الكروموسوم ٥: البيئة

الأخطاء، كزبد البحر، تطفو على السطح؛ وعلى من يبحث عن اللآلئ أن يغوص في الأعماق.

جون درايدن: «كل شيء من أجل الحب»
عزيزي القارئ حان الوقت لحمام ماء بارد. لقد كان مؤلف هذا الكتاب يضللك. لقد استخدم كلمة «بسيط» استخدامًا متكررًا، وتحدث بحماس عن تلك البساطة المدهشة التي تميز علوم الوراثة، وبكل فخر شبه الجين بأنه ليس إلا عبارة نثرية مكتوبة بلغة بسيطة للغاية. إن جينًا بهذه البساطة في الكروموسوم ٣ هو الذي يتسبب، عند تلفه، في الإصابة بمرض الكابتونيوريا. بالمثل يتسبب جين آخر في الكروموسوم ٤، عند استطالته، في الإصابة بمرض هنتنجتون. وأنت إما تملك الطفرات، وفي هذه الحالة تصاب بالأمراض الجينية حتمًّا، أو لا تملكها. لا مجال للغموض أو الإحصائيات أو المراوغة، فأمور الوراثة هذه تنتمي لعالم رقمي، وكلها تتبع الوراثة الجزيئية. إن البازلاء الخاصة بك إما أن تكون مجعدة أو ملساء.1

لكنك كنت عرضة للتضليل. العالم لا يسير على هذا النحو، فهو عالم مليء باللون الرمادي، والفوارق الدقيقة، والمحددات، والاحتمالات. ولا تفيدنا علوم الوراثة المندلية في فهم عملية الوراثة في العالم الحقيقي بأكثر مما تفيدنا الهندسة الإقليدية في فهم شكل شجرة البلوط. وما لم تكن سيئ الحظ بحيث تصاب بمرض جيني خطير ونادر، وهو ما لا يحدث لأغلبنا، فإن تأثير الجينات في حياتك لن يتعدى كونه تأثيرًا تدريجيًّا جزئيًّا متداخلًا، فأنت لست فارع الطول أو قزمًا، مثل بازلاء مندل، بل أنت تقع في مرتبة متوسطة، وأنت لا تحمل بشرة مجعدة أو ملساء، بل أنت في مرتبة متوسطة. وهذا ليس بالأمر المفاجئ لأننا مثلما نعرف أنه من غير المفيد لنا التفكير في الماء بوصفه مجموعة من كرات البلياردو الضئيلة المسماة بالذرات، فنحن نعرف كذلك أنه من غير المفيد أن نفكر في أجسادنا بوصفها منتجات لجينات فردية غير مترابطة. إننا نعرف من واقع حكمتنا الجَمْعية أن الجينات تعمل على نحو غير مرتب. توجد لمحة من الشبه بوالدك في وجهك، لكنها مختلطة بلمحة أخرى من الشبه بوالدتك أيضًا، لكن ليس على النحو نفسه عند أختك، فهناك شيء متفرد في الشكل الذي تبدو عليه.

مرحبًا بك في عالم تعدد الأنماط الظاهرية. إن مظهرك لا يتحدد عن طريق جين وحيد «خاص بالمظهر»، بل عن طريق العديد من الجينات، إلى جانب عوامل أخرى لا علاقة لها بالجينات، من أبرزها السلوك وحرية الإرادة. إن الكروموسوم ٥ يعد مكانًا مناسبًا للبدء في إضفاء المزيد من الحيرة على عالم الجينات عن طريق محاولة بناء صورة أكثر تعقيدًا ودقة بقليل، صورة بها المزيد من المساحات الرمادية عما رسمت حتى الآن. لكنني لن أجول بعيدًا في هذه المنطقة، بل يجب أن أتحرك خطوة بخطوة، لذا سأتحدث أيضًا عن أحد الأمراض، مع أنه ليس مرضًا واضح المعالم تمامًا، وبالتأكيد ليس مرضًا «جينيًّا». إن الكروموسوم هو موطن لعدد من أبرز المرشحين لحمل لقب «جين الربو»، لكن كل شيء في هذه الجينات يؤكد بوضوح على فكرة تعدد الأنماط الظاهرية، وهو المصطلح المستخدم لوصف الآثار المختلفة للجينات المختلفة. من المستحيل تحديد جين بعينه بوصفه المسئول عن مرض الربو، فهذا المرض يقاوم التبسيط مقاومة تثير الجنون. وهو يظهر في كل الصور لجميع الأشخاص؛ فكل شخص تقريبًا يصاب به أو بنوع آخر من الحساسية في مرحلة ما من مراحل العمر. ويمكنك تبني أي نظرية بخصوص كيفية حدوث ذلك الأمر وسببه، بل إن هناك مساحة كبيرة كي تسمح لآرائك السياسية بالتأثير في رأيك العلمي؛ فمن يحاربون التلوث يلقون بمسئولية الحالات المتزايدة من الربو على التلوث، ومن يعتقدون أننا بتنا نعيش حياة ناعمة يرجعون الربو إلى أنظمة التدفئة المركزية والسجاجيد الوثيرة، ومن لا يثقون في التعليم الإلزامي يمكنهم إلقاء اللوم على نزلات البرد التي يصاب بها أبناؤنا في المدارس، أما من لا يحبون غسل أيديهم فبإمكانهم إلقاء اللوم على النظافة المفرطة. إن الربو، بعبارة أخرى، يشبه الحياة الواقعية إلى حدٍّ بعيد.

إضافة إلى ذلك يعد الربو قمة جبل جليد من أمراض «الحساسية»، فأغلب المصابين بالربو مصابون بالحساسية أيضًا لأشياء أخرى. إن الربو والإكزيما والحساسية وصدمات الحساسية كلها جزء من المتلازمة نفسها، وتسببها الخلايا «البدينة» نفسها في الجسم، التي تستفزها جزيئات «الجلوبين المناعي E» نفسها أو تستثيرها. وشخص من بين كل عشرة أشخاص مصاب بأحد أنواع الحساسية، وتتراوح جسامة الإصابة من الضيق متوسط الشدة أثناء إحدى نوبات حمى القش إلى الانهيار المفاجئ القاتل للجسم بأكمله بسبب لدغة نحلة أو تناول الفول السوداني. إن العوامل التي من شأنها أن تفسر زيادة حالات الربو، أيًّا ما كانت، يجب أن تكون قادرة أيضًا على تفسير ظهور الأنواع الأخرى من الحساسية، فمثلًا، الأطفال الذين يعانون حساسية حادة للفول السوداني، إذا اختفت هذه الحساسية في فترة لاحقة من الحياة، يكونون أقل عرضة للإصابة بالربو.

ومع هذا فإن كل عبارة يمكن قولها عن الربو من الممكن الطعن فيها، بما في ذلك التأكيد على أنه يزداد سوءًا. ففي حين تؤكد إحدى الدراسات على تزايد حالات الإصابة بالربو بنسبة ستين بالمائة في السنوات العشر الأخيرة، وأن معدل الوفيات الناجمة عنه تضاعف ثلاث مرات، وأن نسبة الحساسية للفول السوداني ارتفعت بمقدار سبعين بالمائة خلال عشر سنوات، نجد أن دراسة أخرى، نُشرت بعد الدراسة الأولى بأشهر قلائل، تؤكد بالقدر نفسه من الثقة أن هذه الزيادة وهمية؛ إذ إن الناس صاروا أكثر وعيًا بالربو، وأكثر استعدادًا للذهاب إلى الأطباء في الحالات البسيطة منه، وأكثر ميلًا لاعتبار ما كان يُعرف بنزلات البرد العادية من قبل على أنه حالات ربو. في سبعينيات القرن التاسع عشر، أدرج أرماند تروسو فصلًا عن الربو في كتابه «العيادة الطبية». وقد وصف حالة شقيقين توءمين كانا يعانيان حالة ربو شديدة أثناء وجودهما في مرسيليا وغيرها من الأماكن، لكن تحسنت حالتهما فور ذهابهما إلى تولون. رأى تروسو أن هذا أمر عجيب للغاية. لا يتضح من كلامه أن هذا المرض كان نادرًا، لكن يتضح من مقارنة مصداقية القصة أن الربو والحساسية كانا يزدادان سوءًا وأن السبب، في كلمة واحدة، هو التلوث.

لكن أي نوع من التلوث؟ إن معظمنا يستنشق قدرًا من الدخان أقل بكثير من ذلك الذي كان يستنشقه أجدادنا بسبب النيران الموقدة من الحطب والمداخن السيئة. لذا يبدو من غير المرجح أن يكون الدخان في المجمل هو المسبب لتلك الزيادة الحادثة الآن. يمكن لبعض المواد الكيميائية الصناعية الحديثة أن تسبب نوبات حادة خطيرة من الربو، فمواد كيميائية مثل الإِيزوسيانات‎ والحمض المعدني الثلاثي اللامائي وحمض الفيثاليك اللامائي، التي تُنقل عبر أرجاء الريف في صهاريج، وتُستخدم في تصنيع البلاستيك وتتسرب إلى الهواء الذي نتنفسه، كلها صور جديدة من التلوث ومسببات محتملة للربو. وحين تسربت مادة الإِيزوسيانات من أحد هذه الصهاريج في الولايات المتحدة أصيب رجل الشرطة الذي كان يحوِّل المرور حول منطقة الحادث بحالة حادة شديدة الخطورة من الربو بقية حياته. ومع ذلك فهناك اختلاف بين التعرض الحاد المركّز والمستويات العادية التي تقابلنا في الحياة اليومية. وإلى الآن لا توجد صلة بين درجات التعرض المنخفضة لهذه المواد الكيميائية والربو. بل إن الربو في حقيقة الأمر يظهر في مجتمعات لم توجد بها هذه المواد من قبل. إن الربو المرتبط بالمهن يمكن أن يحدث لدى أشخاص يعملون في مهن قديمة الطراز لا علاقة لها بالتكنولوجيا الحديثة مثل سائسي الخيل ومحمصي البن ومزيني الشعر وجلاخي المعادن. هناك أكثر من ٢٥٠ سببًا محددًا للربو المهني، أكثرها شيوعًا إلى حدٍّ بعيد، والمسئول عن نصف الحالات تقريبًا، هو فضلات عثة الغبار الضئيلة، ذلك المخلوق الذي يحب شغفنا بالجو المكتوم لمنازلنا غير جيدة التهوية ذات التدفئة المركزية في الشتاء ويستوطن السجاجيد وفرش الأسرة.

تغطي قائمة محفزات الربو المذكورة من قبل الرابطة الأمريكية لصحة الرئة كافة مناحي الحياة؛ إذ تشمل حبوب اللقاح والريش والعفن والأطعمة ونزلات البرد والتوتر العاطفي والتدريبات البدنية العنيفة والهواء البارد واللدائن والأبخرة المعدنية والخشب وعوادم المركبات ودخان السجائر والدهانات والرذاذ والأسبرين وأدوية القلب، ووصولًا إلى النوم في بعض أنواع الربو. هذا يعطي أي شخص مساحة كافية للتخمين كما يحلو له. على سبيل المثال: يمكن اعتبار الربو مشكلة حضرية أساسًا، وهو ما ثبت من خلال ظهور الربو فجأة في مناطق تحولت لمدن حضرية للمرة الأولى، فمدينة جيما بجنوب غرب إثيوبيا هي مدينة صغيرة ظهرت للوجود منذ عشر سنوات، وقد ضربها وباء الربو منذ عشر سنوات. إلا أن مغزى هذه الحقيقة غير مؤكد؛ فصحيح أن المراكز الحضرية تكون في المعتاد أكثر تلوثًا بفعل عوادم السيارات وغاز الأوزون، لكنها كذلك تكون أكثر نظافة وتعقيمًا.

ترى إحدى النظريات أن من يغسلون أيديهم وهم أطفال أو يواجَهون بكمية أقل من الطين في حياتهم اليومية هم الأكثر عرضة للإصابة بالربو؛ أي إن النظافة، وليس نقصها، هي سبب المشكلة، لكن الأطفال ذوي الإخوة الأكبر سنًّا أقل عرضة للإصابة بالربو؛ لأن إخوتهم يجلبون الغبار معهم إلى المنزل. وفي دراسة أجريت على ١٤ ألف طفل بالقرب من بريستول، وجد أن من يغسلون أيديهم خمس مرات يوميًّا أو أكثر ويستحمون مرتين يوميًّا يكونون معرضين للإصابة بالربو بنسبة خمسة وعشرين بالمائة، ومن يغسلون أيديهم أقل من ثلاثة مرات في اليوم ويستحمون مرة كل يومين معرضون لخطر الإصابة بالربو بما يزيد قليلًا عن نصف هذه النسبة. وفقًا لهذه النظرية فإن الأتربة تحتوي على بكتيريا، بكتيريا فطرية تحديدًا، تحفز أحد أجزاء الجهاز المناعي، في حين يعمل التطعيم المنتظم على تحفيز جزء مختلف من الجهاز المناعي. وبما أن هذين الجزأين من الجهاز المناعي (وهما الخلايا التائية المساعدة من النوع الأول Th1 والخلايا التائية المساعدة من النوع الثاني Th2 على الترتيب) في المعتاد يثبط أحدهما الآخر، يرث طفل العصر الحديث النظيف غير المصاب بالعدوى والمُطعم خلايا تائية من النوع الثاني مفرطة النشاط، وهذا النظام المناعي تحديدًا مصمم بحيث يخرج الطفيليات من جدار الأمعاء بواسطة الإفراز الهائل للهيستامين؛ مما يؤدي إلى الإصابة بحمى القش والربو والإكزيما. إن أجهزتنا المناعية مصممة تصميمًا يجعلها «تتوقع» تعليمها من البكتيريا الفطرية الموجودة في الأتربة في مرحلة الطفولة المبكرة، وحين لا يحدث ذلك تكون النتيجة جهازًا مناعيًّا غير متوازن وأكثر عرضة للإصابة بالحساسية. ومما يدعم هذه النظرية أنه بالإمكان درء نوبات الربو لدى الفئران التي أُصيبت بالحساسية لبروتينات بياض البيض بعلاج بسيط يتمثل في إجبارها على استنشاق البكتيريا الفطرية. ومن بين تلاميذ المدارس اليابانيين الذين يتلقون تطعيمًا ضد مرض السل يصير ستون بالمائة منهم فقط محصَّنين ضد المرض، وهؤلاء المحصنون أقل عرضة للإصابة بأمراض الحساسية والربو من غيرهم غير المحصنين. قد يعني هذا أن تحفيز الخلايا التائية من النوع الأول عن طريق لقاحات تحتوي على بكتيريا فطرية يُمَكِّنها من كبح الآثار الربوية لنظيرتها من النوع الثاني. تخلص إذن من زجاجة المطهر وابحث لك عن بعض البكتيريا الفطرية.2
نظرية أخرى، مشابهة إلى حدٍّ ما، تقضي بأن الربو هو ذلك الإحباط المكبوت للعنصر المكافح للديدان بالجهاز المناعي. فبالعودة إلى العصر الحجري الريفي (أو العصور الوسطى في حقيقة الأمر) نجد أن جهاز الجلوبين المناعي E كان منشغلًا انشغالًا كليًّا بمحاربة الديدان المستديرة والديدان الشريطية والإنكلستوما والديدان المثقوبة. لم يكن لديه وقت للتركيز على عثة الغبار وشعر القطط. أما اليوم فهو أقل انشغالًا لذا فهو ينشغل بما يؤذي. هذه النظرية تستند إلى افتراض مشكوك في صحته إلى حدٍّ ما عن الطريقة التي يعمل بها الجهاز المناعي في الجسم، ومع هذا فهي تحظى بكثير من التأييد. فمهما كانت حدة حمى القش لديك فمن المؤكد أنها ستختفي حال إصابتك بالدودة الشريطية، لكن السؤال هنا هو: أيهما تفضل الإصابة به؟

تقوم نظرية أخرى على فكرة أن ربط الربو بالتمدن هو في حقيقته ربط بالرفاهية؛ فالأشخاص الأثرياء يمكثون داخل المنازل، ويدفئون منازلهم، وينامون على وسائد من الريش تكتظ بعثة الغبار. بالمثل، توجد نظرية أخرى مبنية على الحقيقة المفروغ منها التي تقول إن الفيروسات متوسطة الشدة التي تصيب الإنسان على نحو عرضي (مثل نزلات البرد الشائعة) تزداد شيوعًا في المجتمعات التي بها مواصلات سريعة وتعليم إلزامي. وكما يعرف كل أب وأم، فإن أطفال المدارس يلتقطون فيروسات جديدة من المدارس بمعدلات باعثة على القلق. فحين كان الناس لا يسافرون كثيرًا كان مخزون الفيروسات الجديدة ينفد سريعًا، لكن في وقتنا الحالي — مع سفر الآباء إلى بلدان أجنبية أو مقابلتهم لأجانب في عملهم طوال الوقت — صار لدينا مخزون لانهائي من الفيروسات الجديدة في تلك المحطات الغنية باللعاب والمساعدة على تكاثر البكتيريا المسماة بمدارسنا الابتدائية. إن أكثر من ٢٠٠ نوع مختلف من الفيروسات يمكنها التسبب فيما يعرف إجمالًا باسم نزلات البرد الشائعة. وهناك علاقة أكيدة بين الإصابات بالفيروسات متوسطة الشدة في مرحلة الطفولة، مثل الفيروس التنفسي المخلوي، والقابلية للإصابة بالربو. أما آخر نظرية رائجة فهي أن عدوى بكتيرية تسبب التهاب مجرى البول لدي السيدات صارت شائعة بمعدلات انتشار الربو نفسها، قد تجعل الجهاز المناعي يستجيب استجابة عدائية لمثيرات الحساسية في فترات تالية من الحياة. اختر ما يحلو لك. نظريتي المفضلة — إن كان لهذا الرأي قيمة — هي تلك الخاصة بالنظافة، مع أنني لست مستعدًّا للدفاع عنها دفاعًا مطلقًا، لكن ما لا يمكن لأحد أن يزعمه هو أن معدلات الإصابة بالربو في تزايد لأن «جينات الربو» في تزايد؛ فالجينات لا تتغير بهذه السرعة.

لماذا إذن يصر العديد من العلماء على تأكيد فكرة أن الربو — ولو كان ذلك جزئيًّا — «مرض جيني»؟ ماذا يعنون بهذا؟ الربو هو ضيق في مجرى التنفس يحدث بسبب الهيستامين الذي تُفرزه الخلايا البدينة، التي يحدث لها هذا التغير بسبب بروتينات الجلوبين المناعي E، التي تنشط بسبب دخول الجسم الجزيئات نفسها التي صممت لكي تكون حساسة لها. الأمر لا يعدو كونه تسلسلًا بسيطًا للأحداث، مماثلًا لسلسلة السبب والنتيجة البيولوجية المعروفة. ويرجع تعدد الأسباب إلى تصميم الجلوبين المناعي E نفسه؛ إذ إنه البروتين المصمم خصيصًا لكي يأتي في أشكال عديدة يمكن لأي منها أن يناسب أي جزيء أو مسبب حساسية خارجي. ومع أن نوبة الربو لدى شخص ما يمكن أن تحدث بسبب عثة الغبار وتحدث لدى آخر بفعل حبوب البن، فإن الآلية الأساسية لا تزال واحدة؛ تنشيط جهاز الجلوبين المناعي E.
أينما وجدت سلاسل بسيطة من الأحداث البيوكيميائية وجدت الجينات، فكل بروتين في السلسلة مصنوع من أحد الجينات، أو في حالة الجلوبين المناعي E، من اثنين من الجينات. وبعض الأشخاص يولدون وهم يملكون، أو يطورون، مثيرات للجلوبين المناعي، على الأرجح بسبب اختلاف جيناتهم اختلافًا بسيطًا عن غيرهم من الأشخاص بسبب طفرات معينة.

يتضح لنا هذا من خلال حقيقة توارث الربو في العائلات (وهي الحقيقة التي أدركها حكيم قرطبة اليهودي موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر). في بعض الأماكن، بالصدفة، تحدث طفرات الربو على نحو متكرر. ومن أمثلة هذه الأماكن جزيرة تريستان دا كونا، التي من المؤكد أن ساكنيها أحفاد شخص عرضة للإصابة بمرض الربو. فبالرغم من الجو البحري الجميل نجد أن أكثر من عشرين بالمائة من سكان هذه الجزيرة يظهرون أعراضًا واضحة لمرض الربو. في عام ١٩٩٧ قام مجموعة من علماء الوراثة بتمويل من إحدى شركات التكنولوجيا الحيوية برحلة بحرية طويلة إلى الجزيرة وجمعوا عينات دماء من ٢٧٠ من أصل ٣٠٠ نسمة هم سكان الجزيرة بغرض العثور على الطفرة المسببة للمرض.

إن العثور على هذه الجينات الطافرة يعني الوصول إلى المسبب الرئيسي للآلية الأساسية للربو بما يحمله ذلك من فرص التوصل إلى علاج. ومع أن النظافة وعثة الغبار يمكن لهما أن يفسرا سبب تزايد حالات الإصابة بالربو في المجمل، فالاختلافات بين الجينات وحدها هي القادرة على تفسير سبب إصابة أحد أفراد الأسرة بالربو وعدم إصابة فرد آخر به.

إلا أننا بالطبع سنُواجَه هنا للمرة الأولى تلك الصعوبة التي تكتنف كلمات مثل «طبيعي» و«طافر». ففي حالة الكابتونيوريا من الواضح في جلاء أن نسخة من الجين طبيعية في حين نسخة أخرى «غير طبيعية». أما في حالة الربو فليس الأمر واضحًا على الإطلاق. ففي العصر الحجري، قبل وسائد الريش، لم يعتبر الجهاز المناعي الذي يتغاضى عن الهجوم على عثة الغبار معيوبًا، لأن عثة الغبار لم تكن بالمشكلة الملحة في معسكر الصيد المؤقت في حشائش السافانا. وإذا كان الجهاز المناعي نفسه يجيد قتل ديدان البطن إجادة خاصة، فعندئذٍ كان «المصابون بالربو» هم من يعدون أشخاصًا عاديين طبيعيين، وكان غيرهم هم الأشخاص غير الطبيعيين الذين «يحملون الطفرة» بما أنهم كانوا يملكون الجينات التي تجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالديدان، أما من كانوا يملكون أجهزة جلوبين مناعي E حساسة فكانوا على الأرجح أفضل مقاومة لغزوات الديدان. من الأمور التي بتنا ندركها في العقود الأخيرة تلك الصعوبة التي تكتنف محاولة تعريف ما هو «طبيعي» وما هو طافر.
في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، شرعت مجموعات عديدة من العلماء في بحث حثيث عن «جين الربو». وبحلول منتصف عام ١٩٩٨ كان العلماء قد توصلوا ليس إلى جين واحد فحسب، بل إلى خمسة عشر جينًا مختلفًا. كان ثمانية من الجينات المرشحة وحدها تقع في الكروموسوم ٥، واثنان في الكروموسوم ٦ ومثلهما في الكروموسوم ١٢، إلى جانب جين واحد في كل من الكروموسومات ١١ و١٣ و١٤. هذا كله إلى جانب أن جزأين من الجلوبين المناعي E — وهو الجزيء الذي يقع في قلب العملية بأكملها — مصنوعان من جينين مختلفين في الكروموسوم ١. قد ترجع أصول الربو إلى جميع هذه الجينات بترتيب متفاوت أو إلى مزيج منها ومن جينات أخرى كذلك.
لكل جين مناصرون، والمشاعر محتدمة. وصف ويليام كوكسون، علّامة الوراثة في جامعة أوكسفورد، الكيفية التي استجاب بها زملاؤه لاكتشافه علاقة بين قابلية الإصابة بالربو وإحدى الواسمات على الكروموسوم ١١؛ فقد هنأه البعض، وسارع آخرون إلى معارضته، عادة من منطلق تلف العينات أو صغر حجمها. وكتب أحدهم مقالات افتتاحية متعجرفة في دوريات طبية يسخر فيها من تلك «الافتراضات المنطقية المتناقضة» و«الجينات الأكسفوردية». وانتقده واحد أو اثنان نقدًا ساخرًا على الملأ، فيما عمد أحدهم، دون أن يذكر اسمه، إلى اتهامه بالاحتيال. (قد ينظر العالم الخارجي إلى تلك الضراوة التي تميز العداوات بين العلماء على أنها شيء مفاجئ، في حين تسود السياسة، على النقيض من ذلك، أجواء أكثر تهذبًا نسبيًّا.) ولم تتحسن الأمور حين ضخمت إحدى المقالات، التي نشرت في إحدى صحف يوم الأحد، من اكتشاف كوكسون، إذ تبعها برنامج تليفزيوني يهاجم تلك المقالة، قوبل بدوره بشكوى إلى منظمي البث التليفزيوني من الصحيفة. يقول كوكسون في هدوء:3 «بعد أربعة أعوام من الشك المتواصل والإنكار بتنا جميعًا نشعر بالتعب.»

هذه هي حقيقة عملية البحث عن الجينات. ينزع الفلاسفة الأخلاقيون الذين يعيشون في أبراج عاجية إلى التقليل من شأن العلماء ووصفهم بأنهم باحثون عن الذهب فقط، وأن همهم هو تحقيق الشهرة والثروة. إن فكرة «الجينات المسئولة عن» أشياء مثل إدمان الكحوليات والفصام باتت محل سخرية، لأن هذه الادعاءات غالبًا ما كان يُتراجع عنها. وهذا التراجع لا يُنظر إليه على أنه دليل على عدم وجود علاقة جينية، بل على أنه دليل إدانة لعملية البحث عن العلاقة الجينية بأسرها. وهؤلاء المنتقدون لهم وجهة نظر وجيهة، فعناوين الصحف المفرطة في التبسيط من الممكن أن تكون مضللة، ومع ذلك فإنه من واجب أي شخص يجد الدليل على وجود علاقة بين أحد الأمراض وأحد الجينات أن ينشر ما توصل إليه. ولو ثبت أنه غير صحيح فلا ضير في ذلك. يرى كثيرون أن الافتراضات السلبية الكاذبة (أي استبعاد جينات حقيقية من دائرة البحث بسبب عدم كفاءة البيانات) قد تسببت في أضرار تفوق الافتراضات الإيجابية الكاذبة (أي الاشتباه في وجود علاقة ثم يثبت بعد ذلك خطأ هذا الافتراض).

وفي نهاية المطاف حدد كوكسون وزملاؤه الجين وحددوا الطفرة الموجودة به، التي توجد لدى المصابين بالربو أكثر من الآخرين، لكنه لم يكن بالمثال الأفضل على جين الربو؛ إذ إنه كان مسئولًا فقط عن خمسة عشر بالمائة من حالات الربو، كما كان من العسير للغاية تكرار نتائج التجربة عند مصابين آخرين، وهي السمة المثيرة للجنون التي تميز عملية البحث عن جين الربو والتي تكررت على نحو مخيب للآمال مرات كثيرة. وبحلول عام ١٩٩٤ اقترح أحد منافسي كوكسون، ويدعى ديفيد مارش، وجود علاقة قوية بين الربو وجين الإنترليوكين ٤ الموجود في الكروموسوم ٥، وذلك استنادًا إلى دراسة أجريت على إحدى عشرة أسرة من طائفة الآميش، لكن هذه الدراسة أيضًا كان من الصعب تكرارها. وفي عام ١٩٩٧ نفت مجموعة من العلماء الفنلنديين تمامًا وجود علاقة بين هذا الجين ومرض الربو. وفي العام نفسه، خلُصت دراسة أجريت على مواطنين أمريكيين ذوي أعراق مختلطة إلى أن إحدى عشرة منطقة كروموسومية مختلفة يمكن ربطها بقابلية الإصابة بالربو، منها عشر مناطق كانت مقتصرة على مجموعة جنسية أو عرقية متفردة؛ بمعنى أن الجين الذي يحدد قابلية الإصابة بالربو لدى السود كان مختلفًا عن الجين الذي يحدد قابلية الإصابة لدى البيض، والمختلف تمامًا بدوره عن الجين الذي يحدد قابلية الإصابة لدى الأشخاص ذوي الأصول اللاتينية.4

الاختلافات بين الجنسين هي الأخرى واضحة شأنها شأن تلك التي بين الأعراق. فوفقًا للدراسات التي أجرتها الرابطة الأمريكية لصحة الرئة، نجد أن غاز الأوزون المنبعث من السيارات التي تعمل بالبترول يتسبب في إصابة الرجال بالربو، والجسيمات المنبعثة من محركات الديزل تتسبب على الأرجح في تحفيز نوبات الربو لدى النساء. وكقاعدة، يبدو أن الرجال يتعرضون لنوبات مبكرة من الربو ثم يتعافون منها مع التقدم في العمر، في حين تظهر الحساسية لدى النساء في أواسط وأواخر العشرينات ولا يتعافين منها مع التقدم في العمر (مع أن لكل قاعدة استثناء، ويشمل ذلك طبعًا تلك القاعدة نفسها). وهذا يفسر لنا شيئًا غريبًا بشأن وراثة مرض الربو، وهو أنه غالبًا ما يرثه الأفراد من الأمهات المصابات بالحساسية، لكن نادرًا ما يرثونه من الآباء. وهذا قد يعني أن إصابة الأب بالربو قد حدثت منذ فترة طويلة في شبابه وأنها صارت منسية بدرجة كبيرة.

يبدو أن الصعوبة تكمن في وجود طرق عديدة لتغيير حساسية الجسم لمثيرات الربو، على طول سلسلة ردود الفعل التي تؤدي إلى ظهور الأعراض، مما يجعل أنواعًا مختلفة من الجينات مرشحة لأن تكون «جينات الربو»، مع أنه لا يمكن لواحد منها بمفرده أن يفسر سوى عدد قليل من الحالات. على سبيل المثال: يقع الجين ADRB2 على الذراع الطويلة للكروموسوم ٥. وهو وصفة لبروتين يطلق عليه اسم مستقبِل بيتا ٢ الأدريني، الذي يتحكم في سعة الشعب الهوائية وضيقها، وهي الأعراض المباشرة للربو التي تؤدي إلى ضيق في القصبة الهوائية. تعمل أغلب العقاقير المعالجة لنوبات الربو على مهاجمة هذا المستقبِل، فهل نحن واثقون إذن من أن طفرة في الجين ADRB2 هي المسبب الرئيسي لظهور «جين الربو»؟ ثُبِّتَ الجين أولًا في الخلايا المأخوذة من فئران الهامستر الصينية، وهو وصفة تقليدية من وصفات الدنا طولها ١٢٣٩ حرفًا. وسرعان ما ظهر اختلاف واعد في الهجاء بين المصابين بحالات حادة من الربو الليلي والمصابين بالربو غير الليلي؛ إذ كان الحرف رقم ٤٦ هو حرف G بدلًا من A، لكن لم تكن النتائج حاسمة على الإطلاق. فعلى وجه التقريب، كان حوالي ثمانين بالمائة من المصابين بالربو الليلي يملكون الحرف G، وكان اثنان وخمسون بالمائة من المصابين بالربو غير الليلي يملكون هم أيضًا الحرف G. وقد اعتبر العلماء أن هذا الفارق كان كافيًا لمنع ذلك الوَهَن الذي يصيب الجهاز المناعي ضد الحساسية، والذي يحدث في المعتاد في الليل.5
لكن المصابين بنوبات الربو الليلية هم أقلية بسيطة. ومما يضفي المزيد من الإرباك على الأمر أن الاختلاف الهجائي نفسه ارتبط منذ ذلك الوقت بمشكلة مختلفة متعلقة بمرض الربو، وهي مقاومة المرض للعقاقير. فمن يملكون الحرف G في الموضع السادس والأربعين نفسه في الجين نفسه على النسختين نفسيهما من الكروموسوم ٥ يُرجح أن يجدوا أن أدوية علاج الربو التي يتناولونها — مثل الفورميتيرول — تفقد فعاليتها تدريجيًّا على مدار فترة أسابيع أو أشهر، وذلك أكثر ممن يملكون الحرف A في كلتا النسختين.
«من المرجح» … «محتمل» … «في بعض الحالات»؛ لا تبدو هذه الكلمات كاللغة التوكيدية الحاسمة نفسها التي استخدمتها عند وصف مرض هنتنجتون في الكروموسوم ٤. من الواضح أن تغير الحرف A إلى G في الجين ADRB2 له علاقة بقابلية الإصابة بمرض الربو، لكن من غير الممكن أن يُطلق عليه اسم «جين الربو»، أو حتى استخدامه لشرح سبب إصابة بعض الأفراد بالربو دون غيرهم. إنه على أفضل تقدير جزء بسيط من القصة، ينطبق على أقلية بسيطة من الحالات أو يملك تأثيرًا ضئيلًا يمكن أن تمحوه بسهولة عوامل أخرى. ويفضل أن تبدأ في التعود على هذه الحالة من الغموض، فكلما توغلنا في عالم الجينوم قلت الحتمية. والمناطق الرمادية وتفاوت الأسباب والنتائج والجبرية المبهمة هي السمات الرئيسية لهذا النظام. وليس سبب ذلك خطأَ وصفي للوراثة الجزيئية بالبساطة في الفصول السابقة، بل لأن البساطة حين تتراكم على البساطة تنتج تعقيدًا. إن الجينوم يشوبه تعقيد ويعوزه التحديد الفاصل شأن الحياة نفسها؛ لأنه هو الحياة نفسها. ينبغي أن نجد في هذه الحقيقة بعض السلوى؛ إذ إن الحتمية الخالصة، سواء من الناحية الجينية أو البيئية، تعد مبعثًا على الاكتئاب للمولعين بفكرة الإرادة الحرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤