الكروموسوم ٧: الغريزة

إن صفحة الطبيعة البشرية لم تكن فارغة قط.

دابليو دي هاملتون
لا يشك أحد في أن الجينات يمكنها تحديد بنية الجسم، بيد أنه من الصعب تقبل فكرة أنها تحدد السلوك أيضًا. ومع هذا آمل أن أقنعك بأنه يوجد في الكروموسوم ٧ جين يمكنه أن يلعب دورًا مهمًّا في تزويد البشر بغريزة ما؛ غريزة تقع في قلب الثقافة البشرية بأسرها.1

تستخدم كلمة الغريزة مع الحيوانات؛ فأسماك السلمون تسبح عكس التيار منذ صغرها، وحشرة الحفور تكرر سلوك آبائها الأموات منذ وقت طويل، وطيور السنونو تهاجر إلى الجنوب في الشتاء، هذه كلها غرائز. أما البشر فلا يحتاجون إلى الاعتماد على الغريزة، بل هم يتعلمون، فهم مخلوقات مبدعة مثقفة واعية. وكل شيء يفعلونه هو نتاج إرادتهم الحرة، وعقولهم الجبارة، وآبائهم الذين يشكلون عقولهم.

كانت تلك هي الرؤية التي سادت علم النفس وغيره من العلوم الاجتماعية في القرن العشرين. أما التفكير في عكس ذلك؛ أي الاعتقاد أن السلوك البشري يتحدد وراثيًّا، فكان يعني الوقوع في مصيدة الحتمية، والحكم على الأفراد بالانصياع لمصير محفور في جيناتهم من قبل حتى أن يولدوا. ومع هذا فقد شرعت العلوم الاجتماعية في ابتكار أشكال منذرة بالخطر من الحتمية لكي تحل محل ذلك الشكل الخاص بالوراثة؛ فنجد الحتمية الأبوية لفرويد، والحتمية الاقتصادية الاجتماعية لماركس، والحتمية السياسية للينين، والحتمية الثقافية لضغوط الأقران لفرانز بواس ومارجريت ميد، وحتمية المثير-الاستجابة لجون واطسون وبي إف سكينر، والحتمية اللغوية لإدوارد سابير وبينجامين وورف. ففي واحدة من أكثر الأعمال تضليلًا على مر التاريخ، تمكن علماء الاجتماع على مدار القرن تقريبًا من إقناع المفكرين من مختلف المناحي بأن السببية البيولوجية تعني الحتمية، والسببية البيئية تحفظ الإرادة الحرة، وأن الحيوانات تملك غرائز، والبشر لا يملكونها.

لكن بين عامي ١٩٥٠ و١٩٩٠ تداعى صرح الحتمية البيئية وانهار؛ إذ تداعت نظرية فرويد في اللحظة التي شفى فيها الليثيوم أحد المصابين بالهوس الاكتئابي لأول مرة، بعدما فشلت عشرون عامًا من التحليل النفسي في شفائه. (في عام ١٩٩٥ قاضت سيدة معالجها السابق استنادًا على أن العلاج بالبروزاك مدة ثلاثة أسابيع حقق لها أكثر مما حققته ثلاث سنوات من العلاج النفسي.) وقد أخفقت الماركسية في اللحظة التي بُني فيها سور برلين، مع أنها احتاجت للانتظار حتى سقوطه كي يدرك بعض الناس أن التبعية لدولة ذات سلطة مطلقة لا يمكن أن تكون أمرًا ممتعًا، مهما صاحب ذلك من دعاية واسعة. أما الحتمية الثقافية فقد انهارت حين اكتشف ديريك فريمان أن النتائج التي خلصت إليها مارجريت ميد (والتي تقضي بأن سلوك المراهقين قابل للتطويع قابلية مطلقة بواسطة الثقافة) كانت مبنية على مزيج من التحيز التواق وسوء جمع البيانات وخداع المراهقين الذين أجريت عليهم الدراسة. وقد سقطت الحتمية السلوكية مع تجارب الخمسينيات الشهيرة في ويسكونسن التي صارت فيها القردة اليتيمة الوليدة متعلقة عاطفيًّا بنماذج من القماش لأمهاتها، حتى حين أُطعمت من خلال نماذج آلية، وبهذا رفضت إطاعة النظرية التي تقول إننا نحن الثدييات يمكن تكييف سلوكنا بحيث نفضل ملمس أي شيء يمنحنا الطعام؛ فتفضيل الأمهات رقيقات الملمس أمر مغروس داخلنا.2

وفي عالم اللغويات، كان أول صدع أصاب هذا الصرح هو كتاب لناعوم تشومسكي بعنوان «البنى النحوية» الذي حاج فيه بأن اللغة البشرية، أكثر الجوانب الثقافية وضوحًا في كل سلوكياتنا، تعتمد على الغريزة بقدر ما تعتمد على الثقافة. لقد أعاد تشومسكي إحياء تلك النظرة القديمة للغة، التي وصفها داروين بأنها «ميل غريزي لاكتساب مهارة». وقد كان عالم النفس ويليام جيمس، شقيق الروائي هنري جيمس، من أشد المناصرين لفكرة أن السلوك الإنساني يظهر دلائل على غرائز أكثر تمايزًا عن الحيوانات، وليس أقل. بيد أن فكرته لم تلق إلا التجاهل طوال الجزء الأعظم من القرن العشرين، إلى أن أعاد لها تشومسكي الحياة.

فمن خلال دراسته للطريقة التي يتحدث بها البشر، خلص تشومسكي إلى وجود أسس متشابهة في كل اللغات، مما يعد دليلًا على وجود قدرة نحوية جامعة لدى كل البشر. ونحن جميعًا قادرون على استخدام هذه القدرة، مع أننا عادة لا نكون واعين بها. هذا بالتأكيد يعني أن جزءًا من أمخاخ البشر يأتي مزودًا عن طريق الجينات بقدرة متخصصة على تعلم اللغة. من الجلي أن المفردات نفسها ليست شيئًا موروثًا، وإلا لكنا نتحدث جميعًا لغة واحدة لا تنويع فيها، لكن على الأرجح يضع الطفل — وهو يكتسب المفردات من مجتمعه الأم — هذه المفردات في مجموعة موروثة من القواعد العقلية. كان دليل تشومسكي على هذه الفكرة لغويًّا؛ إذ وجد تطابقات في الطريقة التي نتحدث بها والتي لم نتعلمها من آبائنا ولم يكن بمقدورنا استنتاجها من أمثلة اللغة اليومية دون قدر كبير من الصعوبة. على سبيل المثال: في اللغة الإنجليزية، كي نحول الجملة الخبرية إلى جملة استفهامية، نضع الفعل المساعد في بداية الجملة، لكن كيف نعرف أي فعل نضعه تحديدًا؟ تدبر العبارة الآتية: A unicorn that is eating a flower is in the garden. يمكنك تحويل هذه الجملة الخبرية إلى سؤال بتحريك فعل is الثاني إلى بداية الجملة بحيث يكون السؤال كالآتي: Is a unicorn that is eating a flower in the garden? أما إذا نقلت فعل is الأول إلى بداية الجملة فلن يكون لها معنى، حيث ستكون وقتها على الشكل الآتي: Is a unicorn that eating a flower is in the garden? الفارق هنا هو أن is الأولى جزء من شبه جملة اسمية المقصود منها استدعاء صورة عقلية معينة للحصان أحادي القرن؛ أنه ليس أي حصان بل ذلك الذي يأكل الوردة. ومع هذا فأي طفل يبلغ من العمر أربعة أعوام يمكنه أن يستخدم هذه القاعدة بسهولة، دون أن يكون قد تعلم أي شيء عن شبه الجملة الاسمية. إنه يعرف القاعدة وحسب. وهو يعرفها دون أن يكون قد استخدم شبه الجملة الاسمية a unicorn that is eating a flower من قبل. وهذا هو جمال اللغة، فكل عبارة نصوغها تقريبًا هي تركيبة غير مسبوقة من الكلمات.
أُثبتت فرضية تشومسكي عبر العقود التالية بالعديد من الأدلة الآتية من مناحٍ متباينة، وكلها تؤكد نتيجة مفادها أن تعلم اللغة البشرية يحتاج — بكلمات عالم النفس اللغوي ستيفن بينكر — إلى غريزة بشرية للغة. لقد جمع بينكر (الذي أطلق عليه لقب أول عالم لغويات يتمكن من كتابة نثر قابل للقراءة) العديد من الأدلة المقنعة على أن المهارات اللغوية شيء فطري موروث. إن البشر كافة يتحدثون لغات ذات درجات متفاوتة في التعقيد النحوي، حتى هؤلاء المعزولون في المناطق الجبلية في غينيا الجديدة منذ العصر الحجري. وكل الناس متمسكون باتباع قواعد نحوية ضمنية وحريصون على ذلك، حتى من لم يتلقوا أي تعليم منهم ومن يتحدثون ما يُطلق عليه استعلاءً اسم اللغة «العامية». إن قواعد لغة الزنوج الفقراء في نفس منطقية قواعد لغة الطبقة الراقية. وما تفضيل إحداهما على الأخرى إلا نوع من التحامل لا أكثر. على سبيل المثال: يعد استخدام النفي المزدوج في الجملة (Don’t nobody do this to me …) أمرًا مقبولًا في اللغة الفرنسية، لكنه يعد من العامية في اللغة الإنجليزية. والقاعدة متبعة باتساق في كلتا اللغتين.
ثانيًا: إذا كانت هذه القواعد اكتُسبت بالمحاكاة شأن المفردات، لماذا إذن نجد الأطفال ذوي الأربع سنوات الذين يستخدمون كلمة went بسعادة منذ سنة أو نحو ذلك يبدءون فجأة في قول كلمة goed؟ في الواقع مع أننا علينا أن نعلم أبناءنا القراءة والكتابة — وهما المهارتان اللتان لا توجد لهما غرائز خاصة — فإنهم يتعلمون الحديث من تلقاء أنفسهم في سن صغيرة للغاية وبأقل قدر من المساعدة منا. لا يوجد أب يستخدم كلمة goed، ومع ذلك يستخدمها أغلب الأطفال في مرحلة ما. لا يوجد أب يشرح أن كلمة «فنجان» تشير إلى كافة الأشياء التي على شاكلة الفنجان في الشكل وليس هذا الفنجان المفرد تحديدًا، ولا أن هذه الكلمة تشير إلى يد الفنجان، أو الخامة المصنوع منها، أو فعل الإشارة إلى الفنجان، أو المفهوم المجرد لفكرة الفنجان، أو حجم الفنجان ودرجة حرارته. إن الكمبيوتر المطلوب منه تعلم اللغة لا بد أن يكون مجهزًا ببرنامج مصمم كي يتجاهل كل هذه الاحتمالات السخيفة، بعبارة أخرى يكون مزودًا بغريزة. الأطفال يولدون وهم مبرمجون ومقيدون فطريًّا للتفكير في أنواع محددة من التخمينات.

لكن أكثر الأدلة إثارة للدهشة على وجود غريزة للغة جاء من سلسلة من التجارب الطبيعية التي طبق فيها الأطفال قواعد نحوية على لغات كانت تفتقد هذه القواعد. كانت أشهر حالة — وهي تلك التي درسها ديريك بيكرتون — تخص مجموعة من العمال الأجانب الذين جُلبوا إلى هاواي في القرن التاسع عشر والذين طوروا لغة مبسطة، أي مزيجًا من الكلمات والعبارات البسيطة كي يتواصلوا بها. ومثل أغلب اللغات المبسطة كانت تلك اللغة تفتقر إلى القواعد النحوية الثابتة، وظلت صعبة للغاية في الطريقة التي كان عليها أن تعبر بها عن الأشياء، وفي الوقت ذاته سهلة نسبية فيما يمكنها التعبير عنه. بيد أن كل هذا تغير حين تعلم جيل من الأطفال في صغرهم هذه اللغة للمرة الأولى؛ إذ اكتسبت هذه اللغة قواعد الصرف، وترتيب الكلمات، والنحو بحيث صارت أكثر كفاءة وفعالية، أي إنها صارت لغة هجينة. وباختصار، كما خلص بيكرتون، فقد تحولت اللغة المبسطة إلى لغة هجينة بعد أن تعلمها جيل من الأطفال، الذين استخدموا غريزتهم في عملية التحول.

تلقت فرضية بيكرتون دعمًا كبيرًا من دراسة لغة الإشارة، ففي إحدى الحالات، في نيكاراجوا، أدى وجود المدارس الخاصة للصم، التي أنشئت للمرة الأولى في ثمانينيات القرن العشرين إلى اختراع لغة جديدة تمامًا. كانت المدرسة تعلم قراءة الشفاه دون نجاح كبير، لكن في ملاعبها استخدم الأطفال إشارات الأيدي المتنوعة التي كانوا يتعلمونها في منازلهم وأرسوا بهذا لغة مبسطة. وفي غضون سنوات قليلة مع تعلم الصغار هذه اللغة المبسطة، تحولت إلى لغة إشارة حقيقية تحمل نفس التعقيد والتنظيم والكفاءة والقواعد النحوية للغة المنطوقة. ومرة ثانية نجد أن الأطفال هم من أوجدوا هذه اللغة، وهي الحقيقة التي توحي أن غريزة اللغة تضمر وتتلاشى عندما يصل الطفل إلى مرحلة البلوغ. وهذا يفسر لنا سبب صعوبة تعلم لغات جديدة، أو حتى لهجات جديدة، في الكبر؛ فنحن لم نعد نملك هذه الغريزة. (وهذا يفسر أيضًا لماذا يكون من الصعب، حتى على الأطفال، أن يتعلموا اللغة الفرنسية في حجرات الدراسة عن تعلمهم إياها أثناء إجازة في فرنسا؛ إذ إن الغريزة تعمل من واقع الحديث الذي يُسمع لا القواعد التي يجب استظهارها.) إن وجود فترة حساسة يمكن خلالها تعلم شيء ما، لكن من المحال تعلمه خارجها، يعد من أهم خصائص العديد من الغرائز الحيوانية. على سبيل المثال: يتعلم العصفور المغرد نغمات التغريد التي تميز نوعه فقط إذا تعرض لها في مرحلة معينة من عمره. وقد ثبت صحة هذه القاعدة فيما يتعلق بالبشر من خلال القصة المأساوية الحقيقية لفتاة تدعى جيني، اكتُشف وجودها في إحدى شقق لوس أنجلوس وهي تبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا. أُبقيت هذه الفتاة في حجرة شبه خالية من الأثاث طيلة حياتها وحُرمت من أي تواصل بشري تقريبًا. وقد تعلمت كلمتين فقط هما «توقف» و«لا مزيد». وبعد إخراجها من هذا الجحيم بدأت في اكتساب المزيد من المفردات اكتسابًا سريعًا، لكنها لم تستطع تعلم القواعد النحوية؛ إذ إن تلك الفترة الحساسة التي تعبر فيها الغريزة عن نفسها كانت قد وَلَّتْ.

لكن حتى الأفكار السيئة تحتاج وقتًا طويلًا للخلاص منها، وفكرة أن اللغة شكل من أشكال الثقافة التي يمكنها تشكيل المخ، وليس العكس، أخذت وقتًا طويلًا حتى تنتهي. ومع أن دراسات الحالة المؤيدة لها مثل انعدام مفهوم الوقت في لغة الهوبي ومن ثم عدم وجوده في فكر الهوبي فُضحت بوصفها محض خداع، فإن فكرة أن اللغة هي سبب وليست نتيجة لتركيبة المخ البشري ظلت حية في العديد من العلوم الاجتماعية. فمن العبث الزعم أن الألمان وحدهم يمكنهم استيعاب مفهوم الشعور بالسعادة من تعاسة شخص آخر فقط لأن لديهم كلمة تحمل هذا المعنى، كلمة Schadenfreude، في حين يعجز بقيتنا، ممن لا يوجد لديهم كلمة بهذا المعنى، عن استيعاب هذا المفهوم من الأساس.3
تمدنا العديد من المصادر بمزيد من الأدلة على غريزة اللغة، ومن أهمها الدراسات التفصيلية عن الطريقة التي يطور بها الأطفال اللغة في عامهم الثاني. فبصرف النظر عن مقدار الحديث الذي يوجه لهم مباشرةً، أو التوجيه الذي يتلقونه بشأن استخدام الكلمات، يطور الأطفال المهارات اللغوية بترتيب ونمط يمكن التنبؤ به. وأثبتت دراسات التوائم أيضًا أن الميل لتطوير اللغة بصورة متأخرة هو أمر وراثي بدرجة كبيرة. ومع هذا يعتبر الكثيرون أن أهم الأدلة الدامغة على غريزة اللغة يأتي من العلوم الملموسة؛ علم دراسة الأعصاب وعلم الوراثة، فمن الصعب الجدال إزاء المصابين بالسكتات الدماغية والجينات. إن الجزء نفسه من المخ يستخدم دومًا لمعالجة اللغة (الفص الأيسر من المخ لدى أغلب الناس)، حتى لدى الصم الذين «يتحدثون» بأيديهم، مع أن لغة الإشارة تستخدم أيضًا جزءًا من الفص الأيمن.4
إذا تعرض جزء بعينه من هذه الأجزاء بالمخ للتلف يعرف الأثر باسم «حبسة بروكا»، التي تعني فقد القدرة على استخدام النحو أو فهمه اللهم إلا بقدر يسير، على الرغم من أن القدرة على فهم المنطق العام لا تتأثر. على سبيل المثال: يمكن للمصاب بحبسة بروكا أن يجيب عن السؤال: «هل تستخدم المطرقة لقص الأشياء؟» بيد أنه سيجد صعوبة كبيرة مع السؤال: «قُتل الأسد بأنياب النمر. أيهما مات؟» إذ إن السؤال الثاني يتطلب حساسية للقواعد النحوية، وهو المعروف فقط لدى هذا الجزء الأوحد من المخ. من شأن تلف منطقة أخرى من المخ، منطقة فيرنيكه، أن تؤدي إلى تأثير معاكس، إذ ينتج المصابون بتلف في هذه المنطقة فيضًا غنيًّا من الكلمات غير ذات المعنى. الأمر يبدو وكأن منطقة بروكا تنتج الحديث في حين تحدد منطقة فيرنيكه لمنطقة بروكا أي الحديث تحديدًا تنتجه. بيد أن هذه ليست القصة بأكملها؛ إذ إن هناك مناطق أخرى تلعب دورًا في معالجة اللغة، أبرزها منطقة الجزيرة (التي قد تكون المنطقة التي يصيبها القصور لدى المصابين بخلل القراءة).5

هناك مرضان وراثيان يؤثران في القدرة اللغوية؛ أحدهما: هو متلازمة ويليامز، ويسببه تغير في أحد الجينات الموجودة في الكروموسوم ١١، وفيه تكون درجة ذكاء الأطفال المصابين منخفضة للغاية، لكن يكون لديهم إدمان لاستخدام لغة خصبة غنية ثرثارة. إنهم يواصلون الثرثرة، مستخدمين كلمات طويلة، وعبارات طويلة، وتركيبات لغوية معقدة. وإذا طُلِبَ من أحدهم أن يذكر حيوانًا فسيختار شيئًا غريبًا غير مألوف مثل خنزير الأرض، بدلًا من القط أو الكلب. توجد لديهم قدرة عالية على تعلم اللغة، ولكنها تأتي على حساب المنطق؛ وهم يُعْتَبرون من المتخلفين عقليًّا بشدة. إن وجودهم يناقض تلك الفكرة التي خطرت لأغلبنا في وقت ما والقائلة إن التفكير العقلاني هو شكل من أشكال اللغة الصامتة.

المرض الوراثي الآخر له تأثير معاكس؛ إذ يقلل من القدرة اللغوية دون تأثير واضح في الذكاء، أو على الأقل ليس في كل الحالات. يعد هذا المرض، الذي يطلق عليه الضعف اللغوي المحدد، ساحة لصراع علمي ضارٍ؛ إذ إنه يمثل ميدانًا للمعركة بين العلم الحديث المسمى بعلم النفس التطوري والعلوم الاجتماعية القديمة، بين التفسيرات الجينية للسلوك والتفسيرات البيئية له. والجين المسئول هنا يقع على الكروموسوم ٧.

ليست القضية في وجود الجين من عدمه؛ فالتحليل الدقيق لدراسات التوائم يوضح بما لا يدع مجالًا للشك توارث بعض أنواع الإعاقات اللغوية. هذا المرض ليس مرتبطًا بتلف عصبي محدد وقع أثناء الميلاد، كما أنه ليس مرتبطًا بالتنشئة اللغوية الفقيرة، كما لا يحدث نتيجة للتخلف العقلي العام. ووفقًا لبعض الاختبارات، واعتمادًا على كيفية تعريفه، تقترب احتمالية نقل هذا المرض وراثيًّا من نسبة المائة بالمائة، بمعنى أن التوائم المتطابقة يرجح احتمال إصابتهم بالمرض بنسبة الضعف عن التوائم غير المتطابقة.6
كذلك لا تعد مسألة موضع الجين على الكروموسوم ٧ محل خلاف هي الأخرى، ففي عام ١٩٩٧ حدد علماء من جامعة أكسفورد أحد الواسمات الجينية على الذراع الطويلة للكروموسوم ٧، التي يتلازم أحد أشكالها مع مرض الضعف اللغوي المحدد. وقد كان هذا الدليل — على الرغم من اعتماده على عائلة إنجليزية واحدة كبيرة — قويًّا ولا يقبل الجدل.7

ما سبب الصراع إذن؟ يستعر الجدل حول ماهية مرض الضعف اللغوي المحدد ذاته؛ إذ يرى البعض أنه ليس إلا مشكلة عامة بالمخ تؤثر في العديد من جوانب القدرة على إنتاج اللغة، وفيها في الأساس القدرة على التلفظ بالكلمات بالفم وسماع الأصوات بالشكل الصحيح من خلال الأذن. ويرى أصحاب هذه النظرية أن الصعوبة التي يجدها المصابون حيال اللغة تنبع من هذه المشكلات الحسية، لكن يرى آخرون أن هذا التفسير مضلل تضليلًا شديدًا؛ فالمشكلات السمعية ومشكلات الصوت موجودة، بكل تأكيد، لدى المصابين بالمرض، لكن في وجود أمر آخر مثير للاهتمام هو: مشكلة حقيقية في فهم واستخدام القواعد النحوية المستقلة تمامًا عن الإعاقة الحسية. والأمر الوحيد الذي يمكن للطرفين أن يتفقا عليه هو أنه من المشين تمامًا على وسائل الإعلام تناول الأمر بهذه السطحية الفجة الساعية وراء استثارة الجمهور؛ أن تصور الجين على أنه «جين النحو».

تتركز القصة حول عائلة إنجليزية كبيرة معروفة باسم عائلة كيه. توجد ثلاثة أجيال لهذه العائلة؛ إذ تزوجت امرأة مصابة بهذا المرض برجل غير مصاب به، وأنجبا أربع بنات وولدًا، كلهم أصيبوا بالمرض عدا ابنة واحدة، وبالتبعية أنجب هؤلاء الأبناء أربعة وعشرين حفيدًا، عشرة منهم مصابون بالمرض. لا بد أن هذه العائلة كانت على علاقة وثيقة بعلماء النفس؛ إذ حاصرتها الفرق المتنافسة بترسانة من الاختبارات. إن دماءهم هي التي قادت فريق جامعة أكسفورد لاكتشاف الجين في الكروموسوم ٧. وفريق أكسفورد، الذي كان يعمل بالتعاون مع معهد صحة الطفل بلندن، ينتمي إلى المدرسة «العريضة» لمرض الضعف اللغوي المحدد، التي ترى أن نقص المهارات النحوية لدى المصابين بالمرض من أفراد عائلة كيه ينبع من مشكلات السمع والحديث التي يعانونها. أما غريمتهم الرئيسية والداعية الرائدة لما يطلق عليه اسم «نظرية النحو» فهي عالمة اللغويات الكندية ميرنا جوبنيك.

في عام ١٩٩٠ اقترحت جوبنيك أن عائلة كيه وغيرها من المصابين بالمرض يعانون مشكلة في معرفة القواعد النحوية الأساسية للغة الإنجليزية. والمشكلة ليست أنهم لا يعرفون القواعد، لكن في أن عليهم تعلمها تعلمًا واعيًا عن ظهر قلب، بدلًا من تعلمهم على نحو ضمني غريزي. على سبيل المثال: إذا عرضت جوبنيك على أحدهم صورة كارتونية لمخلوق خيالي وكتبت تحته عبارة This is a Wug، ثم عرضت عليه صورة لاثنين من هذه المخلوقات مكتوب تحتها These are …، سيجيب أغلب الناس في لمح البصر قائلين Wugs. أما المصابون بالضعف اللغوي المحدد فنادرًا ما يجيبون، وإن أجابوا فإن هذا يأتي بعد قدر كبير من التفكير. إنهم يبدون جاهلين تمامًا بقاعدة الجمع في اللغة الإنجليزية التي تقضي بوضع حرف s في نهاية الكلمة لتحويلها من مفرد إلى جمع. بيد أن هذا لا يمنع المصابين بهذا المرض من معرفة جمع أغلب الكلمات، المشكلة أنهم يرتبكون عند رؤية كلمات جديدة لم يروها من قبل، وهم يخطئون أيضًا بوضع حرف s لكلمات خيالية، مثل كلمة saess، ولا يفعل بقية الناس ذلك. تفترض جوبنيك أنهم يخزنون أسماء الجمع باللغة الإنجليزية في عقولهم بوصفها مدخلات معجمية منفصلة، على النحو نفسه الذي نخزن نحن به الكلمات المفردة؛ إنهم لا يخزنون القاعدة النحوية.8
بطبيعة الحال ليست المشكلة مقتصرة على جمع الكلمات، فأشياء مثل: زمن الماضي البسيط، والمبني للمجهول، وقواعد ترتيب الكلمات المتعددة، واللواحق، وقواعد مزج الكلمات، وغيرها من قواعد اللغة الإنجليزية التي يعرفها المتحدثون بها بصورة لاواعية كلها تمثل صعوبة خاصة للمصابين بهذا المرض. حين نشرت جوبنيك هذه النتائج للمرة الأولى، بعد دراسة تلك العائلة الإنجليزية، تعرضت فورًا لهجوم عنيف. قال أحد الناقدين لنظريتها إنه من المنطقي أكثر أن نخلص إلى أن مصدر مشكلات الأداء المتعددة يكمن في جهاز معالجة اللغة، وليس في القواعد النحوية التي يقوم عليها؛ فالصيغ النحوية مثل الجمع والماضي البسيط كانت على الأخص أكثر تأثرًا لدى من يعانون خللًا في الحديث من المتحدثين بالإنجليزية. وقد رأى اثنان آخران ممن انتقدوا نظريتها أنه من المضلل منها أن تتغافل عن تسجيل أن عائلة كيه كانت تعاني خللًا فطريًّا حادًّا في التحدث، يسبب خللًا في الكلمات ووحدات الصوت والمفردات والقدرة الدلالية إلى جانب بناء الجملة. لقد كانوا يجدون صعوبة في فهم العديد من صيغ بناء الجملة الأخرى مثل: المبني للمجهول القابل للعكس، والفاعل المعدل، وجمل الوصل، والصيغ المدمجة.9

كان هذا النقد مبنيًّا في جزء منه على فكرة الامتلاك؛ فلم تكن جوبنيك هي من اكتشفت هذه العائلة؛ فكيف تجرؤ على أن تضع افتراضات جديدة بشأنها؟ علاوة على ذلك، كان هناك بعض الدعم لفكرتها على الأقل في جزء من النقد الموجه لها؛ أن هذا الخلل ينطبق على كل صيغ تركيب الجملة. والزعم أن الصعوبة التي يجدها المصابون في النحو هي نتاج لمشكلة خلل الحديث لديهم سيعني الدخول في دائرة مفرغة؛ لأن خلل الحديث يترافق دومًا مع الصعوبات النحوية.

لم تكن جوبنيك ممن يستسلمون بسهولة، فعممت الدراسة على أشخاص من اليونان واليابان أيضًا، مستخدمة إياهم في تجارب عديدة بارعة مصممة لبيان نفس الظواهر. على سبيل المثال: في اللغة اليونانية تعني كلمة liko ذئب. أما كلمة likanthropos فتعني الرجل الذئب. إن كلمة lik، جذر كلمة ذئب، لا تظهر بمفردها مطلقًا. ومع ذلك يعرف معظم المتحدثين باليونانية تلقائيًّا أنهم يجب أن يحذفوا حرفي os كي يجدوا جذر الكلمة إذا ما رغبوا في أن يضموها إلى كلمة أخرى تبدأ بحرف متحرك، مثل anthropos، أو حذف حرف s وحده بحيث تتبقى كلمة liko إذا ما رغبوا في ضمها إلى كلمة تبدأ بحرف ساكن. تبدو هذه القاعدة معقدة، لكن حتى للمتحدثين بالإنجليزية فهي تبدو مألوفة على الفور. وكما توضح جوبنيك فإن المتحدثين بالإنجليزية يستخدمون هذه القاعدة طوال الوقت مع كلمات إنجليزية جديدة مثل كلمة technophobia.
لكن المصابين بمرض الضعف اللغوي المحدد من اليونانيين ليس بمقدورهم التعامل مع هذه القاعدة. إنهم قادرون على تعلم كلمات مثل likophobia أو likanthropos، بيد أنهم عاجزون بدرجة كبيرة عن إدراك أن لهذه الكلمات تركيبة معقدة، وأنها مكونة من جذور ولواحق مختلفة. ولتعويض هذا فهم يحتاجون إلى تعلم مفردات أكثر من الأشخاص العاديين. تقول جوبنيك: «عليك أن تنظر إليهم بوصفهم أشخاصًا لا يملكون لغة أمًّا.» فهم يتعلمون لغتهم الأم بنفس الصورة التي نتعلم بها نحن، كبالغين، لغة أجنبية، عن طريق الاستيعاب الواعي للقواعد والكلمات.10
تقر جوبنيك بأن بعض المصابين بمرض الضعف اللغوي المحدد لهم حاصل ذكاء منخفض في الاختبارات غير اللغوية، لكن البعض منهم من ناحية أخرى يحقق نتائج أعلى من المتوسط. وفي حالة أحد التوائم غير المتطابقة، سجل المصاب بمرض الضعف اللغوي المحدد حاصل ذكاء أعلى في الاختبارات غير اللغوية من شقيقه التوأم غير المصاب بالمرض. وتقر جوبنيك بأن أغلب المصابين بالمرض يعانون مشكلات في الحديث والسمع أيضًا، لكنها تجادل بأنه من المحال أن يكون كل المصابين كذلك وأن هذه مجرد مصادفة غير ذات صلة. على سبيل المثال: لا يجد المصابون بمرض الضعف اللغوي المحدد صعوبة في تعلم الفارق بين كلمتي ball وbell، لكنهم عادة ما يقولون fall حين يقصدون قول fell، وهذا فارق نحوي وليس متعلقًا بالمفردات. وبالمثل، فهم لا يجدون صعوبة في تمييز الفارق بين الكلمات المقفاة مثل nose وrose. وقد شعرت جوبنيك بالغضب العارم حين وصف أحد معارضي نظريتها حديث أفراد عائلة كيه بأنه «غير مفهوم» من قبل الغرباء على العائلة، فبعد أن قضت العديد من الساعات في الحديث معهم وتناول البيتزا وحضور الاحتفالات العائلية تقول إن حديثهم مفهوم بالكامل. ولإثبات عدم الصلة بين مرضهم وبين الصعوبات التي يواجهونها في الحديث والسمع طورت جوبنيك اختبارات مكتوبة كذلك. على سبيل المثال: تدبر العبارتين التاليتين: He was very happy last week when he was first وHe was very happy last week when he is first. أغلب المتحدثين بالإنجليزية سيدركون على الفور أن الجملة الأولى صحيحة من الناحية النحوية لكن الثانية ليست كذلك، ويرى المصابون بمرض الضعف اللغوي المحدد أن كلتا العبارتين مقبولتان. من الصعب تخيل كيف يمكن لهذا أن يكون نتيجة لصعوبات السمع أو الحديث.11
ومع ذلك لم يستسلم أنصار نظرية صعوبات السمع والحديث. وقد أظهروا مؤخرًا أن المصابين بهذا المرض يعانون مشكلة تدعى «تغطية الصوت» تجعلهم يفشلون في ملاحظة النغمة الصافية حين تكون مسبوقة أو متبوعة بضوضاء، ما لم تكن هذه النغمة تزيد بمقدار خمسة وأربعين ديسيبل عن درجة علو الصوت التي يستطيع أغلب الناس إدراكها. بعبارة أخرى، يجد المصابون بهذا المرض صعوبة في تمييز أصوات الحديث الأكثر خفوتًا عن تيار الأصوات الأعلى وهو ما يجعلهم — على سبيل المثال — يغفلون عن سماع حرفي ed في نهاية الكلمة.

لكن بدلًا من دعم النظرة القائلة إن هذا يفسر النطاق الكامل لأعراض مرض الضعف اللغوي المحدد، ومنها الصعوبة التي يجدها المصابون في التعامل مع القواعد النحوية، تقودنا هذه الفرضية إلى تفسير تطوري أكثر إثارة، وهو أن أجزاء السمع والحديث في المخ تقع إلى جوار الأجزاء الخاصة بالنحو، وأن جميع هذه الأجزاء تتعرض للتلف عند الإصابة بمرض الضعف اللغوي المحدد. يحدث هذا المرض نتيجة لتلف يقع في المخ في الثلث الأخير من فترة الحمل، من نسخة غير معتادة من أحد الجينات الموجودة في الكروموسوم ٧. تؤكد أشعة الرنين المغناطيسي على وجود تلف بالمخ، بل تحدد مكانه تحديدًا تقريبيًّا. وهذا المكان — لا عجب — هو مكان المنطقتين المسئولتين عن الحديث واللغة؛ المنطقتين المعروفتين باسم منطقتي بروكا وفيرنيكه.

هناك منطقتان في أمخاخ القردة تماثلان هاتين المنطقتين. تتحكم المنطقة المناظرة لمنطقة بروكا في عضلات وجه القرد والحنجرة واللسان والفم. أما المنطقة المناظرة لمنطقة فيرنيكه فتستخدم في التعرف على تتابعات الأصوات ونداءات القردة الأخرى. وهذه تحديدًا هي المشكلات نفسها غير اللغوية التي يعانيها المصابون بمرض الضعف اللغوي المحدد؛ التحكم في عضلات الوجه، وسماع الأصوات على نحو متقطع. يعني ذلك أنه حين طور أسلافنا غريزة اللغة، نمت هذه الغريزة في المنطقة المخصصة لإنتاج الأصوات ومعالجتها. وهذه الوحدة الخاصة بإنتاج الأصوات ومعالجتها ظلت كما هي، مع روابطها بعضلات الوجه والأذنين، في الوقت الذي نمت فيه وحدة اللغة فوقها، مع قدرتها الموروثة على تطبيق القواعد النحوية على مفردات الأصوات التي يستخدمها أفراد هذا النوع. وعلى هذا، ومع أنه لا يمكن لأي فرد آخر من شعبة الرئيسيات أن يتعلم اللغة النحوية على الإطلاق — وكلنا ندين بالشكر في هذا الصدد لمدربي الغوريلا والشمبانزي السذج الذين أثبتت جهودهم الحثيثة استحالة ذلك — فإن اللغة مرتبطة على نحو بدني وثيق بمراكز إنتاج الصوت ومعالجته. (لكن ليس على نحو وثيق للغاية؛ إذ إن الصم يعيدون توجيه مدخلات وحدة اللغة ومخرجاتها إلى العين واليدين على الترتيب.) وأي خلل جيني في هذا الجزء من المخ يؤثر في القدرة النحوية والقدرة على الحديث والسمع؛ الثلاثة في آن واحد.12
ليس بوسعنا الحصول على دليل أفضل من فرضية ويليام جيمس التي وضعها في القرن التاسع عشر القائلة إن البشر طوروا سلوكهم المعقد بإضافة غريزتهم إلى غرائز أسلافهم، لا بإحلال التعليم محل الغريزة. لقد ظهرت نظرية جيمس للنور مرة أخرى في أواخر ثمانينيات القرن العشرين على يد مجموعة من العلماء الذين يطلقون على أنفسهم علماء النفس التطوريين. ومن أبرز هؤلاء عالم الأنثروبولوجيا جون توبي، والعالمة النفسية ليدا كوزمايدس وعالم النفس اللغوي ستيفن بينكر. ورسالتهم باختصار هي: لقد كان الهدف الرئيسي للعلوم الاجتماعية في القرن العشرين هو بيان الطرق التي يتأثر بها سلوكنا بالبيئة الاجتماعية المحيطة، لكن بدلًا من ذلك يمكننا أن نقلب المشكلة رأسًا على عقب من خلال بيان الطرق التي تكون فيها البيئة الاجتماعية نتاجًا لغرائزنا الاجتماعية الموروثة. وعلى هذا فإن أمورًا مثل تبسم الناس عند الشعور بالسعادة، والتجهم عند الشعور بالقلق، أو تفضيل الرجال من مختلف الثقافات لسمات الشباب الجذابة لدى النساء، قد تكون تعبيرًا عن الغريزة، لا عن الثقافة. أو قد تعني عمومية أشياء مثل الحب الرومانسي والمعتقدات الدينية أن هذه الأمور تتحكم فيها الغريزة لا التقاليد. ويفترض كل من توبي وكوزمايدس أن الثقافة هي نتاج لنفسية الفرد، وليس العكس. إضافة إلى ذلك، لقد كان خطأً كبيرًا أن نعارض الطبيعة لحساب التنشئة، لأن كل أشكال التعلم تعتمد على القدرات الفطرية الخاصة بالتعلم والقيود الفطرية على ما نتعلمه. على سبيل المثال: من الأسهل كثيرًا أن تعلِّم قردًا (أو رجلًا) أن يخاف من الثعابين عن أن تعلمه أن يخاف من الزهور. لكنك في كل الأحوال سيكون عليك أن تعلمه. الخوف من الثعابين غريزة يجب تعلمها.13

لا تشير كلمة «تطوري» في مجال علم النفس التطوري إلى الاهتمام بانحدار السلالات وما يصاحبه من تعديلات أو حتى بعملية الانتخاب الطبيعي نفسها، إذ على الرغم من كون هذين المجالين مثيرين للاهتمام فإنه يستحيل على الدراسة الحديثة الخوض فيهما فيما يخص العقل البشري؛ لأنهما يحدثان على مدار فترة طويلة من الوقت، بل هي تشير بدرجة أكبر إلى ملمح ثالث للنموذج الدارويني هو: مفهوم التكيف. فمن الممكن عكس تصاميم الأعضاء البيولوجية المعقدة لبيان ما هي «مصممة» من أجله، وذلك بالطريقة نفسها التي يمكن عملها مع أي آلة معقدة. إن ستيفن بينكر مغرم بأن يخرج من جيبه أداة معقدة مصممة من أجل إخراج نوى الزيتون كي يشرح هذه العملية؛ عملية الهندسة العكسية. أما ليدا كوزمايدس فتفضل استخدام مدية الجيب السويسرية لتوضيح النقطة نفسها. وفي كلتا الحالتين تعد الآلة نفسها غير ذات معنى، إلا حين تُوصف من ناحية وظيفتها المحددة؛ ما الغرض المحدد من النصل؟ سيكون من غير المفيد وصف آلية عمل الكاميرا دون الإشارة إلى حقيقة أنها صُممت من أجل التقاط الصور. وعلى النحو نفسه لا يفيد وصف العين البشرية (أو العين الحيوانية) دون ذكر أنها مصممة من أجل هذا الغرض نفسه تقريبًا.

يؤكد بينكر وكوزمايدس أن الأمر نفسه ينطبق على المخ البشري؛ فوحداته المختلفة، الشبيهة بالنصال المختلفة لمدية الجيب السويسرية، مصممة على الأرجح من أجل القيام بوظائف محددة. أما المفهوم البديل — الذي يقضي بأن المخ مجهز بدرجات عشوائية من التعقيد تنبع منها الوظائف المختلفة بوصفها منتجات ثانوية لآليات التعقيد، وهي الفكرة التي لا تزال محل تفضيل من جانب تشومسكي — فيتحدى كل الأدلة، فلا يوجد ما يدعم الفرضية القائلة إنك كلما صنعت شبكة أكثر تعقيدًا من المعالجات الصغيرة زاد عدد الوظائف التي تكتسبها. بل في حقيقة الأمر فإن مذهب «الاتصالية» في وصف الشبكات العصبية، الذي يصور المخ على نحو مضلل على أنه شبكة عامة الأغراض من الخلايا والتشابكات العصبية، قد اختبر الفكرة اختبارًا وافيًا ووجدها قاصرة. من الضروري وجود تصميم مبرمج مسبقًا من أجل حل المشكلات المقدرة سلفًا.

وهنا تظهر لنا مفارقة تاريخية: فمفهوم التصميم في الطبيعة كان ذات مرة أحد أهم الحجج المعارضة لفكرة التطور. بل إن الحجة القائمة على فكرة التصميم كانت هي التي منعت فكرة التطور من الانتشار طوال النصف الأول من القرن التاسع عشر. كان لأشد مناصري هذه الفكرة، ويليام بيلي، ملاحظة شهيرة مفادها أنك إذا وجدت حجرًا ملقى على الأرض فلن تبدي اهتمامًا كبيرًا بشأن كيفية وصوله إلى هذا الموضع، لكنك إذا رأيت ساعة موضوعة على الأرض فمن المحتم أن تستنتج وجود صانع ساعات في مكان ما. وعلى هذا يكون التصميم البارع الفعّال الواضح في جميع الكائنات الحية هو دليل على وجود الله. لكن عبقرية داروين مكنته من استخدام مفهوم التصميم عينه للوصول إلى نتيجة مخالفة لفرضية بيلي؛ ثمة «صانع ساعات أعمى» (حسب تعبير ريتشارد ديكنز) يطلق عليه اسم الانتخاب الطبيعي، يعمل خطوة بخطوة على التطور الطبيعي لجسد الكائن، عبر ملايين عديدة من السنين وملايين عديدة من الأفراد، يمكن أن يعد هو المسئول عن هذا التكيف المعقد. وقد تلقت نظرية داروين قدرًا كبيرًا من الدعم إلى حد جعل من التكيف المعقد أحد الأدلة الأساسية على وجود الانتخاب الطبيعي.14

تعد غريزة اللغة التي نملكها جميعًا أحد الأمثلة على هذا التكيف المعقد، إذ إنها مصممة تصميمًا أنيقًا من أجل التواصل الواضح الدقيق بين الأفراد. ومن السهل علينا تخيل الفائدة التي كانت تعود على أسلافنا في سهول أفريقيا‏ من التشارك في معلومات تفصيلية دقيقة فيما بينهم على مستوى من الرقي لم يكن متاحًا لأي نوع آخر: «امش مسافة بسيطة عبر الوادي ثم استدر يسارًا عند الشجرة المجاورة للبركة وستجد هناك جثمان الزرافة التي قتلناها. تجنب الدغل الواقع على يمين الشجرة ذات الثمار لأننا رأينا أسدًا يدخله.» إنهما عبارتان محملتان بقيمة كبيرة للمتلقي؛ تذكرتان للنجاح في يانصيب الانتخاب الطبيعي، ومع هذا فهما مستعصيتان على الفهم دون وجود قدرة كبيرة على فهم قواعد اللغة.

توجد أدلة دامغة متنوعة على أن قواعد اللغة مغروسة بداخلنا غرسًا فطريًّا. إن الدليل القائم على أن أحد الجينات الموجودة في الكروموسوم ٧ عادة يلعب دورًا في بناء هذه الغريزة في مخ الجنين المتكون هو دليل جيد، على الرغم من عدم معرفتنا بحجم الدور الذي يلعبه هذا الجين. ومع ذلك فإن أغلب علماء الاجتماع يقاومون بضراوة فكرة وجود جينات يبدو أن تأثيرها الأساسي هو تنمية قواعد اللغة تنمية مباشرة. وكما يتضح من حالة الجين الموجود على الكروموسوم ٧ فإن علماء الاجتماع، خلافًا للعديد من الأدلة، يفضلون الزعم أن آثار هذا الجين على اللغة ليست إلا تأثيرات جانبية لأثره المباشر في قدرة المخ على فهم الحديث. بيد أنه بعد قرن كامل من سيادة وجهة النظر القائلة إن الغرائز مقتصرة وحسب على «الحيوانات» وأنه لا وجود لها لدى البشر، تبدو هذه المقاومة أمرًا لا يثير الدهشة. إلا أن هذه الفرضية تتداعى تمامًا عندما نتأمل فكرة جيمس القائلة إنه من المحال تنمية أي غرائز دون مدخلات خارجية مكتسبة.

لقد استعرض هذا الفصل فرضيات علم النفس التطوري والهندسة العكسية للسلوك البشري من أجل محاولة فهم المشكلات المحددة التي يعنى بحلها. فعلم النفس التطوري يعد علمًا جديدًا ناجحًا نجاحًا مدهشًا جلب أفكارًا مؤثرة لدراسة السلوك البشري في العديد من المجالات. إن علوم الوراثة السلوكية، التي كانت موضع نقاشنا في الفصل الخاص بالكروموسوم ٦، تسعى إلى تحقيق الهدف نفسه تقريبًا. بيد أن الاختلاف في منهج تناول الموضوع كبير للغاية حتى إن الصدام يبدو وشيكًا بين علوم الوراثة السلوكية وعلم النفس التطوري. وهذه هي المشكلة: الوراثة السلوكية تسعى وراء التباين بين الأفراد وتسعى لربط هذا التباين بالجينات. أما علم النفس التطوري فيسعى وراء السلوك البشري المشترك، أي الملامح العامة التي يشترك فيها جميع البشر، ويسعى لفهم كيفية وسبب كون هذا السلوك غريزيًّا بدرجة جزئية. وعلى هذا فهو لا يفترض وجود اختلافات بين البشر، على الأقل من ناحية السلوكيات المهمة، وذلك لأن الانتخاب الطبيعي يقضي على أي تنويعات؛ فهذه هي مهمته. فإذا كانت نسخة ما من أحد الجينات أفضل من نسخة أخرى فسرعان ما تشيع النسخة الأفضل بين أفراد النوع وتنقرض النسخة الأسوأ. ولهذا يرى علم النفس التطوري أنه لو وجدت الوراثة السلوكية جينًا له صور متنوعة فهذا يعني أنه ليس من الجينات المهمة، وأنه من الجينات المساعدة لا أكثر. بيد أن الوراثة السلوكية ترد بالقول إن كل الجينات البشرية المكتشفة إلى الآن لها صور متنوعة، لذا لا بد من وجود خطأ ما في فرضية علم النفس التطوري.

من الناحية العملية، قد يتضح لنا تدريجيًّا أن هذا الاختلاف بين المنهجين مبالغ فيه، فأحدهما يدرس التركيب الجيني للملامح العامة المشتركة لفصيلتنا الخاصة، والآخر يدرس التركيب الجيني للاختلافات الفردية. وكلاهما جانب من الحقيقة، فكل البشر يملكون غريزة للغة، في حين أن كل القردة لا تملكها، لكن هذه الغريزة لا تتطور على نحو متساوٍ لدى جميع البشر. ومع هذا لا يزال أي شخص مصاب بمرض الضعف اللغوي المحدد قادرًا على تنمية قدرته اللغوية أفضل من أي شمبانزي أو غوريلا مدربة.

لا تزال النتائج التي خلص إليها علم الوراثة السلوكية وعلم النفس التطوري غير مستساغة بقدر كبير من العديد من غير العلماء، الذين قد يبدو اعتراضهم الأساسي معقولًا من الناحية الظاهرية؛ فكيف يمكن لأحد الجينات، فقط مجموعة من «حروف» الدنا، أن يحدد السلوك؟ ما الآلية الممكن تخيلها لربط وصفة لأحد البروتينات بالقدرة على تعلم القاعدة الخاصة بزمن الماضي البسيط في اللغة الإنجليزية؟ أعترف أن القفزة تبدو هائلة للوهلة الأولى، وأنها تتطلب قدرًا من الإيمان أكبر من التفكير المنطقي. لكن لا مناص من قبول هذه الفكرة، لأن التأثير الجيني في السلوك، في أساسه، لا يختلف عن التأثير الجيني على تكون الجنين في الرحم. افترض أن كل وحدة من وحدات المخ تنمو إلى الشكل الذي تتخذه عند البلوغ استنادًا إلى مجموعة من المكونات الكيميائية المغروسة في دماغ الجنين المتكون، أشبه بخريطة طريق كيميائية للخلايا العصبية. هذه المكونات الكيميائية يمكن أن تكون هي نفسها نتاجًا لآليات جينية. ومع أنه من الصعوبة بمكان تخيل المكان الذي يمكن لهذه الجينات والبروتينات أن توجد فيه داخل الجنين، فإنه ما من شك في أنها موجودة. وكما سأكشف بتفصيل أكبر عند مناقشة الكروموسوم ١٢، فإن هذه الجينات هي أكثر منتجات أبحاث الوراثة الحديثة إثارة للاهتمام. إن فكرة مسئولية الجينات عن السلوك لم تعد أكثر غرابة من فكرة مسئولية الجينات عن النمو. كلتا الفكرتين محيرتان للعقل، لكن لم يسبق أن تسبب قصور الفهم البشري في جعل الطبيعة تغير من طرقها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤