الكروموسوم ٢٠: السياسة

أوه، لحم بقر إنجلترا المشوي،
ولحم البقر المشوي الإنجليزي القديم.
هنري فيلدنج، في1 «أوبرا شارع جرَب»

الجهل هو الوقود الذي يتغذى عليه العلم؛ فالعلم أشبه بأتون جائع يجب إطعامه بالحطب القادم من غابة الجهل المحيطة بنا. وخلال تلك العملية تزداد مساحة الأرض الخالية من أشجار الجهل التي نطلق عليها المعرفة، لكن كلما اتسعت رقعتها اتسعت حدودها وتجلى أمامنا المزيد من الجهل. قبل اكتشاف الجينوم، لم نكن نعلم بوجود وثيقة محفورة داخل كل خلية طولها ثلاثة مليارات حرف لا ندري عن محتواها شيئًا. والآن، بعد قراءة أجزاء من هذا الكتاب، صرنا على وعي بوجود الكثير من الألغاز الجديدة الغامضة.

موضوع هذا الفصل هو الغموض. إن العالِم الحقيقي يمل من المعرفة، وما يحفزه هو مهاجمة مناطق الجهل؛ تلك الألغاز التي أظهرتها اكتشافات سابقة. إن الغابة أكثر إثارة للاهتمام من الأرض الجرداء. على الكروموسوم ٢٠ توجد أيكة من الألغاز تثير الاهتمام والضيق في آن واحد. وقد كوفئ الكشف عن وجود تلك الأيكة من الألغاز بجائزتي نوبل، لكنها تقاوم بعناد أن تصير من مناطق المعرفة. وقد صارت أيضًا — وكأنها تذكرنا أن المعارف المقصورة على القلة عادة ما تغير وجه العالم — واحدة من أكثر القضايا الملتهبة في العلم ذات يوم من عام ١٩٩٦. وأيكة الألغاز هذه معنية بجين صغير يسمى PRP.

تبدأ القصة مع الخراف. شهدت بريطانيا في القرن الثامن عشر ثورة حقيقية في مجال الزراعة، وذلك على يد عدد من رجال الأعمال الرواد، من بينهم روبرت بيكويل من ليسترشير. كان بيكويل هو من اكتشف أنه بالإمكان تحسين سلالات الخراف والماشية بسرعة عن طريق الاستيلاد الانتقائي لأفضل أفراد القطيع من سلالاتها بحيث تتركز الصفات المرغوبة. وعندما طُبق هذا الاستيلاد الداخلي على الخراف أنتج حملانًا بدينة سريعة النمو ذات صوف طويل، لكن كان له أثر جانبي غير متوقع؛ فالخراف من سلالة سافولك على الأخص بدأت تظهر بها أعراض الجنون في أواخر عمرها. كانت تخدش الأرض بحوافرها، وتتعثر وتجري مهرولة بطريقة عجيبة، وصارت متوترة وبدا عليها النفور من وجودها مع بقية أفراد القطيع، وسرعان ما كانت تموت. صار هذا المرض الذي لا يمكن شفاؤه، والمسمى الراعوش أو الالتهاب الدماغي للماشية، مشكلة كبيرة؛ إذ كان يتسبب في مقتل نعجة من بين كل عشرة نعاج. تفشى المرض بين خراف سافولك، وامتد قليلًا إلى أنواع أخرى، ثم امتد إلى أجزاء أخرى من العالم. وظل السبب وراءه غامضًا. لم يبد أن هذا المرض وراثي، لكن لم يكن بالإمكان عزوه لأي مسبب آخر كذلك. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، تسبب عالم بيطري، وهو يجرب لقاحًا جديدًا لمرض مختلف، في تفشي داء الراعوش بشكل وبائي في بريطانيا. كان هذا اللقاح مصنوعًا في جزء منه من أمخاخ خراف أخرى، ومع أنه خضع للتعقيم الكامل بمادة الفورمالين فإنه احتفظ بقدرته على نقل العدوى. ومنذئذٍ صار الرأي التقليدي، ولن نقول ضيّق الأفق، للعلماء البيطريين هو أن الراعوش — بسبب قابليته للنقل — تُحدثه جرثومة ما.

لكن أي جرثومة هذه؟ لم يفلح الفورمالين في قتلها، كما لم تفلح المنظفات أو الغلي أو التعرض للأشعة فوق البنفسجية في ذلك. لقد مر العامل المسبب من أدق الفلاتر القادرة على التقاط أصغر الفيروسات. لم يثر هذا العامل أي رد فعل مناعي لدى الحيوانات المصابة، وفي بعض الأحيان كانت تمر فترة طويلة بين الحقن بالعامل المسبب وظهور المرض، وإن كانت الفترة أقصر بكثير لو حُقن العامل في المخ مباشرة. ألقى الراعوش غيمة مربكة من الشك في وجه جيل من العلماء ذوي العزم. وحتى حين ظهرت أعراض مشابهة في مزارع المنك الأمريكية ولدى الأيائل والبغال القاطنة بعض المتنزهات القومية في جبال روكي، لم يتسبب هذا إلا في زيادة الأمر غموضًا. أثبت المنك مقاومته لراعوش الخراف حين حُقنت به على سبيل التجربة. وبحلول عام ١٩٦٢، عاد أحد العلماء إلى الفرضية الوراثية. رأى هذا العالم أنه من الممكن أن يكون الراعوش مرضًا وراثيًّا لكنه في الوقت نفسه قابل للعدوى، وهو المزيج المجهول حتى تلك اللحظة. هناك العديد من الأمراض الوراثية، إلى جانب الأمراض المعدية التي تحدد فيها الوراثة قابلية الإصابة بالمرض، الكوليرا هي المثال الأبرز في هذا الصدد، بيد أن فكرة وجود جزيء معدٍ قادر على الانتقال وراثيًّا تبدو مخالفة لكل قواعد علوم الأحياء. وأُثني هذا العالم، جيمس باري، بكل حزم.

في ذلك الوقت تقريبًا، اطلع العالم بيل هادلو على صور لأمخاخ الخراف التي أتلفها الراعوش في معرض بمتحف ويلكوم للطب في لندن، ودُهش لقوة الشبه بينها وبين صور أخرى رآها من قبل في مكان مختلف تمامًا. كان داء الراعوش على وشك الارتباط ارتباطًا أكبر بالبشر. كان ذلك المكان الآخر هو بابوا غينيا الجديدة، حيث يتفشى مرض آخر متلف للمخ، يُعرف باسم كورو، بين العديد من أفراد إحدى القبائل، خاصة النساء، المعروفة باسم قبيلة فور. في البداية تبدأ سيقانهن في الارتعاش، ثم يبدأ الجسد كله في الارتجاف، ويصير حديثهن متداخلًا، وينفجرن في نوبات غير متوقعة من الضحك. وفي غضون العام، بينما يتحلل المخ من الداخل تموت الضحية. في أواخر خمسينيات القرن العشرين، كان مرض كورو هو المسبب الرئيسي لوفاة نساء قبيلة فور، إذ قتل منهن عددًا كبيرًا حتى إن الرجال فاقوا النساء بثلاثة أضعاف. كان الأطفال الصغار يصابون بالمرض أيضًا، وإن لم يصب به إلا قلة من الرجال البالغين.

ثبتت فعلًا أهمية هذا الدليل. في عام ١٩٥٧، لاحظ فينسنت زيجاس وكارلتون جايدوسك، الطبيبان الغربيان العاملان في المنطقة، ما كان يحدث: فحين يموت أحدهم تقطِّع نسوة القبيلة في مراسم احتفالية الجثمان كجزء من مراسم الدفن، وبعد ذلك، وفقًا للروايات الشائعة، يأكله أفراد القبيلة. كانت مراسم أكل لحوم البشر الجنائزية هذه على وشك الاختفاء نتيجة جهود الحكومة هناك، وصارت موصومة لدرجة تمنع الناس من التحدث عنها علنًا، وهو ما أدى بالبعض إلى التشكيك في حدوث هذا الأمر من الأساس. لكن جايدوسك وآخرين جمعوا عددًا كافيًا من إفادات شهود العيان تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن أهالي قبيلة فور لم يكونوا يكذبون حين وصفوا مراسم الدفن قبل عام ١٩٦٠ بلغتهم بكلمات معناها «قطّع، واطبخ، وكل». في المعتاد كانت النساء والأطفال يأكلون الأعضاء والمخ، ويأكل الرجال العضلات. قدم هذا الطرح تفسيرًا فوريًّا لأنماط ظهور مرض كورو؛ إذ كان شائعًا بين النساء والأطفال، كما كان يظهر بين أقارب المتوفين، سواء أقارب الدم أو حتى الأصهار. وبعد تجريم أكل لحوم البشر قانونًا زادت أعمار المصابين بالمرض على نحو ثابت. وعلى وجه الخصوص حدد روبرت كليتزمان، أحد طلاب جايدوسك، ثلاث مجموعات من الوفيات، كل واحدة منها وقعت فقط لمن حضروا جنائز بعينها لمتوفين بفعل مرض كورو في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. على سبيل المثال: في جنازة امرأة تدعى نينو عام ١٩٥٤، توفيت اثنتا عشرة امرأة من النساء الخمس عشرة اللاتي حضرن المراسم الجنائزية بفعل مرض كورو. أما النسوة الثلاث اللاتي لم يمتن بالمرض فشملن امرأة ماتت في سن صغيرة بسبب آخر، وأخرى مُنعت بفعل التقاليد من المشاركة في أكل المتوفية لأنهما كانتا زوجتين للرجل نفسه، والثالثة قالت في وقت لاحق إنها لم تأكل سوى يد وحسب.

حين رأى بيل هادلو التشابه بين أمخاخ البشر التي أتلفها مرض كورو وأمخاخ الخراف التي أتلفها مرض الراعوش كتب على الفور إلى جايدوسك في غينيا الجديدة. عمل جايدوسك وفق هذه الملحوظة من فوره. فلو كان كورو نوعًا من داء الراعوش فسيكون من الممكن نقله من البشر إلى الحيوانات بواسطة حقنه مباشرة في المخ. في ١٩٦٢ بدأ زميله جو جيبز سلسلة طويلة من التجارب محاولًا إصابة قرود السعدان والشمبانزي بمرض كورو المأخوذ من أمخاخ أفراد قبيلة فور المتوفين بسببه (الحكم على هذه التجربة في وقتنا الحالي بأنها أخلاقية أم لا هو أمر خارج نطاق هذا الكتاب). أصيب أول اثنين من الشمبانزي بالمرض ونفقا خلال عامين من حقنهما به، وكانت الأعراض مشابهة للأعراض التي ظهرت على المصابين بمرض كورو من البشر.

لكن إثبات أن كورو كان الصيغة البشرية لداء الراعوش لم يُفدنا كثيرًا؛ نظرًا لأن الدراسات الخاصة بداء الراعوش كانت في حيرة شديدة بشأن ما يسببه. ومذ عام ١٩٠٠، حير مرض قاتل يصيب المخ علماء الأعصاب بدرجة لا توصف. كانت أولى حالات هذا المرض والمسمى بمتلازمة كروتسفيلت-جاكوب، أو (اعتلال الدماغ الإسفنجي) قد شُخصت على يد هانز كروتسفيلت في بريسلاو في ذاك العام وكانت لفتاة تبلغ من العمر أحد عشر عامًا تسبب المرض في موتها ببطء على مدار العقد التالي. وبما أن اعتلال الدماغ الإسفنجي لا يصيب أحدًا بهذا الصغر ونادرًا ما يأخذ وقتًا طويلًا ليقتل ضحاياه، فمن المؤكد تقريبًا أن هذه الحالة هي حالة غريبة من التشخيص الخاطئ، وهو ما يمثل مفارقة غير مستغربة من هذا المرض الغامض، وهي أن أول حالة شُخصت لاعتلال الدماغ الإسفنجي لم تكن في حقيقتها مصابة باعتلال الدماغ الإسفنجي. ومع ذلك، في عشرينيات القرن العشرين، عثر ألفونس جاكوب على حالات مصابة بهذا المرض، وهكذا ترسخ اسم المرض.

سرعان ما أبدت قرود وشمبانزي جيبز قابليتها للإصابة باعتلال الدماغ الإسفنجي، كما حدث في حالة كورو. لكن في عام ١٩٧٧ أخذت الأمور منحى مرعبًا؛ إذ أصيب مريضان بالصرع خضعا لجراحة مخية استكشافية بواسطة أقطاب كهربية باعتلال الدماغ الإسفنجي فجأة. كانت الأقطاب قد استُخدمت من قبل مع أحد المصابين باعتلال الدماغ الإسفنجي، لكنها خضعت للتعقيم التام عقب الاستخدام. إن ذلك الكيان الغامض المسبب للمرض لم يقاوم التعقيم بالفورمالين والمنظفات والغلي والإشعاع وحسب، بل اجتاز أيضًا التعقيم الجراحي. شُحنت الأقطاب بالطائرة إلى بيثيسدا كي تُستخدم مع الشمبانزي، التي أصيبت هي الأخرى على الفور باعتلال الدماغ الإسفنجي نتيجة لذلك. أثبت هذا بدايةً وباءً جديدًا من نوع عجيب؛ اعتلال دماغ إسفنجي‏ علاجي المنشأ (أي تسبب فيه الأطباء). قتل هذا الوباء منذئذٍ حوالي مائة شخص ممن عولجوا من قصر قامتهم بهرمون النمو المعد من الغدد النخامية لأشخاص متوفين. ولأن آلاف الغدد النخامية تسهم في كل جرعة من هذا الهرمون، ضاعف هذا الأعداد الطبيعية القليلة لمرضى اعتلال الدماغ الإسفنجي وحوله إلى وباء حقيقي. لكن لو كنا سنلوم العلم على هذا التدخل الأخرق في شئون الطبيعة وما سببه من انقلاب للسحر على الساحر، فعلينا أيضًا أن ننسب إلى العلم فضل حل هذه المشكلة، فحتى قبل اتساع نطاق وباء اعتلال الدماغ الإسفنجي الناجم عن هرمون النمو في عام ١٩٨٤، كان هرمون النمو المخلق، وهو من أوائل منتجات البكتيريا المهندسة وراثيًّا، يحل محل هرمون النمو المأخوذ من جثث الموتى.

لنتناول بقليل من التفصيل هذه الحكاية الغريبة منذ ظهورها حوالي عام ١٩٨٠: تصاب الخراف والمنك والقرود والفئران والبشر بنسخ متباينة من المرض نفسه عن طريق حقنهم بخلايا المخ الملوثة. يقاوم هذا التلوث كل إجراءات التخلص من الجراثيم المعروفة ويظل خفيًّا تمامًا حتى مع استخدام أقوى الميكروسكوبات الإلكترونية. ومع هذا فهو لا ينتقل بالعدوى في الحياة العادية، ولا يبدو أنه ينتقل عبر لبن الأم، أو يستثير حساسية الجهاز المناعي، ويظل كامنًا فترة من الوقت قد تصل إلى أكثر من عشرين أو ثلاثين عامًا، ومن الممكن الإصابة به جراء التعرض لجرعات ضئيلة، مع أن قابلية الإصابة بالمرض تعتمد بقوة على مقدار الجرعة المتلقاة. ماذا يمكن أن يكون إذن؟

في غمرة تلك الأحداث، نُسيت حالة خراف سافولك والتلميح إلى أن الاستيلاد الداخلي زاد من عدد حالات الإصابة بداء الراعوش. أيضًا صار من الواضح تدريجيًّا أنه في القليل من الحالات البشرية، أقل من ستة بالمائة، بدا أن هناك ما يشبه الرابطة الأسرية بين المصابين، وهو ما يشير إلى كون المرض وراثيًّا. لكن مفتاح فهم داء الراعوش لم يكن في يد علماء الأمراض، بل في يد علماء الوراثة؛ كان الراعوش مرضًا جينيًّا. كانت أكثر الحالات التي أكدت على هذه الحقيقة في إسرائيل. فحين شرع العلماء الإسرائيليون في البحث عن اعتلال الدماغ الإسفنجي لدى مواطنيهم في منتصف سبعينيات القرن العشرين، لاحظوا شيئًا عجيبًا. كانت توجد أربع عشرة حالة، بنسبة تفوق احتمالية الصدفة بثلاثين مرة، متركزة ضمن عدد صغير من اليهود المهاجرين إلى إسرائيل من ليبيا. اتجهت الشكوك على الفور نحو غذائهم، مع توقع شيوع تناول أمخاخ الخراف بينهم. لكن كلا. كان التفسير الحقيقي جينيًّا؛ إذ إن جميع المصابين كانوا جزءًا من شجرة عائلة كبيرة منتشرة. والآن معروف أنهم يتشاركون في طفرة معينة وحيدة، طفرة موجودة كذلك في عدد قليل من العائلات من السلوفاكيين والشيليين والأمريكيين من أصول ألمانية.

إن عالم داء الراعوش مخيف ومثير للدهشة، لكنه مألوف على نحو غامض أيضًا. وفي الوقت نفسه الذي انجذبت فيه مجموعة من العلماء إلى استنتاج مفاده أن داء الراعوش كان جينيًّا بالكامل، كانت مجموعة أخرى تدعو إلى فكرة ثورية، بل في حقيقة الأمر يمكن اعتبارها نوعًا من الهرطقة العلمية، بدت للوهلة الأولى وكأنها تسير في الاتجاه المناقض تمامًا. ففي عام ١٩٦٧، اقترح أحدهم أن العامل المسبب لداء الراعوش قد لا يملك أي جينات لها دنا أو حتى رنا على الإطلاق. قد تكون هذه الصورة الوحيدة من الحياة على ظهر هذا الكوكب التي لا يوجد بها حمض نووي أو جينات خاصة بها. لكن نظرًا لأن فرانسيس كريك كان قد صاغ مؤخرًا ما أطلق عليه — شبه مازح — «العقيدة الأساسية لعلم الوراثة»، التي تقول إن الدنا يصنع الرنا الذي بدوره يصنع البروتين، قوبل الاقتراح القائل بوجود كائن حي لا يحمل أي حمض نووي باستهجان من عالم الأحياء لا يقل عن استهجان الكنيسة الرومانية للمبادئ اللوثرية.

في عام ١٩٨٢، اقترح عالم وراثة يدعى ستانلي بروزينر حلًّا لذلك التناقض الظاهري بين الكائن عديم الحمض النووي والمرض الذي ينتقل عبر الحمض النووي البشري. كان بروزينر قد اكتشف قطعة من البروتين تقاوم الهضم بواسطة إنزيم البروتيز الموجود في الحيوانات التي تعاني أمراضًا شبيهة بمرض الراعوش لكنها غير موجودة في الحيوانات الصحيحة من السلالات نفسها. كان التصرف المباشر الذي أقدم عليه هو اختبار تتابع الأحماض النووية في قطعة البروتين هذه، وأن يحسب تتابع الدنا المكافئ لها، ثم يبحث عن مثل هذا التتابع في جينات الفئران، ثم البشر في وقت لاحق. وبهذا وجد بروزينر الجين PRP (أو البروتين المقاوم للبروتيز) وبهذا ثبت ما جاء به من هرطقة على باب كنيسة العلم. كانت نظريته، التي طورها على مدار عدة أعوام تالية، تقضي بما يلي: الجين PRP هو جين طبيعي يوجد في الفئران والبشر، وهو يُنتِج بروتينًا طبيعيًّا. هو ليس جينًا لفيروس. لكن منتجه، المعروف باسم البريون، هو بروتين ذو خاصية غير عادية، وهي قدرته المفاجئة على تغيير شكله إلى شكل صلب لزج يقاوم كل محاولات التدمير، ويتجمع في كتل، بما يخلخل تركيب الخلية. كل هذا كان غير مسبوق بما يكفي، لكن بروزينر مضى ليقترح شيئًا أكثر غرابة؛ إذ اقترح أن هذا الشكل الجديد من البريونات له القدرة على تغيير شكل البريونات العادية بحيث تصير نسخًا مماثلة له. إنه لا يغير تتابعات هذا البروتين — فالبروتينات مثل الجينات مصنوعةٌ من تتابعات رقمية طويلة هي الأخرى — بل يغير من الشكل الذي تُطوى به.2
لم تلق نظرية بروزينر أي حفاوة، خاصة أنها فشلت في تفسير بعض أبرز الملامح المميزة لمرض الراعوش وما شابهه من أمراض، وتحديدًا حقيقة أن هذه الأمراض تظهر في سلالات متباينة. وكما يعبر عن الأمر بأسف اليوم: «لم تلق هذه الفرضية إلا حماسًا قليلًا.» أذكر جيدًا ذلك الازدراء الذي قابل به خبراء داء الراعوش نظرية بروزينر حين سألتهم عن رأيهم فيها من أجل مقال كنت أكتبه عن هذا الموضوع وقتها. لكن تدريجيًّا، مع اتضاح الحقائق، بدا أن تخمينه صحيح. وفي النهاية صار من الجلي أن الفأر الذي لا يملك جينات البريون لا يمكن أن يصاب بأي من هذه الأمراض، بينما الجرعة نفسها من البريون المشوه كافية للتسبب في المرض لفأر آخر؛ إن المرض يحدث بسبب البريونات وينتقل أيضًا من خلالها. لكن مع أن نظرية بروزينر أزالت مساحة كبيرة من غابة الجهل، وسرعان ما لحق بروزينر بجايدوسك عن استحقاق إلى ستوكهولم لتلقي جائزة نوبل، فإن مساحة كبيرة أخرى من الغابة بقيت كما هي. تحتفظ البريونات بداخلها بألغاز كبيرة، أبرزها هو السبب الذي توجد من أجله أساسًا. إن الجين PRP ليس موجودًا في كل حيوان ثديي خضع للفحص إلى الآن وحسب، بل إنه لا يتباين في تتابعه إلا بقدر طفيف، الأمر الذي يوحي بأنه يؤدي وظيفة مهمة. هذه الوظيفة على الأرجح تخص المخ، وهو المكان الذي ينشط فيه هذا الجين. لكن — وهنا يكمن لغز آخر — الفأر الذي تزال منه نسختا الجين قبل مولده ينمو ليصير فأرًا عاديًّا. يبدو أنه مهما تكن الوظيفة التي يؤديها البريون، فإن بإمكان الفأر أن ينمو دون الاحتياج إليها. إننا بعيدون للغاية عن معرفة سبب امتلاكنا هذا الجين الذي من الممكن أن يكون قاتلًا.3

في الوقت ذاته نحن لا نبعد إلا بطفرة أو اثنتين عن الإصابة بالمرض من جينات البريون الخاصة بنا. لدى البشر يتكون الجين من ٢٥٣ «كلمة»، كل واحدة منها مكونة من ثلاثة أحرف، مع أن أولى اثنتين وعشرين وآخر ثلاث وعشرين كلمة تُنزع من البروتين عند تصنيعه. وفي أربعة مواضع فقط يمكن لتغير الكلمة أن يؤدي إلى الإصابة لا بمرض بريوني واحد، بل بأربع تجسيدات مختلفة للمرض. إن تغير الكلمة رقم ١٠٢ من البرولين إلى اللوسين يسبب مرض جيرتسمان-شتروسلر-شينكر، وهي نسخة موروثة من المرض تأخذ وقتًا طويلًا حتى تقتل المصاب. أما تغير الكلمة رقم ٢٠٠ من الجلوتامين إلى الليزين فيسبب نوعًا من اعتلال الدماغ الإسفنجي مماثلًا لذلك الذي أصاب المهاجرين اليهود الليبيين. وتغير الكلمة رقم ١٧٨ من حمض الأسبارتيك إلى الأسباراجين فيُحدث اعتلال الدماغ الإسفنجي التقليدي، ما لم يصاحب ذلك تغير الكلمة رقم ١٢٩ من الفالين إلى المثيونين، وهي الحالة الأبشع على الأرجح من بين جميع أمراض البريون؛ ففي هذه الحالة ينتج مرض نادر يعرف باسم الأرق العائلي القاتل، الذي يسبب الوفاة بعد أشهر من الأرق التام. في هذه الحالة يكون المهاد (والذي يعد، مع أجزاء أخرى، بمنزلة مركز النوم بالمخ) هو الذي يتلف بفعل المرض. يبدو أن الأعراض المختلفة للأمراض البريونية المختلفة ناتجة عن تعرض أجزاء مختلفة من المخ للتآكل.

خلال العقد التالي على اتضاح هذه الحقائق، عمل العلم بأروعِ نحوٍ ممكن على سبر أغوار هذه الألغاز المتعلقة بهذا الجين وحده. تدفقت تجارب علمية محيرة للعقل من فرط براعتها من مختبر بروزينر ومختبرات غيره من العلماء، كاشفة عن قصة استثنائية من الحتمية والتفرد. إن البريون «الضار» يغير شكله عن طريق طي الجزء الأوسط منه (الكلمات ١٠٨–١٢١). والطفرة في هذه المنطقة، التي تزيد احتمالية حدوث هذا التغير في الشكل، تكون قاتلة في المرحلة المبكرة من حياة الفأر حتى إن المرض البريوني يصيبه خلال أسابيع من الميلاد. إن الطفرات التي نراها، في سلالات الأنساب المختلفة للأمراض البريونية الموروثة، هي طفرات ثانوية لا تؤثر في احتمالات حدوث التغير في الشكل إلا بدرجة طفيفة. وهكذا يخبرنا العلم بالمزيد والمزيد عن البريونات، لكن كل جزء جديد من المعرفة يكشف عن جزء آخر أعمق من الغموض.

كيف بالتحديد يُفعّل هذا التغير في الشكل؟ هل يوجد — كما شك بروزينر — بروتين ثانٍ مجهول، يسمى البروتين إكس؟ وإن كانت الحال كذلك، فلماذا لا نستطيع العثور عليه؟ لا نعرف.

كيف يعقل أن يتصرف الجين نفسه، النشط في جميع أجزاء المخ، بصور متباينة في مختلف أجزاء المخ اعتمادًا على الطفرة التي تصيبه؟ لدى الماعز، تتباين أعراض المرض من النوم إلى فرط النشاط اعتمادًا على أي من نوعي المرض تصاب به، لكننا لا نعرف كيف يحدث هذا.

لماذا يوجد حاجز بين الأنواع يجعل من الصعب نقل الأمراض البريونية بينها، مع أن هذا سهل بين أفراد النوع نفسه؟ لماذا من الصعب للغاية نقل المرض عن طريق الفم، بالرغم من السهولة النسبية لنقله عن طريق الحقن المباشر في المخ؟ لا نعرف.

لماذا يعتمد بدء ظهور الأعراض على مقدار الجرعة؟ فكلما التهمت الفئران بريونات أكثر ظهرت الأعراض أسرع. وكلما امتلك الفأر نسخًا أكثر من جين البريون أصيب أسرع بمرض بريوني عند الحقن بالبريون الفاسد. لماذا؟ لا نعرف.

لماذا يعد امتلاك المرء جينات متباينة وليس جينات متماثلة أكثر أمانًا؟ بعبارة أخرى، إن كنت تملك في الكلمة رقم ١٢٩، فالين في إحدى نسختي الجين ومثيونين على النسخة الأخرى، فلماذا تصير إذن محصنًا من الأمراض البريونية (باستثناء الأرق العائلي القاتل) أكثر من شخص يملك إما نسختين من الفالين أو المثيونين؟ لا نعرف.

لماذا يتصرف المرض بهذه الانتقائية؟ فالفئران لا يمكنها الإصابة بسهولة براعوش الهامستر، والعكس بالعكس، لكن الفأر المزود عن عمد بجين بريون الهامستر سوف يلتقط راعوش الهامستر بالحقن بمخ الهامستر. والفأر المزود بنسختين مختلفتين من الجينات البريونية البشرية يصاب بنوعين مختلفين من الأمراض البشرية، أحدهما يشبه الأرق العائلي القاتل والآخر يشبه اعتلال الدماغ الإسفنجي. والفأر المزود بجينات بريونية بشرية وأخرى خاصة بالفئران سيلتقط عدوى الاعتلال الدماغي الإسفنجي البشري أبطأ من الفأر الذي يملك نسخة بشرية واحدة من الجين البريوني؛ هل هذا يعني أن البريونات المتباينة تتصارع فيما بينها؟ لا نعرف.

كيف يغير الجين سماته الموروثة حين ينتقل إلى نوع جديد من المخلوقات؟ فالفئران لا يمكنها الإصابة براعوش الهامستر بسهولة، لكن عند إصابتها به فهي تنقله بسهولة أكبر بكثير إلى الفئران الأخرى.4 لماذا؟ لا نعرف.
لماذا ينتشر المرض من موضع الحقن ببطء وثبات، وكأن البريونات الشريرة لا يمكنها سوى تحويل البريونات الطيبة المجاورة لها تحويلًا مباشرًا؟ نحن نعرف أن المرض ينتقل عبر الخلايا البائية المناعية، التي تنقله بطريقة ما إلى المخ.5 لكن لماذا هذه الخلايا تحديدًا؟ لا نعرف.

إن الجانب المحير بحق في هذه المعرفة المتنامية بجهلنا هي أنها تتعلق بأساس عقيدة وراثية أكثر أهمية حتى من تلك الخاصة بفرانسيس كريك؛ بحيث تقوض واحدة من الرسائل التي عكفت على التبشير بها منذ أول فصول هذا الكتاب، وهي أن علم الأحياء في جوهره رقمي، لكن هنا، في جين البريون، توجد تغيرات رقمية تتمثل في استبدال إحدى الكلمات بأخرى التي تسبب تغيرات، لكن هذه التغيرات يستحيل التنبؤ بها دون معرفة أخرى خارجية. إن النظام البريوني تناظري، وليس رقميًّا. والتغير هنا ليس تغيرًا في التتابع فقط، بل في الشكل أيضًا، وهو يعتمد على الجرعة والموضع وما إذا كانت وجهة الرياح نحو الغرب أم لا! لا يعني هذا أنه يفتقر للحتمية. ففي الحقيقة، يعد اعتلال الدماغ الإسفنجي أكثر دقة من مرض هنتنجتون من ناحية العمر الذي يضرب فيه ضربته. تشير السجلات إلى حالات أشقاء أصيبوا به في العمر نفسه تمامًا مع أنهم كانوا يعيشون متباعدين طيلة حياتهم.

تحدث الأمراض البريونية بسبب نوع من التفاعل المتسلسل الذي فيه يحول البريون الخبيث البريون المجاور له إلى شكله نفسه، ثم يغير كل منهما بريونًا آخر، وهكذا بتضاعف أسّي. الأمر أشبه بتلك الصورة المشئومة التي تخيلها ليو زيلارد ذات يوم في عام ١٩٣٣ عندما كان ينتظر عبور الشارع في لندن؛ صورة الذرة وهي تنشطر ويخرج منها نيوترونان يسببان انشطار ذرة أخرى وخروج نيوترونين منها وهكذا، صورة ذلك التفاعل المتسلسل الذي انفجر فوق هيروشيما. بطبيعة الحال، يسير التفاعل المتسلسل البريوني سيرًا أبطأ كثيرًا من نظيره النيوتروني، لكنه قادر على الانتشار بالقدر نفسه من القوة، ولدينا في وباء كورو في غينيا الجديدة مثال على هذه الإمكانية حتى حين بدأ بروزينر في الكشف عن تفاصيله في بدايات ثمانينيات القرن العشرين. ومع هذا كان هناك وباء بريوني آخر أقرب بكثير وأكبر حجمًا يبدأ تفاعله المتسلسل. هذه المرة كانت ضحاياه هي الأبقار.

لا أحد يعرف تحديدًا متى أو أين أو كيف — ها هي الألغاز اللعينة تحاصرنا مجددًا — لكن في وقت ما من أواخر سبعينيات أو أوائل ثمانينيات القرن العشرين، بدأ مصنعو أعلاف الماشية في استخدام البريونات الخبيثة في منتجاتهم. ربما حدث هذا لأن انخفاض سعر الشحوم الحيوانية استتبع تغيرًا في عمليات التصنيع في مصانع الأعلاف هذه، وربما حدث بسبب الأعداد المتزايدة من الأغنام العجوزة التي وجدت طريقها إلى هذه المصانع بفضل الإعانات الحكومية السخية لمشروعات تربية الحملان، لكن بصرف النظر عن السبب، دخلت البريونات ذات الشكل الخاطئ إلى النظام؛ إذ كان كل ما يلزم هو دخول بقايا حيوان واحد مُعدٍ فتكت البريونات الراعوشية بمخه في خلطة الطحين الحيواني المقدمة لبقية الماشية. لا يهم إن تعرضت عظام وأعضاء البقر والخراف العجوزة للغلي بغرض التعقيم قبل إذابتها وتحويلها إلى مكملات غذائية ذات محتوى بروتيني مرتفع تُعطى للماشية المنتجة للألبان؛ فالبريونات الراعوشية يمكنها تحمل الغلي.

مع هذا، كان احتمال نقل المرض البريوني لأي بقرة ضئيلًا للغاية، لكن في ظل وجود مئات الآلاف من الأبقار كان الأمر كافيًا. وعند دخول أولى حالات «مرض جنون البقر» إلى السلسلة الغذائية مرة ثانية كي تُصنع منها الأعلاف التي ستتغذى عليها الأبقار الأخرى، بدأ التفاعل المتسلسل. دخلت المزيد والمزيد من البريونات إلى الطحين الحيواني، معطية جرعات أكبر وأكبر للعجول الصغيرة. كانت فترة الحضانة الطويلة تعني أن الحيوان المصاب سيستغرق خمسة أعوام حتى تظهر عليه أعراض المرض. وحين تعرفنا على ست حالات بوصفها حالات غير معتادة في نهاية عام ١٩٨٦، كان يوجد بالفعل حوالي ٥٠ ألفًا من الماشية المصابة في بريطانيا، مع أنه لم يكن هناك من سبيل للتيقن من ذلك. وفي النهاية، نفق حوالي ١٨٠ ألف رأس بسبب التهاب المخ الإسفنجي بقري المنشأ (جنون البقر) قبل القضاء التام على المرض في نهايات تسعينيات القرن العشرين.

وفي غضون عام، من ظهور أول حالة أجرى الأطباء البيطريون الحكوميون عملية تحرٍّ بارعة بهدف تحديد مصدر المشكلة وانتهوا إلى أن المصدر هو الأعلاف الملوثة. كانت هذه هي النظرية الوحيدة التي تتفق مع التفاصيل المتاحة، وهي أيضًا تفسر مواطن الشذوذ العجيبة مثل حقيقة ظهور الوباء في جزيرة جويرنسي قبل ظهوره بفترة طويلة في جيرسي، وكان السبب أن كل جزيرة منهما تتعامل مع مورد أعلاف مختلف، ففي حين يستخدم أحدهما الكثير من اللحوم والعظام المسحوقة في أعلافه يستخدم الآخر القليل. وفي يوليو (تموز) من عام ١٩٨٨، سُن قانون حظر إطعام المجترات. من الصعب تخيل كيف كان للخبراء أو المسئولين أن يتصرفوا على نحو أسرع من هذا، إلا إذا نظرنا إلى الأمر من منظور مستقبلي بالطبع. وبحلول أغسطس (آب) من عام ١٩٨٨ فُعّلت توصية لجنة ساوثوود بالقضاء على جميع الأبقار المصابة بجنون البقر وعدم السماح لها بدخول السلسلة الغذائية. كان ذلك هو وقت ارتكاب أول الأخطاء؛ المتمثل في قرار دفع خمسين بالمائة من قيمة الحيوان المصاب تعويضًا، وهو ما حفز المزارعين على تجاهل أعراض المرض، لكن حتى هذا الخطأ ربما لم يكن مكلفًا كما قد يفترض الناس؛ لأنه حين زيدت التعويضات لم يحدث ارتفاع حقيقي في عدد الحالات المبلغ عنها.

بدأ تفعيل حظر بقايا الأبقار، الذي يمنع دخول أمخاخ الأبقار البالغة إلى السلسلة الغذائية البشرية، بعد ذلك بعام، وامتد ليشمل العجول عام ١٩٩٠. كان بالإمكان عمل هذه الخطوة مبكرًا، لكن نظرًا لما كان معروفًا من صعوبة انتقال راعوش الخراف إلى نوع آخر إلا من خلال الحقن مباشرة داخل المخ، بدت هذه الخطوة في وقتها مبالغة في الحرص. ثبت بالدليل استحالة نقل أمراض البريونات البشرية إلى القرود من خلال الطعام، إلا إذا استخدمت جرعات هائلة، والقفزة من البقر إلى الإنسان أكبر بكثير من القفزة من الإنسان إلى القرد. (قُدر أن الحقن عبر المخ يعظم خطر الإصابة بنسبة مائة مليون ضعف مقارنة بالأكل.) كان الادعاء وقتها بأن لحوم الأبقار غير «آمنة» للتناول سيمثل قمة عدم المسئولية.

حسبما رأى العلماء، كان خطر انتقال العدوى بين الأنواع المختلفة من خلال الفم ضئيلًا لا يُذكر؛ حتى إنه من المحال تحقيق هذا الأمر في حالة واحدة في أي تجربة دون الحاجة إلى مئات الآلاف من حيوانات التجارب. لكن كانت هذه هي النقطة المهمة؛ إذ كانت التجربة قائمة بالفعل على خمسين مليونًا من حيوانات التجارب الذين يطلق عليهم الشعب البريطاني. ففي ظل هذه العينة الكبيرة، من الحتمي ظهور بعض حالات الإصابة. في رأي السياسيين كانت السلامة شيئًا مطلقًا، وليس نسبيًّا. إنهم لم يريدوا بضعة حالات إصابة بشرية، بل كانوا يريدون عدم وجود حالات إصابة بشرية من الأساس. إضافة إلى ذلك، أظهر مرض جنون البقر، مثل غيره من الأمراض البريونية، أنه قادر على مباغتتنا بمفاجآت غير متوقعة، فالقطط كانت تلتقط العدوى من اللحم نفسه ومسحوق العظام الذي كانت تتناوله الأبقار؛ إذ نفقت أكثر من سبعين قطة أليفة وثلاثة فهود شيتا وأسد أمريكي وفهد أسلوت ونمر؛ جراء الإصابة بجنون البقر. لكن لم تظهر أي حالات لجنون البقر بين الكلاب بعد. هل سيكون البشر محصنين من المرض مثل الكلاب أم عرضة للإصابة به مثل القطط؟

بحلول عام ١٩٩٢، حُلت مشكلة الأبقار بنجاح، مع أن ذروة الوباء كانت ستأتي مستقبلًا بسبب فترة الحضانة البالغة خمسة أعوام بين الإصابة وظهور الأعراض. والقليل للغاية من الأبقار المولودة بعد ١٩٩٢ التقطت أو ستلتقط مرض جنون البقر. ومع ذلك كانت الهستريا البشرية لا تزال في بداياتها. في ذلك الوقت بدأت القرارات التي يتخذها السياسيون تتسم بالطيش، فبفضل حظر استخدام بقايا الأبقار كان اللحم وقتها آمنًا تمامًا، أكثر مما كان الحال عليه طيلة عشرة أعوام ماضية، لكن في ذلك الوقت فقط بدأ الناس في مقاطعته.

في مارس (آذار) من عام ١٩٩٦، أعلنت الحكومة أن عشرة أشخاص ماتوا بسبب نوع من الأمراض البريونية يبدو على نحو مثير للشكوك أنه نُقل إليهم من لحوم الأبقار أثناء فترة الخطر؛ إذ كان المرض يشبه جنون البقر ولم يسبق رؤيته من قبل. باختصار، صار ذعر الجماهير — الذي تغذيه وسائل الإعلام المتحمسة — مفرطًا؛ إذ أُخذت التنبؤات الجامحة بوفاة الملايين في بريطانيا وحدها على محمل الجد، ونُسجت قصص حمقاء عن تحويل الماشية إلى كائنات تتغذى على أبناء جنسها كحجة للعودة إلى الزراعة العضوية، وكثرت نظريات المؤامرة أيضًا: أن المرض تسببت فيه مبيدات الآفات، وأن السياسيين يكممون أفواه العلماء كي لا يفشوا الحقيقة، وأن الحقائق الفعلية للمرض أُخفيت، وأن غياب السيطرة الحكومية عن صناعة الأعلاف هو ما تسبب في المشكلة، وأن فرنسا وأيرلندا وألمانيا وغيرها من الدول تخفي أخبارًا عن أوبئة بالحجم نفسه.

شعرت الحكومة بأنها ملزمة بالاستجابة لهذه الضغوط من خلال تشريع حظر جديد عديم الفائدة؛ حظر تناول لحم أي أبقار عمرها أكبر من ثلاثين شهرًا، وهو الحظر الذي أثار فزع العامة بقدر أكبر، وخرب صناعة بأكملها، وخنق النظامَ بالماشية المحكوم عليها بهذا المصير المشئوم. وفي وقت لاحق من هذا العام، بسبب إصرار السياسيين الأوروبيين، أمرت الحكومة ﺑ «الذبح الاحترازي» لمائة ألف رأس أخرى من الماشية، مع أنها كانت تعلم أن هذه اللفتة عديمة القيمة ومن شأنها استعداء المزارعين والمستهلكين بقدر أكبر. لم يعد الأمر أشبه بإغلاق باب الحظيرة فقط بعد إحكام ربط الحصان، بل صار أشبه بالتضحية بماعز خارج الحظيرة. وكما هو متوقع، لم يؤد ذلك الإجراء الجديد حتى إلى رفع الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي بدافع من المصلحة الشخصية على صادرات إنجلترا من لحوم البقر. أعقب هذا حظر آخر أسوأ على اللحوم المباعة مع العظام في عام ١٩٩٧. كان الكل متفقًا على أن خطر هذا النوع من اللحم ضئيل للغاية؛ إذ إنه من المرجح أن يؤدي إلى حالة واحدة من اعتلال الدماغ الإسفنجي البشري كل أربعة أعوام. كان منهج الحكومة في التعامل مع الخطر هو أن تحكم السيطرة على الأمور بنفسها، ولم تعد وزارة الزراعة مستعدة حتى لأن تترك للأفراد حرية اتخاذ القرار حيال خطر أقل في احتمالية وقوعه من خطر إصابة المرء بالبرق. وبتبني مثل هذا التوجه العبثي تجاه المخاطر، استثارت الحكومة — كما هو متوقع — سلوكيات أكثر خطورة من جانب رعاياها. في بعض الدوائر سادت روح العصيان المدني، حتى إنني وجدت يخنة ذيل الثور تقدم لي في وقت اقتراب هذا الحظر أكثر مما حدث في أي وقت مضى.

خلال عام ١٩٩٦، استجمعت بريطانيا قواها لمواجهة وباء من جنون البقر البشري. ومع هذا لم يمت ذلك العام منذ شهر مارس (آذار) إلا ستة أشخاص وحسب جراء المرض. وبدلًا من أن ترتفع أعداد المصابين بدت ثابتة أو في انخفاض. وأنا أكتب هذه الكلمات لا يزال من غير المعلوم كم عدد من سيموتون جراء اعتلال الدماغ الإسفنجي «الجديد». زاد العدد فعلًا عن أربعين حالة، وكل حالة منها كانت مأساة عائلية لا يمكن تخيلها، لكن لم يبلغ الأمر حد الوباء. في البداية بدا أن ضحايا هذا الاعتلال الدماغي الإسفنجي — بعد التحريات — من الأشخاص المتحمسين لتناول اللحوم إبان سنوات الخطر، مع أن واحدة من أوائل الحالات تحولت إلى النباتية قبل الموت بسنوات. لكن هذا ليس إلا وهمًا؛ فحين سأل العلماء أقارب أشخاص يشتبه في وفاتهم بسبب اعتلال الدماغ الإسفنجي (لكن اتضح بعد التشريح أنهم ماتوا بسبب شيء آخر) عن عاداتهم، وجدوا الانحياز نفسه لفكرة الإسراف في تناول اللحوم: فالذكريات تكشف عن نفسية الأقارب أكثر مما تكشف عن الحقيقة.

الشيء المشترك بين جميع الضحايا تقريبًا هو أنهم كانوا جميعًا ذوي نمط جيني متماثل الألائل؛ إذ يوجد المثيونين في «الكلمة» رقم ١٢٩. ربما يتضح أن الأشخاص ذوي النمط متنوع الألائل، أو ذوي النمط المتماثل الألائل الذين يملكون الفالين يتمتعون بفترة حضانة أطول، وكما رأينا فإن مرض جنون البقر المنقول إلى القرود عن طريق الحقن المخي له فترة حضانة أطول من أغلب الأمراض البريونية. من ناحية أخرى، وضعًا في الاعتبار أن أغلب حالات العدوى البشرية من اللحم البقري حدثت قبل نهاية عام ١٩٨٨، وأن فترة عشر سنوات تساوي فعلًا ضعف فترة الحضانة الطبيعية لهذا المرض في الماشية، ربما يكون الحاجز بين الأنواع بمثل الارتفاع الذي بدا لنا بالتجارب على الحيوانات وأننا شهدنا فعلًا أسوأ فترات الوباء. وربما أيضًا لا يكون لاعتلال الدماغ الإسفنجي الجديد أي علاقة بتناول اللحوم. يعتقد الكثيرون الآن أن فكرة أن اللقاحات البشرية وغيرها من المنتجات الطبية المصنوعة من منتجات اللحوم تمثل خطرًا أكبر بكثير ربما تعرضت للرفض المتسرع من قبل السلطات في أواخر الثمانينيات.

تسبب اعتلال الدماغ الإسفنجي في وفاة أشخاص نباتيين لم تُجر لهم أي جراحات ولم يغادروا بريطانيا مطلقًا ولم يسبق لهم العمل في مزرعة أو محل جزارة. آخر وأعظم ألغاز البريون هي أنه حتى اليوم — حين التُقطت كل أشكال اعتلال الدماغ الإسفنجي بواسطة شتى السبل، وفيها أكل لحوم البشر والجراحة والحقن بالهرمونات وربما تناول لحوم البقر — خمسة وثمانون بالمائة من حالات الإصابة باعتلال الدماغ الإسفنجي هي حالات «فردية» قليلة، بمعنى أنه لا يمكن في وقتنا الحالي تفسير الإصابة بها إلا بمحض الصدفة. هذا يسيء إلى مبادئ الحتمية الطبيعية التي نتبناها، والتي تقضي بأن لكل داء أسبابًا، لكننا لا نعيش في عالم من الحتمية الكاملة. وربما يقع اعتلال الدماغ الإسفنجي عشوائيًّا بمعدل حالة لكل مليون شخص.

أجبرتنا البريونات على التواضع حين واجهتنا بمقدار جهلنا، فنحن لم نشك في وجود شكل من التكاثر الذاتي الذي لا يستخدم الحمض النووي، ولا يستخدم في حقيقة الأمر المعلومات الرقمية على الإطلاق، كما لم نتخيل إمكانية ظهور مرض بمثل هذا القدر من الغموض من مثل هذه المناحي غير المحتملة وأن يكون على هذه الدرجة من الفتك، إلى جانب أننا ما زلنا عاجزين عن رؤية كيف يمكن لتغييرات في كيفية طي سلسلة من الببتيدات أن تُحدث مثل هذه التداعيات المعقدة. وكما كتب خبيران في البريونات فإنه:6 «من الممكن إرجاع مآسٍ شخصية وعائلية، وكوارث عرقية واقتصادية إلى ذلك الطي الخاطئ المؤذي لجزيء واحد صغير.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤