الكروموسوم ٤: المصير

سيدي، إن ما تخبرنا به ما هو إلا فكر كلفيني في ثوب علمي.

جندي اسكتلندي مجهول1 لويليام باتسون بعد إلقائه محاضرة شهيرة2

لو فتحت كُتَيِّب الجينوم البشري فلن تقابَل بقائمة من القوى البشرية الكامنة، بل بقائمة من الأمراض، أغلبها يحمل اسم زوج من أطباء وسط أوروبا المغمورين، فهذا الجين يسبب مرض نيمان-بيك، وذاك يسبب متلازمة وولف-هيرشهورن. وهنا يكون الانطباع الذي يتكون لديك هو أن الجينات موجودة لتسبب الأمراض. «اكتشاف جين جديد مسئول عن الخلل العقلي»، كان هذا عنوانًا ظهر على أحد المواقع الإلكترونية المتخصصة في الجينات يخبرنا بأحدث الاكتشافات عنها، «اكتشاف الجين المسئول عن خلل التوتر العضلي المبكر. عزل الجين المسئول عن سرطان الكلى. ربط التوحد بجين ناقل للسيروتونين. جين جديد مسبب للزهايمر. جينات السلوك الوسواسي».

بيد أن تعريف الجينات من خلال الأمراض التي تتسبب فيها يعد في سخافة تعريف الأعضاء بالأمراض التي تصيبها؛ فبهذا يصير الكبد هو ذلك العضو الذي يصاب بالتليف، والقلب يتسبب في الأزمات القلبية، والمخ يتسبب في السكتات الدماغية. إن قراءة كُتَيِّب الجينات بهذه الكيفية يعد تعبيرًا عن جهلنا لا عن معرفتنا. صحيح فعليًّا أن الشيء الوحيد الذي نعرفه عن بعض الجينات هو أن قصورها يتسبب في أمراض معينة، لكن من ضيق الأفق الاكتفاء بهذا التعريف، فضلًا عن كونه أمرًا مضللًا، فمن شأن ذلك أن يؤدي إلى اختزال الأمر اختزالًا خطيرًا كالآتي: «الشخص (س) يملك جين وولف-هيرشهورن.» خطأ. كلنا نملك جين وولف-هيرشهورن، باستثناء المصابين بمتلازمة وولف-هيرشهورن، وهذا من قبيل المفارقة. إن مرضهم ناجم عن غياب هذا الجين. أما في بقيتنا فهذا الجين يمثل قوة إيجابية، وليست سلبية. إن المصابين لديهم طفرات، وليس الجين الأصلي.

إن متلازمة وولف-هيرشهورن نادرة وخطيرة للغاية؛ إذ إن الجين الخاص بها مهم جدًّا للإنسان، حتى إن المصابين بها يموتون في سن مبكرة. ومع ذلك فإن هذا الجين، الموجود في الكروموسوم ٤، هو في حقيقة الأمر الأشهر بين كل الجينات «المسببة للأمراض»، وذلك بسبب مرض مختلف تمامًا مرتبط به، هو مرض هنتنجتون. إن نسخة طافرة من هذا الجين تسبب مرض هنتنجتون، والغياب التام لهذا الجين يسبب متلازمة وولف-هيرشهورن. نحن نعلم القليل للغاية عما يفعله هذا الجين في حياة البشر اليومية، لكننا نعلم علمًا تفصيليًّا دقيقًا كيف يمكن أن يصيبه التلف ولم وأين، وما العواقب التي تعود على الجسد جراء ذلك. يحتوي الجين على «كلمة» واحدة، مكررة مرارًا وتكرارًا وهي: CAG، CAG، CAG … يستمر هذا التكرار أحيانًا ست مرات فقط، وأحيانًا ثلاثين، وأحيانًا أكثر من مائة مرة. إن مصيرك وعقلك وحياتك كلها معلقة على هذا التكرار. إذا تكررت «الكلمة» خمسًا وثلاثين مرة أو أقل، لن يصيبك ضرر. أغلب البشر تتكرر لديهم الكلمة من عشر مرات إلى خمس عشرة مرة تقريبًا. فإذا تكررت «الكلمة» تسعًا وثلاثين مرة فستبدأ في أواسط حياتك في فقدان توازنك تدريجيًّا، وتصير عاجزًا مع الوقت عن الاعتناء بنفسك، وتموت في سن مبكرة. يبدأ الذبول بتدهور بسيط في القدرات العقلية، متبوعًا بارتعاش عصبي في الأطراف والوقوع في حالة اكتئاب عميقة، وفي بعض الأحيان يكون ذلك مصحوبًا بهلاوس وضلالات. لا يوجد استئناف؛ فهذا المرض لا شفاء منه، لكنه يحتاج من خمسة عشر إلى خمسة وعشرين عامًا رهيبًا حتى يكمل مساره. وفي حقيقة الأمر تكون العديد من الأعراض النفسية المبكرة لهذا المرض على القدر نفسه من السوء لدى من يعيشون في عائلات مصابة بهذا المرض لكنهم غير مصابين بالمرض؛ إن الضغط والتوتر الناجمين عن انتظار الإصابة بالمرض لهما تأثير مدمر.
يكمن السبب في الجينات لا في أي مكان آخر، فإما تكون لديك الطفرة الخاصة بمرض هنتنجتون أو لا. إنها الحتمية، القدر، المصير المحتوم، على نحو لم يحلم به كلفين ذاته. قد يبدو من الوهلة الأولى الدليل القاطع على أن الجينات هي المتحكمة في حياتنا، وأنه لا يوجد ما يمكن عمله حيال هذا، فلا يهم إن كنت تدخن أو تتناول أقراص الفيتامينات أو تمارس التدريبات البدنية أو تدمن مشاهدة التليفزيون، فالعمر الذي سيظهر فيه الجنون يعتمد اعتمادًا قويًّا على عدد مرات تكرار «كلمة» CAG في مكان واحد في جين واحد. إذا تكررت الكلمة تسعًا وثلاثين مرة، يوجد احتمال قدره تسعون بالمائة أن تعاني الخرف العقلي في سن الخامسة والسبعين، وستبدأ الأعراض في الظهور في المتوسط في سن السادسة والستين، أما لو تكررت الكلمة أربعين مرة فستقع فريسة للمرض في سن التاسعة والخمسين في المتوسط، أما لو تكررت واحدًا وأربعين مرة فسيحدث ذلك في سن الرابعة والخمسين، ولو تكررت اثنين وأربعين مرة فستصاب بالمرض في السابعة والثلاثين، وهكذا وصولًا إلى من تتكرر لديهم «الكلمة» خمسين مرة والذين يفقدون عقولهم في حوالي السابعة والعشرين من العمر. وهذا هو المقياس: لو أن كروموسماتك كانت من الطول بحيث تلتف حول خط الاستواء، فسيكون الفارق بين سلامة العقل والجنون أقل من بوصة واحدة إضافية.3

لا يوجد تنبؤ على هذه الدرجة من الدقة. ولم توجد نظرية سببية أو فرويدية أو ماركسية أو روحانية على هذه الدقة والتحديد. ولم يسبق لنبي من أنبياء العهد القديم أو عراف في اليونان القديمة أو غجرية ثاقبة الفكر ذات بلورة سحرية جالسة على رصيف ميناء بوجنور ريجيس أن تظاهر بأنه سيخبر الناس بالوقت المحدد الذي ستتداعى فيه حياتهم، ناهيك عن صدق هذا التنبؤ. إننا نتعامل هنا مع نبوءة ذات طبيعة رهيبة قاسية غير قابلة للتغيير. هناك المليار من «الكلمات» ثلاثية الأحرف داخل الجينوم الخاص بك. ومع هذا فمعدل تكرار هذه الكلمة الصغيرة هو ما يحول بين كل شخص منا والخلل العقلي.

شُخص مرض هنتنجتون، الذي صار معروفًا حين تسبب في وفاة مطرب الأغاني الشعبية وودي جوثري في عام ١٩٦٧، للمرة الأولى على يد الطبيب جورج هنتنجتون، وذلك في عام ١٨٧٢ في الطرف الشرقي للونج أيلاند. لقد لاحظ أن المرض يسري في عائلات بعينها، ثم كشفت الأبحاث فيما بعد أن حالات لونج أيلاند كانت جزءًا من شجرة عائلة أكبر تمتد أصولها إلى نيو إنجلاند. وخلال الأجيال الاثني عشر لشجرة العائلة هذه اكتُشفت أكثر من ألف حالة إصابة بهذا المرض، جميعها لأشخاص كانوا منحدرين من سلالة شقيقين مهاجرين قدما من سافولك عام ١٦٣٠. وقد أُحرق عدد من النساء المنحدرات منهما بوصفهن ساحرات في قرية سالم عام ١٦٩٣، ربما بسبب الطبيعة المخيفة للمرض. ولأن الطفرة لا تتجسد إلا في منتصف العمر، حين يكون المصابون قد أنجبوا أطفالًا فعلًا، لا توجد ضغوط تدعوها للاندثار من تلقاء نفسها على نحو طبيعي. وفي الواقع بدا في العديد من الدراسات أن المصابين بهذه الطفرة كانوا يتناسلون تناسلًا أكثر خصوبة من إخوتهم غير المصابين بالمرض.4

كان مرض هنتنجتون هو أول مرض جيني بشري سائد تمامًا يجري اكتشافه. بمعنى أنه ليس مثل مرض الكابتونيوريا الذي لا بد لك أن تحصل على نسختين طافرتين من الجين لكي تصاب به؛ نسخة من كل واحد من الأبوين، فهنا تكفي نسخة طافرة واحدة من الجين. ويبدو أن المرض يكون أسوأ لو وُرِثَ الجين من الأب، كما أن الطفرة تنمو نموًّا أكثر حدة بزيادة عدد التكرارات لدى الأطفال ذوي الآباء الأكبر عمرًا.

في أواخر سبعينيات القرن العشرين شرعت امرأة ذات عزم وتصميم في رحلة لاكتشاف جين هنتنجتون. ففي أعقاب الوفاة المأساوية لوودي جوثري جراء هذا المرض أنشأت أرملته لجنة مكافحة مرض هنتنجتون، وانضم إليها طبيب يدعى ميلتون ويكسلر تعاني زوجته وثلاثة من إخوتها هذا المرض. كانت ابنة ويكسلر، نانسي، تعلم أن احتمال وجود الطفرة لديها يبلغ الخمسين بالمائة، وصار العثور على الجين المسبب للمرض هو شغلها الشاغل. أخبرها الجميع ألا تضيع وقتها، فمن المحال العثور على هذا الجين؛ إذ سيكون الأمر أشبه بالبحث عن إبرة في كومة من القش بحجم أمريكا. كان عليها أن تنتظر بضعة أعوام حتى تتحسن التقنيات لتكون لديها فرصة واقعية. كتبت تقول: «لكن لو أنك مصاب بمرض هنتنجتون، فأنت لا تملك الوقت لتنتظر.» استنادًا إلى تقرير لطبيب فنزويلي يدعى أمريكو نيجريتي، سافرت عام ١٩٧٩ بالطائرة إلى فنزويلا كي تزور ثلاث قرى ريفية، هي سان لويس وبارانكيتاس ولاجونيتا التي تقع على شواطئ بحيرة ماراكايبو. تقع بحيرة ماراكايبو الضخمة الأشبه بخليج بحري محاط باليابس في أقصى غربي فنزويلا، وراء سلسلة جبال كوردييرا دي ماريدا.

كانت بالمنطقة عائلة كبيرة ممتدة بها عدد كبير من المصابين بمرض هنتنجتون. تقول القصة التي يتناقلونها بينهم إن المرض جاء من أحد البحارة من القرن الثامن عشر، وتمكنت ويكسلر من تعقب شجرة العائلة للمرض إلى أوائل القرن التاسع عشر وصولًا إلى امرأة تدعى ماريا كونسيبشن. كانت هذه المرأة تعيش في بويبلو دي أجوا، وهي قرية من المنازل المقامة على ركائز خشبية على المياه. كان نسل هذه المرأة الولَّادة مكونًا من ١١٠٠٠ شخص موزعين على ثمانية أجيال، كان ٩٠٠٠ منهم لا يزالون على قيد الحياة في عام ١٩٨١. من هؤلاء كان ٣٧١ مصابًا بمرض هنتنجتون حين زارت ويكسلر المنطقة للمرة الأولى، و٣٦٠٠ كانوا في خطر الإصابة بالمرض بنسبة ٢٥ بالمائة، بسبب إصابة أحد الجدود على الأقل به.

كانت شجاعة ويكسلر فائقة إذا وضعنا في الاعتبار أن احتمال إصابتها بالطفرة وارد. كتبت تقول:5 «يتحطم فؤاد المرء حين ينظر إلى هؤلاء الأطفال المشعين بالحيوية والمرح، والممتلئين بالأمل والآمال العريضة، الذين على الرغم من فقرهم وأميتهم والعمل الخطير المضني الذي يؤديه الفتيان من الصيد في قوارب صغيرة في تلك البحيرة الهائجة، أو الذي تؤديه الفتيات الصغيرات من الاعتناء بالمنازل ورعاية الآباء المرضى، وعلى الرغم من ذلك المرض القاسي، الذي يحرمهم جميعًا من آبائهم وجدودهم وعماتهم وأعمامهم وأبناء عمومتهم، تجدهم سعداء فرحين بالحياة، إلى أن يصابوا بالمرض.»
بدأت ويكسلر البحث في كومة القش، فجمعت أولًا عينات الدماء من أكثر من ٥٠٠ شخص، وتصف الأمر بقولها: «كانت أيامًا حارة صاخبة نسحب فيها الدماء.» بعد ذلك أرسلت العينات إلى معمل جيم جوزيلا في بوسطن. وقد بدأ في اختبار الواسمات الجينية بحثًا عن الجين، وذلك بأن اختار عشوائيًّا شذرات من الحمض النووي، التي قد تكون في نهاية المطاف مختلفة لدى المرضى عنها لدى غير المصابين بالمرض أو قد لا تكون. وقد ابتسم الحظ له، إذ بحلول منتصف عام ١٩٨٣ لم يكن قد حدد الواسم القريب من الجين المصاب وحسب، بل عين موضعه على طرف الذراع القصيرة للكروموسوم رقم ٤. كان يعرف في أي جزء من ثلاثة ملايين جزء من الجينوم يقع هذا الجين، فهل حقق الهدف؟ ليس بعد، فالجين يقع في منطقة من النص يبلغ طولها مليونًا من «الحروف». لقد صارت كومة القش أصغر، لكنها لا تزال ضخمة. وحتى بعدها بثمان سنوات ظل الجين غامضًا. كتبت ويكسلر4 وهي تبدو مثل مستكشفي العصر الفيكتوري: «كانت الرحلة شاقة إلى أبعد الحدود في تلك المنطقة الموحشة بأعلى الكروموسوم رقم ٤. كان الأمر أشبه بارتقاء قمة إفرست زحفًا على مدار ثمانية أعوام.»
وفعلًا أتت هذه المثابرة بالعائد المرغوب، ففي عام ١٩٩٣ عُثر على الجين أخيرًا، كما قُرئ نصه وحُددت الطفرة التي تؤدي إلى حدوث المرض. هذا الجين هو وصفة لبروتين يسمى هنتنجتين؛ فبما أن البروتين اكتُشف بعد الجين فقد حصل على اسمه منه. إن تكرار «الكلمة» CAG في منتصف الجين يؤدي إلى وجود سلسلة طويلة من الجلوتامين في منتصف البروتين (حيث تعني كلمة CAG جلوتامين باللغة «الجينية»). وفي حالة مرض هنتنجتون، كلما زاد مقدار الجلوتامين في هذه النقطة ظهر المرض في وقت مبكر في حياة المريض.6
يبدو هذا التفسير غير وافٍ تمامًا للمرض؛ فلو كان جين هنتنجتين تالفًا فلماذا إذن يعمل على ما يرام على مدار أول ثلاثين عامًا من حياة المريض؟ يبدو أن النسخة الطافرة من جين هنتنجتين تتراكم تراكمًا تدريجيًّا على صورة شذرات إجمالية. ومثل مرض ألزهايمر وجنون البقر، فهذا المرض هو تراكُم لكتل لزجة من البروتين داخل الخلية تتسبب في موتها، وربما تدفع الخلية إلى الانتحار. وفي مرض هنتنجتون يحدث هذا بدرجة أكبر داخل حجيرة التحكم في الحركة، أي المخيخ، وتكون النتيجة أن تصير الحركة أكثر صعوبة أو خارجة عن نطاق التحكم على نحو متزايد.7
أما الخاصية غير المتوقعة إطلاقًا لهذا التكرار لكلمة CAG فهي أنها لا تقتصر على مرض هنتنجتون، فهناك خمسة أمراض عصبية أخرى تحدث بسبب ما يطلق عليه «التكرار غير المستقر لكلمة CAG» في جينات مختلفة تمامًا، الترنح المخيخي أحدها. توجد أيضًا تقارير عجيبة عن أنه حين وُضع عن عمد تكرار طويل لكلمة CAG في جينات عشوائية للفئران فإن هذا تسبب في ظهور متأخر لمرض عصبي أشبه بمرض هنتنجتون. وهكذا يمكن لتكرار كلمة CAG أن يتسبب في مرض عصبي مهما يكن الجين الذي يوجد فيه. إضافة إلى ذلك هناك أمراض أخرى لتلف الأعصاب تحدث بسبب تكرارات «كلمات» أخرى، وفي كل حالة تبدأ «الكلمة» المكررة بحرف C وتنتهي بحرف G. وقد تعرفنا على ستة أمراض أخرى للتكرار CAG. وعند تكرار كلمتي CCG أو CGG أكثر من ٢٠٠ مرة قرب بداية أحد الجينات في الكروموسوم إكس تكون النتيجة مرض «كروموسوم إكس الهش»، الذي يسبب شكلًا متفاوتًا وإن كان شائعًا من التخلف العقلي (يُعَدّ شيئًا طبيعيًّا وجود أقل من ستين تكرارًا، ومن الممكن أن يصل عدد التكرارات إلى الألف). ويتسبب تكرار كلمة CTG من خمسين إلى ألف مرة في أحد الجينات بالكروموسوم ١٩ في الإصابة بمرض «الحثل العضلي التوتري». وما يزيد عن اثني عشر مرضًا من الأمراض البشرية يحدث بسبب تكرار الكلمات الثلاثية الأحرف، ويطلق على تلك الأمراض اسم أمراض تعدد الجلوتامين. ولدى جميع الحالات كان البروتين المطول يميل إلى مراكمة كتل غير قابلة للهضم تتسبب في موت الخلايا. ويرجع تباين الأعراض إلى أن الجينات المختلفة تنشط بمناطق مختلفة بالجسم.8
فما السمة التي تتفرد بها «كلمات» C ⋆ G الاستباق. فمن المعروف منذ وقت طويل أن من يصابون بحالة حادة من مرض هنتنجتون أو كروموسوم إكس الهش يزداد لديهم احتمال أن يرزقوا بأطفال يكون المرض لديهم أسوأ حالًا، أو يظهر في صورة مبكرة عن وقت ظهوره لدى آبائهم. والاستباق يعني أنه كلما ازداد عدد التكرارات زاد احتمال أن ينتقل عدد كبير منها إلى الجيل التالي. نحن نعرف أن جميع التكرارات تكوّن حلقات صغيرة من الدنا تدعى دبابيس الشعر، فالدنا يحب أن يظل مثبتًا إلى نفسه، وذلك بتكوين حلقات أشبه بدبابيس الشعر يكون فيها كل حرف C وحرف G في «الكلمات» C ⋆ G ملتصقين معًا عبر الدبوس. وحين ينفتح الدبوس يمكن لآلية النسخ أن تمر، وبذا يمكن لنُسَخ إضافية من الكلمة أن تدخل نفسها.9
يمكن لتشبيه بسيط أن يساعد في تقريب المعنى. إذا كررت كلمة ما ست مرات في هذه العبارة — مثل cag, cag, cag, cag, cag, cag — فسيكون من السهل أن تعدها. لكن لو كررتها ستًّا وثلاثين مرة — cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag, cag — أتحداك أنك ستخطئ في عدها. وهكذا الحال في الدنا؛ فكلما زاد عدد التكرارات زاد احتمال أن تخطئ آلية النسخ وتضيف نسخة إضافية. يزل إصبعها ويخطئ المكان المناسب في النص. أيضًا يوجد تفسير بديل (أو ربما مكمل) يقضي بأن نظام المراجعة، المسمى بإصلاح أخطاء التوافق، يستطيع التقاط التغيرات البسيطة، لا الكبيرة، في تكرارات كلمة C ⋆ G.10
قد يفسر هذا سبب ظهور المرض في فترة متأخرة من العمر. ولدت لورا مانجياريني في مستشفى جاي في لندن فئرانًا مهجنة جينيًّا تحمل نسخًا من أجزاء من جين هنتنجتون تحتوي على أكثر من مائة تكرار. ومع تقدم الفئران في العمر زاد طول الجين في كل الأنسجة عدا واحد، إذ أضيف له ما يصل إلى عشر «كلمات» CAG إضافية. الاستثناء الوحيد كان المخيخ، أو الدماغ المؤخر المسئول عن التحكم في الحركة، فحالما تتعلم الفئران المشي لا تحتاج خلايا المخيخ إلى التغير مع التقدم في العمر، لذا فهي لا تنقسم مطلقًا. ولدى البشر يقل عدد التكرارات في المخيخ مع التقدم في العمر، بالرغم من زيادته في الأنسجة الأخرى. وفي الخلايا التي تصنَّع فيها الحيوانات المنوية تزداد تكرارات كلمة CAG، وهو ما يفسر سبب العلاقة بين الظهور المبكر لمرض هنتنجتون وعمر الأب؛ فالآباء الأكبر عمرًا يرزقون بأطفال يصيبهم المرض إصابة أكثر حدة وفي سن مبكرة. (من قبيل المصادفة أن معدل حدوث الطفرة بات معروفًا الآن، في جميع أنحاء الجينوم، وهو أكثر بحوالي خمس مرات عند الرجال من النساء، وذلك بسبب التضاعف المتكرر الضروري لإنتاج حيوانات منوية جديدة طيلة عمر الرجل.)11
تبدو بعض العائلات أكثر عرضة للظهور العرضي لطفرة هنتنجتون من غيرها. ولا يبدو سبب ذلك مرتبطًا فقط بعدد التكرارات الموجودة بها تحت عتبة المرض (لنقل بين تسعة وعشرين وخمسة وثلاثين)، بل لأن التكرارات لديها تتخطى العتبة بمعدل يصل إلى ضعف المعدل لدى العائلات الأخرى ذات عدد التكرارات المتشابه. وسبب ذلك ثانية متعلق بالحروف. لنقارن بين شخصين: أحدهما يملك خمسة وثلاثين تكرارًا من كلمات CAG متبوعة بكلمتي CCA وCCG. إذا أخطأ المصحح وأضاف كلمة CAG إضافية، فسيزداد عدد التكرارات برقم واحد فقط. أما الشخص الثاني فيملك خمسة وثلاثين تكرارًا من كلمات CAG متبوعة بكلمة CAA ثم كلمتي CAG أخريين. إذا أخطأ المصحح وقرأ CAA خطأً على أنها CAG ففي هذه الحالة لن يضيف تكرارًا واحدًا، بل ثلاثة تكرارات، بسبب وجود التكرارين CAG الموجودين أصلًا.12
يبدو في كلامي حماس زائد، وإغراق للقارئ في تفاصيل عديدة بشأن كلمات CAG المتكررة في جين هنتنجتين، ومع هذا فلك أن تفكر أن هذا كله لم يكن معروفًا منذ خمسة أعوام تقريبًا؛ إذ لم يكن الجين قد عُثر عليه بعد، ولم تكن تكرارات CAG قد حُددت، كما لم يكن بروتين هنتنجتين معروفًا، ولم يكن هناك حتى مجرد تخمين بشأن وجود رابط بأمراض التدهور العصبي الأخرى، وكانت معدلات الطفرة ومسبباتها غامضة، ناهيك عن عدم وجود تفسير لتأثير سن الأب في المرض. ما بين ١٨٧٢ و١٩٩٣ لم يكن هناك تقريبًا أي شيء معروف عن مرض هنتنجتون سوى أنه مرتبط بالجينات. هذا الانفجار المعرفي حدث ما بين عشية وضحاها تقريبًا، وهو انفجار هائل حتى إنه يحتاج من المرء قضاء أيام في المكتبة لمجرد متابعته. إن عدد العلماء الذين نشروا أبحاثًا عن مرض هنتنجتون منذ عام ١٩٩٣ يقارب المائة عالم. هذا كله عن جين واحد. جين من بين ٦٠ ألفًا إلى ٨٠ ألف جين في الجينوم البشري. فلو كنت لا تزال بحاجة لإقناع عن مدى ضخامة صندوق بندورا الذي فتحه جيمس واطسون وفرانسيس كريك في ذلك اليوم من عام ١٩٥٣، فمن المؤكد أن قصة مرض هنتنجتون وحدها كافية لإقناعك. ذلك أنه مقارنة بالمعارف التي تنتظر منا جمعها من الجينوم، لا تساوي بقية علوم البيولوجيا إلا نقطة في بحر.
مع هذا فلم تُشف حالة واحدة من حالات مرض هنتنجتون. إن تلك المعرفة التي أَحْتفي بها لم تقترح حتى دواءً لهذا المرض، بل في حقيقة الأمر، في ضوء تلك البساطة القاسية لتكرارات كلمة CAG، صارت الصورة أكثر قتامة في أعين من يسعون لعلاج لهذا المرض. هناك ١٠٠ مليار خلية في المخ، فكيف لنا أن ندخل كل واحدة منها دون استثناء لكي نقلل عدد تكرارات كلمة CAG؟

تخبرنا نانسي ويكسلر بقصة امرأة ممن أجريت عليهم دراسة بحيرة ماراكايبو. لقد جاءت إلى كوخ ويكسلر كي تفحص الأعراض العصبية للمرض لديها. بدت بحال طيبة، لكن ويكسلر كانت تعلم أنه يمكن توضيح لمحات صغيرة لمرض هنتنجتون باختبارات معينة قبل أن يرى المريض نفسه هذه العلامات. وقد أظهرت تلك المرأة هذه العلامات، لكن خلافًا لمعظم الناس، حين انتهى الأطباء من فحصها سألتهم عن التشخيص. هل هي مصابة بالمرض؟ رد عليها الطبيب بسؤال: ماذا تعتقدين؟ كان رأيها أنها ترى نفسها بخير حال. تجنب الأطباء إخبارها بالتشخيص وقالوا لها إنهم بحاجة إلى التعرف على الأفراد معرفة أفضل قبل أن يعطوهم التشخيص. وحالما غادرت المرأة الحجرة أسرعت صديقة لها بالدخول وهي في حالة شبه هيستيرية وسألت الأطباء: بم أخبرتموها؟ كرر الأطباء عليها ما قالوه لها. ردت: «حمدًا لله»، ثم أوضحت لهم أن هذه المرأة أخبرتها أنها ستطلب معرفة التشخيص، وأنه لو اتضح إصابتها بمرض هنتنجتون فستنتحر على الفور.

هناك جوانب عدة مزعجة في هذه القصة؛ أولها هو تلك النهاية السعيدة الزائفة، فالمرأة لديها الطفرة فعلًا. وهي تواجه حكمًا بالإعدام، سواء على يديها أو على نحو أبطأ بكثير. ولا يمكنها الفرار من مصيرها المحتوم، مهما عاملها الخبراء بلطف. ولا شك أنه من حقها أن تعرف طبيعة حالتها وأن تتصرف على النحو الذي ترغبه؛ فحتى لو أرادت قتل نفسها، فبأي حق يمنع عنها الأطباء هذه المعلومات؟ ومع ذلك فقد تصرف الأطباء «على النحو الصحيح» أيضًا. لا شيء أكثر حساسية من نتيجة اختبار لمرض قاتل، وإخبار المرضى بحقيقة مرضهم على هذا النحو القاسي البارد قد لا يعد التصرف الأمثل للمرضى، فإجراء الاختبار دون وجود مشورة نفسية مساعدة هي وصفة للشقاء والتعاسة. لكن المغزى الأهم الذي تحمله لنا القصة هو أنه لا يجدي تشخيص مرض دون إيجاد علاجه. كانت المرأة ترى أنها بخير حال. وإن افترضنا أنه لا يزال أمامها خمس سنوات من هذا الجهل السعيد، فلا جدوى إذن من إخبارها بأنها بعد هذه المدة ستصاب بالجنون.

إن المرأة التي شاهدت أمها وهي تموت بسبب مرض هنتنجتون تعلم أن فرصها في الإصابة بالمرض هي خمسون بالمائة، لكن هذا ليس صحيحًا، فليس لدى أي شخص فرص للإصابة بهذا المرض بنسبة خمسين بالمائة؛ ففرص الإصابة إما مائة بالمائة أو صفر بالمائة، وكلا الاحتمالين متساويان. وبهذا يكون كل ما يفعله تحليل الجينات هو الكشف عن الخطر وإخبارها هل هذه الخمسون بالمائة المزعومة في حقيقة الأمر مائة بالمائة أم صفر.

تخشى نانسي ويكسلر أن يكون العلم الآن في موضع تيريسياس، عراف طيبة الأعمى. بالمصادفة رأى تيريسياس الربة آثينا وهي تستحم، فأصابته بالعمى. بعد ذلك أسفت على ما فعلت، لكن نظرًا لعدم قدرتها على شفائه من العمى أعطته القدرة على قراءة الغيب. بيد أن رؤية المستقبل كان مصيرًا بشعًا، لأنه صار قادرًا على رؤيته دون تغييره. يقول تيريسياس لأوديب: «إنه لعذاب مقيم أن يكون المرء حكيمًا في موضع لا تنفعه فيه الحكمة.» أو كما عبرت ويكسلر عن الأمر: «هل تريد أن تعرف متى ستموت، خاصة أنك لا تملك القدرة على تغيير الأمر؟» إن أغلب المحتمل إصابتهم بمرض هنتنجتون، الذين صار بمقدورهم أن يجروا فحوصًا لمعرفة إصابتهم بالطفرة بداية من عام ١٩٨٦، يختارون البقاء جاهلين بالنتيجة. فقط حوالي عشرين بالمائة منهم يختارون عمل الفحوصات. والأمر الغريب، لكن المفهوم، هو أن الرجال يختارون عدم المعرفة بنسبة تفوق النساء بثلاثة أضعاف. إن الرجال يهتمون بأنفسهم أكثر من اهتمامهم بذريتهم.13

وحتى لو اختار المعرضون لخطر الإصابة بالمرض أن يعرفوا ذلك، فالأمر معقد من الناحية الأخلاقية، فإذا أجرى أحد أفراد الأسرة الفحوصات فهو من ثم يختبر الأسرة بأكملها. وكثير من الآباء يجرون الاختبارات وهم مترددون، لكنهم يفعلون ذلك من أجل أبنائهم. إن حالات سوء الفهم تتزايد، حتى في الكتب والنشرات الطبية؛ فقد يقول أحدها مخاطبًا الأب أو الأم المصابين بالطفرة: إن نصف أبنائك قد يصابون بالمرض، لكن الأمر ليس على هذا النحو؛ فكل واحد منهم لديه احتمالٌ خمسون بالمائة أن يكون مصابًا بالمرض، وهو الأمر المختلف كليةً. كذلك تعد الكيفية التي ينبغي بها تقديم نتائج الفحوصات أمرًا حساسًا للغاية؛ إذ وجد علماء النفس أن الأفراد يشعرون بالراحة إذا قيل لهم إن فرص «عدم» إصابة الطفل الوليد بالمرض تبلغ خمسة وسبعين بالمائة عما إذا قيل لهم إن فرص إصابته بالمرض تبلغ خمسة وعشرين بالمائة، مع أن القولين لهما المعنى نفسه.

إن مرض هنتنجتون يقع في أقصى طرف علوم الجينات، فهو يعبر عن الحتمية الخالصة، التي لا تخفف من حدتها أي عوامل بيئية، فلا العيش الطيب ولا العلاج المناسب ولا الطعام الصحي ولا الأسر المحبة ولا حتى الثروات العظيمة يمكنها فعل شيء حياله، فمصيرك محفور في جيناتك. كما في الفكر الأوجاستيني الخالص، يدخل المرء الجنة برحمة الرب، لا بعمله الصالح. وفي هذا تذكار لنا بأن الجينوم، بالرغم من كونه كتابًا عظيمًا، قد يمدنا بأشد أنواع المعرفة بالذات إيلامًا: معرفة المصير، وهي ليست معرفة يمكننا فعل شيء حيالها، بل هي معرفة أقرب إلى «لعنة تيريسياس».

غير أن هوس نانسي ويكسلر بالعثور على الجين كان مدفوعًا برغبتها في تعديله أو علاجه حين تجده. وهي دون شك أقرب إلى هذا الهدف اليوم عما كانت عليه منذ عشرة أعوام مضت. كتبت تقول:4 «أنا إنسانة متفائلة، وعلى الرغم من شعوري بالصعوبة غير العادية لهذه الفجوة التي تتمثل في قدرتنا على التنبؤ بالمرض فقط دون منعه … فإني أؤمن بأن المعرفة تستحق المخاطرة.»
وماذا عن نانسي ويكسلر نفسها؟ جلست هي وأختها الكبرى أليس مرات عدة في أواخر الثمانينيات مع والدهما ميلتون لمناقشة وجوب أن تجري أي منهما اختبارات المرض من عدمه. كانت المناقشات محتدمة غاضبة وغير حاسمة. كان ميلتون معارضًا لفكرة خضوع الابنتين للاختبارات، مشددًا على الشك الذي يكتنفها وخطر التشخيص الخاطئ. بيد أن نانسي كانت عاقدة العزم وأرادت إجراء الاختبار، لكن هذا العزم تبخر تدريجيًّا في وجه الحقيقة المحتملة. وقد سجلت أليس هذه المناقشات في يومياتها التي أصبحت فيما بعد كتابًا متبصرًا في أعماق الذات بعنوان «رسم خريطة المصير». كانت النتيجة أن الاثنتين لم تخضعا للفحوصات. والآن نانسي في نفس عمر والدتها عندما شُخصت إصابتها بالمرض.14

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤