تخصصًا للوكا، وأنها جاءت بعد تشكيل عالم الدنا والبروتين بوقت طويل. مكمن البراعة هنا هو تمكن البكتيريا من التخلص من جزء كبير من تجهيزات عالم الرنا بحيث تتمكن من العيش بطريقة خاصة في الأماكن الحارة. إننا نحن من احتفظ بالخصائص الجزيئية البدائية للوكا في خلايانا، وعلى هذا تصير البكتيريا «أكثر تطورًا بكثير» منا.

تؤيد هذه القصة الغريبة مجموعة من «الحفريات» الجزيئية؛ وهي أجزاء صغيرة من الرنا موجودة داخل نوايا خلايا الإنسان تقوم بأشياء غير ضرورية مثل ربط أنفسها خارج الجينات مثل الرنا المرشد، والرنا القنطري، والرنا النووي الصغير، والإنترونات ذات القدرة على القص الذاتي. لا تملك البكتيريا أيًّا من هذه، ومن الحصافة افتراض تخلص البكتيريا منها، لا أننا نحن من اخترعها. (إن العلم — وهو ما قد يدهش البعض — يفترض به أن يتعامل مع التفسيرات البسيطة بوصفها أكثر ترجيحًا من التفسيرات المعقدة، ما لم يوجد سبب يدعو إلى العكس، وهذا المبدأ معروف في علم المنطق باسم شفرة أوكام.) لقد تخلصت البكتيريا من خيوط الرنا القديمة هذه حين غزت الأماكن الحارّة كالينابيع الساخنة أو الصخور الموجودة في باطن الأرض، حيث يمكن أن تصل الحرارة إلى ١٧٠ درجة مئوية، ولتقليل خطر حدوث الأخطاء بسبب تلك الحرارة كان عليها دفع الثمن بتبسيط أنفسها. وبعد تخلص البكتيريا من زوائد الرنا وجدت في الشكل الحلقي الانسيابي فائدة عظيمة مكنتها من التنافس في ظروف بيئية تعد فيها سرعة التكاثر مزية حقيقية، مثلما هي الحال في الظروف البيئية الطفيلية أو المعتمدة على الفضلات. أما نحن فقد احتفظنا ببقايا الرنا القديمة هذه، كآثار تذكرنا بآلات عفى عليها الدهر، لكنها لم تبل بداخلنا تمامًا، فعلى العكس من العالم التنافسي القاسي الذي تعيش فيه البكتيريا لم نوجد نحن — وأعني بضمير الجمع هنا كل الحيوانات والنباتات والفطريات — وسط مثل هذه المنافسة العاتية التي تفرض التحلي بالسرعة والبساطة في التكوين. وعوضًا عن ذلك فقد اخترنا أن نكون أكثر تعقيدًا؛ أن نملك أكبر عدد ممكن من الجينات، بدلًا من الاكتفاء بتلك الآلة الانسيابية البسيطة.12
إن كلمات الشفرة الوراثية ثلاثية الأحرف واحدة في كل الكائنات الحية، فكلمة CGA تعني أرجنين، وGCG تعني ألانين، سواء في الخفافيش أو الخنافس أو أشجار الزان أو البكتيريا. بل إنها تحمل المعنى نفسه لدى البكتيريا العتيقة ذات الاسم المضلل التي تعيش في درجات حرارة ملتهبة في الينابيع الكبريتية على عمق آلاف الكيلومترات تحت سطح المحيط الأطلنطي، أو في الكبسولات الميكروسكوبية لتلك الكائنات المراوغة المسماة بالفيروسات. وفي أي مكان في العالم، في أي حيوان أو نبات أو حشرة أو كائن دقيق تنظر إليه، فإن كان حيًّا فسيستخدم القاموس نفسه ويعرف الشفرة نفسها. إن الحياة بكل أشكالها شيء واحد؛ فالشفرة الجينية — إلا في القليل من الانحرافات الموضعية الضئيلة — التي ترجع في معظمها إلى أسباب غير معروفة لدى الهدبيات الأولية واحدة في جميع المخلوقات. إننا جميعًا نستخدم اللغة نفسها تمامًا.

هذا يعني — وقد يجد بعض رجال الدين في هذا القول حجة قوية — أن خلقًا أوليًّا وحيدًا قد وُجد؛ حدث فردي واحد أوجد الحياة على سطح هذا الكوكب. بالطبع قد تكون هذه الحياة ولدت على سطح كوكب آخر وغرستْها هنا سفينة فضاء، أو ربما كان هناك آلاف الأنواع من الحيوات أولًا، لكن لوكا وحدها ظلت حية وسط ذلك الصراع القاسي على البقاء الذي اتسم به ذلك الحساء البدائي، لكن إلى أن فُكت الشفرة الوراثية في ستينيات القرن العشرين، لم نكن نعرف ما نعرفه الآن؛ أن الحياة واحدة، وأن الطحالب البحرية هي أبناء عمومتنا، وأن الجمرة الخبيثة هي واحدة من أقربائنا المتطورين. إن وحدة الحياة حقيقة مبرهن عليها. لقد كان إرازموس داروين قريبًا من الحقيقة على نحو غير مسبوق حين قال إن: «نوعًا واحدًا وحيدًا من الخيوط الحية كان أصل كل أشكال الحياة.»

على هذا النحو يمكن قراءة حقائق بسيطة من كتاب الجينوم، مثل: وحدة الحياة باختلاف أشكالها، وأسبقية الرنا، والكيمياء التي قامت عليها أول أشكال الحياة على سطح هذا الكوكب، وحقيقة أن كائنات كبيرة وحيدة الخلية كانت على الأرجح أسلاف البكتيريا وليس العكس. إننا لا نملك سجلًّا حفريًّا لشكل الحياة منذ أربعة مليارات عام، بل لدينا كتاب الحياة العظيم هذا فقط؛ الجينوم. إن الجينات الموجودة بخلايا خنصرك هي السليل المباشر للجزيئات الناسخة الأولى، ويربط بين الاثنين سلسلة متواصلة مكونة من عمليات نسخ تقدر بعشرات المليارات، وهي تأتينا اليوم وهي لا تزال تحمل رسالة رقمية تحمل في طياتها آثار تلك الصراعات المبكرة في الحياة. فإن كان بمقدور الجينوم أن يخبرنا عما حدث في ذلك الحساء البدائي، فمؤكد أن بإمكانه أن يخبرنا الكثير عما حدث خلال أربعة مليارات عام تلته. إنه سجل كامل لتاريخنا، محفور في شفرة أجسامنا الحية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤