الكروموسوم ٢١: اليوجينيا

لا أعرف مستودعًا آمنًا لقوى المجتمع الأساسية سوى الناس أنفسهم، وإذا اعتقدنا أنهم غير متنورين بما يكفي ليمارسوا تلك السلطة بتعقل كامل، فلن يكون العلاج هو سلبهم إياها، بل توجيه تصرفاتهم.

توماس جيفرسون
الكروموسوم ٢١ هو أصغر الكروموسومات البشرية. كان من المفترض، نتيجة لذلك، أن يُطلق عليه الكروموسوم ٢٢، لكن الكروموسوم الذي يحمل هذا الاسم كان يُعتقد حتى وقت قريب أنه أصغر حجمًا، لذا ترسخ الاسم على هذا النحو. والكروموسوم ٢١، ربما لأنه أصغر الكروموسومات وأقلها احتواءً على الجينات على الأرجح، هو الوحيد الذي يمكنه أن يوجد بثلاث نسخ بدلًا من اثنتين في جسد الشخص الصحيح. ففي كل الحالات الأخرى يُخِلّ وجود نسخة إضافية من كروموسوم كامل بالجينوم البشري حتى إن الجسد لا يستطيع النمو على الإطلاق. في بعض الأحيان، يولد أطفال يحملون نسخة إضافية من الكروموسوم ١٣ أو ١٨، لكنهم لا يعيشون أكثر من أيام قلائل، بينما الأطفال المولودون بنسخة إضافية من الكروموسوم ٢١ يكونون أصحاء وسعداء ويعيشون سنوات عديدة، لكنهم لا يعتبرون — حسب ذلك الوصف الازدرائي — «طبيعيين»؛ ذلك لأنهم يعانون متلازمة داون. إن ملامحهم الجسمانية — القامة القصيرة والأجساد المكتنزة والعيون الضيقة والأوجه السعيدة — مألوفة للغاية، أيضًا من المعروف أنهم متخلفون عقليًّا وسهلو الانقياد ويهرمون بسرعة، وعادة يظهر لديهم أحد أشكال داء ألزهايمر، ويموتون قبل الوصول إلى سن الأربعين.1

عادة يولد الأطفال المصابون بمتلازمة داون لأمهات كبيرات في السن. إن احتمالية أن ترزق الأم بطفل مصاب بمتلازمة داون تزيد زيادة كبيرة مع تقدم سن الأم، وذلك من حالة واحدة في كل ٢٣٠٠ حالة والأم في سن العشرين إلى حالة في كل ١٠٠ وهي في سن الأربعين. ولهذا السبب وحده تستخدم الأمهات الفحص الجيني الذي يكون ضحاياه أساسًا الأجنة المصابين بهذه المتلازمة. وفي أغلب البلدان نجد أن فحص ماء السلى متاح، بل إجباري في حالة الأمهات كبيرات السن، للتأكد مما إذا كان الجنين يحمل هذا الكروموسوم الإضافي. وفي حالة ثبوت هذا الأمر يُعرض على الأم، أو تُقنع، بإجهاض الجنين. والسبب المزعوم وراء هذا أن أغلب الأشخاص لا يفضلون أن يكونوا آباءً لطفل مصاب بهذه المتلازمة، برغم السلوك المبهج لهؤلاء الأطفال. قد ترى هذا الأمر على أنه تجسيد لرحمة العلم، الذي يمنع بشكل إعجازي مولد هؤلاء الأشخاص المعاقين دون معاناة. لكن إن كنت تفكر على نحو مغاير فربما ترى في هذا تشجيعًا رسميًّا على قتل حياة بشرية لها قدسيتها تحت المسمى المريب تحسين السلالة البشرية، إلى جانب ما فيه من عدم احترام للإعاقة. وكما ترى، لا تزال اليوجينيا — علم تحسين النسل البشري — موجودة، بعد أكثر من خمسين عامًا من تشويه سمعتها بقبح فعل الممارسات النازية الوحشية.

هذا الفصل مخصص لعرض الجانب المظلم لتاريخ علم الوراثة؛ الشاة السوداء بعائلة الوراثة، أو القتل والتعقيم والإجهاض المرتكب باسم النقاء الجيني.

كان أبو اليوجينيا، فرانسيس جالتون، مختلفًا في نواح عديدة عن ابن عمه تشارلز داروين، فبينما كان داروين شخصًا منهجيًّا صبورًا خجولًا وتقليديًّا، كان جالتون مفكرًا هاويًا ذا حياة مضطربة من الناحيتين النفسية والجنسية، ورجلًا استعراضيًّا، لكنه كان عبقريًّا أيضًا. استكشف جالتون جنوب أفريقيا‏، ودرس التوائم وجمع الإحصائيات، وحلم باليوتوبيا أو المدينة الفاضلة. واليوم هو يضارع ابن عمه في الشهرة، مع كونها أشبه بالسمعة السيئة عن الشهرة الحسنة. لطالما كانت الداروينية في خطر التحول إلى عقيدة سياسية، وهو ما فعله جالتون. اعتنق الفيلسوف هربرت سبنسر بحماس فكرة البقاء للأصلح، قائلًا إنها تدعم مبادئ الاقتصاد الحر وتبرر تفرد المجتمع الفيكتوري؛ الداروينية الاجتماعية كما أطلق عليها. لكن نظرة جالتون كانت أكثر ابتذالًا، فإذا كانت الأنواع، كما زعم داروين، تغيرت بفعل التوالد الانتخابي المنهجي، مثل الماشية وحمام السباق، يمكن بالمثل استيلاد البشر بغرض تحسين نوعهم. بطريقة ما، كان جالتون يستند إلى عرف أكثر قدمًا من الداروينية وهو عملية استيلاد الماشية الذي ساد في القرن الثامن عشر، بل حتى العرف القديم المتمثل في استيلاد سلالات من التفاح والذرة. كانت دعوته هي: لنحسن أفراد نوعنا كما حسنا الأنواع الأخرى. لنسمح لأفضل عينات الجنس البشري بالتوالد، لا أسوئها. وفي عام ١٨٥٥ صك مصطلح «الاستيلاد اليوجيني» لوصف هذه العملية.

لكن من «نحن» تحديدًا؟ في عالم الفردية السبنسرية، كان هذا يعني كل فرد فينا؛ بحيث كانت اليوجينيا تعني سعي كل فرد لانتقاء شريك حياة جيد؛ شخص ذي جسد صحيح وعقل راجح. وكان الأمر يتجاوز بقليل الحرص على انتقاء شركاء الزواج، وهو ما كان موجودًا فعلًا، لكن في عالم جالتون صارت كلمة «نحن» تحمل معنى أكثر جمعية. كان أول أتباع جالتون وأعظمهم تأثيرًا هو كارل بيرسون — الاشتراكي اليوتوبي المتطرف والإحصائي البارع — وقد كان منبهرًا ومتخوفًا من القوة الاقتصادية المتنامية لألمانيا. حول بيرسون اليوجينيا إلى نوع من الغلو في الوطنية. ليس علينا تطبيق اليوجينيا على المستوى الفردي، بل على مستوى الأمة ككل؛ تستطيع بريطانيا الحفاظ على موقع الصدارة في هذا الصراع القاري، وهذا لا يكون إلا عن طريق الاستيلاد الانتقائي لمواطنيها. يجب أن يكون للدولة رأي فيمن يحق له الإنجاب ومن لا يحق له هذا. منذ بدايتها لم تكن اليوجينيا علمًا مسيسًا، بل عقيدة سياسية تتمسح في العلم.

بحلول عام ١٩٠٠، كانت اليوجينيا قد أسرت خيال العامة. وعلى حين غرة صار اسم «يوجين» شائعًا، وأصبح هناك انبهار شعبي بفكرة الاستيلاد المخطط، وأقيمت اجتماعات اليوجينيا في كل مكان من بريطانيا. كتب بيرسون إلى جالتون عام ١٩٠٧ يقول: «أسمع مديرات منازل أفراد الطبقة الوسطى الأكثر احترامًا يقلن حين يكون الأطفال ضعفاء: «آه، لم يكن هذا زواجًا يوجينيًّا!»» كما أثارت الحالة الرثة للمجندين في حرب البوير الجدل حول تحسين الاستيلاد مثلما أثارت الجدل حول تحقيق رفاهية أفضل.

وفي ألمانيا كان شيئًا مشابهًا يحدث؛ إذ بث مزيج من فلسفة البطل الخارق لفريدريك نيتشه وعقيدة المصير البيولوجي لإرنست هايكل روح الحماس في فكرة مجاراة التقدم التطوري للتقدم الاقتصادي والاجتماعي. كان ذلك الانجذاب السهل للفلسفة الفاشية يعني وقوع علوم البيولوجيا في ألمانيا في شرك النعرة الوطنية، أكثر حتى مما حدث في بريطانيا. لكن حتى تلك اللحظة ظل الأمر عقائديًّا بالدرجة الأكبر، وليس مطبقًا تطبيقًا عمليًّا.2
إلى هذا الحد لم يكن الأمر خطيرًا، بيد أنه سرعان ما تحول التركيز من تشجيع التناسل «اليوجيني» للأفضل إلى «منع» تناسل الأسوأ. وسرعان ما صار الأسوأ يعني «ضعاف العقل»، وهو التعبير الذي انسحب على كل من مدمني الكحوليات والمصابين بالصرع والمجرمين إلى جانب المتخلفين عقليًّا. صحَّ هذا الأمر على وجه الخصوص في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أقنع تشارلز دافنبورت، المعجب بأعمال جالتون وبيرسون، أندرو كارنيجي أن ينشئ له معمل كولد سبرينج هاربور عام ١٩٠٤ بغرض دراسة تحسين النسل. اهتم دافنبورت — ذو الفكر المحافظ المتشدد والطاقة العالية — بدرجة أكبر بفكرة منع تناسل الأسوأ عن فكرة تشجيع تناسل الأفضل. كان أسلوبه بسيطًا محددًا. فعلى سبيل المثال: كان يقول إنه بما أن المندلية أثبتت الطبيعة الجزيئية للوراثة، فإن فكرة النظر إلى أمريكا بوصفها «بوتقة» صارت ضربًا من الماضي، كما كان يرى أن العائلات التي يعمل أفرادها في البحرية يسري فيها جين حب البحار. لكن من الناحية السياسية، كان دافنبورت يتمتع بالمهارة والتأثير. وبمساعدة الكتاب الناجح لهنري جودارد عن عائلة كاليكاك — الوهمية على الأرجح — التي تعاني العجزَ العقلي واستُخدمت للبرهنة على أن ضعف العقل كان موروثًا، أقنع دافنبورت وحلفاؤه بالتدريج الرأيَ العام السياسي الأمريكي بأن خطر الانحطاط يحيق بعرقهم. قال تيودور روزفلت: «يومًا ما سندرك أن الواجب الأساسي، الواجب الذي لا مهرب منه، للمواطن الصالح من النوع السليم هو أن يترك خلفه دماءه في هذا العالم.» أما الأنواع الخاطئة فلا ينطبق عليها هذا.3

انبثق القدر الأعظم من حماس الأمريكيين لليوجينيا من مشاعر العداء للمهاجرين. ففي وقت تدافع موجات الهجرة من شرق وجنوب أوروبا، كان من السهل إذكاء خوف العامة من أن الجنس الأنجلو ساكسوني «الأفضل» سيقل تأثيرًا. وفر التحجج باليوجينيا غطاءً مناسبًا لمن كانوا يتمنون الحد من الهجرة لأسباب تقليدية عنصرية. كان تشريع القيد على الهجرة عام ١٩٢٤ هو النتيجة المباشرة للحملات المناصرة لليوجينيا. وعلى مدار العشرين عامًا التالية سلم العديد من المهاجرين الأوروبيين اليائسين إلى مصير أسوأ في بلادهم الأم بحرمانهم من اتخاذ الولايات المتحدة موطنًا لهم، وظل هذا التشريع دون تعديل طوال أربعين عامًا.

لم يكن الحد من الهجرة هو النجاح التشريعي الوحيد لليوجينيا؛ فبحلول عام ١٩١١ كانت ست ولايات قد أقرت فعلًا قوانين تسمح بالحرمان الإجباري من الإنجاب لغير اللائقين عقليًّا. وبعدها بست سنوات انضمت لها تسع ولايات أخرى. فإن كانت الدولة عاجزة عن سلب حياة المجرم، هكذا مضت الحجة، فبالتأكيد من حقها حرمانه من الإنجاب (كما لو أن الإعاقة العقلية مساوية للإجرام). «إنها ذروة الغباء … أن نتحدث في حالات كهذه عن الحرية الفردية، أو حقوق الأفراد. فمثل هؤلاء الأفراد … ليس لهم الحق في نشر نوعهم.» كان هذا ما كتبه طبيب أمريكي يدعى دابليو جيه روبنسون.

رفضت المحكمة العليا في البداية عدة قوانين للحرمان الإجباري من الإنجاب، لكن عام ١٩٢٧ غيرت توجهها. ففي قضية باك ضد بيل قضت المحكمة بأحقية ولاية فيرجينيا في حرمان كاري باك، الفتاة ذات السبعة عشر ربيعًا، المودعة بمصحة لمرضى الصرع وضعاف العقول في لينشبرج، حيث كانت تعيش برفقة والدتها إيما وابنتها فيفيان، من الإنجاب. وبعد فحص سريع قرر الأطباء أن فيفيان البالغة من العمر سبعة أشهر (!) كانت معتوهة، وأمروا بحرمان كاري من الإنجاب. أورد قاضي المحكمة العليا أوليفر وندل هولمز في حكمه العبارة الشهيرة: «يكفينا ثلاثة أجيال من المعاتيه.» ماتت فيفيان في سن مبكرة، لكن كاري عاشت إلى سن كبيرة، كامرأة محترمة ذات ذكاء متوسط تحل الكلمات المتقاطعة في أوقات فراغها. خضعت أختها، دوريس، هي الأخرى لعملية تجعلها عقيمًا، وبعدما حاولت على مدار سنوات أن تنجب أطفالًا، أدركت في نهاية المطاف ما جرى لها دون موافقة منها. استمرت ولاية فيرجينيا في عمليات تعقيم ذوي الإعاقات العقلية حتى سبعينيات القرن العشرين. وهكذا عقمت الولايات المتحدة، معقل الحريات الفردية، ما يربو على مائة ألف شخص من ضعاف العقول في حوالي ثلاثين من ولاياتها بموجب قوانين أقرت بهذا الأمر ما بين عامي ١٩١٠ و١٩٣٥.

لكن على الرغم من ريادة الولايات المتحدة في هذا المجال، فقد تبعتها دول أخرى؛ إذ عقمت السويد ستين ألفًا، وأجازت كندا والنرويج وفنلندا وإستونيا وأيسلندا قوانين بالتعقيم القصري واستخدمتها. بدأت ألمانيا، أسوءهم سمعة في هذا الصدد، بتعقيم أربعمائة ألف شخص، ثم قتلت أغلبهم. وخلال ثمانية عشر شهرًا أثناء الحرب العالمية الثانية، أُعدم سبعون ألفًا من الألمان المودعين بالمصحات العقلية بهدف إخلاء الأسرّة للجنود المصابين.

لكن تظل بريطانيا الوحيدة بين الدول الصناعية البروتستانتية التي لم تقر قانونًا يحض على اليوجينيا؛ بمعنى أنها لم تضع قانونًا يسمح للحكومة بالتدخل في حق الأفراد في التناسل. وعلى وجه الخصوص، لم يحدث أن صدر قانون بريطاني يمنع زواج من يعانون إعاقات عقلية، ولم يسبق أن صدر قانون بريطاني يقر بحق الدولة في التعقيم الإجباري لضعاف العقول. (لكن هذا لم يمنع وجود ممارسات فردية «مستقلة» للتعقيم من جانب الأطباء والمستشفيات.)

لم تكن بريطانيا هي الوحيدة؛ إذ لم تصدر أي قوانين يوجينية في الدول التي كان تأثير الكنيسة الرومانية الكاثوليكية فيها قويًّا. تجنبت هولندا إصدار مثل هذه القوانين. أما الاتحاد السوفييتي، المهتم بقمع النابغين وقتلهم أكثر من البلداء، فلم يقر أي قانون من هذا النوع رسميًّا. لكن بريطانيا تبرز فريدة، لأنها كانت مصدرًا لقدر كبير — القدر الأعظم في حقيقة الأمر — من العلوم والدعاية اليوجينية في الأربعين عامًا الأولى من القرن العشرين. وبدلًا من التساؤل عن كيف أقرت العديد من الدول مثل هذه الممارسات الوحشية، من المفيد أن نسأل السؤال بطريقة مغايرة بحيث يصير: كيف قاومت بريطانيا هذا الإغراء؟ لمن يرجع الفضل في هذا؟

لا يرجع الفضل في هذا إلى العلماء بطبيعة الحال. يحب العلماء أن يقولوا لأنفسهم اليوم إن اليوجينيا كان يُنظر إليها دومًا بوصفها «علمًا زائفًا» وأنها لم تلق قبول العلماء الحقيقيين، خاصة بعد إعادة اكتشاف المندلية (الأمر الذي كشف عن أن من يحملون الطفرات الصامتة أكثر بكثير من أصحاب الطفرات الظاهرة)، لكن لا يوجد أي شيء مكتوب يدعم هذا الزعم. لقد رحب أغلب العلماء فرحين بمعاملتهم بوصفهم خبراء في تلك التقنية الجديدة، وكانوا على الدوام يحثون الحكومات على اتخاذ إجراءات فورية. (في ألمانيا، انضم أكثر من نصف دارسي البيولوجيا الأكاديميين إلى الحزب النازي — وهي النسبة الأعلى من أي فئة مهنية أخرى — ولم ينتقد أحدهم الممارسات اليوجينية.)4

يعد سير رونالد فيشر مثالًا جيدًا على مناقشتنا الحالية (لاحظ أنه مع أن جالتون وبيرسون وفيشر من كبار الإحصائيين، لم يستنتج أحد أن هذا المجال خطير مثلما يفعل البعض مع علوم الجينات). كان فيشر مندليًّا مخلصًا، لكنه كان أيضًا نائب رئيس جمعية اليوجينيا. كان مهووسًا بما أطلق عليه «إعادة توزيع نسب المواليد» من الطبقات العليا إلى الدنيا؛ إذ كان معروفًا أن الفقراء كانوا يرزقون بأطفال أكثر من الأغنياء. حتى من انتقدوا اليوجينيا في مراحل تالية أمثال جوليان هكسلي وجيه بي هالدان كانوا يدعمون هذا التوجه قبل عام ١٩٢٠؛ إذ كانت القسوة والانحياز اللذان اتسمت بهما السياسات اليوجينية في الولايات المتحدة هي محل الانتقاد، وليس المبدأ ذاته.

لا يمكن للاشتراكيين أيضًا أن ينسبوا فضل وقف اليوجينيا لأنفسهم. فمع أن حزب العمل عارض اليوجينيا بحلول ثلاثينيات القرن العشرين، فإن الحركة الاشتراكية بصفة عامة كانت مصدرًا للذخيرة الفكرية الداعمة لليوجينيا قبل هذا الوقت. يجب على المرء أن ينقب بجد كي يعثر على اشتراكي بريطاني بارز في أول ثلاثين عامًا من القرن العشرين أظهر ولو حتى أبسط صور المعارضة للسياسات اليوجينية. في حين من اليسير جدًّا العثور على مقولات داعمة للفكر اليوجيني من أنصار الاشتراكية الفابية في ذلك الوقت؛ إذ نجد أن اتش جي ويلز وجيه إم كينز وجورج برنارد شو وهافيلوك إليس وهارولد لاسكي وسيدني وبياتريس ويب، جميعهم تحدثوا حديثًا يقشعر له البدن عن الحاجة الضرورية إلى وقف الأغبياء أو المعاقين عن التناسل. وكما ورد على لسان إحدى الشخصيات في مسرحية برنارد شو «الإنسان والسوبرمان»: «لأننا جبناء، نبطل عمل الانتخاب الطبيعي تحت غطاء من حب الإنسانية؛ ولأننا كسالى، نتغافل عن الانتخاب المتعمد تحت غطاء من الرقة والفضيلة.»

إن أعمال اتش جي ويلز على وجه الخصوص غنية بمثل هذه العبارات المعبرة على غرار: «الأطفال الذين يجلبهم الناس إلى هذا العالم لا يمكن بعد مولدهم أن يظلوا ملكية خالصة لآبائهم كما لا تكون كذلك جراثيم الأمراض التي ينشرونها أو الضوضاء التي يصنعها الشخص في شقته ذات السقف الرفيع.» أو «إن جحافل السود والسمر والصفر … يجب أن يختفوا.» أو «صار جليًّا أن فئات كاملة من الناس، إجمالًا سيكونون في مراتب متدنية مستقبلًا … ومنحهم المساواة يعني الانحطاط إلى مستواهم، وحمايتهم ورعايتهم تعنيان اجتياحهم لنا بفعل خصوبتهم.» كما أضاف — يطمئننا — أن «كل عمليات القتل هذه ستتم والضحايا مخدرون.» (لم يحدث ذلك.)5

كان الاشتراكيون، بإيمانهم بالتخطيط واستعدادهم لوضع الدولة في موضع السيطرة على الفرد، مستعدين دائمًا لنشر رسالة اليوجينيا. كان التناسل جاهزًا للتأميم هو الآخر. كان أصدقاء بيرسون في الجمعية الفابية هم أول من أضفوا على اليوجينيا الطابع الشعبي. كانت اليوجينيا هي الحَبّ لمطحنة اشتراكيتهم، نظرًا لأنها كانت فلسفة تقدمية تدعو لوجود دور للدولة.

وسرعان ما صار المحافظون والليبراليون متحمسين بالقدر نفسه. ترأس آرثر بلفور، رئيس الورزاء السابق، أول مؤتمر دولي لليوجينيا في لندن عام ١٩١٢ وكان من بين نواب الرئيس الراعين كل من رئيس المحكمة العليا ووينستون تشرشل. ووافق اتحاد أكسفورد على مبادئ اليوجينيا بنسبة تصويت بلغت اثنين إلى واحد عام ١٩١١. عبر تشرشل عن الأمر بقوله: «إن تضاعف أعداد ضعاف العقول» كان «خطرًا كبيرًا على هذا العرق.»

بطبيعة الحال، كانت هناك بعض الأصوات المعارضة، كما ظلت قلة من المفكرين على تشككها، من بينهم هيلاير بيلوك وجي كيه تشسترتون، الذي كتب: «إن دعاة اليوجينيا اكتشفوا كيف يجمعون قسوة القلب مع حماقة الفكر.» لكن من المؤكد أن أغلب البريطانيين كانوا مناصرين للقوانين اليوجينية.

لحظتان شارفت فيهما بريطانيا على إقرار قوانين يوجينية؛ في عام ١٩١٣ وعام ١٩٣٤. في الحالة الأولى، أُحبطت المحاولة على يد قلة من معارضين شجعان، غالبًا منفردين، اعتادوا السباحة ضد تيار الآراء السائدة. ففي عام ١٩٠٤ أنشأت الحكومة المفوضية الملكية برئاسة إيرل راندور لدراسة قضية «رعاية ضعاف العقول والسيطرة عليهم». وحين قدمت المفوضية تقريرها عام ١٩٠٨، كانت تتبنى نظرة وراثية قوية للعجز العقلي، وهو ما لم يكن مثيرًا للدهشة نظرًا لكون العديد من أعضائها من دعاة اليوجينيا الخالصين. وكما أوضح جيري أندرسون في أطروحة حديثة مقدمة بجامعة كامبريدج،6 تلت هذا فترة من حشد الدعم المستمر من جماعات الضغط في محاولة لإقناع الحكومة بالعمل. وتلقت وزارة الداخلية مئات الاقتراحات من مجالس المقاطعات والأقاليم ومن اللجان التعليمية تحض على تمرير مشروع قانون يحظر تناسل «غير اللائقين». بالمثل أمطرت جمعية التعليم اليوجينية حديثة العهد أعضاء البرلمان بالطلبات وأجرت اجتماعات مع وزير الشئون الداخلية لتأييد هذا المطلب.

مرت فترة من الوقت ولم يحدث شيء؛ إذ كان وزير الشئون الداخلية هربرت جلادستون، غير متعاطف مع القضية. لكن حين حل وينستون تشرشل محله عام ١٩١٠، صار لليوجينية على حين غرة مناصر متحمس على طاولة مجلس الوزراء. كان تشرشل في عام ١٩٠٩ قد وزع على المجلس خطبة لألفريد تريدجولد مناصرة لليوجينيا. وبعد تعيينه في منصب وزير الشئون الداخلية، كتب تشرشل في ديسمبر (كانون الأول) عام ١٩١٠ إلى رئيس الوزراء هربرت أسكويث داعيًا إلى وضع تشريع يوجيني عاجل، وختم بقوله: «أشعر أن المنبع الذي يتدفق منه تيار الجنون يجب أن يُقطع ويسد بإحكام قبل مرور عام آخر.» كان يريد من المرضى العقليين أن «تموت لعنتهم معهم». وفي حالة إن كان هناك أي شك فيما كان يعني، كتب ويلفريد سكاوين بلانت إن تشرشل كان يدعم فعلًا استخدام الأشعة السينية والعمليات الجراحية لإصابة غير اللائقين عقليًّا بالعقم.

منعت الأزمة الدستورية التي وقعت عامي ١٩١٠ و١٩١١ تشرشل من تقديم مشروع القانون، ونُقل إلى الأميرالية. لكن بحلول عام ١٩١٢، تعالى صخب دعاوى اليوجينيا مجددًا، وفي نهاية المطاف أجبر عضو حزب المحافظين ومجلس النواب جيرشون ستيوارت الحكومة على تبني مشروع القانون الذي أعده بخصوص هذا الأمر. وفي عام ١٩١٢ قبل وزير الشئون الداخلية الجديد، رينالد ماكينا، بتردد، مشروع القانون، قانون العجز العقلي. حظر هذا القانون تناسل ضعاف العقول، وكان يقضي بعقاب القائمين على تزويج من يعانون عجزًا عقليًّا. ولم يكن خافيًا أن القانون سيخضع للتعديل في أسرع وقت بحيث يسمح بالتعقيم الإجباري.

يستحق شخص واحد إفراده بالذكر هنا لتحمله وحده عبء معارضة مشروع هذا القانون؛ إنه عضو البرلمان المؤمن إلى أقصى الحدود بحرية الإرادة الذي يحمل الاسم الشهير جوسيا ويدجوود. كان سليل هذه العائلة الصناعية الشهيرة التي تزاوجت مرارًا مع عائلة داروين — كان لتشارلز داروين جد وحم وصهر (من كلا الجانبين) يحمل كل واحد منهم اسم جوسيا ويدجوود — ويعمل مهندسًا بحريًّا. وقد انتُخب للبرلمان مع الانتصار الساحق لليبراليين عام ١٩٠٦، لكنه انضم لاحقًا لحزب العمال ثم تقاعد من مجلس اللوردات في عام ١٩٤٢. (كان ابن داروين، ليونارد، يشغل وقتها منصب رئيس جمعية اليوجينيا.)

كان ويدجوود يكره اليوجينيا بشدة. وقد اتهم جمعية اليوجينيا بأنها تسعى «لاستيلاد الطبقة العاملة وكأنها ماشية»، وأكد على أن قوانين الوراثة «غير جازمة بالدرجة التي تسمح للفرد بالتعلق بأي عقيدة، ناهيك عن سن التشريعات وفقًا لها». لكن اعتراضه الأساسي كان قائمًا على أساس فكرة الحريات الفردية. لقد روعه مشروع القانون الذي يعطي الدولة حق أخذ الطفل من منزله بالقوة، ويلزم رجال الشرطة بالعمل بناء على بلاغات المواطنين التي تتهم أحدهم بأنه «ضعيف العقل». لم يكن دافعه هو العدالة الاجتماعية، بل الحرية الفردية، وقد سانده أعضاء حزب المحافظين من المؤمنين بحرية الإرادة أمثال لورد روبرت سيسيل. كانت قضيتهم المشتركة هي الفرد ضد الدولة.

كان أكثر بند يثير اعتراض ويدجوود هو ذاك الذي نص على أنه «من مصلحة المجتمع أن يُحرم [ضعاف العقول] من فرصة إنجاب أطفال.» كان هذا، وفق تعبير ويدجوود «أبغض شيء اقتُرح قاطبة»، بدلًا من «الاهتمام برعاية المواطنين وحماية الفرد من الدولة الذي كنا سنتوقعه من مثل هذه الإدارة الليبرالية».7

كان هجوم ويدجوود عنيفًا حتى إن الحكومة سحبت مشروع القانون وقدمته مرة ثانية العام التالي لكن بطريقة أكثر تخفيفًا. وكان أهم ما في الأمر هو أنها حذفت «أي إشارة لما قد يعد من الأفكار اليوجينية» (حسب تعبير ماكينا)، كما حُذفت البنود المُهِينَة الخاصة بتنظيم الزواج ومنع التناسل. ظل ويدجوود على معارضته للمشروع وعلى امتداد ليلتين — مزودًا بالطاقة من قطع الشيكولاتة — استمر في هجومه مطالبًا بأكثر من مائتي تعديل. لكن مع تناقص عدد داعميه إلى أربعة أعضاء وحسب استسلم ومُرِّرَ المشروع ليصير قانونًا.

ربما رأى ويدجوود أن هذا فشل. كان الإيداع الإجباري لذوي الأمراض العقلية بالمصحات صار فعلًا ملمحًا أساسيًّا للحياة البريطانية، وهذا صعّب فعلًا من إمكانية تناسلهم. لكنه في الحقيقة لم يمنع من تبني إجراءات يوجينية وحسب، بل بعث برسالة تحذير لأي حكومة مستقبلية مفادها أن أي تشريع يوجيني قد يثير الكثير من الجدل. إضافة إلى ذلك، فقد أوضح العيب الأساسي في المشروع اليوجيني بأكمله؛ ليس أنه قائم على علم زائف، ولا أنه غير ممكن التطبيق من الناحية العملية، بل إنه بالأساس ظالم وقاسٍ لأنه يتطلب إطلاق يد الدولة على حساب حقوق الأفراد.

وفي أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، مع تزايد البطالة إبان فترة الكساد، شهدت اليوجينيا انتعاشة جديدة ملحوظة. ففي بريطانيا وصل عدد المنتسبين إلى الجمعيات اليوجينية إلى مستويات قياسية؛ إذ بدأ الناس — على نحو عبثي — في إلقاء مسئولية البطالة والفقر على الانحطاط العرقي الذي تنبأ به أوائل دعاة اليوجينيا. في ذلك الوقت، كانت أغلب الدول قد أقرت قوانين يوجينية، كما في حالة السويد التي أقرت قانون التعقيم الإجباري عام ١٩٣٤، وكذلك حدث في ألمانيا.

كانت الضغوط الداعية إلى إصدار قانون بريطاني للتعقيم تتزايد مجددًا، مدعومة بتقرير حكومي عن العجز العقلي يُعرف باسم تقرير وود، الذي خلص إلى أن المشكلات العقلية كانت في تزايد وأن هذا كان راجعًا في جزء منه إلى الخصوبة العالية للمصابين بالعجز العقلي (كانت هذه هي اللجنة التي حددت بوضوح ثلاث فئات للعجز العقلي: الأغبياء والمعاتيه وضعاف العقول). لكن حين رُفض مشروع قانون يوجيني مقدم فرديًّا من أحد البرلمانيين عن حزب العمل إلى مجلس العموم، غيرت جماعة الضغط اليوجينية اتجاهها وتحولت إلى الخدمة العامة. أُقنعت وزارة الصحة بإنشاء لجنة برئاسة سير لورانس بروك لدراسة قضية تعقيم غير اللائقين عقليًّا.

كانت لجنة بروك، على الرغم من أصولها البيروقراطية، منحازة منذ البداية؛ فأغلب أعضائها كانوا — وفق أحد المؤرخين المعاصرين — «غير مدفوعين بالرغبة في تقصي الأدلة المتعارضة غير الحاسمة بحيادية». قبلت اللجنة وجهة النظر الوراثية للمرض العقلي، وتجاهلت الأدلة المعارضة، و«كدست» (حسب تعبيرها) الأدلة المؤيدة لها. كذلك، قبلت اللجنة فكرة التكاثر السريع للطبقات المتدنية عقليًّا، مع عدم وجود أدلة جازمة عليها، وتسترت على مشكلة الحصول على موافقة ذوي العجز العقلي. فضحت مقولة مأخوذة من أحد الكتب عن البيولوجيا عام ١٩٣١ اللعبة: «أغلب أفراد هذه النوعيات المتدنية يمكن رشوتهم أو حتى إقناعهم بقبول التعقيم الطوعي.»8
كان تقرير لجنة بروك دعاية خالصة لهذه الفكرة، متنكرة في ثوب التقييم الخبير غير المنحاز. وكما اتضح لنا حديثًا فإن الطريقة التي اختلقت بها أزمة مفتعلة، وحصلت على تصديق جماعي من «الخبراء»، وطالبت بإجراء فوري، كانت الطريقة نفسها التي تعامل بها أعضاء الحكومات العالمية بعد ذلك بوقت طويل مع مشكلة الاحترار العالمي.9
كان من المفترض أن يفضي هذا التقرير إلى مشروع قانون للتعقيم، لكنه لم يظهر للنور بعد ذلك قط. كان السبب هذه المرة لا يتعلق بمعارض له عزم مثل ويدجوود، بل بتغير مناخ الرأي السائد في المجتمع. غير أغلب العلماء رأيهم، وأبرزهم جيه بي إس هالدان، بقدر جزئي بسبب التأثير المتزايد للتفسيرات البيئية للطبيعة البشرية التي روج لها علماء مثل مارجريت ميد وأتباع المدرسة السلوكية في علم النفس. كان حزب العمل يعارض اليوجينيا معارضة شديدة الآن؛ إذ بات يراها نوعًا من الحرب على الطبقة العاملة. وكان لمعارضة الكنيسة الكاثوليكية بعض التأثير في عدد من الأوساط.10
المثير للدهشة هو عدم وصول تقارير عما كان يعنيه التعقيم الإجباري في ألمانيا حتى عام ١٩٣٨. اتسمت لجنة بروك بعدم الحصافة حتى إنها امتدحت قانون التعقيم الذي أقرته السلطات النازية، والذي بدأ تطبيقه في يناير (كانون الثاني) عام ١٩٣٤. صار واضحًا وقتها أن هذا القانون كان خرقًا لا يمكن مغفرته للحرية الشخصية ومبررًا للاضطهاد. وفي بريطانيا ساد التعقل والحكمة.11

يقودني هذا التاريخ المختصر لليوجينيا إلى استنتاج واحد مؤكد؛ أن مكمن الخطأ في اليوجينيا لم يكن العلم نفسه، بل فكرة القسر؛ فاليوجينيا لا تختلف عن أي برنامج آخر يقدم مصلحة المجتمع على حقوق الأفراد، وهي جريمة إنسانية، وليست علمية. ما من شك في أن الاستيلاد اليوجيني كان «سينجح» مع البشر، مثلما نجح مع الكلاب والماشية. كان من الممكن تقليل عدد حالات الإصابة بالأمراض العقلية وتحسين صحة السكان عن طريق الاستيلاد الانتقائي، لكن لا شك أيضًا في أن هذا يمكن عمله ببطء شديد وبتكلفة باهظة من القسوة والظلم والقمع. قال كارل بيرسون ذات مرة ردًّا على ويدجوود: «لا صواب إلا ما يفيد المجتمع، ولا تعريف للصواب بعد هذا.» وينبغي أن تكون هذه العبارة البغيضة هي النقش المحفور على مقبرة اليوجينيا.

ومع هذا، حين نقرأ في الجرائد عن جينات الذكاء، وعلاج خلايا التكاثر، وفحص الأجنة واختيارها، لا يمكننا إلا أن نشعر في أعماقنا بأن اليوجينيا لم تمت حقًّا. وكما ذكرت في الفصل الخاص بالكروموسوم ٦ فإن قناعة جالتون بأن القسم الأعظم من الطبيعة البشرية وراثي عاودت الظهور مجددًا، هذه المرة مدعومة بأدلة تجريبية أفضل، وإن كانت غير حاسمة. وعلى نحو متزايد، في وقتنا الحاضر، يسمح الفحص الجيني للآباء باختيار جينات أبنائهم. يطلق الفيلسوف فيليب كيتشر على هذا النوع من الفحوص اسم «اليوجينيا الحرة»: «كل شخص مسموح له بأن يمارس اليوجينيا، مستغلًّا الفحوص الجينية المتاحة، بحيث يتخذ القرارات التناسلية التي يراها صحيحة.»12

من هذا المنظور فإن اليوجينيا تحدث كل يوم في المستشفيات في جميع أنحاء العالم، وفي المعتاد يكون أغلب ضحاياها هم الأجنة الحاملة لنسخة إضافية من الكروموسوم ٢١، الذين لو ولدوا فسيكونون مصابين بمتلازمة داون. في أغلب الحالات، لو أنهم ولدوا، فإنهم سيعيشون حياة قصيرة سعيدة في أغلبها، إذ إن هذه هي طبيعة شخصياتهم. وفي معظم الحالات، لو أنهم ولدوا، فسيلقون كل الحب من الآباء والإخوة، لكن من وجهة نظر الجنين التابع الذي لا يحس بشيء، فإن عدم المولد لا يساوي بالضرورة التعرض للقتل. لقد عدنا — باختصار — إلى مناقشة الإجهاض، وهل يحق للأم أن «تجهض» جنينها، أو هل يحق للدولة أن تمنعها، وهو النقاش المحتدم منذ زمن. تعطي المعارف الجينية للأم المزيد من الأسباب للرغبة في إجهاض الجنين، وقد لا تكون إمكانية الاختيار بين أجنة متعددة من أجل اختيار من يتمتع بقدرات خاصة، في مقابل نقص القدرات، أمرًا بعيدًا. فإساءة استغلال فحص مياه الجنين وما يترتب عليه من اختيار الذكور وإجهاض الإناث أمر شائع في شبه القارة الهندية على وجه الخصوص.

هل رفضنا اليوجينيا الحكومية فقط كي نقع في شرك السماح باليوجينيا الفردية؟ قد يقع الآباء تحت أنواع الضغوط كافة كي يتبنوا اليوجينيا الطوعية، من قبل الأطباء وشركات التأمين الطبي والثقافة السائدة. هناك العديد من الروايات تعود إلى سبعينيات القرن العشرين عن نساء أقنعهن الأطباء بطريق التحايل بجعل أنفسهن عقيمات لأنهن يحملن جينًا يسبب مرضًا وراثيًّا. ومع هذا، لو منعت الحكومات الفحوص الجينية استنادًا إلى احتمال إساءة استخدامها فستخاطر بزيادة كم المعاناة في العالم، وسيكون من القسوة تجريم الفحوص الجينية مثلما هو من القسوة جعلها إلزامية. إنه قرار الأفراد، ولا يمكن تركه في يد السلطات. يؤكد كيتشر على هذه الفكرة بقوله: «أما بخصوص السمات التي يحاول الناس تعزيزها أو تجنبها، فأمرها راجع إليهم وحدهم.» وهذا هو رأي جيمس واطسون أيضًا إذ يقول: «هذه الأمور لا يجب أن تكون في أيدي من يظنون أنهم يعرفون المصلحة العامة … إنني أحاول وضع القرارات الجينية في أيدي المتأثرين بها، وهؤلاء ليسوا الحكومات.»13
مع أنه لا تزال هناك فئة هامشية من العلماء القلقين بخصوص تدهور الأعراق والشعوب،14 فإن أغلب العلماء الآن يدركون أن رفاهية الفرد يجب أن تكون لها الأولوية على رفاهية الجماعات. هناك اختلاف شاسع بين الفحص الجيني وما كان دعاة اليوجينيا يريدونه في أوجها، وهذا الاختلاف يتلخص فيما يأتي: الفحص الجيني معنيّ بمنح الأفراد خيارات خاصة وفق معايير خاصة، أما اليوجينيا فكانت تنادي بتأميم هذه الأفكار بحيث لا يتناسل الناس بما في مصلحة أنفسهم، بل بما في مصلحة الدولة. هذا هو الفارق المتغاضى عنه دومًا في محاولتنا المتعجلة لتحديد ما يجب «لنا» أن نسمح به في العالم الجيني الجديد. ماذا نعني ﺑ «نحن» تحديدًا؟ نحن بوصفنا أفرادًا، أم نحن بوصفنا مصلحة عامة للدولة أو العرق؟
لنقارن بين مثالين معاصرين على «اليوجينيا» كما طُبقا فعلًا: في الولايات المتحدة، كما ناقشت في الفصل الخاص بالكروموسوم ١٣، تفحص لجنة الوقاية من الأمراض اليهودية الوراثية دماء أطفال المدارس وتنصح بتجنب الزواج إن كان دم الزوجين يحمل النسخة المسببة للمرض من جين معين. هذه سياسة تطوعية بالكامل. ومع أنها تعرضت لانتقاد بوصفها سياسة يوجينية، فإنه لا يوجد أي قسر فيها على الإطلاق.15
المثال الثاني يأتينا من الصين، حيث تواصل الحكومة سياسة التعقيم والإجهاض على أسس يوجينية. جادل تشين مينج زانج، وزير الصحة العامة، مؤخرًا بأن المواليد ذوي النوعية المتدنية يشيعون شيوعًا خطيرًا بين «القاعدة الثورية العتيقة، والأقليات العرقية والحدود والمناطق الفقيرة اقتصاديًّا». وبموجب قانون رعاية صحة الأم والطفل، الذي بدأ سريانه عام ١٩٩٤ وحسب، فإن الفحوصات السابقة على الزواج إلزامية، ويخول القانون للأطباء، وليس الآباء، اتخاذ قرار الإجهاض. تسعون بالمائة تقريبًا من علماء الجينات الصينيين يوافقون على هذا في مقابل خمسة بالمائة من نظرائهم الأمريكيين. وعلى العكس فإن خمسة وثمانين بالمائة من علماء الجينات الأمريكيين يرون أن قرار الإجهاض ينبغي أن يكون في يد النساء، مقارنة بأربعة وأربعين بالمائة من الصينيين. وكما عبر شين ماو، الذي أجرى الجزء الخاص بالصين من هذا التصويت، عن الأمر، معيدًا كلمات كارل بيرسون إلى الأذهان فإن: «الثقافة الصينية مختلفة اختلافًا كبيرًا، وتتركز الأمور حول ما في مصلحة المجتمع، وليس ما في مصلحة الأفراد.»16

إن العديد من الروايات الحديثة لتاريخ اليوجينيا تقدمها بوصفها مثالًا على مخاطر السماح للعلم — وعلم الجينات تحديدًا — بالخروج عن السيطرة. لكنها في الحقيقة مثال أوضح على مخاطر السماح للحكومات بالخروج عن السيطرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤