الكروموسوم ١٤: الخلود

تخفي السماء عن كل المخلوقات كتاب المصير كله، عدا تلك الصفحة الخاصة بواقعهم الحالي.

ألكساندر بوب، قصيدة «مقالة عن الإنسان»
بالنظر إلى الماضي من وقتنا الحالي يبدو لنا الجينوم خالدًا؛ إذ تربط سلسلة متصلة من الروابط بين الجين البدائي الأول والجينات النشطة في أجسامنا الآن؛ سلسلة متصلة قوامها خمسون مليار عملية نسخ جرت على مدار أربعة مليارات عام. لا توجد فواصل أو أخطاء قاتلة على طول الطريق، لكن — كما قد ينصح أي مستشار مالي — ليس الدوام في الماضي بضمان لاستمرار الدوام في المستقبل. إن استمرار سلالتك أمر صعب، بل في حقيقة الأمر يتسبب الانتخاب الطبيعي في جعله صعبًا. فلو كان سهلًا فستضيع المزية التنافسية التي تتسبب في التطور التكيفي من الأساس. وحتى لو عاش الجنس البشري مليون عام آخر، فإن الكثيرين ممن هم أحياء اليوم لن يسهموا بأي جينات في هؤلاء الذين سيعيشون بعد مليون عام من اليوم؛ إذ قد ينتهي الحال بأحفادهم دون إنجاب أبناء. وإذا لم يستمر الجنس البشري في الحياة (أغلب الأنواع تعيش عشرة ملايين عام فحسب، وأغلبها لا تترك أي أنواع منحدرة منها؛ وقد أمضينا بالفعل خمسة ملايين عام دون أن ينبثق عنا أي نوع تابع)، فلن يكون لأي ممن يعيشون اليوم أي إسهام جيني في المستقبل. لكن إذا استمرت الأرض على وضع مشابه لوضعها الحالي فستكون بعض الأنواع الموجودة في مكان ما أسلافًا لأنواع مستقبلية، وبهذا تستمر سلسلة الخلود.1

لو كان الجينوم خالدًا، لماذا إذن يموت الجسم؟ إن أربعة مليارات عام من النسخ المتواصل لم تضعف الرسالة التي تحملها جيناتنا (وجزء من السبب وراء هذا يرجع إلى طبيعتها الرقمية)، ومع ذلك يفقد الجلد البشري ليونته تدريجيًّا مع تقدمنا في العمر. إن الأمر يحتاج أقل من خمسين عملية تضاعف للخلايا كي تتحول البويضة المخصبة إلى جسد كامل، ومئات قليلة وحسب كي يبقى الجلد في حالة طيبة. هناك قصة قديمة تحكي عن ملك وعد بأن يعطي أحد علماء الرياضيات لديه أي شيء يطلبه مقابل خدمة قدمها له. طلب عالم الرياضيات رقعة شطرنج وأن يوضع على أول مربع منها حبة أرز، وعلى الثاني حبتين وعلى الثالث أربع حبات وعلى الرابع ثماني حبات وهكذا. بالوصول إلى المربع الرابع والستين، سيتطلب الأمر نحو عشرين مليون مليون مليون حبة أرز، وهو رقم هائل يصعب تخيله. وهكذا الحال في الجسم البشري، فالبويضة تنقسم مرة واحدة، بعدها تبدأ كل خلية وليدة في الانقسام مجددًا، وهكذا. وبعد سبع وأربعين عملية تضاعف يملك الجسد أكثر من مائة تريليون خلية. ولأن بعض الخلايا تتوقف عن التضاعف مبكرًا في حين تواصل أخرى الانقسام، فإن الكثير من الأنسجة تتكون من خلال خمسين عملية تضاعف، ولأن بعض الأنسجة تواصل إصلاح نفسها بنفسها خلال الحياة فقد تتضاعف بعض الخلايا عدة مئات من المرات على مدار الحياة الطويلة. هذا يعني أن كروموسوماتها قد «نُسخت» عدة مئات من المرات، وهو ما يكفي لتشويه الرسالة التي تحملها. ومع هذا لم تشوه الخمسون مليار عملية نسخ التي حدثت منذ بدء الخليقة الجينات التي نرثها. ما الفارق؟

جزء من الإجابة يوجد في الكروموسوم ١٤، على صورة جين يسمى TEP1. أحد منتجات هذا الجين بروتين يشكل جزءًا من تلك الآلة البيوكيميائية العجيبة للغاية المسماة التيلوميريز. إن نقص التيلوميريز يعني — بصراحة — الشيخوخة. أما إضافة التيلوميريز فتجعل بعض الخلايا خالدة.
تبدأ القصة بملحوظة عابرة صدرت عن جيمس واطسون، أحد مكتشفَي الحمض النووي. لاحظ واطسون أن تلك الآلات البيوكيميائية التي تنسخ الحمض النووي، والمسماة البوليميريز، لا تستطيع البدء من بداية خيط الحمض النووي، بل تحتاج للبدء بعد بداية النص ببضع «كلمات». وعلى هذا يصير النص أقصر وأقصر مع كل عملية نسخ. تخيل ماكينة نسخ ضوئي تنتج صورًا مثالية للنص، لكنها تبدأ من السطر الثاني في كل صفحة وتنتهي عند السطر قبل الأخير. على هذا تكون الطريقة الوحيدة للتعامل مع مثل هذه الآلة المثيرة للجنون هي بدء كل صفحة وإنهاؤها بسطر من اللغو الفارغ من المعنى الذي لا ضير من فقدانه. وهذا هو ما تفعله الكروموسومات بالتحديد. إن كل كروموسوم جزيء دنا عملاق ملتف حول نفسه يبلغ القدم طولًا، يمكن نسخه بالكامل باستثناء أقصى طرفيه. لهذا السبب توجد في طرف كل كروموسوم سلسلة متكررة من «النص» الفارغ من المعنى: «كلمة» TTAGGG مكررة نحو ألفي مرة. هذا التسلسل الطرفي الممل يُعرف باسم التيلومير أو القسيم الطرفي. إن وجوده يمكن ناسخات الحمض النووي من البدء دون حذف أي جزء من «النص» الحامل للمعنى. إن هذا التسلسل، الشبيه بالنهاية البلاستيكية لرباط الحذاء يمنع طرف الكروموسوم من التلف.
ومع هذا، في كل مرة يُنسخ فيها الكروموسوم تنفصل قطعة صغيرة من هذا القسيم الطرفي. وبعد مئات قليلة من عمليات النسخ يصير الكروموسوم أقصر من الطرف بحيث تكون الجينات ذات المعنى عرضة للانفصال. في جسدك تقصر القسيمات الطرفية هذه بمعدل واحد وثلاثين «حرفًا» في العام، وتزيد النسبة عن ذلك في بعض الأنسجة. ولهذا السبب تشيخ الخلايا وتتوقف عن النمو بحلول سن معين. وقد يكون هذا هو السبب وراء شيخوخة الجسد أيضًا، مع وجود خلاف حاد حول هذا الأمر. لدى الشخص البالغ من العمر ثمانين عامًا تكون أطوال القسيمات الطرفية خمسة أثمان طولها عند المولد.2
إن سبب عدم ضياع الجينات من خلايا البويضات أو الحيوانات المنوية، وهي السلف المباشر للجيل التالي، هو وجود إنزيم التيلوميريز، الذي مهمته إصلاح أي نهايات متكسرة للكروموسومات وإطالة القسيمات الطرفية. إن التيلوميريز، المكتشف عام ١٩٨٤ على يد كل من كارول جرايدر وإليزابيث بلاكبيرن، مادة غريبة الأطوار، فهو يحتوي على الرنا، الذي يستخدمه كقالب ينسخ منه القسيمات الطرفية، ويحمل الجزء البروتيني منه شبهًا كبيرًا بإنزيم النسخ العكسي، ذلك المسئول عن تمكين الفيروسات والينقولات القهقرية من التكاثر داخل الجينوم (انظر الفصل الخاص بالكروموسوم ٨). يعتقد البعض أن التيلوميريز هو سلف جميع الفيروسات والينقولات القهقرية، والمخترع الأول لعملية النسخ من الرنا إلى الدنا. ويرى البعض أنه نظرًا لاستخدامه الرنا، فهو بمنزلة أثر باق من عالم الرنا القديم.3
وفي سياقنا الحالي، لاحظ أن «العبارة» TTAGGG، التي تتكرر آلاف المرات داخل القسيمات الطرفية، واحدة في جميع القسيمات الموجودة في كل الثدييات. بل في حقيقة الأمر، العبارة نفسها مكررة في جميع الحيوانات تقريبًا، وحتى الحيوانات الأولية، مثل المِثْقَبِيَّة التي تسبب مرض النوم، والفطريات مثل العُصَيْباءُ المُبَوِّغَة. وفي النباتات تحمل العبارة حرف T إضافي في البداية لتصير: TTTAGGG. إن الشبه لصيق إلى حدٍّ لا يمكن إرجاعه للصدفة. يبدو أن القسيمات الطرفية موجودة منذ بدء الخليقة، وأنها استخدمت قالب الرنا نفسه في جميع سلالاتها، لكن من المثير للدهشة أن الهدبيات الأولية — تلك المخلوقات الميكروسكوبية النشيطة المكسوة بأهداب دافعة — تتميز بامتلاكها عبارة مختلفة بقدر كبير في قسيماتها الطرفية، التي عادة ما تكون إما TTTTGGGG أو TTGGGG. إن الهدبيات — كما تذكر — هي تلك الكائنات التي تنحرف في تركيبها الجيني عن التركيب العام السائد في بقية المخلوقات. توجد أدلة متزايدة تدعم الفكرة القائلة إن الهدبيات مخلوقات خاصة لا يمكن تصنيفها بسهولة إلى أي من أنواع الكائنات المعروفة. ولدي إحساس شخصي بأننا سنكتشف في يوم ما أنها تنبثق من جذر شجرة الحياة نفسها، قبل حتى تطور البكتيريا، وأنها — في الواقع — أشبه بحفريات حية لسلالة لوكا ذاتها؛ وهي آخر الأسلاف المشتركين قاطبة. لكني أقر بأن هذا تخمين جامح، وخارج عن سياقنا الحالي.4
وربما، من قبيل المفارقة، ظلت آلات التيلوميريز الكاملة معزولة داخل الهدبيات، وليس داخل البشر. إننا لا نعلم بعد على وجه اليقين أي البروتينات تتجمع كي تؤلف التيلوميريز البشري، وقد يتضح لنا أنها مختلفة جدًّا عن تلك الموجودة لدى الهدبيات. يشير بعض المتشككين إلى التيلوميريز على أنه «ذلك الإنزيم الخرافي»، لأنه من الصعب للغاية العثور عليه في الخلايا البشرية. أما في الهدبيات، التي تبقي جيناتها النشطة في آلاف من الكروموسومات الصغيرة المغطى كل واحد منها باثنين من القسيمات الطرفية، فمن اليسير بدرجة أكبر العثور على التيلوميريز. ومع هذا، حين تفقدت مجموعة من العلماء الكنديين مكتبة الحمض النووي الخاصة بالفئران بحثًا عن تتابعات للحمض النووي تشبه تلك الموجودة في إنزيم التيلوميريز لدى الهدبيات وجدوا جينًا يشبه أحد جينات الهدبيات، وسرعان ما وجدوا جينًا بشريًّا يوافق جين الفأر هذا. وضع فريق من العلماء اليابانيين الخريطة الجينية لهذا الجين الموجود على الكروموسوم ١٤، وينتج بروتينًا يحمل الاسم المهيب، والمشكوك في صحته، «البروتين المرتبط بالتيلوميريز ١»، أو TEP1. ومع هذا يبدو أن هذا البروتين، على الرغم من كونه مكونًا أساسيًّا في التيلوميريز، ليس هو الجزء المعني بعملية النسخ العكسي المستخدمة في إصلاح أطراف الكروموسومات. عُثر على مرشح أفضل يؤدي هذه الوظيفة منذ ذلك الوقت، لكن، حتى وقت كتابة هذه الكلمات، لا يزال موقعه الجيني غير مؤكد.5
إن جيني التيلوميريز هذين هما أقرب ما توصلنا إليه في مسعانا لإيجاد «جين الشباب». إن التيلوميريز يتصرف وكأنه إكسير الحياة للخلايا. تأسست جيرون كوربوريشن، وهي شركة متخصصة في أبحاث التيلوميريز، على يد كال هارلي؛ أول عالم بيّن أن القسيمات الطرفية تنكمش في الخلايا المنقسمة. تصدر اسم جيرون عناوين الأخبار في أغسطس (آب) من عام ١٩٩٧ لاستنساخها جزءًا من التيلوميريز. وعلى الفور ارتفعت أسعار أسهمها إلى الضعف، ليس أملًا في أنها قد تمنحنا الشباب الأبدي بل في إمكانية توفيرها لعقار مضاد للسرطان؛ إذ إن الأورام تحتاج التيلوميريز كي تواصل نموها. لكن جيرون اتجهت صوب تخليد الخلايا باستخدام التيلوميريز. وفي واحدة من التجارب أخذ علماء جيرون نوعين من الخلايا النامية في المختبر، وكلاهما كان ينقصه التيلوميريز الطبيعي، وزودوهما بأحد الجينات المنتجة للتيلوميريز. استمرت الخلايا في الانقسام، بقوة وشباب، إلى ما يتجاوز النقطة التي كان من الطبيعي فيها أن تشيخ وتموت. وفي الوقت الذي نشرت فيه الدراسة، كانت الخلايا التي أضيف لها جين التيلوميريز قد تجاوزت عمرها المتوقع بحوالي عشرين عملية تضاعف، ولم تظهر أي إشارة على الإبطاء.6
أثناء النمو البشري الطبيعي تتوقف الجينات التي تصنّع التيلوميريز عن العمل إلا في قلة من أنسجة الجنين النامي. تُشبه عملية إيقاف التيلوميريز هذه بالضغط على الساعة الميقاتية؛ فمنذ تلك اللحظة تحسب القسيمات الطرفية عدد مرات الانقسام في كل نوع من الخلايا وفي نقطة معينة تصل إلى الحد الأقصى وتتوقف عن الانقسام. إن الخلايا الجرثومية ليس لديها مثل هذه الساعة الميقاتية، ومن ثم لا تتوقف لديها الجينات المنتجة للتيلوميريز. أما خلايا الأورام الخبيثة فتعيد تنشيط هذه الجينات مجددًا. وخلايا الفئران التي «عطل» فيها العلماء أحد جينات التيلوميريز تقصر القسيمات الطرفية بها مع كل عملية انقسام للخلية.7
يبدو أن نقص التيلوميريز هو السبب الرئيسي وراء شيخوخة الخلايا وموتها، لكن هل هو السبب الرئيسي وراء شيخوخة الأجساد وموتها أيضًا؟ هناك بعض الأدلة المؤيدة لهذه الفكرة: إن خلايا جدران الشرايين تملك على وجه العموم قسيمات طرفية أقصر من تلك الموجودة في خلايا جدران الأوردة. وهذا يعكس الحياة الشاقة التي تمر بها جدران الشرايين، والتي تكون عرضة لضغط وإجهاد أكبر لأن الدم في الشرايين تحت ضغط أكبر. وأيضًا لا بد لها من الانقباض والانبساط مع كل دقة نبض، لذا فهي تعاني تلفًا أكبر وتحتاج إصلاحًا أكبر. وتتطلب عملية الإصلاح نسخًا للخلايا يستهلك أطراف القسيمات الطرفية. لذا تبدأ الخلايا في الشيخوخة، ولهذا السبب يموت الناس من تصلب الشرايين وليس تصلب الأوردة.8

لا يمكن تفسير شيخوخة المخ من المنظور نفسه بسهولة؛ لأن خلايا المخ لا تستبدل نفسها أثناء الحياة. ومع هذا لا تقوض هذه الحقيقة نظرية القسيم الطرفي؛ إذ إن الخلايا الداعمة للمخ، والمسماة بالخلايا الدبقية، تضاعف فعلًا من نفسها، ولهذا السبب فإن قسيماتها الطرفية تنكمش هي الأخرى على الأرجح. لكن يوجد عدد قليل من الخبراء الذين يؤمنون في الوقت الحالي بأن الشيخوخة تحدث — في المقام الأول — نتيجة تراكم للخلايا الهرمة؛ الخلايا ذات القسيمات الطرفية المقصَّرة. إن أغلب الأمور التي نربطها بالشيخوخة، كالسرطان ووهن العضلات وتصلب الأوتار وابيضاض الشعر وتغير ليونة الجلد، ليس لها علاقة بفشل الخلايا في مضاعفة نفسها؛ ففي حالة السرطان مثلًا تكون المشكلة هي أن الخلايا تضاعف نفسها مضاعفة مفرطة.

إضافة إلى ذلك، هناك اختلافات كبيرة بين أنواع الحيوانات المختلفة من حيث المعدل الذي تشيخ به. في المجمل، تعيش الحيوانات الكبيرة حجمًا، مثل الفيلة، فترة أطول من الحيوانات الصغيرة حجمًا، وهو الأمر الذي قد يبدو محيرًا للوهلة الأولى إذا وضعنا في الاعتبار أننا سنحتاج عمليات مضاعفة أكثر عند تكوين الفيل عن الفأر، هذا إذا كانت مضاعفة الخلايا هي التي تفضي إلى شيخوخة الخلايا. بالمثل، تعيش الحيوانات البليدة التي تحيا حياة بطيئة، مثل السلاحف وحيوان الكسلان، عمرًا أطول بالمقارنة بحجمها. قاد هذا إلى تعميم منطقي؛ من فرط منطقيته كان من الممكن اعتباره صحيحًا لو أن الفيزيائيين كانوا هم حكام العالم، وهو يقضي بأن كل الحيوانات تملك تقريبًا عدد دقات القلب نفسه على مدار حياتها؛ فالفيل يعيش فترة أطول من الفأر، لكن معدل نبضه أبطأ بكثير منه، حتى إننا لو قسنا العمر بعدد دقات القلب لوجدنا أن الحيوانين يعيشان تقريبًا العمر نفسه.

المشكلة هي وجود استثناءات صارخة لهذه القاعدة، أبرزها الخفافيش والطيور؛ فالخفافيش الصغيرة يمكنها العيش حوالي ثلاثين عامًا، وخلالها جميعًا تأكل وتتنفس وتضخ الدم بنسب جنونية، وهذا ينطبق حتى على الأنواع التي لا تمر ببيات شتوي. أما الطيور، التي دماؤها أكثر حرارة بعدة درجات، ويكون سكر الدم لديها مركزًا تركيزًا مضاعفًا على الأقل وتستهلك الأكسجين بمعدل أسرع كثيرًا من أغلب الثدييات، فتعيش هي الأخرى في المعتاد حياة طويلة. هناك صورتان شهيرتان يظهر فيهما عالم الطيور الاسكتلندي جورج دانيت وهو ممسك بطائر النوء البري نفسه في العامين ١٩٥٠ و١٩٩٢. يبدو الطائر على هيئته نفسها في الصورتين، لكن لا يبدو بروفيسور دانيت كذلك.

لحسن الحظ حين فشل علماء الكيمياء الحيوية والأطباء في تفسير أنماط الشيخوخة، هرع التطوريون لإنقاذهم. فقد وضع جيه بي إس هالدان وبيتر ميداوار وجورج ويليامز، على نحو منفصل، التفسير الأكثر إرضاء لعملية الشيخوخة. إن كل نوع يأتي — فيما يبدو — مجهزًا ببرنامج للتقادم مخطط ومختار بحيث يلائم النطاق العمري المتوقع له والعمر الذي من المرجح أن يكون قد انتهى بحلوله من التناسل. يعمل الانتخاب الطبيعي بحرص على التخلص من كل الجينات التي قد تصيب الجسم بالتلف قبل عملية التكاثر أو أثناءها. وهو يفعل هذا عن طريق قتل أو تقليل فرص نجاح تناسل الأفراد الذين تنشط لديهم هذه الجينات في الشباب، ويستمر الباقون في التكاثر. بيد أن الانتخاب الطبيعي لا يمكنه التخلص من الجينات التي تتلف الجسد في فترة الشيخوخة التالية على التكاثر؛ لأنه لا يوجد تكاثر ناجح في فترة الشيخوخة. لنأخذ طائر دانيت كمثال. إن السبب وراء عيشه فترة أطول من الفأر هو أنه لا يوجد في حياة طائر النوء مكافئ للقط والبوم، أي لا يوجد أعداء طبيعيون. من غير المرجح أن يتجاوز الفأر سن الأعوام الثلاثة، لذا فإن الجينات التي تتلف أجساد الفئران عند سن الرابعة لا تقع تحت أي ضغوط انتخابية للفناء. أما طيور النوء فمن المرجح أن تظل قادرة على التكاثر في سن العشرين، لذا فإن الجينات التي تتلف أجساد الطيور البالغ عمرها عشرين عامًا تتعرض للاستئصال بلا هوادة.

الأدلة على هذه النظرية مستقاة من التجربة الطبيعية التي أجراها ستيفن أوستاد على جزيرة تدعى سابيلو، تقع على بعد حوالي خمسة أميال قبالة سواحل جورجيا في الولايات المتحدة. تحوي سابيلو مجموعة من حيوانات أوبوسوم فيرجينيا التي ظلت معزولة عشرة آلاف عام. إن الأوبوسوم — شأن كثير من الجرابيات — تشيخ بسرعة كبيرة، وبحلول الثانية من العمر تكون حيوانات الأوبوسوم قد ماتت من الشيخوخة، ضحية لإعتام عدسة العين والتهاب المفاصل وتقرُّح الجلد والطفيليات. لكن هذه الأمور لا تهم لأنها قبل بلوغ الثانية من العمر تكون إما صُدمت بشاحنة أو افتُرست من قبل ذئب القيوط أو البوم أو أي عدو آخر من أعدائها الطبيعيين، لكن أوستاد ظن أن هذه الحيوانات، على جزيرة سابيلو، حيث لا يوجد العديد من الأعداء الطبيعيين، ستعيش فترة أطول. ومن ثم نظرًا لتعرضها للمرة الأولى للانتخاب من أجل صحة أفضل بعد عامين من العمر، ستتدهور حالة أجسادها بمعدلات أبطأ، أي إنها ستشيخ ببطء. وثبتت صحة هذا التنبؤ، فقد وجد أوستاد على جزيرة سابيلو أن حيوانات الأوبوسوم لم تعش فترة أطول وحسب، بل شاخت على نحو أكثر بطئًا. وقد ظلت بصحة كافية للتكاثر في عامها الثاني، وهو أمر نادر الحدوث على البر الرئيسي، وعانت أوتارها تصلبًا أقل من نظيراتها الموجودة على البر الرئيسي.9

إن النظرية التطورية للشيخوخة تفسر الأمر عبر كل الأنواع تفسيرًا مُرضيًا، فهي تفسر لماذا تميل الأنواع التي تشيخ ببطء لأن تكون أكبر حجمًا (الفيلة)، أو محمية جيدًا (السلاحف والشيهم القارض) أو غير معرضة بصفة عامة لهجوم الأعداء الطبيعيين (الخفافيش والطيور). وفي كل حالة بسبب انخفاض معدل الوفيات الناجمة عن الحوادث أو الافتراس، يكون الضغط الانتخابي قويًّا لمصلحة نسخ الجينات التي تطيل أمد التمتع بالصحة إلى فترات متأخرة من الحياة.

بطبيعة الحال، ظل البشر ملايين عديدة من السنين ذوي حجم كبير ومحميين من قبل الأسلحة (حتى قرود الشمبانزي يمكنها طرد الفهود باستخدام العصي) ولهم أعداء مفترسون طبيعيون قليلون. لهذا السبب نشيخ ببطء، وربما كان هذا البطء يتزايد على مر العصور. إن معدل وفيات الأطفال لدى البشر في حياة البرية الطبيعية — البالغ خمسين بالمائة قبل سن الخامسة — سيعد مرتفعًا ارتفاعًا صادمًا وفق معاييرنا الغربية الحديثة، لكنه في حقيقة الأمر منخفض وفق معدلات الحيوانات الأخرى. إن أسلافنا في العصر الحجري كانوا يبدءون التناسل في حوالي سن العشرين، ويستمرون حتى الخامسة والثلاثين، ثم يقضون عشرين عامًا تقريبًا في الاعتناء بأبنائهم، لذا بحلول الخامسة والخمسين يمكنهم الموت دون أن يؤذي ذلك نجاحهم التناسلي. لا عجب إذن أن أغلبنا بين سن الخامسة والخمسين والخامسة والسبعين يبدءون في اكتساب الشعر الأبيض ويصيبهم التصلب والوهن وصعوبة التحرك والصمم. إن جميع أجهزتنا تبدأ في التداعي دفعة واحدة، مثل تلك القصة القديمة لشركة تصنيع السيارات في ديترويت التي عينت شخصًا مهمته تفقد ساحة تكسير السيارات بحثًا عن الأجزاء التي لم تُدمر، حتى يمكن تصنيع هذه الأجزاء في المستقبل وفق معايير جودة أدنى. لقد صمم الانتخاب الطبيعي كل أجزاء أجسامنا كي تستمر فترة تكفينا لإيصال أطفالنا إلى مرحلة الاعتماد على أنفسهم، لا أكثر.

لقد بنى الانتخاب الطبيعي القسيمات الطرفية بهذا الطول لتتحمل العيش لما بين خمسة وسبعين إلى تسعين عامًا من الاستخدام والتلف والإصلاح. ليس الأمر معروفًا بعد على وجه اليقين، لكن من المرجح أن الانتخاب الطبيعي منح طيور النوء والسلاحف قسيمات طرفية أطول، ومنح أوبوسوم فيرجينيا قسيمات أقصر. وربما تشير الاختلافات الفردية في العمر بين شخص وآخر إلى وجود اختلافات في أطوال هذه القسيمات. من المؤكد وجود تنوع كبير في أطوال القسيمات الطرفية بين البشر، من حوالي ٧٠٠٠ إلى حوالي ١٠٠٠٠ «حرف» للحمض النووي لكل طرف بالكروموسوم. علاوة على ذلك، تُتوارث أطوال القسيمات الطرفية كثيرًا، كما هو الحال في طول العمر. إن الأشخاص المنتمين إلى عائلات طويلة العمر، التي عادة تتجاوز أعمار أفرادها التسعين عامًا، يملكون قسيمات طرفية أطول تحتاج وقتًا أطول كي تبلى عن الوقت الذي تحتاجه عند بقية الناس. إن جين كالمين، المرأة الفرنسية من آرليز التي صارت في فبراير (شباط) من عام ١٩٩٥ أول امرأة تحمل شهادة ميلاد وتحتفل بعيد ميلادها العشرين بعد المائة، ربما كانت تملك تكرارات أكثر للرسالة TTAGGG. وقد توفيت أخيرًا عن ١٢٢ عامًا، وعاش شقيقها حتى السابعة والتسعين.10
لكن من الناحية العملية ربما تدين السيدة كالمين بالفضل عن هذا العمر المديد لجينات أخرى. إن القسيمات الطرفية الطويلة لا تفيد في شيء إذا بلي الجسد سريعًا؛ إذ سرعان ما تقصر القسيمات بسبب حاجة الخلايا إلى الانقسام لإصلاح الأنسجة التالفة. ففي متلازمة فيرنر، ذلك المرض الوراثي المشئوم الذي يتميز بالشيخوخة المبكرة والسابقة على أوانها، تَقصر القسيمات فعلًا على نحو أسرع بكثير منها في الأشخاص العاديين، مع أنها تبدأ بالحجم نفسه. وسبب هذا القصر على الأرجح هو أن الجسد يفتقد القدرة على الإصلاح الملائم لذلك الأذى المتلف الذي تتسبب فيه تلك المواد المسماة بالشوارد الحرة، وهي ذرات ذات إلكترونات فردية حرة تخلقها تفاعلات الأكسجين في الجسد. إن الأكسجين الحر مادة خطرة، ويمكن لأي قطعة حديد صدئة أن تشهد على هذه الحقيقة. فأجسادنا أيضًا «تصدأ» على نحو مستمر بسبب تأثير الأكسجين. وأغلب الطفرات التي تسبب «طول العمر»، على الأقل في الذباب والديدان، تكون في الجينات التي تمنع إنتاج الشوارد الحرة، بمعنى أنها تمنع وقوع أي تلف من البداية، بدلًا من إطالة أمد الخلايا المتضاعفة التي تعمل على إصلاح التلف. مكن أحد الجينات — الموجود في الديدان المستديرة — العلماء من استيلاد سلالة يمكنها العيش أعمارًا مدهشة، بحيث لو كانت من البشر لأمكنها العيش حتى سن ٣٥٠ عامًا. وفي ذباب الفاكهة، عمل مايكل روز على انتخاب السلالات من أجل طول العمر على مدار خمسة وعشرين عامًا، وذلك عن طريق استيلاد أطول الحشرات عمرًا من كل جيل. واليوم تعيش ذباباته الأطول عمرًا حتى ١٢٠ يومًا، أي إلى عمر يبلغ ضعف عمر ذباب الفاكهة الطبيعي، وتبدأ في التناسل في السن الذي تموت فيه نظيراتها. وهي لا تظهر أي علامة على الوصول إلى حد أقصى. وقد بينت دراسة أجريت على الفرنسيين البالغين من العمر مائة عام وجود ثلاث نسخ مختلفة من جين على الكروموسوم ٦ يبدو وكأنها تميز الأشخاص ذوي العمر الأطول. ومن المثير للدهشة أن إحدى النسخ كانت شائعة لدى الرجال ذوي العمر الطويل، ونسخة أخرى كانت شائعة لدى النساء ذوات العمر الطويل.11
يبدو أن الشيخوخة هي شيء آخر من تلك الأشياء الواقعة تحت رحمة جينات متعددة. يقدر أحد الخبراء أنه يوجد ٧٠٠٠ جين يؤثر في الشيخوخة في الجينوم البشري، أي ما يعادل عشرة بالمائة منه. هذا يجعل حديثنا عن أي جين بوصفه «أحد جينات الشيخوخة» نوعًا من السخف، ناهيك عن وصفه بأنه «جين الشيخوخة». إن الشيخوخة بصفة عامة هي ذلك التدهور المتزامن للعديد من أجزاء أجهزة الجسم المختلفة، والجينات التي تحدد وظائف أي من هذه الأجهزة يمكنها التسبب في الشيخوخة، وهذه فكرة يدعمها المنطق التطوري. فأي جين بشري يمكنه مراكمة الطفرات الواقية التي تسبب التدهور بعد سن التناسل.12

ليس من قبيل المصادفة إذن أن تكون سلالات الخلايا الخالدة التي يستخدمها العلماء في مختبراتهم آتية من مرضى السرطان. نشأت أشهر هذه الخلايا، سلسلة هيلا، في الأساس من سرطان عنق الرحم لمريضة اسمها هنرييتا لاكس، وهي امرأة سوداء توفيت في بالتيمور عام ١٩٥١. كانت الخلايا السرطانية الخاصة بها قابلة للتكاثر تكاثرًا جامحًا حين استُنبتت في المعمل، حتى إنها غالبًا تغزو العينات المعملية الأخرى وتستولي على أطباق الاستنبات. بل إنها وصلت على نحو ما إلى روسيا عام ١٩٧٢ حيث خدعت العلماء فظنوا أنهم وجدوا فيروسات سرطانية جديدة. استُخدمت خلايا هيلا لتطوير لقاحات لشلل الأطفال، وأرسلت أيضًا إلى الفضاء. وعلى مستوى العالم تزن هذه الخلايا أكثر من ٤٠٠ ضعف وزن جسد هنرييتا نفسه. إنها خالدة على نحو لا يصدق. ومع هذا لم يفكر أحد، في أي وقت، في أن يطلب إذن هنرييتا لاكس أو إذن عائلتها، الذين تضرروا بشدة حين علموا بموضوع انتشار خلاياها. وكتقدير متأخر ﻟ «بطلة العلم» هذه تعتبر مدينة أطلانطا يوم الحادي عشر من أكتوبر (تشرين الأول) «يوم هنرييتا لاكس».

من الواضح أن خلايا هيلا بها إنزيمات تيلوميريز رائعة، لكن إذا أضيف لها سلسلة رنا مكملة، أي سلسلة رنا تحمل رسالة معاكسة تمامًا للرسالة التي يحملها التيلوميريز، فعندئذٍ ستكون النتيجة تثبيط التيلوميريز ومنعه من العمل. ووقتها لن تصير خلايا هيلا خالدة. وسوف تشيخ وتموت بعد حوالي خمسة وعشرين انقسامًا خلويًّا.13

يحتاج السرطان تيلوميريزًا نشطًا؛ إذ ينتعش الورم السرطاني بفعل إكسير الشباب والخلود البيوكيميائي هذا، ومع هذا فالسرطان مرض ملازم للشيخوخة، فمعدلات الإصابة بالسرطان تزيد زيادة ثابتة مع التقدم في العمر، حتى وإن كان هذا أسرع في بعض الأنواع منه في غيره، لكن الثابت أنه لا يوجد كائن على ظهر هذا الكوكب تقل احتمالات إصابته بالسرطان مع التقدم في العمر. إن العامل الأساسي للسرطان هو العمر. أما العوامل البيئية، مثل تدخين السجائر، فتؤثر تأثيرًا جزئيًّا عن طريق تسريع الإصابة بالشيخوخة؛ إذ إنها تتلف الرئتين، ومن ثم تحتاجان عملية إصلاح، والإصلاح يستهلك القسيمات الطرفية، مما يجعل الخلايا «أكبر عمرًا» من حالها دون تدخين، من منظور قسيماتها الطرفية. إن أكثر الأنسجة عرضة للإصابة بالسرطان هي الأنسجة التي يحدث بها انقسامات خلوية أكثر خلال الحياة سواء من أجل عملية الإصلاح أو لغيرها من الأسباب، وهي خلايا الجلد والخصيتين والثدي والقولون والمعدة وخلايا الدم البيضاء.

وهكذا يظهر لدينا مفارقة واضحة. فالقسيمات المُقَصَّرة تعني خطر إصابة أعلى بالسرطان، ولكن التيلوميريز — الذي يجعل القسيمات طويلة — هو نفسه ضروري لتكوُّن الأورام السرطانية. يكمن حل هذه المفارقة في حقيقة أن تنشيط التيلوميريز هو أحد الطفرات الرئيسية التي يجب أن تقع عند تحول الورم إلى ورم خبيث. يبدو واضحًا الآن لماذا تسبب استنساخ شركة جيرن لجين التيلوميريز في ارتفاع أسهمها بسرعة الصاروخ أملًا في الوصول إلى علاج عام للسرطان. إن هزيمة التيلوميريز تعني الحكم على الأورام السرطانية بأن تعاني الشيخوخة المتسارعة هي الأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤