الكروموسومان إكس وواي: الصراع

جين Xq28: شكرًا على الجينات يا أمي.
عبارة كتبت على تيشيرتات كانت تباع بمكتبات الشواذ من الجنسين في منتصف تسعينيات القرن العشرين
قادنا الحديث في موضوع اللغويات إلى مواجهة مباشرة مع أحد التداعيات المروعة لعلم النفس التطوري. فإذا كان هذا النقاش قد ترك لديك شعورًا بعدم الارتياح لأن شيئًا آخر يتحكم فيك، وأن قدراتك ولغتك ونفسيتك حددتها الغريزة تحديدًا أكبر مما كنت تتخيل، فالأرجح أن تسير الأمور من الآن على نحو أسوأ، فقصة هذا الفصل من المرجح أن تكون أكثر القصص غير المتوقعة عبر تاريخ الجينات بأسره. لقد تعودنا على التفكير في الجينات بوصفها وصفات، تنتظر النقل في خمول وفق هوى الاحتياجات الجمعية للكائن بأكمله، أي التفكير في الجينات بوصفها خدمًا للجسم. لكن هنا سنواجه واقعًا مختلفًا؛ فالجسم هنا ضحية، يلعب دور ساحة معركة ووسيلة نقل تخدم طموحات الجينات.1

أكبر الكروموسومات حجمًا بعد الكروموسوم ٧ هو الكروموسوم إكس. وهذا الكروموسوم مختلف بدرجة كبيرة عن أقرانه، إذ إنه غير متطابق، فالكروموسوم المقترن به، ذلك الذي يكمل تتابعه، ليس كروموسومًا مطابقًا، كما هو الحال مع بقية الكروموسومات الأخرى، بل هو الكروموسوم واي، وهو كروموسوم صغير خامل تقريبًا وكأنه إضافة جينية ثانوية، أو على الأقل هذا هو الحال في الذكور من الثدييات والذباب، والإناث من الفراشات والطيور. أما في الإناث من الثدييات وذكور الطيور فيوجد بدلًا من ذلك اثنان من الكروموسوم إكس، ومع ذلك فهما يتسمان بالغرابة، ففي كل خلية في الجسد، بدلًا من أن يعبر كلاهما عن رسالته الجينية بقدر متساوٍ، يتكوم أحدهما على نفسه مشكلًا حزمة صغيرة تعرف باسم «جسم بار» ويظل خاملًا.

يعرف الكروموسومان إكس وواي باسم كروموسومي الجنس، وذلك لدورهما الواضح في تحديد جنس الكائن تحديدًا حتميًّا شبه تام. يحصل كل شخص على الكروموسوم إكس من والدته، وإذا ورث كروموسوم واي من والده يصير ذكرًا، أما لو ورث الكروموسوم إكس من والده فيصير أنثى. هناك استثناءات نادرة، إذ توجد نساء تحمل الكروموسومين إكس وواي، لكنها الاستثناءات التي تثبت القاعدة؛ إذ إن الجين الذكري الرئيسي في كروموسومات واي يكون مفقودًا أو تالفًا.

أغلب الناس يعرفون هذه الحقائق؛ فكل من تلقى قدرًا يسيرًا من التعليم يعرف بشأن الكروموسومين إكس وواي، كما يعرف أغلب الناس أيضًا أن سبب شيوع عمى الألوان والهيموفيليا وبعض الأمراض الأخرى لدى الرجال هو أن هذه الجينات توجد على الكروموسوم إكس. وبما أن الرجال لا يملكون كروموسوم إكس «احتياطي»، فمن المرجح كثيرًا أن يعانوا هذه المشكلات الوراثية أكثر من النساء، وكما عبر أحد علماء الأحياء عن الأمر فإن الجينات على الكروموسوم إكس تطير دون وجود مساعد للطيار لدى الرجال. بيد أن هناك أشياء بخصوص الكروموسومين إكس وواي لا يعرفها أغلب الناس؛ أشياء مزعجة غريبة زعزعت أسس علم الأحياء.

من النادر أن يقابل المرء بلغة كهذه اللغة في واحدة من أكثر المطبوعات العلمية جدية ووقارًا؛ «المحاضر الفلسفية للجمعية الملكية»، إذ كُتب فيها: «وهكذا يشتبك الكروموسوم واي في الثدييات في معركة مع غريم أشد تسليحًا. وتكون النتيجة المنطقية هي فرار الكروموسوم واي واختباؤه بعيدًا، متخليًّا عن أي تتابعات منسوخة ليست ضرورية لقيامه بعمله.»2 «معركة»، «غريم»، «أشد تسليحًا»، «فرار»؟ ليست هذه هي الأفعال التي نتوقع أن تقدم عليها جزيئات الدنا. ومع هذا تظهر اللغة نفسها، وإن كان بمصطلحات فنية أكثر، في بحث علمي آخر عن الكروموسوم واي، بعنوان «الأعداء داخلنا: الصراع الجاري في الجينوم، مسابقة التطور داخل النواة، والملكة الحمراء داخل نوعنا.»3 ويقول هذا البحث في جزء منه: «إن مسابقة التطور السرمدية داخل النواة بين الكروموسوم واي وبقية الجينوم من الممكن أن تتسبب في محو الخاصية الجينية للكروموسوم واي عن طريق تراكم الطفرات المؤذية تراكمًا بسيطًا داخله. صحيح أن ضعف الكروموسوم واي يحدث نتيجة تراكم الطفرات الجينية، بيد أن المنافسة ذاتها هي التي تعمل على التحفيز المتواصل للذكر على مقاومة الضغوط التطورية المعادية التي تضعها الأنثى عليه.» حتى لو لم تفهم معنى هذه الكلمات فلا شك أن كلمات بعينها تجذب انتباهك: «أعداء» و«معادية». وهناك كتاب دراسي آخر عن الموضوع نفسه بعنوان: «التطور: حرب الأربعة مليارات عام».4 ما الذي يجري هنا؟

في وقت ما من ماضينا، تحول أسلافنا عن تلك العادة التي تتبعها الزواحف والخاصة بتحديد جنس الوليد من خلال درجة حرارة البيضة إلى تحديد الجنس بطريقة جينية. ومن المرجح أن سبب هذا التحول كان إعطاء الفرصة لكل جنس من الجنسين للبدء في التدرب على دوره منذ لحظة الحمل. وفي حالتنا، كان الجين المحدد للجنس يجعلنا ذكورًا وغيابه يجعلنا إناثًا، أما لدى الطيور فالعكس هو الصحيح. وسرعان ما اجتذب الجين إلى جانبه جينات أخرى أفادت الذكور؛ جينات خاصة بالعضلات الضخمة مثلًا أو أخرى خاصة بالميول العدوانية، لكن لأن هذه السمات لم تكن مرغوبة لدى النساء، إذ إنها تضيع الطاقة التي كن يحتجنها من أجل رعاية النسل، وجدت هذه الجينات نفسها في وضع متناقض، إذ تفيد أحد الجنسين في حين تضر الآخر. وهذه الجينات تُعرف في مجالنا باسم الجينات المتضادة جنسيًّا.

لكن حُلت هذه المعضلة حين منع جين آخر طافر هذه العملية الطبيعية لتبادل المادة الجينية بين الكروموسومين المتزاوجين. والآن صار بمقدور كل واحد من هذه الجينات المتعارضة جنسيًّا أن يسير في طريقه، فالنسخة الموجودة على الكروموسوم واي يمكنها استخدام الكالسيوم لصنع القرون، والنسخة الموجودة على الكروموسوم إكس يمكنها استخدام الكالسيوم لصنع اللبن. وبهذا تَعَرَّضَ زوج من الكروموسومات متوسطة الحجم، كانا موطن كل أنواع الجينات «الطبيعية»، للاختطاف من قبل عملية تحديد الجنس وتحولا إلى كروموسومي الجنس، وصار كل منهما يجذب مجموعات مختلفة من الجينات، فعلى الكروموسوم واي تجمعت الجينات التي تفيد الذكور لكنها غالبًا ما تضر بالنساء، وعلى الكروموسوم إكس تجمعت الجينات المفيدة للنساء والمضرة بالرجال. على سبيل المثال: هناك جين اكتُشف حديثًا يُطلق عليه اسم DAX، ومكانه على الكروموسوم إكس. إن قلة نادرة من الأشخاص يولدون وهم يحملون كروموسوم إكس وكروموسوم واي لكنهم يحملون نسختين من جين DAX على الكروموسوم إكس. وتكون النتيجة أنهم مع كونهم من الناحية الجينية من الذكور، فإنهم ينمون كإناث طبيعيات. وسبب ذلك، كما اتضح لنا، هو أن الجينين DAX وSRY، وهو الجين الموجود على الكروموسوم واي ويجعل الجنين ذكرًا، يعادي كل منهما الآخر. وجين SRY واحد قادر على هزيمة جين DAX، لكن جيني DAX يتفوقان على جين SRY واحد.5

إن نشوب هذه العداوة بين الجينات أمر خطير. ويمكن تشبيه الموقف مجازيًّا بأن أيًّا من الجينين لم يعد مهتمًّا إطلاقًا بمصلحة الآخر، ناهيك عن وضع مصلحة النوع ككل في الاعتبار. أو، للتعبير عن الأمر تعبيرًا أكثر دقة، يمكن لشيء ما أن يفيد انتشار أحد الجينات على الكروموسوم إكس ويؤذي الكروموسوم واي في الوقت نفسه، أو العكس بالعكس.

افترض — مثلًا — أن أحد الجينات ظهر على الكروموسوم إكس يحمل وصفة لسم يفتك بالحيوانات المنوية التي تحمل الكروموسوم واي. إن الرجل الذي يحمل مثل هذا الجين لن ينجب أطفالًا أقل من أي رجل آخر، لكنه سينجب إناثًا فقط. وكل ابنة من بناته ستحمل الجين الجديد، ولو كان قد أنجب ذكورًا فلم يكن أيهم ليحمل هذا الجين. من ثم سيكون الجين أكثر شيوعًا بمقدار الضعف في الجيل التالي، وسوف ينتشر انتشارًا شديد السرعة. ولن يتوقف مثل هذا الجين عن الانتشار إلا عندما يكون قد أباد عددًا كبيرًا من الذكور بحيث يصير بقاء النوع مهددًا ويصير الذكور نادري الوجود للغاية.6

هل تبدو هذه فكرة خيالية جامحة؟ مطلقًا. إن هذا هو ما حدث تحديدًا لفراشة أكري إنسيدون، فنسبة الإناث في هذا النوع تبلغ سبعة وتسعين بالمائة نتيجة لهذا الأمر. وهذه فقط واحدة من حالات عديدة معروفة عن هذا الشكل من الصراع التطوري تعرف باسم حافز كروموسوم الجنس. تقتصر أغلب الحالات على الحشرات، لكن هذا يرجع إلى أن العلماء بحثوا بحثًا أكثر دقة في الحشرات. إن لغة الصراع الغريبة التي استخدمت في التعليقات التي أوردتها سابقًا تبدو أكثر معقولية الآن. إليك هذه الإحصائية البسيطة: بسبب امتلاك الإناث لكروموسومي إكس وامتلاك الذكور كروموسوم إكس وآخر واي، فإن ثلاثة أرباع كروموسومات الجنس هي كروموسومات إكس، أما الربع فقط فهو كروموسومات واي. ولو عبرنا عن الأمر من وجهة نظر مختلفة، فسنقول إن الكروموسومات إكس تقضي ثلثي حياتها لدى النساء وثلث حياتها فقط لدى الرجال. ولهذا فإن احتمالات أن يطور الكروموسوم إكس القدرة على مهاجمة الكروموسوم واي تفوق ثلاثة أضعاف احتمالات أن يطور الكروموسوم واي القدرة على مهاجمة الكروموسوم إكس. إن أي جين على الكروموسوم واي عرضة للهجوم من أي جين متطور موجود على الكروموسوم إكس. ونتيجة ذلك هي أن الكروموسوم واي تخلص من العديد من الجينات قدر الإمكان وأوقف عمل البقية، كي يتمكن من «الفرار والاختباء» (وفق المصطلحات الفنية التي استخدمها ويليام أموس من جامعة كامبريدج).

لقد بلغ الكروموسوم واي من الفعالية في التخلص من أغلب جيناته الحد الذي صار فيه القدر الأعظم من هذا الجين مكونًا من دنا غير مشفر، لا يخدم غرضًا محددًا، سوى توفير بضعة أهداف لجينات الكروموسوم إكس كي تصوب عليها. هناك منطقة صغيرة يبدو وكأنها انسلت من الكروموسوم إكس في وقت قريب، وهي تلك المسماة منطقة الصبغيات الجسدية الزائفة، المتبوعة بجين ذي أهمية عظيمة هو جين SRY المذكور سابقًا. إن هذا الجين يبدأ تتابع الأحداث الذي يفضي إلى إضفاء سمة الذكورة على الجنين. من النادر أن يكتسب جين واحد مثل هذا القدر من القوة. ومع أنه مسئول عن عملية التحويل فحسب، فإن كثيرًا من الأشياء تبدأ في الحدوث بداية من هذه النقطة؛ إذ تنمو الأعضاء الجنسية لتشكل القضيب والخصيتين، وتتحول هيئة الجسم وتركيبته من تلك الخاصة بالأنثى (وهو الشكل الافتراضي لجنسنا البشري، مع أنه على العكس من ذلك لدى الطيور والفراشات) إلى تلك الخاصة بالذكر، وتبدأ هرمونات عديدة أيضًا في العمل على المخ. منذ أعوام قلائل نُشرت في دورية «ساينس» خريطة ساخرة للكروموسوم واي، زعمت أنها تحدد أماكن الجينات الخاصة بالسمات الذكورية النمطية مثل التحول المتواصل بين قنوات التليفزيون، والقدرة على تذكر النكات وإلقائها، والاهتمام بصفحات الرياضة في الجرائد، وإدمان مشاهدة أفلام الدمار والموت، وعدم القدرة على التعبير عن الحب عبر الهاتف، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. لكن سبب أن هذه الدعابة مضحكة أننا ننظر إلى هذه السمات بوصفها ذكورية، لا أن هذه السمات تتحدد وراثيًّا، وتلك هي الفكرة التي تؤكدها الدعابة. الشيء الوحيد الخاطئ في هذا الشكل هو أن السلوك الذكوري لا يأتي نتيجة جينات معينة تختص بكل سلوك، بل من عملية جعل المخ ذكوريًّا التي قامت بها هرمونات مثل التستستيرون، التي تؤدي إلى الميل للسلوك على هذا النحو في البيئة الحديثة. وعلى هذا تكون العديد من العادات الذكورية، بطريقة ما، نتاجًا للجين SRY نفسه، الذي يبدأ سلسلة الأحداث المؤدية إلى جعل المخ ذكوريًّا والجسد أيضًا.
للجين SRY خاصية عجيبة؛ إذ إن تتابعه متسق على نحو مدهش بين الرجال المختلفين، أي إنه لا توجد أي طفرات موضعية (بمعنى أن يكون هناك اختلاف في هجاء حرف واحد من الحروف) في الجنس البشري. ومن هذا المنظور يعد الجين SRY جينًا خاليًا من التنويعات لم يتغير تقريبًا على الإطلاق منذ آخر سلف مشترك للبشر منذ حوالي مائتي ألف عام أو نحو ذلك. ومع هذا فإن جين SRY الذي نملكه مختلف للغاية عن ذلك الموجود لدى الشمبانزي، ومختلف كثيرًا عن ذلك الموجود لدى الغوريلا؛ إذ يبلغ مقدار الاختلاف عشرة أضعاف الاختلاف في الجينات الأخرى. وبالمقارنة بغيره من الجينات الأخرى النشطة (أي المعبرة عن نفسها)، فإن جين SRY يعد من أسرع الجينات تطورًا.
كيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ يرى ويليام أموس وجون هاروود أن الإجابة تكمن في عملية الفرار والاختباء التي يطلقون عليها اسم الاكتساح الانتخابي؛ فمن وقت لآخر، يظهر أحد الجينات النشطة على الكروموسوم إكس ويهاجم الكروموسوم واي من خلال التعرف على البروتينات التي يصنعها الجين SRY. وعلى الفور تكون هناك مزية انتخابية لأي جين SRY طافر يكون مختلفًا بدرجة كافية يستحيل معها التعرف عليه. يبدأ هذا الجين الطافر في الانتشار على حساب الذكور الآخرين. يُمِيل الكروموسوم إكس النشط الكفة بين الجنسين لمصلحة الإناث، لكن انتشار الجين الجديد الطافر SRY يستعيد التوازن. وتكون النتيجة النهائية هي سيادة الجين SRY الطافر لدى جميع أفراد النوع، مع قدر قليل من التنويعات. وهكذا يكون تأثير هذه القفزة التطورية المفاجئة (التي قد تحدث بسرعة كبيرة بما لا يترك إلا القليل من الآثار في السجل التطوري) إنتاج جينات SRY مختلفة للغاية بين الأنواع لكنها متشابهة بدرجة عظيمة بين أفراد النوع نفسه. وإذا كان أموس وهاروود على حق، فعلى الأقل حدث اكتساح واحد من هذا النوع منذ الانفصال بين أسلاف الإنسان وأسلاف الشمبانزي، منذ حوالي خمسة إلى عشرة ملايين عام، لكن قبل ظهور السلف المشترك لكل السلالة البشرية الحديثة منذ مائتي ألف عام.7

قد تشعر بالإحباط نوعًا ما؛ فكل العنف والصراع الذي وعدتك به في بداية الفصل اتضح أنه لا شيء أكثر من قصة مفصلة من التطور الجزيئي. لا تقلق؛ فأنا لم أنته بعد، وأنوي أن أربط هذه الجزيئات بالصراع البشري الحقيقي قريبًا جدًّا.

إن رائد نظرية العداوة الجنسية هو ويليام رايس من جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز، الذي أجرى سلسلة لافتة للنظر من التجارب من أجل توضيح مقصده. لنعد بالتفكير إلى ذلك السلف المفترض الذي حصل للتو على نسخة متميزة من الكروموسوم واي التي تحاول الخلاص من عدد كبير من جيناتها كي تتمكن من الهرب من جينات الكروموسوم إكس النشطة. يعد كروموسوم واي الوليد، حسب تعبير رايس، منطقة جذب للجينات المفيدة للذكور، فبما أن الكروموسوم واي لن يوجد أبدًا في أي أنثى، فهو حر في اختيار الجينات التي تسبب الضرر الشديد للإناث ما دامت تتسبب ولو في فائدة بسيطة للذكور (إن كنت تظن إلى الآن أن التطور مَعْنِيٌّ بالبحث عما هو مفيد للنوع فتوقف عن هذا التفكير فورًا). في ذبابة الفاكهة، وفي البشر أيضًا، يتكون القذف من خلايا الحيوانات المنوية السابحة في سائل غني يسمى السائل المنوي. يحتوي السائل المنوي على بروتينات، وهي منتجات للجينات. الغرض منها مجهول تمامًا، لكن رايس يملك فكرة ألمعية، فأثناء ممارسة ذباب الفاكهة للجنس، تدخل هذه البروتينات إلى مجرى دم الأنثى وتنتقل عبره إلى أماكن عديدة من بينها المخ. وهناك يكون لها تأثير يتمثل في تقليل الشهية الجنسية للأنثى وزيادة معدل التبويض. من ثلاثين عامًا كنا سنفسر هذه الزيادة على أنها لمصلحة النوع؛ فهذا هو وقت توقف الأنثى عن البحث عن شركاء والبدء بدلًا من ذلك في البحث عن مكان لوضع البيض، ويُعدل السائل المنوي للذكر من سلوكها وصولًا إلى هذه الغاية. يمكنك حتى أن تتخيل تعليق قناة ناشيونال جيوجرافيك على الأمر. أما اليوم فتقودنا هذه المعلومة نحو تفسير أكثر شرًّا، فالذكر يحاول السيطرة على الأنثى بحيث تمتنع عن التزاوج مع أي ذكر آخر، وأن تضع المزيد من البيض الذي سيلقحه هو بسائله المنوي، وهو يفعل هذا بأمر من الجينات المتضادة جنسيًّا، الموجودة على الأرجح على الكروموسوم واي (أو التي تنشطها الجينات الموجودة على الكروموسوم واي). والأنثى هنا واقعة تحت ضغط انتخابي يدفعها لأن تكون مقاومة أكثر وأكثر لهذه السيطرة. وبهذا تكون النتيجة متعادلة.

أجري رايس تجربة عبقرية لاختبار هذه الفكرة. فعلى مدار تسعة وعشرين جيلًا منع إناث الذباب من تطوير المقاومة؛ إذ نحى جانبًا سلسلة احتياطية من الإناث لم تحدث فيها أي تغيرات تطورية. وفي الوقت ذاته سمح للذكور بتطوير بروتينات منوية أقوى وأقوى عن طريق اختبارها ضد إناث أكثر مقاومة. وبعد تسعة وعشرين جيلًا جمع بين السلالتين مجددًا. كانت النتيجة انتصارًا ساحقًا؛ إذ لم تكن السوائل المنوية للذكور فعالة في السيطرة على سلوك الإناث فحسب، بل كانت سامة فعليًّا؛ إذ كان بمقدورها قتل الإناث.8
يعتقد رايس الآن أن هذه العداوة الجنسية تسود أنواع البيئات كافة. وهي تترك توقيعها في صورة جينات تتطور تطورًا سريعًا. ففي محار أذن البحر — على سبيل المثال — نجد أن بروتين الليسين الحالّ الذي يستخدمه السائل المنوي كي يحفر ثقبًا عبر الغشاء البروتيني السكري للبويضة مشفر بواسطة جين يتغير بسرعة بالغة (والشيء نفسه صحيح على الأرجح لدى البشر أيضًا). يرجع هذا غالبًا إلى وجود سباق تسلح بين بروتين الليسين الحالّ والنسيج الغشائي، فالاختراق السريع مفيد للسائل المنوي، لكنه مضر للبويضة؛ لأنه يسمح بمرور الطفيليات أو حيوانات منوية أخرى. ونجد في وضوح أن المشيمة واقعة تحت سيطرة جينات سريعة التطور (جينات آتية من الأب هذه المرة). ينظر الباحثون التطوريون في الوقت الحالي، وفي مقدمتهم ديفيد هيج، إلى المشيمة بوصفها أشبه بمحاولة استيلاء تطفلية على جسد الأم من الجينات الأبوية الموجودة في الجنين، فالمشيمة تحاول، في مواجهة مقاومة الأم، أن تتحكم في معدلات السكر وضغط الدم بما يتفق ومصلحة الجنين.9 وسنتحدث باستفاضة أكبر عن هذا الموضوع في الفصل الخاص بالكروموسوم ١٥.
لكن ماذا عن سلوك المغازلة؟ إن النظرة التقليدية للذيل المعقد للطاووس هي أنه أداة مصممة لإغواء الإناث، وأنه بالتبعية مصمم وفق تفضيلات أسلاف الإناث. إلا أن زميل رايس، بريت هولاند، له تفسير مختلف؛ إذ يرى أن ذكور الطاووس طورت بالفعل هذا الذيل المعقد لإغواء الإناث، لكنهم فعلوا هذا فقط لأن الإناث صارت مقاومة أكثر وأكثر لإغواء الذكور. ومن ثم يستخدم الذكور عروض المغازلة البصرية كبديل للإكراه، وتستخدم الإناث التمييز كي تحتفظ بسيطرتها على تواتر عملية التزاوج وتوقيتها. وهذا يفسر لنا نتيجة مدهشة توصلت إليها دراسة فصيلتين من العناكب الذئبية، فإحدى الفصيلتين لديها خصل من الشعر الغليظ على أرجلها الأمامية، التي تستخدمها في المغازلة. وعندما عُرض تسجيل فيديو لذكر يستعرض نفسه أمام أنثى فإن الأنثى تظهر من خلال سلوكها إن كان ما تراه يستثيرها أم لا. وإذا استبدلت تسجيلات الفيديو بأخرى لا يكون فيها للعناكب الذكور هذه الخصلات فإن الأنثى تجد أن العرض مثير بالدرجة نفسها. لكن في فصيلة أخرى، حيث لا توجد خصلات، أدت إضافة خصلات صناعية للذكور الموجودة في تسجيل الفيديو إلى نسبة قبول مضاعفة من الإناث. وبعبارة أخرى، تتطور الإناث تدريجيًّا بحيث تنعدم استثارتها — لا تزداد — من الذكور الموجودين في فصيلتها. وعلى هذا يصير الانتخاب الجنسي تعبيرًا عن العداوة الجنسية بين جينات الإغواء وجينات المقاومة.10

وقد توصل رايس وهولاند إلى نتيجة مقلقة مفادها أنه كلما كان النوع اجتماعيًّا وذا درجة مرتفعة من التواصل زاد احتمال معاناته من الجينات المتضادة جنسيًّا؛ لأن التواصل بين الجنسين يوفر مجالًا تنتعش فيه الجينات المتضادة جنسيًّا. والنوع الأكثر اجتماعية وتواصلًا على ظهر الكوكب هو الجنس البشري. فجأة يصير مفهومًا سبب كون العلاقات بين الجنسين بمنزلة حقل ألغام، ولماذا يملك الرجال تفسيرات متنوعة لما يمكن اعتباره من وجهة نظر النساء تحرشًا جنسيًّا. إن بعض العلاقات ليست مدفوعة بما هو في مصلحة الرجال أو النساء، من منظور التطور، بل بما هو في مصلحة كروموسوماتهم. لقد كانت القدرة على إغواء النساء في مصلحة الكروموسوم واي في الماضي، وكانت القدرة على مقاومة إغواء الرجال في مصلحة الكروموسوم إكس في الماضي.

هذا النوع من الصراع بين مجموعات الجينات لا ينسحب فقط على موضوع الجنس (والكروموسوم واي ما هو إلا مثال واحد). افترض مثلًا أن هناك نسخة من أحد الجينات تشجع على قول الأكاذيب (ليس هذا بالافتراض الواقعي لكن قد تكون هناك مجموعة كبيرة من الجينات تؤثر في الصدق تأثيرًا غير مباشر). قد ينجح هذا الجين حين يجعل حامله شخصًا محتالًا، لكن افترض أيضًا أنه توجد نسخة من جين آخر (أو مجموعة من الجينات) تحسن من عملية اكتشاف الكذب، وربما تكون موجودة على كروموسوم مختلف. سينجح هذا الجين حين يمكن حامله من تجنب التعرض للخداع من المحتالين. سيتطور الجينان تطورًا عدائيًّا، بحيث يستحث كل منهما الآخر، مع أنه من الممكن أن يكونا موجودين لدى الشخص نفسه. يوجد بينهما ما أطلق عليه رايس وهولاند اسم «منافسة التطور الموضعي». وهذه العملية التنافسية هي التي قادت على الأرجح نمو الذكاء الإنساني عبر الثلاثة ملايين عام الأخيرة. إن فكرة نمو أمخاخنا إلى أحجام كبيرة كي تساعدنا على تصنيع الأدوات التي بها نوقد النار ونحن في حشائش السافانا فقدت معناها منذ وقت بعيد. وبدلًا من ذلك يؤمن أغلب التطوريين بالنظرية الميكيافيلية؛ أن الأمخاخ الكبيرة كانت مطلوبة في سباق التسلح الجاري بين عمليتي السيطرة ومقاومة السيطرة. كتب رايس وهولاند: «إن الظواهر التي نشير إليها بكلمة الذكاء قد تكون نتائج ثانوية للصراع القائم داخل الجينوم بين الجينات المنخرطة في الهجوم والدفاع في سياق اللغة.»11
اغفر لي خروجي عن موضوعنا إلى موضوع الذكاء، ولنعد إلى الحديث عن الجنس. من المرجح أن واحدًا من أكثر الاكتشافات الجينية إثارة للاهتمام والجدل والخلاف الحاد هو إعلان دين هامر في عام ١٩٩٣ أنه عثر على جين موجود بالكروموسوم إكس له تأثير عظيم في الميل الجنسي، أو كما أسرعت وسائل الإعلام بتسميته، «جين المثلية الجنسية».12 كانت دراسة هامر واحدة من عدة دراسات نُشرت في وقت واحد تقريبًا وكلها تشير إلى نتيجة مفادها أن المثلية الجنسية مسألة «بيولوجية»، وليست نتاجًا للضغوط الثقافية أو الاختيار الواعي. بعض هذه الدراسات أجريت على يد علماء مثليين، مثل عالم الأعصاب سايمون ليفاي من معهد سولك، الذي كان يسعى أن يرسخ في أذهان العامة ما كان المثليون أنفسهم مؤمنين به في عقولهم؛ أن المثليين «ولدوا على هذه الحال»، فهم يؤمنون — وفي اعتقادهم هذا بعض الوجاهة — أن التحامل ضد نمط حياتهم سيكون أقل إذا نُظر له على أنه ليس «اختيارًا» بل ميلًا فطريًّا موروثًا، ووجود سبب جيني سيجعل المثلية أيضًا أقل تهديدًا في نظر الآباء، إذ سيكون واضحًا أن النماذج المثيرة للإعجاب من المثليين لن تحول الشباب الصغير إلى مثليين ما لم تكن جيناتهم تحتم ذلك. وفي حقيقة الأمر فإن عدم تسامح المحافظين حيال المثلية الجنسية بدأ يتحول إلى هجوم على الدليل على طبيعتها الجينية. «ينبغي أن نكون حريصين بشأن قبول الزعم القائل إن البعض «يولدون مثليين»، ليس فقط لأنه غير صحيح، بل لأنه يعطي قوة للمؤسسات المدافعة عن حقوق المثليين.» كان هذا ما كتبته ليدي يونج المنتمية إلى التيار المحافظ في جريدة ديلي تليجراف في ٢٩ يوليو (تموز) ١٩٩٨.
لكن مهما تكن رغبة بعض الباحثين في نتائج معينة من هذه الدراسات فإن الدراسات نفسها موضوعية ولا غبار عليها. فلا يوجد مجال للشك في أن المثلية الجنسية سمة موروثة بدرجة كبيرة. فعلى سبيل المثال: في إحدى الدراسات التي أجريت على أربعة وخمسين رجلًا مثليًّا كانوا من التوائم غير المتطابقة، وجد أن اثني عشر من توائمهم كانوا مثليين أيضًا، ومن بين ستة وخمسين رجلًا مثليًّا كانوا من التوائم المتطابقة وجد أن تسعة وعشرين من توائمهم كانوا مثليين أيضًا. وبما أن التوائم يتشاركون في البيئة نفسها، سواء أكانوا متطابقين أم لا، فإن هذه النتائج تؤكد على أن واحدًا أو أكثر من الجينات هو المسئول عن نصف حالات ميل الرجال نحو المثلية. وقد وصلت أكثر من عشر دراسات مشابهة إلى النتيجة نفسها.13

ولمّا كان دين هامر مهتمًّا بالأمر فقد قرر البحث عن الجينات المسئولة. وفعلًا قابل هو وزملاؤه ١١٠ من أسر المثليين، ولاحظ شيئًا غريبًا. يبدو أن المثلية الجنسية تجري في فرع الأم من العائلة. فإذا كان الشخص مثليًّا، فإن فرد العائلة الآخر الأقرب لأن يكون مثليًّا من الجيل السابق ليس والده بل خاله.

أوحى هذا إلى هامر على الفور بأن الجين يمكن أن يكون موجودًا على الكروموسوم إكس، المجموعة الوحيدة من الجينات النووية التي يرثها الرجل من والدته فقط. وبمقارنة مجموعة من الواسمات الجينية للرجال المثليين والطبيعيين في العائلات نفسها في عينته، سرعان ما وجد منطقة مرشحة في الجين Xq28، على طرف الذراع الطويلة للكروموسوم. اشترك الرجال المثليون في نسخة هذا الجين نفسها في خمسة وسبعين بالمائة من الحالات، واشترك الرجال الطبيعيون في نسخة مختلفة في خمسة وسبعين بالمائة من الحالات. من الناحية الإحصائية كان هذا يلغي عنصر المصادفة بنسبة تأكيد تبلغ تسعة وتسعين بالمائة. وقد عززت نتائج تالية النتيجة نفسها، واستبعدت أي علاقة للمنطقة نفسها بالشذوذ الجنسي لدى النساء.14

أما علماء الأحياء التطوريون البارعون، مثل روبرت ترايفرز، فقد استرعى الاقتراح بوجود مثل هذا الجين على الكروموسوم إكس انتباههم على الفور. كانت مشكلة وجود جين مسئول عن الميل الجنسي هي أن مثل هذا الجين المسبب للمثلية الجنسية سرعان ما سينقرض. ومع هذا فهو موجود في قطاع ملحوظ من البشر؛ إذ تأكد أن ما يقارب الأربعة بالمائة من الرجال مثليون (ونسبة أصغر ثنائيو الميل الجنسي). وبما أنه من المرجح أن الرجال المثليين سينجبون أطفالًا أقل من الرجال الطبيعيين، فهذا يعني أن الجين محكوم عليه بالتضاؤل حتى يصل إلى الفناء، ما لم يكن يحمل بعض الفوائد المعوضة. يرى ترايفرز أنه لأن الكروموسوم إكس موجود في النساء ضعف وجوده في الرجال، فإن أحد الجينات المتضادة جنسيًّا الذي أفاد خصوبة المرأة يمكنه البقاء حتى لو كان له تأثير مضر مضاعف في خصوبة الرجال. افترض — على سبيل المثال — أن الجين الذي وجده هامر يحدد سن البلوغ لدى المرأة، أو حتى شيئًا مثل حجم الثدي (تذكر أن هذا افتراض فقط). أي من هاتين السمتين سيكون لها تأثير في خصوبة المرأة. فبالعودة إلى العصور الوسطى، ربما كان يعني الثدي الأكبر لبنًا أكثر، أو قد يجتذب زوجًا أغنى يقل احتمال وفاة أطفاله في المجاعة. وحتى لو عملت النسخة نفسها من الجين على تقليل خصوبة الرجال بجعل الأبناء الذكور ينجذبون إلى الرجال، فإن مثل هذا الجين يمكنه البقاء بفضل المزية التي يمنحها للبنات.

إلى أن عُثر على جين هامر وفُكت شفرته، كانت الصلة بين المثلية الجنسية والعداوة الجنسية لا تعدو كونها افتراضًا جامحًا. في حقيقة الأمر هناك احتمال أن تكون الصلة بين Xq28 والميل الجنسي مضللة. لقد فشلت دراسة مايكل بايلي الحديثة على أنساب المثليين في العثور على ذلك الميل ناحية الكروموسوم الموروث من الأم كملمح عام، وفشل علماء آخرون أيضًا في إيجاد الصلة التي وجدها هامر بالمنطقة Xq28. وفي الوقت الحاضر، يبدو أن هذه الصلة كانت مقتصرة فقط على تلك العائلات التي أخضعها هامر للدراسة. وحتى هامر نفسه يحذر قائلًا إنه إلى أن نتعرف على الجين على نحو قاطع فمن الخطأ التسرع في الحكم.15
إضافة إلى ذلك، يوجد الآن عامل يزيد الأمر صعوبة؛ تفسير مغاير تمامًا للمثلية الجنسية. لقد صار واضحًا بدرجة كبيرة أن الميل الجنسي مرتبط بترتيب الميلاد، فالرجل ذو الشقيق أو الأشقاء الأكبر منه عمرًا يزداد احتمال كونه مثليًّا عن أي رجل آخر لا يملك أشقاء أكبر منه أو يملك فقط أشقاء أصغر عمرًا أو لديه شقيقة واحدة أنثى أو أكثر. إن تأثير ترتيب الميلاد عظيم حتى إنه مع كل شقيق أكبر تزداد احتمالية المثلية الجنسية بمقدار الثلث (وربما ظل هذا يعني أن هذا الاحتمال غير مرجح؛ فالزيادة من ثلاثة إلى أربعة بالمائة تعني زيادة بمقدار ثلاثة وثلاثين بالمائة). وقد ثبت هذا التأثير بالدليل في بريطانيا وهولندا وكندا والولايات المتحدة في عينات عديدة متباينة من الأشخاص.16

بالنسبة لأغلب الناس، قد يكون أول ما يتبادر إلى التفكير هو التفسير المبني على النظريات الفرويدية؛ أن شيئًا ما في آليات النمو وسط أسرة بها أشقاء ذكور أكبر عمرًا يجعل المرء يميل نحو المثلية الجنسية، بيد أن هذا التفسير هو التفسير الخاطئ دون شك. (إن الفكرة الفرويدية القديمة القائلة إن المثلية الجنسية تحدث بسبب الأم المفرطة في الحماية والأب البعيد تخلط بكل تأكيد بين السبب والنتيجة؛ إذ إن الصبي الذي يطور اهتمامات خنثوية هو الذي ينفر من الأب، وعلى هذا تصير الأم مبالغة في الرعاية كتعويض.) ومرة أخرى، تكمن الإجابة على الأرجح في نطاق العداوة الجنسية.

ومن بين المؤشرات المهمة حقيقة أنه لا يوجد تأثير لترتيب الميلاد فيما يتعلق بالسحاقيات، اللواتي يتباين ترتيبهن ضمن أسرهن. إضافة إلى ذلك فإن عدد الشقيقات الأكبر عمرًا لا يفيد عند التنبؤ بالمثلية الجنسية عند الرجال. هناك شيء ما يزيد احتمال إصابة الذكور بالمثلية الجنسية عندما يكون الرحم قد انشغل من قبل بذكور آخرين. إن أفضل تفسير للأمر مرتبط بثلاثة من الجينات النشطة على الكروموسوم واي يطلق عليها اسم المستضدات H-Y المتوافقة نسيجيًّا. إن جينًا مشابهًا يحمل شفرة بروتين يسمى الهرمون المضاد لمولر، وهي مادة ضرورية لإضفاء سمات الذكورة على الجسد؛ إذ تعمل على انحسار قنوات مولر في الجنين الذكر، حيث إن هذه القنوات هي التي تتشكل بعد ذلك على صورة الرحم وقناتي فالوب. لسنا متأكدين بعد مما تفعله جينات H-Y الثلاث، فهي ليست ضرورية لتذكير الأعضاء الجنسية، إذ إن هذه المهمة متروكة لهرمون التستستيرون وهرمون مضاد مولر وحدهما. ولا تزال دلالة هذه الحقائق في طور التكشف.
سبب تسمية هذه المنتجات الجينية بالمستضدات هو أنها تستثير رد فعل من الجهاز المناعي للأم. وبالتبعية، من المرجح أن يكون رد الفعل المناعي أقوى في حالات الحمل التالية بالذكور (إذ إن الأجنة الإناث لا تفرز المستضدات H-Y ومن ثم لا تستثير رد فعل من الجهاز المناعي). يرى راي بلانشارد، وهو أحد الذين يدرسون تأثير ترتيب الميلاد، أن وظيفة مستضدات H-Y هي تنشيط بعض الجينات في أنسجة معينة، على الأخص داخل المخ، وفي حقيقة الأمر توجد أدلة دامغة على هذا الأمر لدى الفئران. إن كان هذا هو الحال فإن تأثير الجهاز المناعي القوي للأم ضد هذه البروتينات سيكون منع تذكير المخ جزئيًّا، لكن دون المساس بالأعضاء التناسلية. وهذا بدوره قد يجعل الرجال ينجذبون إلى غيرهم من الرجال، أو على الأقل لا ينجذبون إلى النساء. في إحدى التجارب التي حُصنَ فيها جنين فأر ضد مستضدات H-Y، نما الفأر وهو عاجز بدرجة كبيرة عن النجاح في التزاوج، بالمقارنة بالمجموعة الضابطة، ومن المثير للإحباط أن القائمين على التجربة لم يوضحوا أسباب ذلك. وبالمثل، يمكن حث ذكور ذباب الفاكهة على إظهار السلوك الجنسي الأنثوي فقط، وبصورة غير قابلة للتراجع، عن طريق تنشيط جين معين يسمى «المحول» في مرحلة حساسة من النمو.17

بيد أن البشر ليسوا فئرانًا أو ذبابًا، وهناك العديد من الأدلة على أن التمايز الجنسي للمخ البشري يتواصل لما بعد الميلاد. والرجال المثليون ليسوا — فيما عدا قلة نادرة منهم — نساء محبوسات داخل أجساد رجال. إن أمخاخهم تعرضت للتذكير ولو جزئيًّا بفعل الهرمونات، لكن يظل من الممكن أن يكونوا فد افتقدوا بعض الهرمونات في فترة الحياة المبكرة الحساسة وأن هذا يؤثر تأثيرًا دائمًا في بعض الوظائف، ومنها الميل الجنسي.

إن الرجل الذي أتى بسلسلة الأفكار التي قادت إلى فكرة العداوة الجنسية، بيل هاميلتون، تفهم كيف يمكن لهذه الفكرة أن تزعزع مفهومنا عن الجينات، وقد كتب بعد ذلك يقول: «لقد أدركنا أن الجينوم ليس فقط بنكًا للمعلومات مصحوبًا بفريق تنفيذي مكرس لمشروع واحد هو إبقاء الفرد على قيد الحياة وإنجاب أبناء، كما كنت أتخيل إلى الآن. بدلًا من ذلك صار يبدو مثل قاعة مجلس إدارة إحدى الشركات، مسرحًا لصراعات القوى بين زمر محبة لذواتها.» وقد بدأ فهم هاميلتون الجديد لجيناته في التأثير في فهمه لعقله:18

لقد اتضح لي أن وعيي ونفسي التي تبدو غير قابلة للتجزئة أبعد ما يكونان عما كنت أتصور، وينبغي ألا أشعر بالخجل من رثائي لذاتي! لقد كنت سفيرًا مرسلًا إلى الخارج من قبل ائتلاف هش، حاملًا لأوامر متعارضة من سادة متقلقلين لإمبراطورية منقسمة … وبينما أكتب هذه الكلمات — بل لكي أصير قادرًا على كتابتها — أتظاهر بكوني وحدة واحدة أعلم في داخلي الآن أنها غير موجودة من الأساس. إنني في الأساس خليط، من الذكر والأنثى، الأب والابن، قطع متحاربة من الكروموسومات المشتبكة في صراع مرير قبل أن يشهد نهر السيفرن مقدم السلتيون والساكسونيين بملايين السنين، كما وصفهم هاوسمان في قصيدته «فتى من شوبشاير».

إن فكرة تصارع الجينات بعضها مع بعض، فكرة كون الجينوم ساحة لمعركة بين جينات الآباء وجينات الأبناء، أو بين جينات الذكور وجينات الإناث، غير مألوفة لكثيرين خارج مجموعة صغيرة من علماء الأحياء التطوريين. ومع ذلك فقد زعزعت الأسس الفلسفية لعلم الأحياء بشدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤