الكروموسوم ٨: الأنانية

إننا آلات للبقاء؛ مَركبات آلية مبرمجة برمجة عمياء لحفظ الجزيئات الأنانية المعروفة باسم الجينات. تلك حقيقة لا تزال تملؤني بالدهشة.

ريتشارد ديكنز في1 «الجين الأناني»

معروف عن كتيبات التعليمات التي تأتي مع الآلات الجديدة أنها محبطة بدرجة كبيرة؛ فهي دائمًا تفتقر للمعلومة المحددة التي تحتاجها، وتسبب لك الحيرة الشديدة، ولا تقدم العون الكافي، وعادة يضيع شيء ما أثناء الترجمة من الصينية. لكنها على الأقل لا تدرج — حينما تكون على وشك الوصول إلى النقطة المهمة — خمس نسخ من قصيدة شيلر «نشيد للفرح»، أو نسخة مشوهة من مجموعة تعليمات خاصة بكيفية وضع السرج على الحصان، كما أنها لن تحتوي (عامةً) على خمس نسخ من مجموعة تعليمات كاملة لكيفية بناء آلة من شأنها نسخ هذه المجموعة من التعليمات، وهي لا تقسم التعليمات التي تبحث عنها إلى سبع وعشرين فقرة مختلفة تتخللها صفحات طويلة من اللغو غير ذي الصلة بحيث تصير عملية العثور على التعليمات الصحيحة مهمة هائلة الصعوبة في حد ذاتها. ومع ذلك فإن هذا الوصف الخاص بجين الورم الأرومي الشبكي لدى البشر ينطبق بالمثل — على حد علمنا — على أغلب الجينات البشرية أيضًا؛ إذ إن ذلك الجين يتألف من سبع وعشرين فقرة مختصرة ذات معنى تقاطعها ست وعشرون صفحة طويلة من اللغو الفارغ.

لقد وضعت الطبيعة سرًّا صغيرًا في الجينوم؛ فكل جين معقد بدرجة أكثر مما يحتاج إذ إنه مقسم إلى العديد من «الفقرات» المختلفة (المسماة بالإكسونات)، تفصلها سلاسل طويلة (تسمى الإنترونات) من اللغو العشوائي والتكرارات غير ذات الصلة، البعض منها يحتوي على جينات حقيقية من أنواع مختلفة (وخبيثة) أحيانًا.

السبب وراء هذا الخلط هو أن الجينوم كتاب ألف نفسه بنفسه، عن طريق الإضافة والحذف والتعديل المتواصل في محتواه عبر أربعة مليارات عام. إن للوثائق التي تكتب نفسها بنفسها خصائص غير عادية. من هذه الخصائص تحديدًا أنها عرضة للتطفل. قد تجد هذا المثال غير منطقي، لكن تخيل أن كاتبًا يجلس إلى حاسبه كل صباح ليجد أن هناك فقرات معينة في النص الذي كتبه تحدث صخبًا كي تجذب انتباهه، بحيث تجبره تلك التي تصرخ بصوت أعلى على إدراج خمس نسخ إضافية منها على الصفحة التالية التي يكتبها. ستظل التعليمات الحقيقية موجودة، وإلا فلن تُجَمَّع الماكينة، لكن سيكون دليل التشغيل مليئًا بالفقرات المتطفلة الجشعة التي تستغل إذعان الكاتب لها.

في الواقع، مع ظهور البريد الإلكتروني، صار التشبيه أكثر منطقية عن ذي قبل. افترض أنني أرسلت إليك رسالة بريد إلكتروني تقول: «احذر، هناك فيروس كمبيوتر خبيث آخذ في الانتشار، وإذا فتحت رسالة بريد عنوانها «مربى الفاكهة»، فسيمسح الفيروس القرص الصلب! رجاء تمرير هذا التحذير إلى كل شخص تعرفه.» بالطبع الجزء الخاص باسم الفيروس هو من تأليفي، إذ لا يوجد على حد علمي رسائل بريد إلكتروني بعنوان «مربى الفاكهة» تعمل على نشر الفيروسات، لكنني في حقيقة الأمر استوليت على صباحك تمامًا وجعلتك ترسل تحذيري إلى كل من تعرف. إن رسالتي في حد ذاتها هي الفيروس.2

إلى الآن، ركز كل فصل من كتابنا هذا على جين واحد بعينه أو أكثر، على افتراض أن الجينات هي أكثر ما يهم في الجينوم. وكما تذكر، فالجينات هي امتدادات من الحمض النووي تحمل وصفات لتصنيع بروتينات، لكن سبعة وتسعين بالمائة من الجينوم لا يتكون من جينات حقيقية من الأساس، بل يتكون من تجميعة من التكوينات العجيبة التي يُطلق عليها الجينات الزائفة والجينات الزائفة القهقرية، والتوابع والتوابع الصغيرة والتوابع الدقيقة والينقولات والينقولات القهقرية؛ وكلها تُعرف إجمالًا باسم «الدنا المهمَل»، أو في بعض الأحيان، وهو المسمى الذي قد يكون أكثر دقة، «الدنا الأناني». بعض هذه التكوينات جينات من نوعية خاصة، لكن أغلبها شذرات من الحمض النووي لم تُنسخ للغة البروتين. ونظرًا لأن قصة هذه المواد تنبع بصورة طبيعية من قصة الصراع الجنسي المذكورة في الفصل السابق، فسيركز هذا الفصل على هذا الدنا المهمَل.

من حسن الحظ أن هذا مكان مناسب لسرد هذه القصة، لأنه لا يوجد شيء آخر محدد يمكن قوله عن الكروموسوم ٨. لا يعني هذا أنه كروموسوم ممل، أو أنه لا يحوي إلا القليل من الجينات، كل ما في الأمر أنه لم يجذب أيٌّ من الجينات المكتشفة في هذا الكروموسوم انتباهي. (بالمقارنة بحجمه، يعد الكروموسوم ٨ مهملًا نسبيًّا، وهو أحد أقل الكروموسومات الموضوع لها خرائط تفصيلية.) إن الدنا المهمل يوجد في جميع الكروموسومات، ومع هذا، ومن قبيل المفارقة، كان هذا الدنا المهمل هو أول جزء من الجينوم البشري يستفاد منه استفادة عملية يومية في عالمنا البشري؛ إذ إنه قادنا إلى البصمة الوراثية للحمض النووي.

الجينات وصفات لبروتينات، لكن ليست كل وصفات البروتينات مرغوبًا فيها. إن أكثر وصفات البروتينات شيوعًا في الجينوم البشري بأسره هي جين لبروتين يسمى بإنزيم النسخ العكسي. ليس لهذا الجين غرض محدد في الجسم البشري. وإذا تخلصنا — بحرص وبطريقة سحرية ما — من كل نسخة من هذا الجين من جينوم أي شخص في لحظة الحمل، فمن المرجح أن تزداد صحة هذا الشخص وسعادته وعمره المتوقع. إن إنزيم النسخ العكسي مكوّن أساسي في أنواع عديدة من الطفيليات. وهو جزء مفيد للغاية — بل ضروري — من جينوم فيروس الإيدز؛ إذ يساهم مساهمة أساسية في نقل العدوى وقتل ضحايا هذا الفيروس. أما بالنسبة للبشر، فهذا الجين مصدر إزعاج وتهديد. ومع ذلك فهو من أكثر الجينات شيوعًا في الجينوم البشري بأكمله؛ إذ إن هناك عدة مئات من النسخ، وربما آلاف، تنتشر في جميع الكروموسومات البشرية. هذه حقيقة مثيرة للدهشة، لكنها أشبه باكتشاف أن الاستخدام الأكثر شيوعًا للسيارات هو الفرار من أماكن ارتكاب الجرائم. ما الغرض من وجوده من الأساس؟

جزء من الجواب يأتي من معرفتنا بما يفعله إنزيم النسخ العكسي. إنه يأخذ نسخة من الرنا الخاص بأحد الجينات، ثم ينسخها على نحو عكسي إلى الدنا، ثم يربطها مجددًا في الجينوم. إنه بمنزلة تذكرة عودة لنسخة من الجين. وبهذه الوسيلة يستطيع فيروس الإيدز دمج نسخة من الجينوم الخاص به في الدنا البشري من أجل إخفائها والحفاظ عليها ونسخها بفعالية. إن عددًا كبيرًا من نسخ جين إنزيم النسخ العكسي موجود في الجينوم البشري لأن بعضًا من الفيروسات القهقرية المعروفة وضعها هناك، منذ زمن بعيد أو حتى في وقت قريب. هناك آلاف عديدة من الجينومات الفيروسية شبه الكاملة مدمجة بالجينوم البشري، أغلبها في الوقت الحالي غير فعال أو يفتقر إلى جين أساسي. هذه «الفيروسات القهقرية البشرية داخلية المنشأ» تقدر بنسبة ١٫٣٪ من الجينوم بأكمله. قد لا يبدو هذا القدر كبيرًا، لكن لنضع في الاعتبار أن الجينات «الفعالة» لا تعدو نسبتها في الجينوم ٣٪. إن كنت ترى أن انحدارك من سلالة القردة ينال من احترامك لذاتك، فمن الأفضل أن تعتاد كذلك على فكرة أنك منحدر أيضًا من الفيروسات.

لكن لم لا نتخلص من الوسيط؟ بمقدور الجينوم الفيروسي أن يتخلص من أغلب الجينات الفيروسية ولا يحتفظ إلا بجين إنزيم النسخ العكسي. عندئذٍ يمكن لهذا المتطفل المبسط أن يتحرر من العمل المضني المتمثل في محاولة التنقل من شخص إلى آخر عن طريق اللعاب أو الاتصال الجنسي، وبدلًا من ذلك ينتقل من جيل لآخر داخل جينوم الضحية، وهذا هو التطفل الجيني الحق. مثل هذه «الينقولات القهقرية» أكثر شيوعًا بكثير من الفيروسات القهقرية. وأكثرها شيوعًا هو ذلك التتابع من الحروف المعروف باسم LINE-1 إنها «فقرة» من الحمض النووي يبلغ طولها بين ألف وستة آلاف «حرف»، وتتضمن وصفة كاملة لإنزيم النسخ العكسي بالقرب من منتصفها. إن ينقولات LINE-1 القهقرية ليست شائعة وحسب — إذ قد يوجد مائة ألف نسخة منها في كل نسخة من جينومك — بل هي تحب التواجد في جماعات، بحيث تتكرر الفقرة مرات عديدة على نحو متتابع على الكروموسوم. وهذه الينقولات مسئولة عن نسبة مذهلة تبلغ ١٤٫٦٪ من الجينوم بأكمله، بمعنى أنها تبلغ من الحجم خمسة أضعاف الجينات «النشطة». ولهذا الأمر تداعيات خطيرة، فينقولات LINE-1 القهقرية تحمل تذكرة العودة الخاصة بها، ويمكن لأحدها أن ينسخ نفسه، ويصنع إنزيم النسخ العكسي الخاص به، ثم يستخدمه من أجل عمل نسخة دنا من نفسه ثم يدخل هذه النسخة في أي موضع شاء بين الجينات. هذا على الأرجح هو السبب وراء وجود نسخ عديدة من ينقولات LINE-1 القهقرية في المقام الأول. بعبارة أخرى، إن هذه «الفقرة» المتكررة من «النص» موجودة بهذه النسبة بفضل قدرتها على نسخ نفسها، لا لسبب آخر.
«على كل برغوث تقتات براغيث أخرى أصغر حجمًا، وهذه عليها براغيث أخرى أصغر تقتات عليها، ويسير الأمر على هذا النحو بلا نهاية.» إن كانت ينقولات LINE-1 القهقرية شائعة بهذه الدرجة، فهذا يعني أنها هي الأخرى عرضة لتطفل سلاسل أخرى تتخلص من إنزيم النسخ العكسي الخاص بها وتستخدم ذلك الموجود في ينقولات LINE-1 القهقرية. توجد «فقرات» أخرى أصغر حجمًا وأكثر شيوعًا من ينقولات LINE-1 القهقرية تسمى سلاسل Alu. وكل واحدة منها تحتوي على ما بين ١٨٠ و٢٨٠ «حرفًا»، ويبدو أنها شديدة البراعة في استخدام إنزيم النسخ العكسي الخاص بالآخرين من أجل نسخ نفسها. إن نص سلاسل Alu قد يتكرر مليون مرة في الجينوم البشري، بنسبة قدرها عشرة بالمائة من «الكتاب» بأكمله.3
لأسباب لم تتضح بالكامل بعد، فإن سلسلة Alu الطبيعية تحمل شبهًا كبيرًا بأحد الجينات الحقيقية؛ الجين المسئول عن تصنيع جزء من آلة تصنيع البروتين المسماة بالريبوسوم. يملك هذا الجين داخله — على نحو غير معتاد — ما يطلق عليه اسم المحرك الداخلي، بمعنى أن رسالة «اقرأني» مكتوبة في السلسلة في منتصف الجين. وبهذا تكون هذه السلسلة مرشحة مثالية لعملية التكاثر؛ لأنها تحمل داخلها الإشارة الخاصة بنسخ نفسها، وبذلك لن تكون مضطرة إلى الوجود بالقرب من سلسلة محركة أخرى. والنتيجة أن كل سلسلة Alu هي على الأرجح «جين معطل». يمكن تشبيه الجينات الزائفة بحطام غارق لسفن صدئة غرقت بفعل فجوات في قاعها سببتها طفرات خطيرة. إنها الآن قابعة في أعماق محيط الجينوم، يأكلها الصدأ مع الوقت (بمعنى أنها تراكم المزيد من الطفرات) إلى أن تصير أبعد ما يكون عن شكل الجينات التي كانت عليها يومًا ما. على سبيل المثال: هناك جين عادي موجود في الكروموسوم ٩، إذا أخذت نسخة منه وجُبْت أرجاء الجينوم بحثًا عن سلاسل تشبهه لوجدت أربعة عشر موضعًا في أحد عشر كروموسومًا؛ أربع عشرة سفينة أشباح غارقة. إنها نسخ زائدة عن الحاجة أصابتها طفرات، الواحدة تلو الأخرى، ولم تعد مستخدمة. وقد نجد الشيء نفسه مع بقية الجينات، ففي مقابل كل جين عامل توجد حفنة من النسخ المحطمة في مكان ما من الجينوم. المثير في أمر مجموعة الأربعة عشر هذه تحديدًا هي أنها موجودة ليس فقط في البشر، بل في القردة أيضًا. إن ثلاثة من هذه الجينات البشرية الزائفة غرقت بعد الانفصال بين قردة العالم القديم وقردة العالم الحديث. وهذا يعني — كما يؤكد العلماء وهم يلهثون من فرط الإثارة — أنها أعفيت من وظيفتها الشفرية منذ خمسة وثلاثين مليون عام مضت «فقط».4
لقد تكاثرت سلاسل Alu على نطاق واسع، لكنها فعلت هذا في وقت قريب نسبيًّا. فهذه السلاسل لا توجد إلا في الرئيسيات فقط، وهي مقسمة إلى خمس عائلات مختلفة، البعض منها ظهر فقط عندما افترقنا عن الشمبانزي (أي خلال الخمسة ملايين عام الماضية). أما الحيوانات الأخرى فبها «فقرات» قصيرة متكررة أخرى، حيث يوجد لدى الفئران سلاسل تسمى B1.
كل هذه المعلومات عن ينقولات LINE-1 القهقرية وسلاسل Alu تقودنا إلى اكتشاف غير متوقع، وهو أن الجينوم مليء — بل يمكن القول إنه مكدس — بأشياء أشبه بفيروسات الكمبيوتر؛ سلاسل أنانية متطفلة من الحروف توجد لغرض وحيد بسيط وهو التكاثر وحسب. إننا مليئون بسلاسل أحرف رقمية وتحذيرات عن مربى الفاكهة. وبالتقريب يتكون خمسة وثلاثون بالمائة من الدنا البشري من أشكال عديدة من الدنا الأناني، وهو ما يعني أننا ننفق خمسة وثلاثين بالمائة إضافية من الطاقة أثناء عملية مضاعفة جيناتنا. إن الجينوم يحتاج بحق إلى التخلص من الطفيليات التي تملؤه.

لم يشك أحد في هذا. لم يتنبأ أحد بأننا حين نقرأ شفرة الحياة سنجد أنها مليئة بأمثلة على استغلال أناني لا سيطرة تقريبًا لنا عليه. لكن كان حريًّا بنا توقع شيء كهذا؛ لأن كل مستوى آخر من الحياة عرضة فعلًا للتطفل؛ كالديدان الموجودة بأمعاء الحيوانات والبكتيريا في دمائها والفيروسات في خلاياها، فلم لا توجد ينقولات قهقرية في جيناتها؟ إضافة إلى ذلك، بحلول منتصف سبعينيات القرن العشرين بدأ يتضح لكثير من علماء الأحياء التطوريين — خاصة المهتمين بالسلوك منهم — أن الانتخاب الطبيعي ليس بمنافسة بين الأنواع، ولا منافسة بين الجماعات، ولا حتى منافسة بين الأفراد، بل هو منافسة بين جينات تستخدم الأفراد — وفي بعض الأحيان المجتمعات — كوسائل وقتية. على سبيل المثال: عندما يُمْنَح أي حيوان الاختيار بين أن يحيا منفردًا حياة آمنة مريحة طويلة أو أن يعيش حياة خطرة مرهقة في محاولته التناسل، فإن أغلب الحيوانات تقريبًا (والنباتات كذلك في حقيقة الأمر) ستفضل الخيار الثاني، فجميع الحيوانات تفضل إنجاب الذرية حتى لو كان هذا يرفع احتمالات موتها. وفي حقيقة الأمر إن أجسادها مصممة بحيث تصير مع الوقت عديمة النفع من خلال ما يسمى بالشيخوخة، التي تسبب لها الوفاة بعد أن تصل إلى سن التزاوج، أو حتى تموت على الفور، كما في حالة الحبار وسلمون الأطلنطي. لن تجد في أي من هذه الحقائق شيئًا من المنطقية ما لم تنظر إلى الجسد بوصفه فقط وسيلة للجينات؛ أداة تستخدمها الجينات في منافستها لتحقيق الخلود لنفسها. إن بقاء الجسد على قيد الحياة أمر ثانوي لهدف الحصول على جيل جديد. وإذا كانت الجينات «كائنات تكاثر أنانية» والأجساد هي «مركباتها» المؤقتة (حسب كلمات ريتشارد ديكنز المثيرة للجدل)، فعندئذٍ لن يكون من المثير للدهشة أن نجد بعض الجينات وقد تمكنت من تحقيق غرضها في التكاثر دون الحاجة إلى بناء أجساد. أيضًا لن يكون من المثير للدهشة أن نكتشف أن تكون الجينومات، مثل الأجساد، مواطن مكتظة بنسخ من الجينات تتعاون مع غيرها من النسخ الموجودة بمحيطها وتتنافس. حقيقة الأمر أن سبعينيات القرن العشرين كانت هي البداية الحقيقية لنظرية التطور على المستوى الجيني.

كتفسير للحقيقة التي تقول إن الجينوم يحتوي على مناطق كبيرة غير مسكونة بالجينات، اقترح زوجان من العلماء في عام ١٩٨٠ أن هذه المناطق قد تكون متخمة بسلاسل أنانية وظيفتها الوحيدة هي البقاء على قيد الحياة داخل الجينوم. قالوا: «إن البحث عن تفسيرات أخرى قد يثبت عدم جدواه، إن لم يكن مجدبًا من الناحية العقلية.» وقد كانوا عرضة للسخرية لوضعهم مثل هذه الفرضية الجريئة. كان علماء الوراثة وقتها ما زالوا متمسكين بالنظرة نفسها التي ترى أنه إذا كان شيء ما موجودًا في الجينوم البشري فلا بد من أن له غرضًا يفيد البشر، لا غرضًا أنانيًّا يخدم ذاته وحسب. كانت الجينات وصفات لبروتينات ليس إلا. ولم يكن من المنطقي النظر إليها على أن لها أهدافًا أو أحلامًا، بيد أن هذه الفرضية ثبتت صحتها على نحو مدهش. إن الجينات تتصرف فعلًا وكأن لها أهدافًا أنانية، ليس بصورة واعية، وإنما بأثرها الرجعي؛ إذ إن الجينات التي تتصرف على هذا النحو هي التي تزدهر، أما تلك التي لا تتصرف على هذا النحو فلا تنجح أو تزدهر.5
إن جزءًا كبيرًا من الدنا الأناني ليس مجرد سلاسل متنقلة يضيف وجودها إلى حجم الجينوم، ومن ثم إلى مقدار الطاقة اللازمة لنسخ الجينوم. فلما كان الدنا الأناني يميل في المعتاد إلى القفز من موقع لآخر، أو إرسال نسخ منه لمواقع أخرى، فهو عرضة للهبوط في منتصف أحد الجينات العاملة مسببًا له ضررًا يفوق الوصف، ثم يقفز مبتعدًا عنه مجددًا مسببًا اختفاء الطفرة. كان هذا هو ما أدى لاكتشاف الينقولات لأول مرة، في أواخر أربعينيات القرن العشرين، بواسطة العالمة بعيدة النظر، باربرا مكلينتوك، التي عانت التجاهل الشديد (والتي مُنحت في نهاية المطاف جائزة نوبل عام ١٩٨٣). لقد لاحظت أن الطفرات في ألوان بذور نبات الذرة الشامية تحدث على نحو لا يمكن تفسيره إلا بأن الطفرات تهبط على جينات الصبغات ثم تخرج منها مجددًا.6
لدى البشر، تسببت ينقولات LINE-1 وسلاسل Alu في طفرات عن طريق الهبوط في منتصف كل أنواع الجينات، فقد تسببت — على سبيل المثال — في مرض الهيموفيليا حين هبطت على الجين المسبب للتجلط، لكننا — ولأسباب لم تُفهم جيدًا بعد — نعد أقل تضررًا من الدنا المتطفل عن بقية الأنواع الأخرى. فعلى وجه التقريب، تحدث واحدة فقط من بين كل ٧٠٠ طفرة لدى البشر بفعل هذه «الجينات القافزة»، أما لدى الفئران فتحدث تقريبًا عُشر الطفرات بفعل الجينات القافزة. لقد اتضح الخطر الذي يمكن لهذه الجينات القافزة التسبب فيه عن طريق إحدى التجارب الطبيعية التي جرت في خمسينيات القرن العشرين على ذبابة الفاكهة الصغيرة. تعد ذبابة الفاكهة من حيوانات التجارب المفضلة عند علماء الوراثة. إن الفصيلة التي يدرسها العلماء، والمسماة دروسوفيلا ميلانوجاستر نُقلت إلى جميع أنحاء العالم كي تتوالد في المختبرات. وفي أحيان كثيرة كانت تهرب وتقابل أنواعًا طبيعية من ذباب الفاكهة، أحدها، المسمى دروسوفيلا ويليستوني، يحمل أحد الجينات القافزة يدعى العنصر P. وبطريقة ما نحو عام ١٩٥٠، وفي مكان ما من أمريكا الجنوبية، ربما عن طريق العثة المصاصة للدماء، دخلت الجينات القافزة الموجودة في فصيلة دروسوفيلا ويليستوني فصيلة دروسوفيلا ميلانوجاستر. (أحد المخاوف المرتبطة بزراعة أعضاء من أنواع أخرى مثل الخنازير أو قرود البابون هو أن هذا قد يتسبب في إطلاق نوع جديد من الجينات القافزة في فصيلتنا، مثل العنصر P في ذبابة الفاكهة.) ومنذ ذلك الحين انتشر العنصر P في ذبابة الفاكهة انتشار النار في الهشيم، حتى إن أغلب ذباب الفاكهة يحمل هذا العنصر الآن، باستثناء الذباب الذي جُمع من البراري قبل عام ١٩٥٠ وحُفظ في المختبرات منذ ذلك الحين. إن العنصر P هو سلسلة من الدنا الأناني تعلن عن وجودها بإيقاع الخلل في الجين الذي تهبط عليه. وبالتدريج تمكنت بقية الجينات الموجودة في جينوم ذبابة الفاكهة من مقاومته، مبتكرة سبلًا لمنع العنصر P من التقافز، والآن يستقر هذا العنصر كمسافر لا ضير منه.
لا يملك البشر شيئًا شريرًا مثل العنصر P هذا، على الأقل ليس في الوقت الحاضر. بيد أنه عُثر على عنصر مشابه، يطلق عليه «الجمال النائم»، في سمك السلمون. وحين أدخل إلى الخلايا البشرية في المختبرات ازدهر بقوة، وأظهر قدرته على القص واللصق. حدث شيء مشابه لانتشار العنصر P على الأرجح مع كل واحدة من سلاسل Alu لدى الإنسان؛ إذ انتشرت كل واحدة منها في جنسنا البشري، مسببة إزعاجًا للجينات، إلى أن تآزرت جينات أخرى من أجل كبح جماحها، وبناء عليه استقر بها الحال على الشكل الهادئ التي هي عليه الآن. إن ما نراه في الجينوم البشري ليس عدوى طفيلية سريعة الانتشار، بل حويصلات خامدة ناتجة من عمليات تطفل كثيرة ماضية، كل واحدة منها انتشرت بسرعة إلى أن وجد الجينوم وسيلة لكبحها، لكن ليس استئصالها.
وفي هذا الجانب (وفي غيره أيضًا) يبدو أننا أكثر حظًّا من ذباب الفاكهة؛ إذ يبدو أننا نملك آلية عامة لكبح الدنا الأناني. على الأقل هذا ما يراه المؤمنون بإحدى النظريات الحديثة المثيرة للجدل. تحمل آلية الكبح اسم مَثْيلة السايتوسين. السايتوسين هو تلك المادة التي يرمز إليها بالحرف C في الشفرة الجينية، وجعلها مثيلية (عن طريق ربطها بمجموعة ميثيل من ذرات الكربون والهيدروجين) يمنع نسخها بواسطة القارئ. إن مقدارًا كبيرًا من الجينوم، أو بالأحرى أغلب محركات الجينات (الأجزاء الموجودة في بداية الجينات حيث تبدأ عملية النسخ)، يقضي فترات طويلة من وقته في هذه الحالة المثبَطة. كان من المتفق عليه بصفة عامة أن هذه العملية تفيد في تقييد الجينات التي ليس لها حاجة في أنسجة معينة، وبهذا تجعل أنسجة المخ مختلفة عن أنسجة الكبد، التي بدورها تختلف عن أنسجة الجلد وهكذا. بيد أن هناك نظرية معارضة بدأت في كسب المزيد من التأييد. قد تكون عملية المَثْيَلَة لا علاقة لها تقريبًا بتحديد نوعية الأنسجة، بل هي تلعب دورًا كبيرًا في كبح الينقولات وغيرها من الطفيليات الموجودة داخل الجينوم. يحدث القدر العظيم من عملية المَثْيَلَة داخل الينقولات مثل LINE-1 وسلاسل Alu. ترى هذه النظرية الجديدة أنه أثناء النمو المبكر للجنين تُجرد كل الجينات من أي مجموعات ميثيل ومن ثم تنشط جميعها. عادة يكون هذا متبوعًا بعملية فحص دقيقة للجينوم بأكمله بواسطة جزيئات وظيفتها تحديد السلاسل المتكررة وإغلاقها عن طريق عملية المَثْيلة. في الأورام السرطانية من أول الأمور التي تحدث هو إزالة الميثيل من جميع الجينات، ونتيجة لذلك يتحرر الدنا الأناني من قيوده ويظهر ظهورًا سخيًّا في الأورام. وبما أن الينقولات في العموم تجيد إفساد الجينات نجد أنها تزيد الأورام السرطانية سوءًا. ووفقًا لهذه النظرية فإن عملية المَثْيَلَة تفيد في كبح آثار الدنا الأناني.7
تبلغ سلاسل ينقولات LINE-1 في المعتاد ١٤٠٠ «حرف» طولًا، أما سلاسل Alu فيبلغ طولها ١٨٠ «حرفًا»، لكن يوجد أيضًا سلاسل أقصر من سلاسل Alu تتراكم هي الأخرى على صورة تمتمة متكررة واسعة النطاق. ربما يكون من قبيل التكلف أن نطلق على هذه السلاسل الأقصر اسم طفيليات، بيد أنها فعلًا تتكاثر على النحو نفسه، أي إنها موجودة فقط لأنها تحمل تتابعات تفيدها في نسخ أنفسها. واحدة من هذه السلاسل لها فائدة عملية في علم الأدلة الجنائية وغيره من العلوم. إنها «التوابع الصغيرة عالية التقلب». هذه السلسلة الصغيرة للغاية موجودة في جميع الكروموسومات؛ إذ إنها تظهر في أكثر من ألف موقع في الجينوم. وفي كل حالة تتكون السلسلة من «عبارة» واحدة، تبلغ من الطول في المعتاد عشرين «حرفًا»، وتتكرر مرات عديدة. قد تتغير «الكلمة» وفقًا للموضع والفرد، لكنها عادة تحمل «الحروف» نفسها في منتصفها: GGGCAGGAXG (حيث يمكن أن يحل أي «حرف» محل حرف X). وأهمية هذا التتابع تحديدًا هي أنه مشابه جدًّا للتتابع الموجود لدى البكتيريا من أجل بدء عملية تبادل الجينات مع غيرها من البكتيريا من النوع نفسه، ويبدو أنه يشجع على مبادلة الجينات بين الكروموسومات بداخلنا أيضًا. يبدو الأمر وكأن كل سلسلة تحمل في منتصفها عبارة تقول «انشرني».
إليك مثالًا على الشكل الذي تبدو عليه سلسلة من هذه التوابع الصغيرة:
hxckswapmeaboutlopl-hxckswapmeaboutlopl-
hxckswapmeaboutlopl-hxckswapmeaboutlopl-
hxckswapmeaboutlopl-hxckswapmeaboutlopl-
hxckswapmeaboutlopl-hxckswapmeaboutlopl-
hxckswapmeaboutlopl-hxckswapmeaboutlopl-
عشرة تكرارات في هذه الحالة. وفي كل مكان آخر من الألف مكان التي توجد فيها داخل الجينوم قد يوجد خمسة أو خمسون تكرارًا للعبارة نفسها. تبدأ الخلية، متبعة التعليمات في نشر العبارات داخل السلاسل المكافئة لها على النسخة الأخرى من الكروموسوم نفسه، لكن أثناء ذلك ترتكب أخطاء كثيرة، حيث تحذف عددًا من التكرارات أو تضيف. وبهذه الصورة تبدأ كل سلسلة من التكرارات في تغيير طولها، بسرعة كافية تجعلها متفردة في كل فرد، لكن ببطء كاف بحيث يحمل كل فرد عدد التكرارات نفسه مثل والديه. وبما أنه توجد آلاف من السلاسل، فالنتيجة تكون مجموعة فريدة من الأرقام لكل شخص.
عثر أليك جيفري ومساعدته الفنية فيكي ويلسون على هذه التوابع الصغيرة في عام ١٩٨٤، وحدث هذا بالمصادفة إلى حدٍّ بعيد. كانا يدرسان كيفية تطور الجينات بمقارنة الجينات البشرية لبروتين الميوجلوبين العضلي مع نظيرتها في عجول البحر، لكنهما لاحظا وجود سلسلة متكررة من الدنا في منتصف الجينات. ولأن كل هذه التتابعات الصغيرة تتشارك في السلسلة المركزية نفسها المكونة من اثني عشر حرفًا، حتى مع تنوع عدد التكرارات بدرجة كبيرة في كل واحدة، يصير من السهل نسبيًّا البحث عن هذه المصفوفة في التوابع الصغيرة والعثور عليها، ومن ثم مقارنة حجم المصفوفة لدى الأشخاص المختلفين. وقد اتضح لهما أن عدد التكرارات متفاوت تفاوتًا كبيرًا حتى إن كل شخص يملك بصمة وراثية متفردة؛ خيطًا من العلامات السوداء التي تبدو في الشكل تمامًا مثل الكود الشريطي أو البار كود. تجاهل أليك جينات الميوجلوبين التي كانت موضوع دراسته الأساسي، وبدأ في تقصي ما يمكن فعله بهذه البصمة الوراثية المتفردة. ولأن غير الأقارب ستكون لديهم بصمات وراثية متباينة تمامًا، اهتمت سلطات الهجرة بالأمر على الفور واستخدمت هذه الاختبارات من أجل التحقق من صحة ادعاءات الراغبين في الهجرة إلى البلاد بزعم أن لهم أقارب فيها. وفي أغلب الحالات، أثبتت البصمة الوراثية صحة ادعاءاتهم، وهو ما وفر عليهم الكثير من المشقة. إلا أن الاستخدام الأهم أتى بعد ذلك بوقت بسيط.8

في الثاني من أغسطس (آب) عام ١٩٨٦ عُثر على جثة فتاة صغيرة في أجمة بالقرب من قرية ناربورو في ليسترشير. تعرضت الفتاة البالغة من العمر خمسة عشر عامًا، واسمها دون آشوود، للاغتصاب والخنق. بعدها بأسبوع ألقت الشرطة القبض على عامل بأحد المستشفيات، يدعى ريتشارد باكلاند، الذي اعترف بالجريمة. كان الأمر سينتهي على هذا النحو، وكان سيزج بباكلاند في السجن مدانًا بجريمة القتل، لكن الشرطة كانت مهتمة بحل جريمة قتل أخرى لم يُعثر على مرتكبها. كانت الضحية الأخرى، واسمها ليندا مان، من ناربورو أيضًا وكانت تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، وقد تعرضت للاغتصاب والخنق، وتركت جثتها في حقل مفتوح، لكن كان هذا منذ ثلاث سنوات. كانت الجريمتان متشابهتين بحيث كان من غير المصدق ألا تكونا قد ارتُكبتا على يد الرجل نفسه، لكن باكلاند رفض الاعتراف بقتل ليندا مان.

كانت الشرطة قد عرفت بشأن تقنية البصمة الوراثية التي ابتكرها أليك جيفري من الصحف، وبما أنه كان يعمل في ليسترشير، على بعد أقل من عشر دقائق من ناربورو، اتصلت به الشرطة المحلية وسألته عما إذا كان بإمكانه تأكيد ارتكاب باكلاند لجريمة ليندا مان. وافق أليك على المحاولة، ووفرت له الشرطة عينات السائل المنوي المأخوذة من جثتي الفتاتين وكذلك عينة من دم باكلاند.

لم يجد جيفري أي صعوبة في العثور على العديد من التوابع الصغيرة في كل عينة، وبعد أكثر من أسبوع من العمل كانت البصمات الوراثية جاهزة. كانت عينتا السائل المنوي متطابقتين، ومن المؤكد أنهما أتيتا من الرجل نفسه. الأمر محسوم. إلا أن جيفري ذُهل لما رأى بعد ذلك أن عينة الدم الخاصة بباكلاند كانت تحمل بصمة وراثية مختلفة تمامًا عن تلك الخاصة بعينتي السائل المنوي، وهو ما يعني أن باكلاند لم يكن القاتل.

اعترضت شرطة ليسترشير بشدة قائلة إن هذه النتيجة سخيفة وإن جيفري أخطأ بكل تأكيد. كرر جيفري اختباراته، وهو ما فعلته أيضًا إدارة الطب الشرعي التابعة للداخلية البريطانية، وأتت النتيجتان متطابقتين. وعلى مضض أسقطت الشرطة الاتهامات الموجهة لباكلاند، ولأول مرة في التاريخ بُرئت ساحة شخص استنادًا إلى سلاسل الحمض النووي الخاص به.

ومع هذا ظلت الشكوك معلقة، فقد اعترف باكلاند على أي حال بالجريمة، وسوف تقتنع الشرطة أكثر بالبصمة الوراثية لو أنها أدانت المجرم كما أطلقت سراح البريء. وهكذا، بعد خمسة أشهر من مقتل آشوود، شرعت الشرطة في فحص دماء ٥٥٠٠ رجل في منطقة ناربورو بحثًا عن البصمة الوراثية التي تتوافق مع تلك الخاصة بمني المغتصب، لكن لم يُعثر على أي نتيجة مطابقة.

بعد ذلك ذكر عامل بأحد مخابز ليسترشير، ويدعى إيان كيلي، عرضًا لزملائه أنه أجرى فحص الدماء مع أنه لم يكن مقيمًا بالقرب من ليسترشير على الإطلاق. لقد طلب منه عامل آخر في المخبز كان يعيش بالفعل في ليسترشير، ويدعى كولين بيتشفورك، أن يفعل هذا بدلًا منه. قال بيتشفورك لكيلي إن الشرطة تحاول إلصاق التهمة به. وكرر أحد زملاء كيلي القصة على مسامع الشرطة، وقُبِضَ على بيتشفورك. وسرعان ما اعترف بيتشفورك بقتل الفتاتين، لكن هذه المرة ثبتت صحة اعترافه؛ إذ إن البصمة الوراثية لدمه توافقت تمامًّا مع تلك الخاصة بالسائل المنوي الذي عثر عليه في الجثتين. وفي الثالث والعشرين من يناير (كانون الثاني) عام ١٩٨٨ حكم عليه بالسجن مدى الحياة.

سرعان ما أصبحت البصمة الوراثية واحدة من أكثر علوم الطب الشرعي الموثوق بها وأحد الأسلحة الفعالة. وقد وضعت قضية بيتشفورك، التي كانت بمنزلة عرض استثنائيٍّ لهذه التقنية، حجرَ الأساس سنوات عديدة قادمة؛ إذ صارت البصمة الوراثية قادرة على تبرئة المتهمين، حتى في ظل وجود أدلة قد تبدو دامغة، إلى جانب قدرتها على إظهار المذنبين من مخابئهم، فقط عن طريق التهديد باستخدامها، إلى جانب دقتها وموثوقيتها الدامغتين، إذا استُخدمت على النحو الصحيح، واحتياجها فقط لعينات صغيرة من أنسجة الجسم، حتى مخاط الأنف أو البصاق، أو شعر أو عظام الجثث الميتة منذ وقت طويل.

قطعت البصمة الوراثية شوطًا كبيرًا في العقد التالي على قضية بيتشفورك. ففي بريطانيا وحدها وبحلول أواسط عام ١٩٩٨، جمع قسم الأدلة الجنائية ٣٢٠ ألف عينة من الحمض النووي واستخدمها لربط ٢٨ ألف شخص بأماكن ارتكاب الجرائم، كما استخدم ضعف هذا العدد تقريبًا لتبرئة ساحة آخرين. بُسطت هذه التقنية بحيث صار التركيز على أماكن معينة للتوابع الصغيرة بدلًا من العديد منها. كذلك توسع علم البصمات الوراثية، بحيث أمكن استخدام التوابع الصغيرة أو حتى الدقيقة لرسم «كود شريطي» لكل فرد. ومن أجل تحقيق قدر أكبر من الدقة لم يعد يُستند فقط إلى الطول بل أيضًا إلى تتابع الحروف الفعلي في التوابع المتكررة. إلا أن هذه الرموز الوراثية أسيء استخدامها أو شوهت سمعتها في المحاكم، وهو أمر غير مستغرب حين يتدخل المحامون في مثل هذه الأمور. (ينبع القدر الأعظم من إساءة الاستخدام من النظرة الساذجة التي ينظر بها العامة إلى الإحصائيات، وليس لأمر متعلق بالحمض النووي ذاته؛ فمثلًا من المرجح بمقدار أربعة أضعاف أن يدين المحلفون الشخص إذا قيل لهم إن نسبة التطابق لعينة من الحمض النووي تساوي ٠٫١٪ عما إذا قيل لهم إن رجلًا من بين كل ألف رجل يحمل حمضًا نوويًّا مطابقًا؛ مع أنهما يعنيان الشيء نفسه.)9
أحدثت تقنية البصمة الوراثية ثورة حقيقية، ليس في علم الأدلة الجنائية فقط، بل أيضًا في جميع المجالات الأخرى؛ إذ استُخدمت لتأكيد هوية ضحايا جوزيف منجيل عام ١٩٩٠، واستُخدمت للتأكد من أن الرئيس الأمريكي هو صاحب عينة السائل المنوي الموجودة على رداء مونيكا لوينسكي، واستُخدمت لتحديد الأبناء غير الشرعيين لتوماس جيفرسون. ازدهرت هذه التقنية إلى حدٍّ بعيد في مجال اختبارات الأبوة، سواء على المستوى الرسمي أو الفردي، حتى إنه في عام ١٩٩٨ وضعت شركة اسمها آيدنتيجين إعلانات على الطرق السريعة في الولايات المتحدة تقول: «من الأب؟ اتصل على رقم ١–٨٠٠ لمعرفة نوع الحمض النووي.» تلقت الشركة ٣٠٠ مكالمة يوميًّا يطلب أصحابها إجراء الفحص الذي يتكلف ٦٠٠ دولار، من أمهات معيلات تحاولن المطالبة بنفقة إعالة لأبنائهن من «الآباء»، ومن «آباء» يشكون في نسب أبنائهم. وفي أكثر من ثلثي الحالات أظهر دليل الحمض النووي أن الأمهات يقلن الحقيقة، لكن تتبقى نقطة محل نقاش وهي: هل الإساءة التي ستصيب الآباء جراء معرفة أن زوجاتهم لم يكن مخلصات لهم تفوق في القيمة التطمينات التي يتلقاها آخرون بأن شكوكهم لا أساس لها من الصحة؟ شهدت بريطانيا، كما هو متوقع، جدالًا مريرًا في وسائل الإعلام حين ظهرت أول شركة خاصة تقوم بهذا العمل؛ ففي بريطانيا من المفترض أن تظل مثل هذه التقنيات الطبية في يد الدولة، لا الأفراد.10
وبشكل أكثر رومانسية، أحدث تطبيق تقنية البصمة الوراثية في اختبارات الأبوة ثورة حقيقية في فهمنا لغناء الطيور. هل لاحظت من قبل أن طيور الدُّج وأبو الحناء المغردة تستمر في التغريد بعد انقضاء موسم التزاوج في الربيع بوقت طويل؟ هذا قد يبدو مناقضًا للفكرة التقليدية التي ترى أن الهدف الأساسي من تغريد الطيور هو جذب شركاء التزاوج. بدأ علماء الأحياء في إجراء اختبارات الحمض النووي على الطيور في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، محاولين تحديد أي الذكور هو والد الأفراخ الموجودة في كل عش. والمدهش أنهم اكتشفوا أنه حتى في هذه الطيور أحادية التزاوج، التي يتعاون فيها ذكر واحد مع أنثى واحدة في إخلاص على تنشئة الأفرخ، عادة تتزاوج الإناث مع ذكور آخرين في الجوار غير «شركائهن» المزعومين. إن الخيانة وعدم الإخلاص شائعان بدرجة أكبر بكثير مما يتخيل أي شخص (لأنها تُرتكب في سرية بالغة). لقد أدت البصمة الوراثية للحمض النووي إلى المزيد من الأبحاث التي قادت إلى نظرية قيمة للغاية تسمى نظرية تنافس الحيوانات المنوية. ويمكن لهذه النظرية «تفسير» واحدة من الحقائق غير المهمة مثل سبب كون خصيتي الشمبانزي أربعة أضعاف حجم خصيتي الغوريلا، مع أن الشمبانزي يبلغ بالكاد ربع حجم الغوريلا. إن ذكور الغوريلا يحتكرون الإناث، لذا لا تقابل حيواناتهم المنوية بأي منافسة على الإطلاق، لكن ذكور الشمبانزي يتشاركون في الإناث، لذا يحتاج كل واحد منهم أن ينتج كميات أكبر من السائل المنوي وأن يكرر التزاوج كي يزيد احتمالات أبوته. ويمكنها أيضًا أن تفسر سبب تغريد ذكور الطيور بقوة مع أنهم «متزوجون» بالفعل؛ إنهم يبحثون عن «علاقات غرامية».11

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤