الكروموسوم ٣: التاريخ

لقد اكتشفنا سر الحياة.

فرانسيس كريك، ٢٨ فبراير (شباط) ١٩٥٣
على الرغم من أن أرشيبالد جارود لم يتجاوز من العمر خمسة وأربعين عامًا في عام ١٩٠٢، فقد كان حقًّا أحد أعمدة المؤسسة الطبية الإنجليزية. كان ابنًا لأستاذ جامعي حاصل على وسام فارس هو سير ألفريد جارود الشهير، الذي عُدَّت أبحاثه عن أهم الأمراض التي تصيب أبناء الطبقة الراقية — مرض النقرس — انتصارًا للأبحاث الطبية. وقد حقق حياة مهنية مميزة في غير عناء؛ إذ إنه بعد وقت قصير من حصوله الحتمي على لقب فارس (لعمله الطبي في مالطا إبان الحرب العالمية الأولى) حصل على واحدة من أرفع الجوائز قاطبة؛ كرسي الأستاذية الملكية بكلية الطب جامعة أكسفورد خلفًا للعظيم سير ويليام أوسلر.1

أراهن أنك قادر على تخيل هيئته، أليس كذلك؟ ذلك النمط الإدواردي الفظ المولع بالرسميات الذي يقف في طريق التقدم العلمي، ذو الياقة المتصلبة، والشفاه المتصلبة، والعقل المتصلب. لكنك ستكون مخطئًا في هذا الظن. ففي ذلك العام، عام ١٩٠٢، خاطر أرشيبالد جارود بفرضية ستكشف أنه رجل سابق لعصره، وشخص وضع إصبعه دون أن يعي على إجابة أعظم الألغاز البيولوجية على مر العصور؛ ما الجين؟ وقد كان فهمه للجين على درجة فائقة من البراعة حتى إنه سيمر وقت طويل عقب وفاته قبل أن يصل أحد إلى النقطة التي توصل هو إليها، وهي أن الجين هو وصفة لمادة كيميائية وحيدة. والأدهى من ذلك أنه ظن أنه عثر على واحد.

إبان عمله في مستشفى القديس بارثولوميو ومستشفى شارع أورموند العظيم في لندن، قابل جارود عددًا من المصابين بمرض نادر، وإن كان غير خطير، يعرف باسم مرض الكابتونيوريا أو البول الأسود. من بين الأعراض العديدة غير المريحة مثل التهاب المفاصل كان بول المصابين بهذا المرض وشمع آذانهم يتحولان إلى اللون الأحمر أو الأسود عند التعرض للهواء، وذلك بناءً على ما كان المريض يتناوله. في عام ١٩٠١، رُزق والد أحد الصبية المصابين بهذا المرض بمولود خامس مصاب هو الآخر بالمرض نفسه. جعل هذا الأمر جارود يفكر هل كانت المشكلة يجري توارثها داخل العائلات المصابة. لقد لاحظ أن والدَيِ الطفلين كانا أبناء عمومة من الدرجة الأولى. لذا عاد إلى الحالات الأخرى وأعاد فحصها ليجد أن ثلاثًا من أربع أسر تكونت من زواج أبناء عمومة من الدرجة الأولى، وأنه من بين سبع عشرة حالة عرضت عليه كان ثمانٍ منها أبناء عمومة من الدرجة الثانية. إلا أن هذا المرض لم يكن ينتقل ببساطة من الأب إلى الابن؛ فأغلب المصابين كان لهم أبناء طبيعيون، لكن كان المرض يظهر مجددًا لدى أحفادهم. لحسن الحظ كان جارود مطلعًا على أحدث الاكتشافات البيولوجية. وكان صديقه ويليام باتسون أحد الذين أثار حماسهم إعادة اكتشاف تجارب جريجور مندل منذ عامين فقط، وكان يكتب مجلدات كبيرة من أجل التعريف والدفاع عن الفكر المندلي الجديد، لذا عرف جارود أنه كان يتعامل مع صفة مندلية متنحية؛ أي صفة يمكن لأحد الأجيال أن يحملها لكنها لا تظهر لدى الشخص إلا إذا توارثها من كلا الوالدين. بل إنه استخدم حتى ألفاظ مندل الخاصة بعلم النبات لوصف هؤلاء الأشخاص، إذ أطلق عليهم «انحرافات كيميائية».

أعطى هذا جارود فكرة، وهي أنه يحتمل أن يكون سبب ظهور هذا المرض فقط لدى من يرثونه من كلا الأبوين هو غياب عامل معين. وبفضل تمكن جارود، ليس في علم الوراثة فقط، بل أيضًا في الكيمياء، عرف أن اسوداد البول وشمع الأذن كان ناتجًا عن تراكم مادة تدعى الهوموجينتيزات. قد تُنْتَج هذه المادة طبيعيًّا بفعل كيمياء الجسم، لكنها لدى أغلب الناس تتكسر وتُخْرَج من الجسم. افترض جارود أن سبب تراكم هذه المادة هو أن المادة المحفزة التي من المفترض أن تكسرها لم تكن تعمل. وقد اعتقد أن هذه المادة المحفزة هي إنزيم مُصنع من بروتين، وهو بالتأكيد النتاج الوحيد لأحد العوامل المتوارثة (أو الجين كما نطلق عليه الآن). لدى المرضى كان الجين ينتج إنزيمًا معيبًا، ولم يكن هذا بالأمر المهم عند حاملي المرض غير المصابين به لأنهم كانوا يستعيضون بالجين الموروث من الوالد الآخر.

وهكذا ولدت فرضية جارود الجريئة التي تناقش «الأخطاء الخِلقية للأيض»، والتي قامت على افتراض واسع الأثر مفاده أن الجينات مسئولة عن إنتاج المحفزات الكيميائية، وأن كل جين ينتج محفِّزًا كيميائيًّا واحدًا متخصصًا. ومن المرجح أن هذه كانت فعلًا ماهية الجينات؛ أدوات لتصنيع البروتينات. وكتب جارود: «إن الأخطاء الخِلقية للأيض تحدث نتيجة فشل خطوة من خطوات تتابع الأيض، وذلك بسبب فقدان أحد الإنزيمات أو قصوره.» وبما أن الإنزيمات مكونة من البروتين فلا بد أنها «مكمن التفرد الكيميائي». لقي كتاب جارود، المنشور عام ١٩٠٩، نقدًا إيجابيًّا واسعًا، لكن قراءه غفلوا تمامًا عن النقطة المحورية التي يقوم عليها؛ إذ اعتقدوا أنه يتحدث عن الأمراض النادرة، لا عن شيء أساسي لكل أشكال الحياة. وهكذا ظلت نظرية جارود مهملة خمسة وثلاثين عامًا، إلى أن أُعيد اكتشافها من جديد، لكن بحلول ذلك الوقت كان علم الوراثة يشهد أفكارًا ثورية جديدة، وكان جارود قد توفي منذ ما يربو على العقد.2

نحن نعرف الآن أن الغرض الأساسي من الجينات هو تخزين الوصفات الخاصة بتصنيع البروتينات. إن البروتينات هي التي تقوم بأي عمل كيميائي وبنيوي وتنظيمي في الجسم؛ إذ إنها تولد الطاقة وتكافح العدوى وتهضم الطعام وتكوّن الشعر وتحمل الأكسجين وغيرها من الأمور. وكل بروتين في الجسد مصنوع من أحد الجينات من خلال عملية ترجمة شفرته الوراثية. بيد أن العكس لا يصح بالضرورة، فهناك جينات لا تتم ترجمتها مطلقًا إلى بروتينات، مثل جين الرنا الريبوسومي الموجود في الكروموسوم ١، لكن حتى هذا الجين يشترك في عملية تصنيع بروتينات أخرى. إن فرضية جارود صحيحة في أساسها؛ فنحن نرث من آبائنا قوائم هائلة من الوصفات الخاصة بتصنيع البروتينات، وتصنيع الآلات المصنعة للبروتينات، إلى جانب قليل من الأشياء الأخرى.

قد لا يكون معاصرو جارود تفهموا فكرته، لكنهم على الأقل قدروه حق قدره، لكن لا يمكن قول الشيء نفسه عن الرجل الذي استند جارود إلى أعماله؛ جريجور مندل. لقد جاء مندل من خلفية مختلفة أشد الاختلاف عن خلفية جارود. ولد مندل — الذي عُمِّدَ باسم يوهان مندل — في قرية هينزندورف الصغيرة (المسماة الآن هينتشيك) بشمالي مورافيا عام ١٨٢٢. كان والده، أنطون، مستأجر أراضٍ وكان يدفع الإيجار من خلال العمل لمصلحة صاحب الأرض، إلا أن صحته وحيويته تأثرتا تأثرًا بالغًا جراء سقوط إحدى الأشجار عليه، عندئذ كان يوهان في السادسة عشرة من العمر ويبلي بلاءً حسنًا في المدرسة الثانوية في تروباو. باع أنطون حق الانتفاع بالمزرعة لزوج ابنته حتى يتمكن من دفع تكاليف دراسة ولده في المدرسة ثم في الجامعة في أولموتس، لكن كان الأمر عسيرًا، واحتاج يوهان إلى راعٍ أكثر ثراء، لذا صار راهبًا واتخذ من الأخ جريجور اسمًا له. درس في كلية اللاهوت في برون (برنو الآن) ثم تخرج قسيسًا. عمل فترة كاهن أبرشية لكنه لم يبل بلاءً حسنًا. ثم حاول أن يكون مدرسًا للعلوم بعد الدراسة في جامعة فيينا، بيد أنه رسب في الاختبار.

هكذا عاد إلى برون نَكِرَةً يبلغ من العمر واحدًا وثلاثين عامًا، لا يناسبه شيء سوى العمل في الدير. كان يجيد الرياضيات ولعب الشطرنج، ويجيد التعامل مع الأرقام، إلى جانب شخصيته المشرقة، وكان بستانيًّا شغوفًا أيضًا، وقد تعلم من والده كيف يطعّم أشجار الفاكهة ويستنبتها. وفي هذا الموطن، في معرفته الشعبية بالثقافة الريفية، تكمن جذور أفكاره المستنيرة. كان مربو الماشية وزارعو التفاح يملكون معرفة مبهمة بمبادئ الوراثة الجزيئية، لكن لم يكن أحد يتعامل معها تعاملًا منهجيًّا. كتب مندل: «لم تُجر أي [تجارب] بالقدر الكافي أو بالطريقة التي تمكن من تحديد عدد الأشكال المختلفة تحديدًا مؤكدًا وفقًا لأجيالها المنفصلة، أو لتأسيس علاقاتها الإحصائية تأسيسًا قطعيًّا.» يمكنك أن تسمع الجمهور وقد غط في النوم بالفعل.

لذا بدأ الأب مندل، وهو في الرابعة والثلاثين، في سلسلة من التجارب على البازلاء في حدائق الدير استمرت ثماني سنوات، وتضمنت زراعة أكثر من ٣٠٠٠٠ نبات مختلف، ٦٠٠٠ منها في عام ١٨٦٠ وحده، وقد غيرت العالم في نهاية المطاف إلى الأبد. بعد ذلك أدرك ما كان يفعله، ونشره بوضوح في دورية أعمال جمعية دراسة العلوم الطبيعية في برون، وهي دورية كانت تجد طريقها إلى كل المكتبات الكبرى. إلا أن التقدير لم يأت قط، وفقد مندل تدريجيًّا اهتمامه بالحدائق مع ترقيه إلى منصب رئيس دير برون، وهو ذلك الراهب الودود المنشغل غير شديد الورع (فهو يذكر الطعام الجيد في كتاباته أكثر مما يذكر الله). وقد انشغل في سنوات حياته الأخيرة بالكفاح وحيدًا في حملة مريرة ضد الضريبة الجديدة التي فرضتها الحكومة على الأديرة، وقد كان مندل آخر رئيس دير دفعها. وربما ظن في شيخوخته أن أكثر إنجازاته شهرة هو أنه جعل ليوس جاناتشيك، الصبي الموهوب البالغ من العمر تسعة عشر عامًا في مدرسة الجوقة، رئيسًا لجوقة برون.

في حديقة الدير كان مندل يهجِّن السلالات؛ حيث هجَّنَ سلالات متنوعة من نبات البازلاء، لكنه لم يكن بستانيًّا هاويًا فقط يتظاهر بالعمل على أساس علمي، بل كان يجري تجارب ضخمة منهجية مدروسة ومحكمة. اختار مندل سبعة أزواج من أنواع متباينة من البازلاء كي يزاوج بينها، فهجن البازلاء ذات البذور المستديرة مع ذات البذور المجعدة، وذات الأوراق الصفراء مع ذات الأوراق الخضراء، وذات القرنات المنتفخة مع ذات القرنات المجعدة، وذات البذور رمادية القشور مع ذات البذور بيضاء القشور، وذات القرنات غير الناضجة الصفراء مع ذات القرنات غير الناضجة الخضراء، وتلك التي تنمو الأزهار في محاورها مع تلك التي تنمو الأزهار في أطرافها، وذات السيقان الطويلة مع ذات السيقان القصيرة. ولا علم لنا بما حاول عمله أكثر من هذا؛ إذ إن كل عمليات التزاوج هذه ليست حقيقية وحسب، بل تحدث نتيجة جينات منفردة، لذا من المؤكد أنه اختارها وهو يعلم فعلًا من واقع عمله المبدئي أي النتائج يمكن توقعها. وفي كل حالة كان الهجين الناتج مماثلًا لأحد الأبوين تمامًا. أما جوهر الأب الآخر فيبدو وكأنه اختفى، لكنه لم يختف، حيث سمح مندل لكل هجين بأن يلقح ذاته، وهنا عاد جوهر الجد المختفي للظهور كما هو في حوالي ربع عدد الحالات. لقد عد النباتات جميعًا؛ ١٩٩٥٩ نباتًا في الجيل الثاني، ظهرت الصفات السائدة في ١٤٩٤٩ نباتًا وظهرت الصفات المتنحية في ٥٠١٠، بنسبة ٢٫٩٨ إلى ١. وكما أوضح سير رونالد فيشر فقد كانت النسبة قريبة من الواحد إلى ثلاثة قربًا يثير الريبة. لقد كان مندل، كما تذكر، يجيد الرياضيات، وكان يعرف حتى قبل أن تنتهي تجاربه المعادلة التي تسير وفقها نباتات البازلاء التي يزرعها.3
وفي شغف عظيم تحول مندل من البازلاء إلى زهور الفوشيا والذرة وغيرها من النباتات. وبالفعل وجد النتائج نفسها. كان يعلم أنه اكتشف حقيقة مهمة من حقائق الوراثة، وهي أن الصفات لا تمتزج. يوجد شيء جامد، غير قابل للتقسيم، جسيم محدد الكم يقع في قلب عملية الوراثة. لا يوجد امتزاج للسوائل، ولا اختلاط للدماء، بل بدلًا من هذا يوجد اتحاد وقتي لعدد كبير من الجزيئات الصغيرة. من منظورنا الحالي يعد هذا الأمر بديهيًّا. كيف إذن يمكن تفسير وجود شقيقين في الأسرة نفسها، أحدهما بعيون زرقاء والثاني بعيون بنية؟ حتى داروين نفسه، الذي بنى نظريته على فكرة وراثة الامتزاج، أشار إلى هذه المشكلة عدة مرات، فقد كتب إلى هكسلي عام ١٨٥٧ يقول: «لقد وجدت نفسي ميالًا إلى التخمين، على نحو مبدئي مبهم، أن التناسل بالتخصيب سيتضح أنه نوع من الاختلاط، لا الاندماج، بين فردين متمايزين … فهذا هو المنظور الوحيد الذي أستطيع من خلاله تفهم سبب نكوص الكائنات الوليدة في الشكل إلى أسلافها.»4

لم يكن داروين قلقًا من هذا الموضوع؛ إذ كان عرضة منذ وقت قريب للهجوم من قبل أحد أساتذة الهندسة الاسكتلنديين، واسمه فلييمنج جينكين، الذي تحدث عن تلك الحقيقة البسيطة المنيعة ضد أي نقد والقائلة إن نظريتي الانتخاب الطبيعي ووراثة الامتزاج لا تتفقان. فإذا كانت الوراثة تقوم على امتزاج السوائل، فهنا تكون نظرية داروين غير صحيحة على الأرجح، لأن كل تغير جديد مفيد سيضيع بسبب تخفيف أثره عبر سلالة النسب. وقد أوضح جينكين فكرته بضرب المثل برجل أبيض يحاول تحويل سكان جزيرة كلهم من السود إلى اللون الأبيض فقط عن طريق التناسل مع نسائهم، فسرعان ما سيخف دمه الأبيض إلى أن يصير بلا تأثير. كان داروين يعلم في أعماقه أن جينكين محق، وحتى توماس هنري هكسلي المعتاد على القتال الضاري أسكتته حجة جينكين، لكن في الوقت ذاته كان داروين يعلم أن نظريته صحيحة، لكنه لم يستطع التوفيق بين الأمرين؛ فلو قرأ ما كتبه مندل!

كثير من الأشياء تبدو بديهية حين ننظر إليها بعد انقضائها، لكنها تحتاج إلى لمحة من العبقرية حتى تصير مفهومة في وقتها. إن إنجاز مندل هو كشفه أن السبب الوحيد الذي يجعل الوراثة تبدو وكأنها عملية امتزاج هو اشتمالها على أكثر من جزيء واحد. في بداية القرن التاسع عشر، أثبت جون دالتون أن الماء مكون في الحقيقة من مليارات الأشياء الصغيرة غير القابلة للتقسيم يطلق عليها الذرات، وبهذا هزم معارضيه من مناصري نظرية التواصل. والآن أثبت لنا مندل نظرية الذرة الخاصة بعلم الأحياء. كان من الممكن أن تُسمى ذرة علم الأحياء بأي مسمى، ومن بين الأسماء التي استُخدمت في السنوات الأولى من هذا القرن كل من: العامل، والبريعم، والجزيء العضوي، وأصل الجين، والبيوفور، والهو، والصابغ، لكن كلمة «جين» هي التي استمرت.

وعلى مدار أربعة أعوام، بداية من عام ١٨٦٦، أرسل مندل أبحاثه وأفكاره إلى كارل فيلهلم ناجيلي، أستاذ علم النبات في ميونيخ. وفي جرأة متزايدة حاول أن يشير إلى أهمية ما اكتشفه. وعلى مدار أربعة أعوام لم يفهم ناجيلي المغزى. وقد رد على خطابات الراهب المثابر بخطابات مهذبة وإن كانت لا تخلو من نبرة التعالي، وطلب منه أن يجرب استيلاد نبات عشب الصقر. لم يكن بوسعه أن يعطيه نصيحة مضللة أكثر من هذه لو أراد، فعشب الصقر نبات لاجنسي، بمعنى أنه يحتاج إلى حبوب اللقاح حتى يتكاثر، لكنه لا يدمج جينات الشريك الملقح في النبات الوليد، لهذا السبب أعطت تجارب التهجين الخاصة بهذا النبات نتائج غريبة. ولم يُعثر نهائيًّا على نتائج تجاربه التي أجراها على النحل، فهل تمكن من اكتشاف نظامها الوراثي العجيب في تحديد جنس الوليد؟

في الوقت نفسه نشر ناجيلي دراسة ضخمة عن الوراثة، لم تغفل ذكر اكتشاف مندل وحسب، بل أعطت مثالًا كاملًا عليه من تجارب ناجيلي الخاصة، ومع ذلك فقد فاته المغزى. كان ناجيلي يعرف أنه لو هجن قطة أنقرة مع قطة من نوع آخر لاختفى زغب قطة أنقرة تمامًا في الجيل التالي، بيد أنه كان يعاود الظهور كما هو في الجيل الثالث. ما من مثال أوضح من ذلك على فكرة الصفة المتنحية لمندل.

ومع ذلك، حتى في حياته كان مندل قريبًا للغاية من أن يحظى بالتقدير الكامل. لقد رشح تشارلز داروين — المجدُّ للغاية في جمع الأفكار من أعمال الغير — لصديق له كتابًا ألفه دابليو أو فوك احتوى على أربع عشرة إشارة مختلفة لبحث مندل. ومع ذلك يبدو وكأنه لم يلحظها بنفسه. أعيد اكتشاف أعمال مندل في عام ١٩٠٠، بعد وفاته ووفاة داروين بوقت طويل. وقد حدث الأمر في الوقت نفسه في ثلاثة أماكن مختلفة. وكان من أعادوا اكتشافه — هوجو دي فيريز وكارل كورينز وإريش فون تشيرماك — كلهم علماء نبات، إذ كانوا قد حاكوا تجارب مندل على أنواع مختلفة قبل أن يجدوها مسجلة في أوراقه البحثية.

باغتت المندلية علم الأحياء، فلم تكن نظرية التطور في أي جزء منها تقتضي أن تتم الوراثة بهذه الصورة المجزأة. وفي حقيقة الأمر بدت الفكرة وكأنها تقوض كل ما كان داروين يسعى إلى إرسائه. لقد قال داروين إن التطور حدث نتيجة لتراكم تغيرات صغيرة عشوائية من خلال عملية الانتخاب، لكن لو كانت الجينات أشياء جامدة يمكنها أن تظهر كما هي بعد أن تكون قد أمضت جيلًا في الخفاء، فكيف يمكنها إذن أن تتغير تدريجيًّا أو على نحو غير مباشر؟ في مناحٍ عديدة، شهدت بدايات القرن العشرين انتصارًا للمندلية على الداروينية. عبر ويليام باتسون عن آراء الكثيرين حين أشار إلى أن الوراثة الجزيئية، على أقل افتراض، تضع قيودًا على قوة الانتخاب الطبيعي. كان باتسون رجلًا ذا عقل مشوش وأسلوب نثري ثقيل. وقد آمن بأن التطور حدث على قفزات واسعة من شكل إلى شكل دون وجود لوسائط. وسعيًا وراء هذه الفكرة الغريبة نشر كتابًا عام ١٨٩٤ يقول فيه إن الوراثة جزيئية، ومنذ ذلك الوقت وهو محل هجوم من الداروينيين «المخلصين». لا عجب إذن أنه رحب بفكر مندل بأذرع مفتوحة وكان أول من يترجم أبحاثه إلى الإنجليزية. «لا يوجد في اكتشاف المندلية ما يتعارض مع المعتقد الأساسي القائل إن كل الأنواع تطورت [عن طريق عملية الانتخاب الطبيعي].» هكذا كتب باتسون وهو يبدو مثل عالم اللاهوت الذي يدعي أنه الشارح الحقيقي للقديس بولس. «ومع هذا فإن نتائج الأبحاث الحديثة أدت من دون شك إلى تجريد هذا المبدأ من تلك السمات الخارقة للطبيعة التي تشوبه في بعض الأوقات … وفي صراحة تامة لا يمكن إنكار أن هناك فقرات في أعمال داروين تؤيد تلك الإساءات إلى مبدأ الانتخاب الطبيعي، لكني على ثقة من أنه لو كان قد اطلع على بحث مندل، لكان قد راجع هذه الفقرات على الفور.»5

بيد أن انحياز شخص بغيض مثل باتسون للمندلية دعا التطوريين الأوروبيين إلى التشكيك فيها، ففي بريطانيا استمرت العداوة المريرة بين المندليين و«أخصائيي الإحصاء الحيوي» عشرين عامًا. وشأن أي شيء آخر، انتقل هذا الجدل إلى الولايات المتحدة حيث كان الجدال أقل شقاقًا. ففي عام ١٩٠٣ لاحظ عالم وراثة يدعى والتر ساتون أن الكروموسومات تتصرف مثل العوامل المندلية تمامًا، من حيث وجودها في أزواج، مع توارث كل واحد من هذين الزوجين من أحد الوالدين. وقد تحول توماس هانت مورجان، أبو علم الوراثة الأمريكي، إلى اعتناق المندلية على كِبر، مما دعا باتسون، الذي كان يمقت مورجان، إلى التخلي عن الصواب والقتال ضد النظرية الكروموسومية. إن تاريخ العلم عادة يتحدد وفق مثل هذه الضغائن التافهة. وقد طوى النسيان باتسون وانطلق مورجان ليحقق منجزات عظيمة بوصفه مؤسسًا لمدرسة مثمرة لعلم الوراثة، والرجل الذي استخدم اسمه كوحدة قياس للمسافات الجينية؛ السنتيمورجان. وفي بريطانيا لم يحدث التصالح بين الداروينية والمندلية إلا بعد أن عمل رونالد فيشر بعقله الرياضي المتقد على الأمر عام ١٩١٨؛ إذ أثبت أن مندل لم يتعارض مع داروين، بل إنه أكد على نظريته ببراعة. يقول فيشر: «قدمت المندلية الأجزاء الناقصة في الكيان الذي أقامه داروين.»

ومع ذلك ظلت مشكلة الطفرات قائمة؛ فقد احتاجت الداروينية تنوعًا كبيرًا تقوم عليه، لكن المندلية لم تقدم لها إلا الثبات، فإذا كانت الجينات هي الذرات لعلم الأحياء، ففي هذه الحالة تعد محاولة تغييرها نوعًا من البدع مشابهًا لبدع الخيمياء القديمة. وقد جاء الحل الثوري عن طريق إحداث الطفرات صناعيًّا، وذلك على يد رجل مختلف أشد الاختلاف عن كل من جارود ومندل. ففي مكانة الطبيب الإدواردي والراهب الأوجاستيني نفسها، علينا أن نضع هيرمان جو مولر المحب للمشاكسة. كان مولر نموذجًا للاجئين من العلماء اليهود البارعين الذين عبروا الأطلنطي في ثلاثينيات القرن العشرين باستثناء أمر واحد؛ أنه عبر إلى الشرق. انجذب ذلك الفتى النيويوركي — وهو ابن صاحب ورشة صغيرة لصب المعادن — إلى دراسة الجينات وهو في جامعة كولومبيا، لكنه اختلف مع مدرسه مورجان، وانتقل إلى جامعة تكساس عام ١٩٢٠. كانت هناك نزعة عنصرية تشوب توجه مورجان حيال العبقري مولر، بيد أن هذا النمط كان كثير الشيوع وقتها. وقد حارب مولر الجميع طيلة حياته. وعام ١٩٣٢ بسبب الصعوبات التي مر بها في زيجته وبسبب سرقة أفكاره على يد زملائه (حسب زعمه)، حاول مولر الانتحار، وبعدها ترك تكساس واتجه صوب أوروبا.

كان اكتشاف مولر العظيم — ذلك الاكتشاف الذي حصل بفضله على جائزة نوبل — هو أنه من الممكن إحداث الطفرات في الجينات صناعيًّا. كان اكتشافًا مشابهًا لاكتشاف إرنست رذرفورد منذ سنوات قلائل أن عناصر الذرة قابلة للتغيير وأن كلمة الذرة — التي تعني باليونانية «غير قابل للتقسيم» — كلمة غير ملائمة. عام ١٩٢٦ سأل مولر نفسه: «هل الطفرات شيء تتفرد به العمليات البيولوجية بحيث يستحيل التعديل فيه أو السيطرة عليه؟ وهل تشغل بذلك في العلوم الطبيعية موضعًا مشابهًا لذلك الذي كانت حتى وقت قريب تشغله عملية تعديل خصائص الذرة؟»

وفي العام التالي، أجاب بنفسه عن السؤال. فعن طريق إمطار ذباب الفاكهة بوابل من الأشعة السينية تسبب مولر في إحداث طفرة في جيناتها بحيث ظهرت تشوهات جديدة على ذريتها. وكتب يقول: إن الطفرة «ليست إلهًا يستحيل الوصول إليه يلقي بحيله علينا من قلعته الحصينة وسط المادة الوراثية.» فمثل الذرات، من المؤكد أن لجزيئات مندل تركيبًا داخليًّا هي الأخرى. ومن الممكن أن تتغير بواسطة الأشعة السينية. لقد ظلت جينات بعد إحداث الطفرة، لكنها ليست الجينات نفسها.

كانت الطفرة الصناعية هي الانطلاقة الحقيقية لعلم الوراثة الحديث، فباستخدام أشعة مولر السينية خلَّق عالمان عام ١٩٤٠ هما جورج بيدل وإدوارد تاتوم نسخًا طافرة من أحد أنواع عفن الخبز يدعى العصيباء المبوغة. وقد استنتجا بعد ذلك أن النسخة الطافرة فشلت في تصنيع إحدى المواد الكيميائية لأنها كانت تفتقد النسخة العاملة من إنزيم معين. وقد اقترحا قانونًا من قوانين علم الأحياء، اشتهر بعد ذلك وثبتت صحته، وهذا القانون هو: جين واحد، إنزيم واحد. لقد كانت فرضية جارود القديمة نفسها لكنها صيغت صياغة تفصيلية حديثة وبيوكيميائية. وبعدها بثلاثة أعوام، جاء استنتاج لينوس بولينج الاستثنائي القائل إن السبب وراء أحد أشرس أنواع مرض فقر الدم، الذي يصيب في المعتاد الأشخاص السود وفيه تتحول كرات الدم الحمراء إلى الشكل المنجلي، هو وجود عيب في الجين المسئول عن تكوين بروتين الهيموجلوبين. لقد سلك هذا العيب سلوك الطفرات المندلية الحقيقية نفسه. وتدريجيًّا بدأت الأمور توضع في منظورها الصحيح؛ فالجينات هي وصفات لتصنيع البروتينات، والطفرات هي بروتينات طافرة صنعتها جينات طافرة.

في ذلك الوقت كان مولر خارج الصورة. ففي عام ١٩٣٢ قاده حماسه المتقد للاشتراكية وإيمانه الراسخ بالاستيلاد الانتقائي للبشر؛ أي اليوجينيا (إذ كان يريد أن يرى الأطفال يولدون وهم يحملون شخصية ماركس أو لينين، وإن كان في تصرف ينم عن الحصافة غيّر هذه الشخصيات إلى لينكولن وديكارت في الطبعات اللاحقة من كتابه)، إلى عبور المحيط الأطلنطي إلى أوروبا. وصل إلى برلين قبيل اعتلاء هتلر سدة الحكم ببضعة شهور، وشاهد برعب كيف حطم النازيون معمل رئيسه، أوسكار فوجت، لرفضه تسريح العاملين معه من اليهود.

اتجه مولر إلى الشرق مرة أخرى، إلى لنينجراد، حيث وصل إلى معمل نيكولاي بافلوف قبل أن يوسوس تورفيم ليسينكو، عدو المندلية، في أذني ستالين ويبدأ في اضطهاد علماء الوراثة المندليين من أجل دعم نظرياته المجنونة التي فيها يرى أن قمح الخبز، مثل المواطنين الروس، من الممكن تطويعه على نظم جديدة بدلًا من استيلاده، وأن من يؤمنون بغير ذلك ينبغي ألا يحاول إقناعهم، بل يجب قتلهم. وقد مات بافلوف في السجن. أرسل مولر، المتفائل بطبعه، نسخة من أحدث كتبه عن اليوجينيا إلى ستالين، لكن حين سمع أنه لم يلق مردودًا طيبًا، انتحل عذرًا للخروج من البلاد في الوقت المناسب. اتجه بعدها إلى إسبانيا أثناء فترة الحرب الأهلية، حيث عمل في بنك الدم التابع لوحدات الفيلق الدولي، ومن هناك إلى إدنبرة، حيث وصل بسوء حظه المعتاد مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. ولما وجد أنه من الصعب أن يجري أبحاثه العلمية في شتاء اسكتلندا المظلم وهو يرتدي القفازات في معمله، حاول جاهدًا العودة إلى أمريكا، لكن أحدًا لم يُرِدْ ذلك العالم الاشتراكي المشاكس المولع بالقتال الذي كان يحاضر بحماقة وكان يعيش في روسيا السوفييتية. وفي نهاية المطاف، منحته جامعة إنديانا وظيفة. وفي العام التالي فاز بجائزة نوبل لاكتشافه الطفرة الصناعية.

لكن ما زال الجين نفسه شيئًا غامضًا غير قابل للتقسيم، وقدرته على وضع وصفات محددة للبروتينات سببت مزيدًا من الحيرة نظرًا لحقيقة أنه هو ذاته مكون من البروتين، إذ لا يوجد شيء آخر في الخلية على درجة من التعقيد بحيث يؤدي هذه المهمة. لكن في الحقيقة كان هناك شيء آخر في الكروموسومات هو ذلك الحمض الخامل الموجود بالنواة والمسمى بالدنا. لقد عُزل هذا الحمض للمرة الأولى، من ضمادات الجنود المصابين المشبعة بالقيح، وذلك في بلدة توبينجين الألمانية عام ١٨٦٩ على يد طبيب سويسري يدعى فريدريك ميسشر. حتى ميسشر نفسه خمن أن الدنا قد يكون مفتاح الوراثة، إذ كتب إلى عمه عام ١٨٩٢ موضحًا بدقة مدهشة أن الدنا قد يكون هو الموصل للرسائل الوراثية قائلًا: «تمامًا مثلما يمكن التعبير عن كلمات أي لغة ومفاهيمها من خلال حروف الأبجدية المتراوح عددها بين ٢٤ إلى٣٠». بيد أن قليلًا من الأشخاص كانوا متحمسين للدنا، إذ كان معروفًا أنه مادة رتيبة: فأنى له أن ينقل رسائل عن طريق أربعة تنويعات فقط من الحروف؟6

وبسبب وجود مولر هناك، وصل إلى بلومنجتون بولاية إنديانا الشاب الواثق بنفسه ذو النبوغ المبكر جيمس واطسون، الذي كان يحمل بالفعل درجة الماجستير. بكل تأكيد بدا هذا الشاب آخر من يمكنه حل لغز الجين، لكنه كان الحل. وبفضل تدربه في جامعة إنديانا على يد المهاجر الإيطالي سالفادور لوريا (إذ كما كان متوقعًا لم تكن العلاقة ودودة بينه وبين مولر)، تولدت لدى واطسون قناعة أكيدة بأن الجينات مصنوعة من الدنا، وليس البروتين. وبحثًا عن التأكيد ذهب إلى الدنمارك، بعدها، بسبب عدم رضاه عن زملائه هناك، اتجه إلى كامبريدج في أكتوبر (تشرين الأول) عام ١٩٥١. وقد وجهته المصادفة صوب معمل كافنديش ليعمل برفقة عقل لا يقل عنه براعة يحمل القناعة نفسها بأهمية الدنا؛ فرانسيس كريك.

وبقية القصة تاريخ معلوم. كان كريك نقيضًا للنبوغ المبكر، فبالرغم من بلوغه العام الخامس والثلاثين لم يكن قد حصل بعد على درجة الدكتوراه (إذ إن قنبلة ألمانية كانت قد دمرت الآلة الموجودة في جامعة لندن — التي كان من المفترض أن يقيس بها لزوجة الماء الساخن تحت الضغط — على نحو أشعره بالارتياح)، كما أن انحرافه عن مجال الفيزياء الذي وصل فيه إلى مرحلة الركود نحو مجال الأحياء لم يكن بالخطوة التي أثبتت نجاحها بعد. كان قد فر بالفعل من ملل أحد معامل كامبريدج حيث وظف لقياس لزوجة الخلايا التي أجبرت على امتصاص الجسيمات، وكان منشغلًا بتعلم علم البلوريات في كافنديش، لكنه لم يملك الصبر الكافي للمثابرة على حل مشكلاته، أو التواضع الكافي للمثابرة لحل المشكلات التافهة. وكانت ضحكته وذكاؤه الواثق وميله لإخبار الناس بحلول مشكلاتهم العلمية تتسبب في إثارة ضيق الموجودين في كافنديش. أيضًا كان كريك غير راضٍ عن ذلك الهوس الشائع بالبروتينات. كانت تركيبة الجين هي المشكلة الكبرى، وكان يشك أن الدنا كان جزءًا من الحل. وبتشجيع من واطسون عمد إلى التهرب من أبحاثه والمشاركة في ألعاب الدنا. وهكذا ولدت واحدة من أعظم الشراكات المتسمة بالتنافس الودي، ومن ثم الإنتاجية، في تاريخ العلم؛ الشاب الأمريكي الطموح ذو العقل المرن الذي كان يعرف قدرًا من علم الأحياء والبريطاني الألمعي البسيط الأكبر سنًّا والمفتقد للتركيز، الذي كان يعرف قدرًا من علم الفيزياء. لقد كان تفاعلًا متقدًا.

في غضون أشهر قليلة، وبالاستعانة بالحقائق التي جمعها الآخرون بعناء ولم تُحلل على النحو الكافي، تمكن الاثنان من تحقيق أعظم كشف علمي على مر التاريخ؛ تركيب الدنا. ولا حتى أرشميدس نفسه كان لديه سبب يفاخر به حين قفز من حوض استحمامه أعظم من ذلك الذي دفع كريك في حانة «إيجل» في ٢٨ فبراير (شباط) ١٩٥٣ لأن يقول: «لقد اكتشفنا سر الحياة.» بُهت واطسون من هذا التصريح؛ إذ كان يخشى أن يكونا قد ارتكبا خطأً ما.

لكن هذا لم يحدث. لقد صار كل شيء واضحًا؛ فالدنا يحتوي على شفرة مكتوبة بطول درجات لولب مزدوج أنيق الشكل يمكن أن يبلغ طولًا لانهائيًّا. وهذه الشفرة تنسخ نفسها عن طريق تفاعلات كيميائية بين حروفه، وتعبّر تعبيرًا واضحًا عن وصفه لتصنيع البروتينات من خلال كتيب تفسيري غير معروف بعد يربط بين الدنا والبروتين. إن الأهمية المذهلة لبنية الدنا تكمن في البساطة والجمال اللذين أضفاهما على كل شيء. وكما عبر ريتشارد ديكنز عن الأمر فإن:7 «السمة الثورية حقًّا في البيولوجيا الجزيئية فيما بعد عهد واطسون-كريك هي أنها صارت رقمية … فشفرة الجينات تشبه شبهًا عجيبًا شفرة الحاسب الآلي.»

بعد نشر التركيبة التي توصل إليها واطسون وكريك بشهر توجت بريطانيا ملكة جديدة، ووصلت بعثة استكشافية بريطانية إلى قمة جبل إفرست في اليوم نفسه. وباستثناء نشر خبر مقتضب عنه في جريدة نيوز كرونيكل، لم تنشر الصحف أي أخبار عن اللولب المزدوج. واليوم يعتبر العلماء هذا الكشف أعظم كشف في القرن، إن لم يكن في الألفية بأسرها.

تبع اكتشاف بنية الدنا العديد من سنوات التخبط المحبطة، فالشفرة نفسها، أي اللغة التي يعبر بها الجين عن نفسه، ظلت مستعصية على الكسر. لقد كان العثور على الشفرة، على يد واطسون وكريك، أمرًا سهلًا نسبيًّا، إذ كان خليطًا من التخمين والإلمام الجيد بقواعد الفيزياء والإلهام. أما فك الشفرة فتطلب عبقرية حقيقية. من الواضح أنها كانت شفرة رباعية الأحرف: مكونة من الحروف A وC وG وT. وكانت تترجم إلى شفرة مكونة من عشرين حرفًا خاصة بالأحماض الأمينية التي تصنع البروتينات، لم يكن هناك تقريبًا أي شك في هذا، لكن كيف؟ وأين؟ وبأي وسيلة؟
أتت أغلب الأفكار التي أدت إلى الإجابة من طرف كريك، وفيها فكرة الجزيء الرابط، الذي نطلق عليه اليوم الرنا الناقل؛ فدون أي دليل استنتج كريك أن مثل هذا الجزيء لا بد أن يكون له وجود، وهو ما ثبتت صحته، لكن كريك أيضًا كان صاحب تلك الفكرة التي اتسمت بأنها جيدة للغاية لدرجة أنها سميت بأعظم نظرية خاطئة في التاريخ. إن شفرة كريك «الخالية من الفصلات» أكثر أناقة من تلك التي تستخدمها الطبيعة نفسها. وهي تعمل على النحو الآتي: افترض أن الشفرة تستخدم ثلاثة أحرف في كل كلمة (فلو استخدمت حرفين سيكون الناتج ست عشرة تجميعة، وهو عدد أقل من اللازم). وافترض أنه لا توجد فصلات بين الكلمات، ولا «مسافات بين الكلمات». والآن افترض أنها تخلصت من كل الكلمات التي يمكن قراءتها قراءة خاطئة لو أنك بدأت من المكان الخاطئ. بالاستعانة بالتشبيه الذي استخدمه بريان هايز، تخيل كل كلمات اللغة الإنجليزية المكونة من ثلاثة أحرف التي يمكن كتابتها بالأربعة أحرف A وS وE وT وهي: ass وate وeat وsat وsea وsee وset وtat وtea وtee. الآن تخلص من الكلمات التي يمكن قراءتها بالخطأ على أنها كلمات أخرى لو أنك بدأت من المكان الخاطئ. على سبيل المثال: عبارة ateateat يمكن أن تُقرأ بالخطأ على أنها a tea tea t أو at eat eat أو ate ate at. فقط واحدة من هذه الكلمات يمكنها البقاء في الشفرة.
فعل كريك الأمر نفسه مع الحروف A وC وG وT، فتخلص من التتابعات AAA وCCC وGGG وTTT كبداية. بعدها جمّع الكلمات الستين المتبقية في مجموعات ثلاثية، بحيث تحتوي كل مجموعة على الأحرف نفسها الثلاثة بترتيب الدوران نفسه. على سبيل المثال: ACT وCTA وTAC في مجموعة واحدة، لأن C تتبع A، وT تتبع C، وA تتبع T في كل واحدة منها، في حين توضع الكلمات ATC وTCA وCAT في مجموعة أخرى. فقط كلمة واحدة في كل مجموعة يكتب لها البقاء. ومن ثم يتبقى لنا عشرون كلمة، وهي أحرف الأحماض الأمينية التي تؤلف أبجدية البروتين! وهكذا تعطي الشفرة رباعية الأحرف أبجدية مكونة من عشرين حرفًا.

حذر كريك دون طائل من أخذ فكرته هذه على محمل الجد قائلًا: «إن الحجج والافتراضات التي أقمنا عليها استنتاجنا بشأن هذه الشفرة متقلقلة بما يجعلنا غير قادرين على الوثوق بها إلا على أسس نظرية بحتة. لقد قدمنا هذه الفرضية فقط لأنها تعطينا الرقم السحري — عشرين — على نحو منمق وانطلاقًا من افتراضات مادية عقلانية.» لكن لم تكن هناك أدلة تدعم فكرة اللولب المزدوج في البداية كذلك. تصاعدت الإثارة. ولخمس سنوات افترض الجميع أن هذه الفرضية صحيحة.

بيد أن وقت التنظير كان قد ولَّى، ففي عام ١٩٦١، بينما كان الجميع منشغلين في التفكير، فك مارشال نارينبرج وجوهان ماتهاي «كلمة» من الشفرة بطريقة بسيطة تمثلت في تصنيع قطعة من الرنا من حرف U الصافي (اليوراسيل؛ الذي يعادل حرف T في الدنا) ثم وضعها في محلول من الأحماض الأمينية. صنّعت الريبوسومات البروتين عن طريق الربط بين عدد كبير من أحماض فينيل ألانين. هكذا فُكت شفرة الكلمة الأولى من الشفرة: فكلمة UUU تعني فينيل ألانين. وفي نهاية المطاف اتضح أن الشفرة الخالية من الفصلات كانت خاطئة. كان أجمل ما فيها أنه لم يكن بها ما يطلق عليه الطفرات الناتجة عن تحول القراءة، التي فيها يجعل غياب حرف واحد من بقية الحروف التالية عليه هراء غير ذي معنى. ومع هذا فالطريقة التي اختارتها الطبيعة، مع كونها أقل أناقة، تتسامح مع أنواع أخرى من الأخطاء. وهي تحتوى على قدر كبير من الإطناب، بحيث يكون للعديد من الكلمات ثلاثية الأحرف المختلفة المعنى نفسه.8
وبحلول عام ١٩٦٥ كانت الشفرة كلها معروفة، وبدأ عصر علوم الوراثة الحديثة. وقد صارت الإنجازات الرائدة التي حدثت في ستينيات القرن العشرين إجراءات روتينية في تسعينياته. ثم في عام ١٩٩٥ تمكن العلم من العودة إلى مرضى أرشيبالد جارود الموتى ذوي البول الأسود ليحدد لهم بثقة تامة الأخطاء الهجائية والجينات التي حدثت فيها تلك الأخطاء فسببت لهم مرض الكابتونيوريا. إن قصة هذا المرض هي قصة علم الوراثة في القرن العشرين لكن على نحو مصغر، فمرض الكابتونيوريا، كما تذكر، مرض نادر غير خطير يمكن علاجه بسهولة ببعض نصائح التغذية، لهذا ظل العلم بعيدًا عنه سنوات كثيرة. وفي عام ١٩٩٥، وانطلاقًا من أهميته التاريخية، اضطلع اثنان من العلماء الإسبان بهذا التحدي. وباستخدام فطر يدعى فطر العشاشية تمكنَا من عمل طفرة راكمت الصبغة الأرجوانية في حضور الفينيل ألانين: الهوموجينتيزات. وكما شك جارود كان لهذه الطفرة نسخة معيبة من البروتين يطلق عليها هوموجينتيزات دي أوكسيجيناز. وبتكسير جينوم الفطر باستخدام إنزيم خاص، وتحديد الأجزاء التي كانت مختلفة عن تلك الطبيعية وقراءة الشفرة الموجودة داخلها تمكنَا في النهاية من تثبيت الجين المرغوب. بعد ذلك بحثَا عبر مكتبة من الجينات البشرية على أمل أن يجدَا جينًا على قدر كافٍ من التشابه كي يلتحم بالدنا الخاص بالفطر. وفعلًا وجدَا مرادهما في الذراع الطويلة للكروموسوم ٣، إذ وجدَا «فقرة» من «حروف» الدنا تتشارك مع جين الفطر في نسبة اثنين وخمسين بالمائة من الحروف. وبالبحث عن هذا الجين لدى المصابين بمرض الكابتونيوريا ومقارنته بمن لا يعانون هذا المرض اكتُشف أنهم يملكون حرفًا واحدًا إضافيًّا هو المسئول عن المرض، وهو إما الحرف رقم ٦٩٠ أو ٩٠١. وفي كلتا الحالتين كان ذلك التغيير في هذا الحرف الواحد هو المسئول عن تلف البروتين بحيث لم يعد قادرًا على أداء وظيفته.9

هذا الجين مثال على الجينات المملة، التي تؤدي وظيفة كيميائية مملة، في أجزاء مملة من الجسد، ويتسبب في مرض ممل عند تلفه. لا يوجد فيه شيء مفاجئ أو متفرد. لا يمكن ربطه بحاصل الذكاء أو المثلية الجنسية، وهو لا يخبرنا بأي شيء عن أصل الحياة، وهو ليس من الجينات الأنانية، ولا يخالف قوانين مندل، ولا يمكنه أن يقتل أو يشوه. إنه الجين نفسه الموجود بكل مخلوق على هذا الكوكب، حتى عفن الخبز لديه هذا الجين ويستخدمه في الوظيفة نفسها التي نستخدمه نحن فيها تمامًا. ومع هذا يستحق جين هوموجينتيزات دي أكسيجيناز مكانه الصغير في التاريخ، وذلك لأن قصته هي نسخة مصغرة من قصة علم الوراثة نفسه. وحتى هذا الجين الصغير الممل يكشف لنا الآن عن جمال كان سيبهر جريجور مندل، لأنه تعبير ملموس عن قوانينه المجردة؛ قصة العلاقة بين لولب ميكروسكوبي متماثل ملتوٍ يعمل في أزواج من الشفرات رباعية الأحرف، والوحدة الكيميائية للحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤