الكروموسوم ١٥: الجنس

كل النساء يصبحن كأمهاتهن؛ وتلك مأساة النساء. وما من رجل يصبح كأمه؛ وتلك مأساة الرجال.

أوسكار وايلد، مسرحية1 «أهمية كون المرء جادًّا»
في متحف برادو بمدريد توجد لوحتان لرسام البلاط الملكي في القرن السابع عشر، خوان كارينو دي ميراندا، اسمهما «الوحش بملابسه» و«الوحش عاريًا». تظهر في اللوحتين فتاة بدينة للغاية، وإن كانت غير مشوهة الخلقة، تبلغ من العمر خمسة أعوام تدعى يوجينيا مارتينيز فاليجو. من الواضح أنها ليست على ما يرام؛ فهي بدينة للغاية، وضخمة الحجم بالنظر إلى سنها، ولها يدان وقدمان صغيرتان، وعينان وفم ذوو شكل غريب. كانت تُعرض على الأرجح كأحد المسوخ في السيرك. من منظورنا الحالي، من الجلي أنها تظهر كل الأعراض الكلاسيكية لمرض وراثي نادر يسمى متلازمة برادر-ويلي، التي يولد الأطفال المصابون بها مترهلين وذوي جلد شاحب، ويرفضون الرضاعة من أثداء أمهاتهم لكنهم يفرطون لاحقًا في تناول الطعام إلى حد الانفجار، دون أن يظهروا أي علامة على الشبع، وبهذا يصيرون مفرطي البدانة. في إحدى الحالات، وجدت والدة أحد الأطفال المصابين بهذه المتلازمة أن طفلها التهم رطلًا من اللحم المقدد النيئ وهو جالس في مقعد السيارة الخلفي وهما في طريق عودتهما من المتجر. ومن يعانون هذه المتلازمة يملكون أيادي وأقدامًا صغيرة، وأعضاءً تناسلية غير مكتملة النمو، إلى جانب الإصابة بدرجة متوسطة الشدة من التخلف العقلي. وفي بعض الأحيان، تصيبهم نوبات غضب عاتية، خاصة حين يمنع عنهم الطعام، لكنهم يظهرون كذلك ما يطلق عليه الأطباء «براعة استثنائية في حل أحجيات الصور المقطعة».2

كان الأطباء السويسريون هم أول من شخص متلازمة برادر-ويلي، وذلك في عام ١٩٥٦. كان من الممكن اعتبارها مرضًا جينيًّا نادرًا آخر وحسب، من ذلك النوع الذي وعدت مرارًا بعدم الحديث عنه في هذا الكتاب لأن «الجينات ليست موجودة للتسبب في الأمراض». لكن كان هناك شيء غريب بخصوص هذا الجين تحديدًا. ففي ثمانينيات القرن العشرين لاحظ الأطباء أن متلازمة برادر-ويلي عادة توجد لدى عائلات تعاني أحيانًا مرضًا مختلفًا تمامًا، مختلفًا حتى إنه يمكن اعتباره نقيض مرض برادر-ويلي وهو: متلازمة أنجلمان.

كان هاري أنجلمان طبيبًا يعمل في وارينجتون في لاكشاير حين لاحظ لأول مرة أن حالات نادرة ممن أطلق عليهم «الأطفال الدمى» كانت تعاني مرضًا وراثيًّا. وعلى النقيض من متلازمة برادر-ويلي، لم يكن هؤلاء المرضى مترهلين بل ذوي جلد مشدود. كانوا نحيفين، مفرطي النشاط، يعانون الأرق، ذوي رءوس صغيرة وفكوك طويلة، وعادة ما يخرجون ألسنتهم الضخمة من أفواههم. كانوا يتحركون حركة عصبية مباغتة، مثل الدمى، لكنهم كانوا يتمتعون بشخصيات سعيدة؛ إذ يبتسمون دومًا وعادة تنتابهم نوبات من الضحك، لكنهم لا يتعلمون التحدث مطلقًا ويعانون تخلفًا عقليًّا حادًّا. والأطفال المصابون بمتلازمة أنجلمان أكثر ندرة بمراحل من المصابين بمتلازمة برادر-ويلي، لكن في بعض الأحيان يظهر الاثنان في شجرة العائلة نفسها.3

في كلتا المتلازمتين سرعان ما صار واضحًا أن القطعة نفسها من الكروموسوم ١٥ كانت مفقودة. الفارق أنه في حالة متلازمة برادر-ويلي كانت القطعة المفقودة في الكروموسوم الآتي من الأب، ولكن في متلازمة أنجلمان كانت القطعة المفقودة في الكروموسوم الآتي من الأم. فحين يُنقل المرض عن طريق الرجل، يعبر عن نفسه على صورة متلازمة برادر-ويلي، أما حين يُنقل عن طريق الأم، فيتجسد في صورة متلازمة أنجلمان.

هذه الحقائق تتعارض مع كل ما عرفناه عن الجينات منذ جريجور مندل؛ فهي تناقض الطبيعة الرقمية للجينوم، وتعني ضمنًا أن الجين ليس مجرد جين، وإنما يحمل معه تاريخًا سريًّا لأصله. إن الجين «يتذكر» من أي والد من الوالدين أتى لأنه يُدمغ عند الحمل إما ببصمة أبوية أو أمومية، كما لو كان جين أحد الوالدين يُكتب بأحرف مائلة مميزة. وفي كل خلية ينشط بها الجين، تنشط النسخة «المدموغة» من الجين، في حين لا تعمل النسخة غير المدموغة. وعلى هذا يعبر الجسد إما عن الجينات التي ورثها من الأب (في حالة جين برادر-ويلي) أو الأم (في حالة جين أنجلمان). لا تزال كيفية حدوث هذا الأمر غامضة إلى حدٍّ بعيد، لكننا في بداية الطريق لفهمه. أما سبب حدوث هذا الأمر فهو موضوع لنظرية تطورية استثنائية وجريئة.

في أواخر ثمانينيات القرن العشرين توصلت مجموعتان من العلماء، واحدة في فيلادلفيا والأخرى في كامبريدج، لاكتشاف مدهش. حاول هؤلاء العلماء تخليق فأر أحادي الأب؛ أي فأر آتٍ من والد واحد فحسب. نظرًا لأن الاستنساخ الدقيق من إحدى خلايا الجسم كان يستحيل عمله وقتها في الفئران (تغير هذا الأمر بسرعة بعد استنساخ النعجة دولي)، بادل فريق فيلادلفيا بين «طليعة النويات» في بويضتين مخصبتين. عندما يُخَصّب البويضة الحيوان المنوي تدخل نواته التي تحمل الكروموسومات إلى البويضة، لكن هذه النواة لا تندمج مع نواة البويضة؛ وهنا تعرف كل نواة منهما باسم «طليعة النواة». يستطيع أي عالم ماهر أن يتسلل ويستخدم الماصة من أجل سحب طليعة نواة الحيوان المنوي ويضع مكانها طليعة نواة لبويضة أخرى، والعكس بالعكس. وهكذا تكون النتيجة بويضتين صالحتين، إحداهما لها أُمَّان والأخرى لها أَبَوان. استخدم فريق كامبريدج تقنية مختلفة قليلًا لكنه وصل إلى النتيجة نفسها. لكن في كلتا الحالتين كان الجنين يفشل في النمو طبيعيًّا وسرعان ما كان يموت في الرحم.

في حالة الجنين ذي الأُمين كانت بنية الجنين نفسه جيدة، لكنه لم يستطع تكوين المشيمة التي يستطيع من خلالها إعاشة نفسه. وفي حالة الجنين ذي الأبوين نمت لدى الجنين مشيمة كبيرة صحيحة إضافة إلى أغلب الأغشية المحيطة بالجنين، لكن في الداخل، حيث يفترض وجود الجنين ذاته، كانت هناك كتل غير مرتبة من الخلايا دون رأس يمكن تمييزه.4

قادتنا هذه النتائج إلى اكتشاف استثنائي؛ فالجينات الأبوية، الموروثة من الأب، هي المسئولة عن تكوين المشيمة؛ أما الجينات الأمومية، الموروثة من الأم، فهي المسئولة عن تكوين الجزء الأكبر من الجنين ذاته، وعلى وجه الخصوص الرأس والمخ. لكن لماذا يسير الأمر على هذا النحو؟ بعدها بخمس سنوات عرف ديفيد هيج، الموجود وقتها في أكسفورد، الجواب. كان قد بدأ في النظر بطريقة مختلفة إلى المشيمة لدى الثدييات، ليس بوصفها عضوًا أموميًّا مصممًا لإعاشة الجنين، بل بوصفها عضوًا جنينيًّا مصممًا للتطفل على مخزون الأم من الدم دون مواجهة أي مقاومة خلال ذلك. لقد لاحظ أن المشيمة تحفر طريقها بشكل حرفي عبر الأوعية الدموية للأم، بحيث تجبرها على التمدد، ثم تفرز هرمونات ترفع من ضغط دم الأم ومستويات السكر فيه. وتستجيب الأم عن طريق رفع مستويات الأنسولين لمقاومة هذا الغزو. ومع هذا إن حدث وغاب هذا الهرمون الجنيني لسبب أو لآخر، لا تكون الأم بحاجة إلى رفع مستويات الأنسولين لديها، ويستمر الحمل بشكل طبيعي. بعبارة أخرى، مع أن الأم والجنين لهما هدف مشترك، فإنهما يتنازعان بعنف حول التفاصيل الخاصة بكم الموارد التي يجب للأم أن تخصصها للجنين، تمامًا كما يحدث لاحقًا أثناء الفطام.

لكن الجنين مكون في جزء منه من جينات أمومية، لذا لن يكون من المثير للدهشة أن تجد هذه الجينات نفسها في موقف تعارض مصالح. أما الجينات الأبوية فلن تقلق بهذا الخصوص؛ إذ إنها غير مهتمة من الأساس بمصلحة الأم، إلا بالقدر الذي يمكنها من توفير المأوى لها. وللحديث بطريقة أكثر تجسيدًا، يمكن القول إن جينات الأب لا تثق في قدرة جينات الأم على تكوين مشيمة هجومية بما يكفي، لذا فهي تتولى هذه المهمة بنفسها. وهذا هو تفسير اصطباغ جينات المشيمة بالبصمة الأبوية في حالة الجنين ذي الأبوين.

ترتبت على نظرية هيج بضعة تنبؤات، سرعان ما ثبتت صحة العديد منها. وعلى وجه الخصوص، تنبأت النظرية بأن عملية الدمغ لن تتم لدى الحيوانات التي تضع البيض، لأن الخلية الموجودة داخل البيضة لا تأثير لها في إسهام الأم في حجم المُح؛ إذ إنها تصير خارج جسد الأم قبل أن تتمكن من السيطرة عليها. وبالمثل، حتى الجرابيات مثل الكنجارو والمزودة بأكياس محل المشيمة لا تملك — وفق فرضية هيج — جينات مدموغة. وإلى الآن يبدو أن هيج على حق، وأن عملية الدمغ مقتصرة على الثدييات المشيمية والنباتات التي تعتمد بذورها في الحياة على النبات الأم.5
إضافة إلى ذلك، سرعان ما لاحظ هيج ظافرًا أن زوجًا مكتشفًا حديثًا من جينات الفئران المدموغة ظهر بالضبط في المكان الذي يتوقع ظهوره فيه؛ في مركز تحكم نمو الجنين. إن IGF2 هو بروتين ضئيل الحجم، يصنعه جين وحيد يشبه الأنسولين. وهو شائع الوجود لدى الجنين النامي، لكنه يُكبح عن العمل لدى البالغين. يرتبط البروتين IGF2 ببروتين آخر هو IGF2R لغرض غير معروف بعد. من الممكن أن يكون الهدف من وجود البروتين IGF2R هو التخلص من البروتين IGF2. وللعجب فإن كلا البروتينين IGF2 وIGF2R مدموغان؛ إذ يعبر أولهما عن نفسه فقط من خلال كروموسومات الأب، بينما الثاني من كروموسومات الأم. الأمر أشبه بمنافسة تحاول فيها جينات الأب تشجيع نمو الجنين في حين تحاول جينات الأم التهدئة منه.6
تتنبأ نظرية هيج بأن الجينات المدموغة ستوجد على وجه العموم في مثل هذه الأزواج المتعارضة. وفي بعض الأحيان، حتى لدى البشر، يبدو هذا الأمر صحيحًا؛ فالجين البشري IGF2 الموجود على الكروموسوم ١١ يحمل الدمغة الأبوية، وحين يصادف أن يرث شخص ما نسختين أبويتين منه، تكون النتيجة معاناته من متلازمة بيكويث-ويدمان، التي فيها يتضخم حجم القلب والكبد بدرجة كبيرة وتشيع أورام الأنسجة الجنينية. ومع أن النسخة البشرية من الجين IGF2R ليست مدموغة، فإن هناك بالفعل جينات تحمل الدمغة الأمومية مثل الجين H19 المناقض للجين IGF2.

لكن لو كانت الجينات المدموغة موجودة فقط للتناحر فيما بينها، فمن المفترض إذن أن نستطيع إيقاف عمل زوج الجينات دون حدوث أي تأثير إطلاقًا على نمو الجنين، وهذا صحيح. إن التخلص من الجينات المدموغة يؤدي إلى فئران طبيعية. لقد عدنا إلى النطاق المألوف للكروموسوم ٨، حيث تتسم الجينات بالأنانية وتتصرف وفق مصلحتها الخاصة، لا وفق مصلحة الكائن ككل. ومن المؤكد تقريبًا أنه لا يوجد هدف قائم بذاته لعملية الدمغ هذه (مع أن كثيرًا من العلماء افترضوا العكس)؛ فهي مجرد مثال آخر على نظرية الجين الأناني، والعداوة الجنسية تحديدًا.

عند البدء في التفكير من منظور نظرية الجين الأناني تبدأ بعض الأفكار الجامحة بحق في التداعي إلى عقلك. تدبر الفكرة التالية: قد تتصرف الأجنة الواقعة تحت تأثير الجينات الأبوية بطريقة مختلفة لو أنها تشاركت الرحم مع أشقاء كاملين أو إذا تشاركت الرحم مع أجنة آتين من آباء مختلفين. وفي الحالة الأخيرة تحديدًا، قد تحمل المزيد من الجينات الأنانية. بعد تدبر الفكرة صار من السهل نسبيًّا اختبارها عمليًّا بتجربة طبيعية. ليست كل الفئران متساوية؛ ففي بعض أنواعها — على سبيل المثال الفئران من نوع بيرومايسكوس مانيكيولاتوس — تتزاوج الأنثى مع أكثر من ذكر، وتكون النتيجة أن كل بطن تحتوي على صغار آتين من ذكور مختلفين، لكن في أنواع أخرى، مثل بيرومايسكوس بوليوناتوس، تتزاوج الأنثى مع ذكر واحد فحسب، وعلى هذا تحتوي كل بطن على أشقاء كاملين مشتركين في الأب والأم نفسيهما.

ما الذي يحدث إذن لو أنك هجنت فأرًا من نوع بيرومايسكوس مانيكيولاتوس مع آخر من النوع بيرومايسكوس بوليوناتوس؟ يعتمد الجواب على فصيلة الأب وفصيلة الأم: فإذا كان الأب من نوع بيرومايسكوس مانيكيولاتوس الذي تتميز أنثاه بتعدد الشركاء، تكون النتيجة صغارًا ذوي حجم عملاق. أما لو كان الأب من النوع بيرومايسكوس بوليوناتوس الذي تقتصر أنثاه على زوج واحد فسيكون الصغار ذوي حجم ضئيل. هل تدرك ما حدث هنا؟ إن جينات بيرومايسكوس مانيكيولاتوس الأبوية تتوقع أن تجد نفسها داخل الرحم مع منافسين لا تربطها بهم أي صلة قرابة، لذا فهي تعتاد القتال على موارد الأم على حساب الأجنة الأخرى شريكتها في الرحم، إلى جانب أن الجينات الأمومية لنوع بيرومايسكوس مانيكيولاتوس تتوقع هي الأخرى أن تجد في رحمها أجنة تتصارع تصارعًا شديدًا من أجل مواردها، لذا فهي معتادة على المقاومة، لكن في البيئة المحايدة لرحم النوع بيرومايسكوس بوليوناتوس لا تواجه جينات النوع بيرومايسكوس مانيكيولاتوس الأبوية إلا مقاومة رمزية، ومن ثم تربح معركتها بسهولة ويصير الصغار كبار الحجم لو كان الأب من النوع الذي يتعدد شركاء أنثاه، وصغار الحجم لو كانت أمهم من النوع نفسه. هذا مثال متقن للغاية على نظرية الدمغ.7
لكن مع إتقان هذه الحكاية فإنه لا يمكن ذكرها دون تحذير؛ فمثل العديد من النظريات الجذابة، قد تكون هذه النظرية أجمل من أن تكون حقيقية، وعلى وجه الخصوص تقدم هذه النظرية تنبؤًا لم يُثبت بعد وهو أن الجينات المدموغة ستكون جينات سريعة التطور نسبيًّا. يرجع هذا إلى أن العداوة الجنسية ستؤدي إلى سباق تسلح جزيئي يستفيد فيه كل طرف من الاكتساب المؤقت لليد العليا، بيد أن مقارنة هذا الأمر بين كل فصيلة وأخرى لا يعزز هذه الفرضية. بدلًا من ذلك يبدو أن الجينات المدموغة تتطور تطورًا بطيئًا. ومع الوقت، يبدو أن نظرية هيج تفسر بعض — وليس كل — حالات الدمغ.8
لعملية الدمغ تبعات غريبة. ففي الرجال، تحمل النسخ الأمومية للكروموسوم ١٥ علامة تشير إلى كونها آتية من أمه، لكنه حين يورث هذه النسخة إلى ابنه أو ابنته لا بد أن تكتسب بطريقة ما علامة تشير إلى كونها آتية منه، أي الأب. ولا بد أن تتحول من نسخة أمومية إلى نسخة أبوية، والعكس بالعكس لدى الأم. نحن نعرف يقينًا بحدوث هذا التحول، لأنه في نسبة بسيطة ممن يعانون متلازمة أنجلمان، لا يوجد شيء غير طبيعي في كروموسوماتهم باستثناء أن كلتا النسختين تتصرف وكأنها أبوية. هذه هي الحالات التي فشل فيها التحول. يمكن إرجاع السبب إلى طفرات أصابت الجيل السابق، طفرات أثرت في شيء يسمى مركز الدمغ، وهو سلسلة صغيرة من الحمض النووي قريبة من الجينين المعنيين، تضع البصمة الأبوية في بعض الأحيان على الكروموسوم. وتحتوي هذه البصمة على مَثْيلة أحد الجينين، من النوع الذي تعرضنا له بالوصف عند الحديث عن الكروموسوم ٨.9
كما تذكر فإن مَثيلة «الحرف» C هي الوسيلة التي تُسكت الجينات بها، وهي تساعد في إبقاء الدنا الأناني رهن الإقامة الجبرية، لكن عملية المثيلة تتوقف أثناء المراحل المبكرة لنمو الجنين، أثناء تكون ما يعرف بالكيسة الأريمية، ثم تُستأنف مجددًا أثناء المرحلة التالية من النمو، والمسماة بمرحلة تكون المُعيدة. وعلى نحو ما، تفلت الجينات المدموغة من هذه العملية، فهي تقاوم عملية نزع الميثيل. هناك تلميحات مثيرة للاهتمام حول كيفية حدوث ذلك، لكن لم توجد أفكار محددة بعد.10
نحن الآن نعرف أن كل ما كان يفصل العلم عن استنساخ الثدييات سنواتٍ عديدة هو إفلات الجينات المدموغة من عملية نزع الميثيل. كان من السهل نسبيًّا استنساخ ضفادع الطين وذلك عن طريق زرع جينات إحدى خلايا الجسد في بويضة مخصبة، بيد أن هذا الأمر لم يفلح مع الثدييات؛ لأن جينوم خلايا الجسد الأنثوية كان به جينات معينة معطلة بفعل عملية المثيلة؛ الجينات المدموغة. لذا، وبثقة، أتبع العلماء اكتشاف عملية الدمغ بالإعلان عن إمكانية استنساخ الثدييات. إن الحيوان الثديي المستنسخ سيولد وجيناته المدموغة كافة إما نشطة أو معطلة على كلا الكروموسومين، مما يخل بالجرعات التي تحتاجها كل خلية من خلايا الجسم ويسبب فشل تكون الجسد. كتب العلماء الذين اكتشفوا عملية الدمغ:11 «من التبعات المنطقية لهذا الأمر عدم احتمال حدوث استنساخ ناجح للثدييات باستخدام نويات الخلايا الجسدية.»
بعدها وفجأة جاءت دولي، النعجة الاسكتلندية المستنسخة في أوائل عام ١٩٩٧. لا تزال الكيفية التي تفادت بها هي ومن جاء بعدها مشكلة الدمغ تمثل لغزًا كبيرًا، حتى أمام من استنسخوها، لكن يبدو أن جزءًا معينًا من العلاج الذي مرت به خلاياها أثناء عملية الاستنساخ محا جميع الدمغات الجينية.12
تحتوي المنطقة المدموغة في الكروموسوم ١٥ على حوالي ثمانية جينات، أحدها مسئول — عند تلفه — عن متلازمة أنجلمان؛ ذلك الجين المسمى UBE3A. وإلى جانب هذا الجين مباشرة يوجد اثنان من الجينات مرشحان لأن يكونا هما المتسببين في متلازمة برادر-ويلي عند تلفهما، أحدهما يسمى SNRPN والآخر يسمى IPW. قد تكون هناك جينات أخرى، لكن لنفترض لوهلة أن الجين SNRPN هو المسئول عن هذا المرض.

إن هذا المرض لا يحدث على الدوام بسبب طفرة في أحد هذه الجينات، بل بفعل مصادفة من نوع مختلف. حين تتكون البويضة داخل مبيض المرأة، عادة ما تتلقى نسخة واحدة من كل كروموسوم، لكن في حالات نادرة، حين يفشل زوج من الكروموسومات الأمومية في الانفصال، ينتهي الحال بالبويضة وهي تحمل نسختين. بعد تخصيب الحيوان المنوي لها يصير للجنين الآن ثلاث نسخ من هذا الكروموسوم، اثنتان من الأم وواحدة من الأب. ومن المرجح كثيرًا حدوث هذا لدى الأمهات كبيرات السن، وعادة ما يتسبب في تلف البويضة. من الممكن أن تنمو المُضغة إلى جنين كامل يمكنه العيش لأكثر من بضعة أيام بعد الولادة فقط لو كان الكروموسوم الثلاثي هو الكروموسوم رقم ٢١، أصغر الكروموسومات؛ وتكون النتيجة متلازمة داون. لكن في الحالات الأخرى سيخل الكروموسوم الإضافي بالكيمياء الحيوية للخلايا بحيث يفشل الجنين في النمو.

لكن في أغلب الحالات، وقبل الوصول لهذه المرحلة، يتعامل الجسم مع مشكلة الكروموسومات الثلاثة، وذلك عن طريق «حذف» واحد من الكروموسومات حذفًا كليًّا، تاركًا اثنين فقط على النحو المراد. صعوبة هذا الأمر تكمن في أنه يجري عشوائيًّا؛ فلا يمكن للجسم التأكد مما إذا كان يحذف أحد الكروموسومين الأموميين، أم الكروموسوم الأبوي الوحيد. ينتج عن هذا الحذف العشوائي نسبة نجاح قدرها ستة وستون بالمائة في التخلص من أحد الكروموسومين الأموميين، لكن قد تقع مصادفات غير متوقعة. فإذا تخلص الجسم — بالخطأ — من الكروموسوم الأبوي، فسيواصل الجنين نموه معتمدًا على الكروموسومين الأموميين. في أغلب الحالات لا يكون لهذا الأمر أهمية، لكن إذا كان الكروموسوم الثلاثي هو رقم ١٥ يمكنك أن ترى على الفور ما سينجم عن هذا. ستنشط نسختان من الجين UBE3A وتعبران عن أنفسهما، ولن توجد أي نسخة من الجين SNRPN، الجين المدموغ ببصمة الأب. وتكون النتيجة متلازمة برادر-ويلي.13
من الناحية الظاهرية لا يبدو الجين UBE3A من الجينات المثيرة للاهتمام، فالبروتين الذي ينتجه هو نوع من إنزيمات الربط المسماة E3 ubiquitin، وهي أفراد عائلة بروتينية مغمورة تنظم بعض الوظائف داخل خلايا الجلد وخلايا ليمفاوية معينة. بعد ذلك، في عام ١٩٩٧ اكتشفت ثلاث مجموعات مختلفة من العلماء فجأة أن الجين UBE3A ينشط في أمخاخ كل من الفئران والبشر. كان هذا الاكتشاف أشبه بالقنبلة. إن أعراض متلازمتي برادر-ويلي وأنجلمان تشير إلى حدوث شيء غير عادي في أمخاخ المصابين بهما. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو وجود أدلة قوية على أن الجينات المدموغة تنشط هي الأخرى في المخ. وفي الفئران على وجه الخصوص، يبدو أن القسم الأمامي من المخ يُبنى بواسطة الجينات التي تحمل الدمغة الأمومية في حين يُبنى الوطاء، الموجود في قاعدة المخ، بواسطة الجينات التي تحمل الدمغة الأبوية.14

اكتُشف عدم التوازن هذا من خلال إنجاز علمي بالغ البراعة؛ تخليق فئران «كيميرية». الكائنات الكيميرية لها أجساد مكونة من اندماج فردين متمايزين جينيًّا. وهي تحدث على نحو طبيعي، وربما تكون قد قابلت أحدها بنفسك، لكنك لن تعرف هذا دون أن تكون درست الكروموسومات دراسة تفصيلية. قد يحدث أن يندمج اثنان من الأجنة وينموَا وكأنهما جنين واحد. فكر فيهما على أنهما نقيض التوائم المتطابقة؛ جينومان مختلفان في جسد واحد، عوضًا عن جسدين مختلفين لهما الجينوم نفسه.

من السهل نسبيًّا تخليق الفئران الكيميرية في المختبرات بالدمج اللطيف لخلايا اثنين من الأجنة المبكرة، لكن العمل العبقري الذي قام به فريق كامبريدج في هذه الحالة هو أنه دمج جنينًا لفأر طبيعي مع جنين خُلِّق عن طريق «تخصيب» بويضة بنواة بويضة أخرى، وبهذا صارت تحمل جينات أمومية بالكامل دون أي إسهام من الأب. كانت النتيجة فأرًا ذا رأس كبير على نحو استثنائي. وحين خلّق هؤلاء العلماء فأرًا كيميريًّا آخر بالدمج بين جنين طبيعي وجنين مشتق من الأب وحسب (أي نامٍ من بويضة حلت نواتا حيوانين منويين محل نواتها)، كانت النتيجة العكس تمامًا؛ فأرًا ذا جسد كبير ورأس صغير. بتزويد الخلايا الأمومية بالمعادل البيوكيميائي لمرسلات لا سلكية خاصة كي يرسل إشارات تنبئ بوجودها، تمكن العلماء من تحقيق ذلك الاكتشاف المدهش والمتمثل في أن الجزء الأعظم من المخطط وقشرة المخ والحصين في مخ الفأر دائمًا يتكون من هذه الخلايا الأمومية، بيد أن هذه الخلايا لا يكون لها وجود في منطقة الوطاء. إن قشرة المخ هي المكان الذي تُعالج فيه المعلومات الحسية وينتج فيه السلوك. وعلى النقيض نجد أن الخلايا الأبوية نادرة الوجود في المخ، لكنها أكثر شيوعًا في العضلات. ومع هذا فهي حين تظهر في المخ تساهم في تطور المهاد التحتي ولوزة المخيخ والمنطقة قبل البصرية. هذه المناطق تشكل جزءًا من «الجهاز الحوفي»، وهي مسئولة عن التحكم في المشاعر. وحسب رأي عالم آخر هو روبرت ترايفرز، فإن هذا الاختلاف يعكس حقيقة أن وظيفة القشرة هي التعاون مع قريباتها من النوع نفسه لكن الوطاء عضو أناني بطبعه.15
بعبارة أخرى، إن آمنَّا بأن المشيمة هي العضو الذي لا تأتمن جينات الأب جينات الأم على تكوينه، فقشرة المخ إذن هي العضو الذي لا تأتمن جينات الأم جينات الأب على تكوينه. ولو كنا مثل الفئران، فهذا يعني أننا نعيش حاملين تفكير أمهاتنا والحالات المزاجية لآبائنا (بالقدر الذي تُتوارث به الأفكار والحالات المزاجية). في عام ١٩٩٨، ظهر جين مدموغ آخر إلى النور لدى الفئران، وكان له قدرة ملحوظة على تحديد السلوك الأمومي لأنثى الفأر. الفئران التي يكون لديها هذا الجين الناقل سليمًا تكون أمهات صالحات تجيد رعاية صغارها. أما الأمهات اللاتي تفتقدن النسخة العاملة من هذا الجين فتنمو نموًّا طبيعيًّا لكنها تصير أمهات مهملات إلى أقصى حد؛ فهي تفشل في بناء أعشاش ملائمة، وتفشل في سحب صغارها مجددًا إلى العش حين تتجول بالخارج، ولا تحافظ على نظافة الصغار، وبوجه عام لا يبدو أن تلك الأمور تهمها. وعادة ما تموت صغارها. والغريب في الأمر أن هذا الجين يورث من ناحية الأب فقط؛ إذ إن النسخة الآتية من الأب تكون هي العاملة فقط، أما النسخة الآتية من الأم فتظل صامتة.16
إن نظرية هيج الخاصة بالصراع حول نمو الجنين لا تفسر هذه الحقائق بسهولة، لكن لدى عالم الأحياء الياباني يو إيواسا نظرية تفسر هذا. يرى هذا العالم أنه بما أن كروموسومات الجنس الأبوية هي التي تحدد جنس الوليد — إذا أورث كروموسوم إكس بدلًا من واي يصير المولود أنثى — فإن الكروموسومات إكس الأبوية توجد فقط لدى الإناث. وعلى هذا فإن السلوك المفترض من الإناث اتباعه ينبغي أن يكون آتيًا من الكروموسومات الأبوية وحسب. فلو كان آتيًا من كروموسومات إكس الأمومية كذلك، فقد يظهر هذا السلوك لدى الذكور، أو يظهر ظهورًا مبالغًا فيه لدى الإناث. لذا من المنطقي أن يكون السلوك الأمومي مدموغًا ببصمة الأب.17

أفضل إثبات لهذه الفكرة جاء من تجربة طبيعية غير عادية درسها ديفيد سكيوز وزملاؤه في معهد صحة الطفل في لندن. حدد سكيوز ثمانين امرأة وفتاة ما بين السادسة والخامسة والعشرين كن يعانين متلازمة تيرنر، وهو مرض يحدث بسبب غياب جزء من الكروموسوم إكس أو الكروموسوم كله. لدى الرجال نسخة واحدة من الكروموسوم إكس، والنساء يحتفظن بواحدة من نسختي الكروموسوم إكس على صورة خاملة داخل أجسادهن، وعلى هذا من المفترض من الناحية النظرية أن تُحدث متلازمة تيرنر اختلافًا طفيفًا في نموهن. لكن في حقيقة الأمر، تملك الفتيات معدل ذكاء عاديًّا ويتمتعن بمظهر عادي كذلك، لكنهن دائمًا ما يجدن صعوبة في «التكيف الاجتماعي». قرر سكيوز وزملاؤه أن يقارنوا نوعين من المصابات بهذه المتلازمة: من يفتقدن نسخة كروموسوم إكس الأبوية ومن يفتقدن نسخة كروموسوم إكس الأمومية. كانت الفتيات الخمسة والعشرون اللاتي يفتقدن النسخة الأمومية من الكروموسوم أفضل تكيفًا بكثير، ويمتلكن «مهارات وظيفية إجرائية وقدرات لغوية أعلى تساعدهن في إجراء التفاعلات الاجتماعية» عن الخمس والخمسين فتاة اللاتي كن يفتقدن النسخة الأبوية من الكروموسوم. توصل سكيوز وزملاؤه إلى هذه النتيجة عن طريق إعداد اختبارات الإدراك المعيارية للأطفال، إلى جانب منح الآباء استبيانات تهدف إلى قياس التكيف الاجتماعي. سألت الاستبيانات الآباء عما إذا كانت الطفلة تفتقد الوعي بمشاعر الآخرين، ولا تدرك متى يكون الآخرون متضايقين أو غاضبين، وغير واعية لتأثير سلوكياتها في بقية أفراد الأسرة، وتلح في الاستئثار بوقت الغير، ويصعب التفاهم معها بعقلانية حين تكون متضايقة، وتسيء بسلوكها للغير دون وعي، ولا تستجيب للأوامر، وغيرها من الأسئلة المشابهة. طُلب من الآباء أن يجيبوا بالدرجات صفر «ليس صحيحًا على الإطلاق»، و١ «صحيح بدرجة ما أو أحيانًا»، و٢ «صحيح كثيرًا أو غالبًا». بعدها جُمعت نتائج الاثني عشر سؤالًا. سجلت الفتيات المصابات بمتلازمة تيرنر درجات أعلى من الفتيات الطبيعيات والفتيان، لكن من كن يفتقدن النسخة الأبوية من كروموسوم إكس سجلن أكثر من ضعف درجات من كن يفتقدن النسخة الأمومية من الكروموسوم إكس.

يُستدل من ذلك على وجود جين مدموغ في مكان ما من الكروموسوم إكس، وعادة يكون نشطًا في النسخة الأبوية، وهذا الجين يحسن على نحو ما من نمو عملية التكيف الاجتماعي؛ التي من أمثلتها القدرة على تفهم مشاعر الآخرين. قدم سكيوز وزملاؤه المزيد من الأدلة على هذا من خلال الأطفال الذين كانوا يفتقدون جزءًا من الكروموسوم إكس.18

لهذه الدراسة نتيجتان غاية في الأهمية؛ الأولى أنها تقدم تفسيرًا لحقيقة أن التوحد وخلل القراءة والإعاقة اللغوية وغيرها من المشكلات الاجتماعية تكون أكثر شيوعًا بكثير لدى الفتيان عن الفتيات. إن الفتى يحصل على نسخة وحيدة من الكروموسوم إكس من والدته، لذا من المرجح أن يرث نسخة مدموغة ببصمة الأم يكون فيها الجين المسبب للمشكلة معطلًا. وإلى وقت كتابة هذه الكلمات لم يُحدد مكان هذا الجين، لكن من المعروف أن الكروموسوم إكس يحمل جينات مدموغة ببصمة الأم.

النتيجة الثانية، والأكثر تعميمًا، هي أننا في طريقنا نحو إنهاء ذلك الجدل السخيف حول دور الطبيعة والتنشئة في الاختلافات بين الجنسين؛ ذلك الجدل الذي استمر طوال القرن العشرين. إن مناصري تأثير التنشئة حاولوا إنكار أي دور للطبيعة في الأمر، لكن مناصري تأثير الطبيعة نادرًا ما حاولوا إنكار دور التنشئة. ليس السؤال هو: هل التنشئة تلعب دورًا في الأمر أم لا؟ لأنه لم يسبق لأي شخص يملك قدرًا من التعقل أن أنكر يومًا دور التنشئة، بل السؤال هو: هل تلعب الطبيعة دورًا في هذا الأمر من الأساس؟ ذات يوم، بينما كنت عاكفًا على كتابة هذا الفصل، حين اكتشفتْ ابنتي البالغة من العمر عامًا واحدًا دمية لطفل رضيع موجودة في لعبة عربة أطفال، أطلقت الصرخات الفرِحة نفسها التي أطلقها أخوها حين كان يرى الجرارات المارة وهو في سنها نفسه. ومثل كثير من الآباء، أجد صعوبة كبيرة في تصديق أن هذا نتج فقط عن نوع من التكييف الاجتماعي غير الواعي الذي فرضناه عليها. يظهر الفتيان والفتيات اهتمامات متباينة منذ بداية سلوكهم المستقل، فالفتيان أكثر تنافسًا، ويهتمون أكثر بالآلات والأسلحة والأفعال، والفتيات أكثر اهتمامًا بالأشخاص والملابس والكلمات. وللتعبير عن هذا على نحو أكثر جرأة أقول إن سبب انشغال الرجال بالخرائط وتفضيل النساء للروايات ليس التنشئة وحدها.

على أي حال، أجريت التجربة المثالية، التي يمكن وصفها كذلك بالقاسية على نحو لا يصدق، على يد المناصرين المخلصين لمبدأ التنشئة. ففي ستينيات القرن العشرين، في الولايات المتحدة، تسببت عملية ختان خرقاء في ضرر بالغ بالعضو الذكري لصبي، وقرر الأطباء بتره. ثم تقرر تحويل الصبي إلى فتاة بإخصائه ثم معالجته بالهرمونات. وهكذا تحول جون إلى جوان، التي ارتدت فساتين ولعبت بالعرائس، وكبرت فعلًا لتصير فتاة شابة. وفي عام ١٩٧٣، ادعى جون موني، عالم النفس الفرويدي، على الملأ أن جوان كانت فتاة مراهقة سوية، وأن حالتها هذه وضعت نهاية لكل التخمينات، وأن الدور الجنسي للفرد يتحدد بصورة اجتماعية.

لكن حتى العام ١٩٩٧، لم يهتم أحد بتفقد هذه الحقائق، وحين اقتفى ميلتون دياموند وكيث سيجموندسون أثر جوان، توصلا إلى رجل سعيد متزوج بامرأة، كانت قصته مختلفة للغاية عن تلك التي رواها موني. لقد شعر على الدوام بالتعاسة حيال شيء ما وهو طفل، ولطالما رغب في ارتداء السراويل والاختلاط بالصبيان والتبول وهو واقف. وفي سن الرابعة عشرة، أخبره والداه بما حدث، الأمر الذي سبب له ارتياحًا كبيرًا. من ثم توقف عن العلاج الهرموني وغير اسمه مجددًا إلى جون واستأنف حياته كرجل، واستأصل ثدييه. وفي نهاية المطاف، وهو في سن الخامسة والعشرين، تزوج بامرأة وتبنى أبناءها. وهكذا تحول ما كان يومًا بمنزلة إثبات على التشكيل الاجتماعي للدور الجنسي للفرد إلى العكس تمامًا؛ إلى دليل على أن الطبيعة تلعب دورًا حقيقيًّا في تحديد الجنس. إن الأدلة المستقاة من علم الحيوان لطالما عززت هذه الفكرة؛ إذ إن سلوك الذكور مختلف اختلافًا منهجيًّا عن سلوك الإناث في أغلب الأنواع، وهذا الاختلاف له أساس فطري. إن المخ عضو محدد الجنس. والأدلة الآتية من الجينوم والجينات المدموغة والجينات الخاصة بالسلوكيات المرتبطة بالجنس كلها تؤكد هذه الفكرة.19

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤