الكروموسوم ١٧: الموت

ما أجمل أن يموت المرء في سبيل وطنه.

هوراس

تلك الكذبة القديمة!

ويلفريد أوين، تعليقًا على مقولة هوراس
إذا كان التعلم هو تكوين روابط جديدة بين خلايا المخ، فهو أيضًا عملية تخلص من الروابط القديمة. إن المخ يولد حاملًا عددًا كبيرًا للغاية من الروابط بين خلاياه، ويفقد الكثير منها مع تطوره. على سبيل المثال: في البداية يكون كل جانب من جانبي القشرة البصرية مرتبطًا بنصف المدخلات الآتية من كلتا العينين. ومع قليل من التشذيب الجذري يتغير هذا الوضع بحيث تتلقى شريحة واحدة من القشرة البصرية المدخلات من العين اليمنى وتتلقى شريحة أخرى المدخلات من العين اليسرى. تتسبب الخبرة في جعل الروابط غير الضرورية تذوي ومن ثم تحول المخ من آلة عامة إلى آلة متخصصة. ومثل النحات الذي ينحت قطعة الرخام إلى شكل إنسان، تتخلص البيئة من الخلايا العصبية الزائدة عن الضرورة حتى تشحذ قدرات المخ. وفي حالة الحيوان الثديي الصغير الأعمى أو المعصوب العينين دائمًا لا يحدث مثل هذا التنظيم مطلقًا.1
غير أن هذا الذبول يعني ما هو أكثر من فقدان للتشابكات العصبية فقط؛ إذ يعني أيضًا موت الخلايا بالكامل. إن الفأر ذا النسخة التالفة من الجين ced-9 يفشل في النمو بطريقة سليمة لأن خلايا المخ التي لا لزوم لها تفشل في القيام بمهمتها وتموت. وهكذا ينتهي الحال بالفأر بمخ مشوش محمل بأكبر من طاقته وعاجز عن العمل. يحب العامة دومًا الاستشهاد بالإحصائية القاسية (لكن غير ذات المعنى) التي تقول إننا نفقد مليون خلية من خلايا المخ يوميًّا. في شبابنا، بل حتى في الرحم، نحن نفقد فعلًا خلايا المخ بسرعة كبيرة. وإذا لم نفعل هذا فلن نكون قادرين على التفكير نهائيًّا.2
مدفوعة بجينات على غرار الجين ced-9، تُقدم الخلايا التي لا لزوم لها على الانتحار الجماعي (تتسبب جينات ced أخرى في قتل أنسجة أخرى بالجسد). تتبع الخلايا المحتضرة بإذعان بروتوكولًا محددًا. في الديدان المستديرة الميكروسكوبية يحتوي الجنين المكتمل على ١٠٩٠ خلية، لكن ١٣١ خلية منها بالضبط تقتل نفسها أثناء النمو تاركة ٩٥٩ خلية في الدودة البالغة. الأمر يبدو وكأنها تضحي بنفسها من أجل مصلحة الجسد بأكمله، وكأنها تصرخ: «ما أجمل أن يموت المرء في سبيل وطنه!» ثم تذوي بطريقة بطولية، كالجنود المندفعين إلى الصفوف الأولى في معركة فردان الشهيرة، أو النحل الشغالة التي تطعن أي دخيل على الخلية دون الاهتمام بمقتلها. وليس هذا تشبيهًا أجوف وحسب؛ فالعلاقة بين خلايا الجسد أشبه بالعلاقة بين النحل داخل القفير. إن أسلاف خلاياك كانت ذات مرة كيانات منفردة، و«قرارها» التطوري أن تتعاون معًا، منذ حوالي ٦٠٠ مليون عام، هو مكافئ تقريبًا للقرار نفسه الذي اتُّخذ منذ حوالي خمسين مليون عام من قبل هذه الحشرات الاجتماعية، وهو أن تتعاون على مستوى الجسد، خاصة أن الأفراد الأقرباء من الناحية الجينية قد اكتشفوا أنه بمقدورهم التكاثر على نحو أكثر فعالية إذا ما فوضوا هذه المهمة لخلايا التكاثر في حالة خلايا الجسد، أو ملكة النحل في حالة النحل.3

هذا التشبيه صحيح حتى إن علماء الأحياء التطوريين بدءوا في إدراك أن هذا التعاون له حدود. فمثلما كان الجنود في معركة فردان أحيانًا يندفعون إلى التمرد ضد المصلحة العامة، نجد أن النحل الشغالة قادرة هي الأخرى على التكاثر وحدها إذا ما أتيحت لها الفرصة، ولا يمنعها من ذلك سوى حذر النحل الشغالة الأخرى. إن الملكة تشتري ولاء النحل الشغالة لنفسها بدلًا من أن يكون ولاؤها لإخوتها بالتزاوج مع ذكور عديدين، مما يضمن لها أن تكون أغلب النحل الشغالة أخوات من الأم فقط، ومن ثم لا تكون لهن إلا مصلحة جينية مشتركة قليلة. والأمر نفسه ينطبق على الخلايا البشرية؛ فالتمرد مشكلة دائمة. فالخلايا دائمًا ما تنسى واجبها الوطني، وهو أن تخدم خلايا التكاثر، وتسعى إلى التكاثر بنفسها. فعلى أي حال، كل خلية منحدرة من سلالة طويلة من الخلايا المتوالدة، لذا يبدو من غير المنطقي أن تتوقف عن التكاثر لجيل كامل. وبهذا — في كل نسيج كل يوم — تتمرد خلية ما وتشرع في الانقسام مجددًا، كما لو أنها عاجزة عن مقاومة نداء الجينات العتيق الذي يدعوها إلى التكاثر. وإذا لم يمكن إيقاف الخلية، تكون النتيجة السرطان.

لكن في المعتاد يمكن إيقافها. إن مشكلة هذا التمرد السرطاني قديمة للغاية حتى إن خلايا جميع الحيوانات كبيرة الحجم مسلحة بسلسلة معقدة من المفاتيح المصممة كي تستحث الخلية على قتل نفسها إذا وجدت نفسها تتحول لخلية سرطانية. وأشهر هذه المفاتيح وأكثرها أهمية، هو في الحقيقة أكثر الجينات البشرية التي نتحدث عنها منذ اكتشافه عام ١٩٧٩، إنه الجين TP53، الموجود على الذراع القصيرة للكروموسوم ١٧. سيخبرك هذا الفصل بقصة السرطان المثيرة للدهشة، وذلك من منظور الجين الذي مهمته الرئيسية منع السرطان.

حين أعلن ريتشارد نيكسون الحرب على السرطان في العام ١٩٧١، لم يكن العلماء وقتها يعرفون العدو الذي هم بصدد مواجهته، ربما باستثناء أنه نمو مفرط للأنسجة. كان من الواضح أن أغلب أنواع السرطان لم تكن معدية أو متوارثة. وكان من المتفق عليه أن السرطان لم يكن نوعًا واحدًا من المرض، بل مجموعة من الأمراض المتنوعة تحدث بسبب مجموعة متنوعة من الأسباب، أغلبها خارجي. كان منظفو المداخن «يلتقطون» سرطان الصفن بسبب القطران، وأصيب أخصائيو الأشعة السينية والناجون من قنبلة هيروشيما بسرطان الدم بسبب الإشعاع، أما المدخنون فكانوا «يلتقطون» سرطان الرئة من دخان السجائر، و«التقط» عمال أحواض بناء السفن المرض نفسه من ألياف الأسبستوس. قد لا يكون هناك رابط مشترك، لكن لو كان هناك رابط فسيكون على الأرجح متعلقًا بفشل الجهاز المناعي في كبح الأورام. كانت هذه هي النظرة السائدة في ذلك الوقت.

إلا أن خطين متنافسين من الأبحاث كانا في سبيلهما إلى تقديم أفكار جديدة من شأنها أن تقود إلى ثورة في فهمنا للسرطان. أولهما كان اكتشاف بروس أميس في كاليفورنيا في ستينيات القرن العشرين أن العديد من المواد الكيميائية والإشعاعية التي تسبب السرطان، مثل القطران والأشعة السينية، يجمعها شيء واحد أساسي؛ هو أنها قادرة بدرجة كبيرة على إتلاف الحمض النووي. وقد ألمح أميس إلى إمكانية أن يكون السرطان مرضًا جينيًّا.

أما الاكتشاف الثاني فقد بدأ في وقت مبكر عن ذلك بكثير. ففي عام ١٩٠٩ أثبت بيتون روس أن الدجاجة المصابة بنوع من الأورام السرطانية يسمى الساركومة تستطيع نقل هذا المرض إلى دجاجة سليمة. ظل عمله محل تجاهل، إذ لم تكن هناك أدلة كافية على أن السرطان مرض معدٍ. لكن في أواخر ستينيات القرن العشرين، اكتُشفت مجموعة من الفيروسات الورمية الحيوانية، وكان أولها فيروس ورم الساركومة الذي كان روس يعمل عليه. وفي نهاية المطاف مُنح روس جائزة نوبل وهو في سن السادسة والثمانين تقديرًا لبصيرته. وسرعان ما تبع ذلك اكتشاف الفيروسات الورمية البشرية، وصار من الجلي أن فئات كاملة من السرطان، مثل سرطان عنق الرحم، تحدث ولو جزئيًّا بسبب عدوى فيروسية.4
بالكشف عن تركيب الحمض النووي لفيروس ساركومة، تبين أنه يحمل نوعًا خاصًّا من الجينات المسببة للسرطان، والمعروف الآن باسم src. سرعان ما توالى اكتشاف غيره من «الجينات الورمية» من خلال فيروسات ورمية أخرى. ومثل أميس، كان أخصائيو الفيروسات في بداية الطريق نحو معرفة أن السرطان مرض جيني. وفي عام ١٩٧٥، انقلب عالم أبحاث السرطان رأسًا على عقب حين اكتُشف أن الجين src لم يكن جينًا فيروسيًّا من الأساس، بل كان جينًا موجودًا لدينا جميعًا، في الدجاج والفئران والبشر كذلك. لقد سرق فيروس ساركومة روس الجين الورمي من عائليه.

تردد العلماء الأكثر تحفظًا في تقبل فكرة كون السرطان مرضًا جينيًّا؛ فعلى أي حال لم يكن السرطان مرضًا وراثيًّا، ربما باستثناء حالات نادرة. لكنهم تغافلوا عن أن الجينات لا تقتصر في عملها على خلايا التكاثر؛ فهي أيضًا تنشط خلال حياة الكائن الحي في كل عضو آخر. إن المرض الجيني الموجود داخل أحد أعضاء الجسم، لكن ليس في خلايا التكاثر، يمكن أن يظل مرضًا جينيًّا. وبحلول عام ١٩٧٩، استُخدم الحمض النووي المأخوذ من ثلاثة أنواع من الأورام للحث على النمو السرطاني في خلايا الفئران، وهو ما يثبت أن الجينات وحدها يمكنها التسبب في السرطان.

كان واضحًا منذ البداية أي نوع من الجينات تكون هذه الجينات الورمية؛ إنها جينات تشجع الخلايا على النمو. إن خلايانا تملك هذه الجينات حتى يتسنى لها النمو في الرحم وفي فترة الطفولة، وحتى تلتئم الجروح بعد ذلك خلال حياتنا. لكن من المهم بمكان أن تُعطل في أغلب الأوقات؛ إذ إنها لو واصلت النمو فستحدث كارثة. وفي ظل وجود مائة تريليون من خلايا الجسم، مع دورة تبدل ذات سرعة كبيرة نسبيًّا، هناك العديد من الفرص لهذه الجينات الورمية كي تتراكم خلال عمر الفرد، حتى دون تشجيع من طرف دخان السجائر أو ضوء الشمس المسبب للطفرات. لكن لحسن الحظ، يملك الجسم جينات آليات مهمتها اكتشاف أي نمو زائد عن الحد وإيقافه. إن هذه الجينات، التي اكتُشفت لأول مرة في أواسط ثمانينيات القرن العشرين على يد هنري هاريس في أكسفورد، تُعرف باسم الجينات المثبطة للأورام. وهذه الجينات المثبطة للأورام هي على النقيض تمامًا من الجينات الورمية؛ ففي حين تسبب الجينات الورمية السرطان عند تراكمها، تسبب الجينات المثبطة للأورام السرطان عند غيابها.

تلك الجينات تؤدي مهمتها بطرق متعددة، أبرزها توقيف الخلايا عند نقطة معينة في نموها وانقسامها، ثم إطلاق سراحها فقط إذا كانت كل أوراقها سليمة، إن جاز لنا التعبير. وعلى هذا يجب على الورم إذا أراد اجتياز هذه المرحلة أن يحتوي على خلية يتراكم بها أحد الجينات الورمية وتغيب عنها الجينات المثبطة للأورام، وهذا أمر مستبعد حدوثه إلى حد كبير، ومع هذا فتلك ليست نهاية المطاف. فلكي يهرب الورم وينمو كما يحلو له، عليه الآن أن يمر بنقطة تفتيش أكثر صرامة، مسلحة بجين يكتشف أي سلوك غير طبيعي في الخلية، ويصدر التعليمات إلى مختلف الجينات كي تفكك الخلية من الداخل، أي تجعلها تنتحر، وهذا الجين هو الجين TP53.
حين اكتُشف الجين TP53 للمرة الأولى على يد ديفيد لين في دندي عام ١٩٧٩، كان من المعتقد أنه أحد الجينات الورمية، لكن في وقت لاحق تبين أنه أحد الجينات المثبطة للأورام. كان لين وزميله بيتر هول يناقشان الجين TP53 في إحدى الحانات عام ١٩٩٢ حين عرض هول أن يستخدم كفأر تجارب وقدم ذراعه لاختبار هل الجين TP53 جين مثبط للأورام بحق. كان الحصول على موافقة اختبار هذا الأمر على أحد حيوانات التجارب سيستغرق أشهرًا، لكن من الممكن إجراء التجربة على متطوع بشري في التو. عرّض هول جزءًا صغيرًا من ذراعه عدة مرات للإشعاع وأخذ لين بضع خزعات على مدار الأسبوعين التاليين. أظهر الفحص ارتفاعًا حادًّا في مستوى البروتين p53، وهو البروتين الذي يصنعه الجين TP53، وذلك في أعقاب التعرض للإشعاع، وهو ما يعد دليلًا دامغًا على أن الجين استجاب للتلف المسبب للسرطان. وقد اتجه لين نحو تطوير البروتين p53 كعلاج محتمل للسرطان في التجارب السريرية، وسيخضع أول متطوعين لهذا العلاج وقت نشر هذا الكتاب. في حقيقة الأمر، شهدت أبحاث السرطان في دندي نموًّا كبيرًا لدرجة أن البروتين p53 يعد الآن ثالث أشهر منتجات هذه المدينة الاسكتلندية الواقعة على مصب نهر التاي بعد ألياف الخيش ومربى الفاكهة.5
تعد طفرات الجين TP53 ملمحًا مميزًا للسرطان القاتل؛ إذ إن هذا الجين يكون تالفًا في خمسة وخمسين بالمائة من جميع أنواع السرطان التي تصيب البشر، بل ترتفع هذه النسبة إلى تسعين بالمائة في حالة سرطانات الرئة. إن من يولدون ولديهم نسخة تالفة من الجين TP53 من ضمن النسختين اللتين يرثونهما من الأبوين من المرجح إصابتهم بالسرطان بنسبة خمسة وتسعين بالمائة، وعادة يكون هذا في سن مبكرة. ولنأخذ — على سبيل المثال — سرطان القولون والمستقيم، فهذا السرطان يبدأ بطفرة تتلف أحد الجينات المثبطة للأورام يطلق عليه الجين APC. وإذا أُصيب الورم الصغير الناتج بطفرة ثانية تراكمت على الجين الورمي المسمى RAS، يتطور الورم إلى ما يطلق عليه اسم «الورم الغدّي». وإذا تعرض لطفرة ثالثة تعمل على إتلاف جين ثالث غير محدد بعد من الجينات المثبطة للأورام، يتطور الورم الغدّي إلى ورم أكثر خطورة. ثم تأتي الطفرة الرابعة بما تحمله من خطر محيق في الجين TP53، التي تتسبب في تحويل الورم إلى ورم سرطاني كامل. ينطبق هذا النموذج متعدد الضربات على أنواع أخرى من السرطان، وفي المعتاد يكون الجين TP53 آخر الجينات تعرضًا للتلف.
بإمكانك الآن معرفة لماذا يعد من المهم جدًّا اكتشاف تطور الورم السرطاني في مراحله المبكرة، فمع ازدياد الورم في الحجم يزيد احتمال تعرضه للطفرة التالية، وذلك بسبب النسبة بين احتمالية الطفرة والحجم، ولأن التكاثر السريع للخلايا داخل الورم من الممكن أن يؤدي بسهولة إلى حدوث أخطاء جينية بدورها تتسبب في طفرات. إن الأشخاص المعرضين لخطر أنواع معينة من السرطان عادة يحملون طفرات في جينات «مسببة للطفرات» تشجع حدوث الطفرات عمومًا (الجينان المسببان لسرطان الثدي BRCA1 وBRCA2، واللذان تعرضنا لهما بالنقاش في الفصل الخاص بالكروموسوم ١٣، هما على الأرجح جينان مسببان لطفرات سرطان الثدي تحديدًا.) أو لأنها تحمل بالفعل نسخًا تالفة من الجين المثبط للأورام. إن الأورام — مثل مجتمع من الأرانب — واقعة تحت ضغوط انتخابية تدفعها إلى التطور بقوة وسرعة. وتمامًا كما يصير ابن أسرع الأرانب توالدًا هو المهيمن على جحورها، تصير أسرع الخلايا انقسامًا في كل ورم هي المهيمنة على حساب الخلايا الأخرى الأكثر استقرارًا. ومثلما يصير الأرنب الطافر الذي يسارع بالهرب في جحر في باطن الأرض هربًا من الصقور هو المهيمن على حساب الأرانب الأخرى التي تجلس ساكنة في العراء، سرعان ما تصير الطفرات في الجينات المثبطة للأورام التي تمكن الخلايا من الفرار من التثبيط هي المهيمنة على حساب الطفرات الأخرى. إن بيئة الورم تنتخب الطفرات في مثل هذه الجينات تمامًا كما تنتخب البيئة الخارجية الأرانب. وليس من المستغرب إذن ظهور الطفرات في نهاية المطاف في العديد من الحالات، فالطفرات تحدث عشوائيًّا، لكن الانتخاب الطبيعي لا يعمل على نحو عشوائي.
وبالمثل، من الجلي الآن سبب تضاعف احتمالية الإصابة بالسرطان تقريبًا مع مرور كل عقد من عمر الفرد، لكونه بالأساس مرضًا ملازمًا للتقدم في العمر. فمن بين عشرة إلى خمسين بالمائة من البشر — حسب الدولة التي يعيش الفرد فيها — من المحتم أن يهرب السرطان من الجينات العديدة المثبطة للأورام، وفيها الجين TP53، مسببًا الإصابة بمرض رهيب قاتل. بالطبع لن نجد أي عزاء في حقيقة أن هذه علامة على نجاح الطب الوقائي الذي نجح في حمايتنا من العديد من مسببات الموت الأخرى في العالم الصناعي على الأقل، فكلما عشنا فترة أطول تراكم المزيد من الأخطاء في جيناتنا، وزاد احتمال تراكم الجينات الورمية، مع تعطل ثلاثة من الجينات المثبطة للأورام في الخلية نفسها. إن احتمال حدوث مثل هذا الأمر ضعيف إلى حد بعيد، لكن عدد الخلايا الذي يتكون لدينا طيلة عمرنا هائل للغاية بدرجة يستحيل تخيلها. وكما قال روبرت واينبرج:6 «إن تحولًا خبيثًا قاتلًا واحدًا وسط مائة مليون مليار انقسام خلوي قد لا يبدو بالأمر المضر على أي حال.»
لنلق نظرة أكثر قربًا على الجين TP53. يبلغ طول هذا الجين ١١٧٩ «حرفًا»، وهو يحمل وصفة بروتين بسيط، p53، عادة ما يُهضم بواسطة إنزيمات أخرى بسرعة كبيرة، حتى إن عمره النصفي لا يتجاوز العشرين دقيقة. على هذه الحالة يكون البروتين p53 خاملًا، لكن عند تلقيه إشارة ما، يزداد معدل إنتاج البروتين بدرجة كبيرة وتتوقف عملية تدميره تقريبًا. تظل ماهية تلك الإشارة سرًّا دفينًا ومصدرًا لحيرة عظيمة، لكن جزءًا منها يتكون من أجزاء تالفة من الحمض النووي. يبدو أن شظايا متكسرة من الحمض النووي تنبه البروتين p53، ومثل فرقة وحدة القبض على المجرمين أو فريق التدخل السريع، تهرع جزيئات هذا البروتين إلى مواقع الحدث. بعد ذلك يتولى البروتين p53 السيطرة على الموقف برمته، كواحدة من تلك الشخصيات التي يلعبها تومي لي جونز أو هارفي كيتل، التي تصل إلى مسرح الجريمة وتقول شيئًا من قبيل: «مكتب المباحث الفيدرالية، سنتولى الأمر من الآن.» وبتنشيط جينات أخرى، يخبر البروتين p53 الخلية بشيء من اثنين: إما أن توقف تكاثرها، بحيث تتوقف عن مضاعفة حمضها النووي وتنتظر الإصلاح، أو تقتل نفسها.
ومن العلامات التي تنبئ البروتين p53 بحدوث خطب ما أن تبدأ الخلية في استنفاد مخزون الأكسجين لديها، وهي العلامة التشخيصية لخلايا الأورام؛ فداخل المجموعة النامية من الخلايا السرطانية، يمكن لمخزون الدم أن يقل، وهو ما يجعل الخلايا تختنق. تتغلب الخلايا الخبيثة على هذه المشكلة بإرسال رسالة إلى الجسد كي يبني شرايين جديدة داخل الورم؛ وهي تلك الشرايين المميزة التي تأخذ شكل مخلب السرطان والتي أعطت المرض اسمه اليوناني cancer في البداية. تحد بعض أدوية علاج السرطان الجديدة الواعدة من تكوين هذه الأوعية الدموية، لكن في بعض الأحيان يدرك البروتين p53 ما يحدث ويقتل الخلية الورمية قبل وصول مخزون الدم إليها. ولهذا السبب، تحتاج أنواع السرطان التي تحدث في الأنسجة ذات مخزون الدم الفقير، كسرطان الجلد، أن تعطل الجين TP53 في وقت مبكر من تكونها وإلا ستفشل في النمو. ولهذا السبب يعد سرطان الجلد خطيرًا للغاية.7
لا عجب إذن أن استحق البروتين p53 لقب «حامي حمى الجينوم»، أو حتى «الملاك الحارس للجينوم». يبدو أن الجين TP53 يحمل شفرة الخير للجميع، مثل حبة السم الموضوعة في فم الجندي والتي لا تذوب إلا حين تكتشف أن هذا الجندي على وشك التمرد. يُعرف انتحار الخلايا على هذا النحو باسم «الاستماتة» أو apoptosis، وهي كلمة منحدرة من كلمة يونانية تعني سقوط أوراق الخريف. والاستماتة هي أهم سلاح يملكه الجسم في حربه ضد السرطان، وآخر خطوط الدفاع. في الحقيقة، إن عملية الاستماتة مهمة للغاية حتى إنه يتضح لنا تدريجيًّا أن جميع علاجات السرطان الدوائية تعمل فقط عن طريق حث هذه العملية على الحدوث، وذلك بتنبيه البروتين p53 وزملائه. كان يُعتقد أن العلاج الإشعاعي والعلاج الكيميائي ينجحان وحسب لأنهما يقتلان فقط الخلايا المنقسمة بإتلاف الحمض النووي الخاص بها أثناء عملية النسخ، لكن لو كان هذا هو الحال، فلماذا إذن تستجيب بعض أنواع السرطان استجابة ضعيفة للغاية للعلاج بهاتين الطريقتين؟ توجد نقطة معينة على مسار نمو الورم السرطاني الخبيث يتوقف فيها العلاج عن العمل، ولا يتراجع الورم عن النمو بفعل الهجوم الكيميائي والإشعاعي. ما سبب حدوث ذلك؟ إذا كان العلاج يقتل الخلايا المنقسمة فمن المفترض به إذن أن يواصل العمل طوال الوقت.
لدى سكوت لو، الذي يعمل في مختبر كولد سبرينج هاربور إجابة عبقرية لهذا السؤال. هذه العلاجات تتسبب فعلًا في ضرر بسيط للحمض النووي — هكذا يؤكد — لكن هذا الضرر ليس كافيًا لقتل هذه الخلايا؛ بل في الحقيقة هذا الضرر يكفي وحسب لتنبيه البروتين p53، وهو الذي يأمر الخلايا بقتل أنفسها. وعلى هذا فإن العلاج الكيميائي والإشعاعي يعملان — مثل اللقاح — من خلال مساعدة الجسم على مساعدة نفسه. توجد أدلة تدعم نظرية لو؛ فالإشعاع أو العلاج بالعقاقير الكيميائية ٥-فلورويوراسيل أو أوتوبوسيد أو أدرياميسين، وهي المواد الكيميائية الثلاث المستخدمة في علاج السرطان، كلها تشجع على استماتة الخلايا المصابة بالجينات الورمية الفيروسية في المختبرات. وحين تتوقف الأورام عن الاستجابة فجأة للعلاج يكون التغير مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بطفرة تتخلص من الجين TP53. وبالمثل، نجد أن أقل الأورام استجابة للعلاج، وهي سرطان الجلد والرئة والقولون والمثانة والبروستاتا، هي تلك التي يُتخلص فيها من الجين TP53 مبكرًا. وتقاوم أنواع معينة من سرطان الثدي العلاج، وهي تلك الأنواع التي يكون فيها الجين TP53 تالفًا.
لهذه الأفكار أهمية بالغة في علاج السرطان. لقد عمل قطاع كبير من الطب وفق سوء فهم كبير؛ فبدلًا من البحث عن العناصر التي تقتل الخلايا المنقسمة، على الأطباء أن يبحثوا عن العناصر التي تشجع الخلايا على الانتحار. لا يعني هذا أن العلاج الكيميائي غير فعال بالمرة، لكن يعني أنه كان فعالًا فقط بمحض الصدفة. ومن المفترض الآن وقد عرف الباحثون ما يجب فعله أن تكون النتائج واعدة بدرجة أكبر. فعلى المدى القصير، يعدنا هذا الأمر بموت أقل إيلامًا للعديد من المصابين بالسرطان. وبإجراء التحاليل لمعرفة هل الجين TP53 تالف فعلًا، يستطيع الأطباء أن يعرفوا مقدمًا هل العلاج الكيميائي سيجدي نفعًا أم لا. وإذا لم يكن مجديًا، يمكن للمريض وأسرته أن يوفروا على أنفسهم المشقة البالغة والأمل الزائف اللذين يعدان أبرز ما يميز الأشهر الأخيرة في حياة هؤلاء الأشخاص.8

تحتاج الخلايا الجينات الورمية، في حالتها الطبيعية غير الطافرة، من أجل النمو والتكاثر على نحو طبيعي خلال الحياة؛ فمن الضروري تجديد الجلد، وإنتاج خلايا دم جديدة، واندمال الجروح وهكذا. ويجب على آلية كبح الأورام المحتملة أن تستثني عمليات النمو والتكاثر الطبيعية للخلايا. يجب أن تُمنح الخلايا أيضًا على نحو دوري الإذن كي تنقسم، ويجب أن تزود بالجينات التي تشجع على الانقسام، ما دامت قادرة على التوقف في اللحظة المناسبة. نحن في بداية استيضاح كيفية تنفيذ ذلك العمل الفذ. ولو كنا ننظر إلى شيء مصنوع بيد إنسان، لخلصنا إلى أن عقلًا عبقريًّا شريرًا لا بد أن يكون هو الواقف وراءه.

ومرة أخرى نؤكد على أن مفتاح الحل هو عملية الاستماتة. فالجينات الورمية هي جينات تسبب نمو الخلايا وانقسامها، لكن الغريب أن العديد منها يستحث أيضًا على موت الخلايا. وفي حالة أحد هذه الجينات، المعروف باسم MYC، يعمل الجين نفسه على حث الخلية على الانقسام والموت، بيد أن إشارة الموت تُكبح وقتيًّا من قبل عوامل خارجية تسمى إشارات البقاء. وحين تنفد هذه الإشارات تموت الخلية. الأمر يبدو وكأنه يوجد وعي باحتمال إصابة الجين MYC بالسعار، لذا فهو مزود تلقائيًّا بقنبلة موقوتة، بحيث تقتل أي خلية جامحة نفسها عند نفاد مخزونها من عوامل البقاء. يظهر أيضًا وجه آخر من عبقرية التصميم في ارتباط ثلاثة من الجينات الورمية المختلفة، MYC وBCL-2 وRAS بحيث يتحكم بعضها في بعض. إن النمو الطبيعي للخلية يمكن أن يحدث فقط حين تعمل الجينات الثلاثة على نحو سليم. وحسب كلمات العالم الذي اكتشف هذه الروابط فإن:9 «دون هذا الدعم تنفجر القنبلة الموقوتة، وإما أن تموت الخلية المصابة أو تحتضر، وفي كلتا الحالتين لا تشكل تهديدًا [سرطانيًّا].»
إن قصة البروتين p53 والجينات الورمية، شأن الجزء الأعظم من هذا الكتاب، تتحدى الزعم القائل إن البحث الجيني خطير بالضرورة وينبغي الحد منه. وتعلن هذه القصة أيضًا تحديًا قويًّا للفكرة القائلة إن العلم «الاختزالي»، الذي يفكك الأنظمة بغرض فهمها، معيب ولا فائدة من ورائه. إن علم الأورام، المعني بالدراسة الطبية للسرطان بمجمله، مع ما يتسم به من كد وعبقرية وتمويل هائل، لم يحقق إلا القليل بالمقارنة بما تحقق فعلًا خلال بضع سنوات من اتباع المنهج الجيني الاختزالي. وفي الحقيقة، جاءت أولى الدعوات لوضع خريطة كاملة للجينوم البشري من العالم الإيطالي الحاصل على جائزة نوبل ريناتو دولبوكو عام ١٩٨٦، لأن هذا — كما رأى — هو السبيل الوحيد إلى كسب الحرب ضد السرطان. إننا الآن، وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، نملك الإمكانية للوصول إلى علاج حقيقي للسرطان، أقسى وأكثر الأمراض القاتلة شيوعًا في العالم الغربي، وقد تحقق هذا عبر البحث الجيني الاختزالي وما يأتينا به من مفاهيم. وعلى كل من يصفون هذا العلم بالخطورة ألا ينسوا هذا.10
عندما يستقر الانتخاب الطبيعي على طريقة لحل مشكلة ما، عادة يستخدمها لحل غيرها من المشكلات. للاستماتة وظيفة أخرى غير التخلص من الخلايا السرطانية، فهي مفيدة أيضًا في الصراع ضد الأمراض المعدية العادية. وإذا استشعرت الخلية أنها أصيبت بفيروس يمكنها قتل نفسها من أجل مصلحة الجسد ككل (يفعل النمل والنحل هذا، من أجل مصلحة مستعمراتهما). هناك أدلة قوية على أن بعض الخلايا تفعل هذا الأمر، وتوجد أدلة على أن بعض الفيروسات طورت وسيلة لمنع هذا من الحدوث. يحتوي فيروس إيبشتاين-بار، المسبب للحمى الغدّية أو كثرة الوحيدات، على بروتين غشائي كامن يبدو أن وظيفته هي تغيير أي نزعة تظهر لدى الخلية المصابة لقتل نفسها. ويملك فيروس الورم الحُليمي، المسبب لسرطان عنق الرحم، اثنين من الجينات مهمتهما تعطيل الجين TP53 وغيره من الجينات المثبطة للأورام عن العمل.
كما ذكرت في الفصل الخاص بالكروموسوم ٤، فإن مرض هنتنجتون يحدث بسبب استماتة مفرطة غير مخطط لها لخلايا المخ التي لا يمكن استبدالها. لا يمكن إعادة تكوين الخلايا العصبية في مخ الشخص البالغ، ولهذا السبب يستحيل إصلاح بعض أنواع التلف بالمخ. ولهذا الأمر وجاهته من الناحية التطورية لأنه على العكس من خلايا الجلد مثلًا، فإن كل خلية عصبية وحدة تشغيل خبيرة مشكّلة ومدربة بإتقان، وإذا استُبدلت بأخرى ساذجة غير خبيرة وذات شكل عشوائي فستكون النتيجة كارثية. وحين يصيب فيروس الخلية العصبية لا تؤمر الخلية العصبية بقتل نفسها، بل أحيانًا، لأسباب غير واضحة بالكامل، يحث الفيروس نفسه الخلية على قتل نفسها. هذا ما يحدث في حالة الفيروسات الألفوية المسببة لالتهاب الدماغ، على سبيل المثال.11

من الممكن أن تفيد عملية الاستماتة أيضًا في منع أنواع أخرى من التمرد غير السرطان، مثل التشوهات الجينية التي تحدث بسبب الينقولات الأنانية. هناك أدلة قوية على أن خلايا التكاثر الموجودة في المبيض والخصية تخضع لمراقبة الخلايا الجريبية وخلايا سيرتولي على الترتيب، التي مهمتها اكتشاف أي من هذه التصرفات الأنانية، وحث الخلية على قتل نفسها حال ثبوت ذلك. على سبيل المثال: في مبيض جنين الأنثى البشري البالغ من العمر خمسة أشهر، يوجد ما يقارب سبعة ملايين خلية تناسلية، أما عند المولد فيكون عدد هذه الخلايا مليوني خلية فقط، ومن هذين المليونين تتكون ٤٠٠ بويضة أو نحو ذلك فقط خلال فترة حياة الأنثى. إن أغلب العدد المتبقي يجري التخلص منه عن طريق عملية الاستماتة، التي تعمل بطريقة انتخابية صارمة، معطية أوامر مشددة للخلايا غير المثالية بالانتحار (إن الجسد البشري مجتمع ديكتاتوري بحق).

يمكن تطبيق المبادئ نفسها على المخ، حيث تحدث عمليات انتقاء واسعة النطاق أثناء النمو على يد الجين ced-9 وغيره من الجينات. ومجددًا، أي خلية لا تعمل بالشكل المطلوب يُضحى بها لمصلحة الكيان ككل. وعلى هذا لا يُمكن الانتقاء عن طريق استماتة الخلايا من حدوث عملية التعلم وحسب، بل يحسن من متوسط جودة الخلايا المتبقية. ويحدث شيء مشابه على الأرجح في خلايا الجهاز المناعي، التي تتعرض لعملية انتقاء صارمة للخلايا عن طريق عملية الاستماتة.
تحدث عملية الاستماتة بطريقة لا مركزية، فلا يوجد تخطيط مركزي أو مكتب سياسي جسدي يحدد من يموت ومن يعيش، وهذا أجمل ما في الأمر. فمثل نمو الجنين، تسخر هذه العملية المعرفة الذاتية لكل خلية. المشكلة الوحيدة المتعلقة بمفهوم الاستماتة هي تصور الكيفية التي تطورت بها العملية، فأي خلية تمر بتجربة الاستماتة بسبب كونها مصابة أو سرطانية أو تعاني تلفًا جينيًّا من الطبيعي أن تموت، وعلى هذا لا يمكنها أن تنقل هذه الخاصية إلى الأجيال التالية. حُل هذا اللغز، المعروف باسم «لغز الكاميكازي»، من خلال نوع من الانتخاب العام؛ فالأجساد التي تحدث بها عملية الاستماتة تعمل على نحو أفضل من تلك التي لا توجد بها هذه الآلية، وهكذا تورث الأولى السمة المطلوبة لخلايا الأجيال التالية. بيد أن هذا يعني أن نظام عملية الاستماتة لا يمكنه التحسن عبر فترة حياة الفرد، لأنه عاجز عن التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي داخل الجسد. إننا مجبرون على الرضا بآلية انتحار الخلايا التي ورثناها وليس بيدنا ما يمكن عمله حيالها.12

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤