الفصل الأول

مُهمة مقترَحة

كنت قد أنهيتُ فطوري للتو، وكنتُ أملأ غليوني حين تلقيتُ برقية بوليفانت. كان ذلك في فيرلينج، ذاك المنزل الريفي الكبير في هامبشاير الذي أتيتُ إليه لأتماثَل للشفاء بعدَ معركة لوس، وكان ساندي، الذي كان على نفس حالي، يبحث عن مُربَّى المرملاد. رميتُه بورقةِ البرقية الرقيقة بالشريط الأزرق المُلصَق عليها، وأطلقَ صفيرًا حين قرأها.

قال: «مرحى، لقد صارت الكتيبة تحت إمرتك يا ديك. أو ربما يكون هذا منصبًا مَكتبيًّا في المقر نفسِه. ستكون ضابطًا لعينًا من ذوي الرُّتب العالية، وتمارس سلطتك بدكتاتورية على ضابط الفوج المجتهد. ولتتذكَّر كيف كنتَ تتحدَّث عن ذوي الرُّتب العالية في أيام شبابك!»

جلستُ أفكر لحظة؛ إذ أعادني اسم «بوليفانت» إلى الوراء ثمانية عشر شهرًا، إلى ذلك الصيف الحار الذي سبق الحرب. لم أرَ الرجل منذ ذلك الحين، وإن كنتُ قد قرأتُ عنه في الصحف. كنتُ ضابطَ كتيبةٍ مُحمَّلًا بالأعباء على مرِّ أكثر من عام، ولم يشغل بالي طَوال تلك الفترة سوى صقل كثيرٍ من الأفراد المُبتدئين، وتحويلهم إلى جنودٍ أكْفاء. لقد أحرزتُ نجاحًا كبيرًا، ولم يكن في الدنيا رجلٌ أكثر فخرًا من ريتشارد هاناي حين أخذ الفوج التابع له من مشاة «لينوكس هايلاندرز»، وعَبَر به التحصينات في ذاك اليوم المجيد والدامي، الخامس والعشرين من سبتمبر. صحيح أنَّ معركة لوس لم تكن نُزهة، وأننا قد خُضنا بعض المعارك البشعة قبلها، لكن أصعب جزءٍ رأيته من الحملة كان أشبَهَ بحفل شايٍ مقارنةً بالمهمة التي كنتُ فيها مع بوليفانت قبل بدء الحرب (نُشر وصف الميجور هاناي لهذه المسألة بالتفصيل في كتاب بعنوان «درجات السُّلَّم التسع والثلاثون»).

كان يبدو أنَّ رؤية اسمِه على نموذج برقية قد غيَّرت نظرتي للحياة تمامًا. صحيحٌ أنني كنتُ أطمح إلى تولي قيادة الكتيبة، وأتطلع إلى أن أكون حاضرًا النهايةَ مع «الإخوة الألمان». لكن هذه الرسالة دفعت أفكاري فجأة إلى طريق جديد. ربما تُوجَد أشياء أخرى في الحرب غير القتال المباشر. فلماذا بحق السماء تريد وزارة الخارجية أن ترى رائدًا مغمورًا من الجيش الجديد، بل وتريد رؤيته بأقصى سرعة؟

قلت: «أنا ذاهب إلى وسط المدينة بقطار العاشرة، وسأعود قبل موعد العشاء.»

قال ساندي: «جرِّب خيَّاطي الذي أتعامَل معه. لدَيه ذوق رائع جدًّا في الشارات الحمراء التي تُلصَق بياقات ضباط الأركان. يمكنك أن تستخدِم اسمي.»

خطرَت ببالي فكرة. قلت له: «لقد صرتَ على أحسن ما يُرام الآن. إذا أرسلتُ إليك برقيةً من هناك، فهلَّا تحزم أمتعتك وأمتعتي وتلحَق بي؟»

«بكل تأكيد! سأقبل بوظيفةٍ ضمن فريقك إذا كانوا سيُعطونك فيلقًا. وما دام الأمر كذلك، فلتتكرم ولتُحضِر معك برميلًا من المحار من مطعم «سويتنجز» وأنت عائد الليلة.»

سافرتُ إلى لندن وسط أمطار نوفمبر الخفيفة المعتادة، التي توقفت عند ويمبلدون، وأفسحَتِ الأجواء لأشعة شمسية خافتة. لم أكن أطيق لندن أثناء الحرب قط. كان يبدو أنها قد فقدت هويتها، وصارت تعجُّ بكل أنواع الشارات والأزياء العسكرية، وهذا لم يكن يتماشى مع تصوُّري عنها. كان المرء يشعر بالحرب في شوارعها أشدَّ من شعوره بها في ميدان المعركة نفسه، أو بالأحرى، كان يشعر بفوضى الحرب دون أن يشعر بالغرَض منها. ويُمكنني القول إنَّني كنت أتقبَّل هذا، ولكن منذ أغسطس ١٩١٤، لم أقضِ يومًا في وسط المدينة قط إلَّا وعدتُ إلى المنزل مكتئبًا حتى النخاع.

أخذتُ سيارة أجرة، واتجهتُ مباشرة إلى وزارة الخارجية. لم يَدَعني السير والتر أنتظر طويلًا. ولكن عندما اصطحبني سكرتيره إلى غرفته، كدتُ لا أتعرَّف الرجل الذي عرفتُه قبل ذلك بثمانية عشر شهرًا.

بدا أنه قد فقد وزنًا، وكانت لدَيه انحناءة في كتفَيه المربعتَين. كان وجهه قد فقد تورُّده، وصار مُكتسيًا ببُقَع حمراء متفرقة، كوجه رجلٍ لا يحظى بقدرٍ كافٍ من الهواء النقي. وكان شعره أشدَّ شيبًا بكثيرٍ عن ذي قبل، خفيفًا جدًّا عند الصدغَين، في حين كانت عيناه مُحاطتَين بالهالات من كثرة العمل. لكنهما كانتا، كدأبهما دائمًا، ثاقبتَين ودودتَين فَطِنتَين، وكان فكُّه حادًّا بارزًا مثلما كان من قبل.

قال لسكرتيره: «يجب ألَّا يزعجنا أحد لأيِّ سبب، مهما كان، طَوال الساعة القادمة.» وعندما خرج سكرتيره الشاب، اتجه نحو بابَي الغرفة وأوصدهما بالمفاتيح.

قال وهو يرتمي على كرسيٍّ بجوار المدفأة: «حسنًا أيها الميجور هاناي. هل تُحب الجُندية؟»

قلت: «بالتأكيد، مع أنني كنتُ سأختار حربًا من نوعٍ آخر لو كان الأمر بيدي. فهذه الحرب مرهِقة ودامية. لكننا عرفنا الآن من أين تُؤكَل كتِف الألماني العجوز، والمثابرة ستقودنا إلى النجاح. أتوقع عودتي إلى الجبهة في غضون أسبوع أو اثنَين.»

سألني: «هل ستتولَّى قيادة الكتيبة؟» بدا أنه كان متابِعًا شئوني عن كثب.

قلت: «أعتقد أن لديَّ فرصةً جيدة لتولي قيادتها. لكني لستُ مشاركًا في هذه الحرب من أجل الشرف والمجد. أريد بذل كل ما بوسعي، لكني أتمنى من الرب أن تنتهي الحرب. كل ما يشغل بالي أن أخرج منها سالمًا.»

ضحك. ثم قال: «أنت تظلِم نفسك. ماذا عمَّا فعلتَه في نقطة المراقبة الأمامية عند لون تري؟ يبدو أنك كنتَ ناسيًا مسألة الخروج سالمًا آنذاك.»

شعرتُ بنفسي أحمرُّ خجلًا. وقلت: «كانت تلك محض حماقة، ولا أستطيع أن أُخمِّن هوية مَن أخبرك بهذا. كنتُ أكره تلك المهمة، لكني اضطُررتُ إلى القيام بها لأحمي الضبَّاط التابِعين لي من الموت. فقد كانوا مجموعةً من المجانين الصغار المولَعين بالعنف والقتال. ولو كنتُ أرسلت واحدًا منهم، لَما تورَّع عن جلب المتاعب.»

كان وجه السير والتر ما زال مُكتسيًا بابتسامة عريضة.

قال: «لا أُشكِّك في حذرك. فلَديك أساسياته الأولية، وإلَّا كان أصدقاؤنا من جماعة بلاك ستون قد قبضوا عليك في لقائنا المرِح الأخير. لا أُشكِّك في حذَرِك مثلما لا أُشكك في شجاعتك. لكن ما يشغل بالي هو ما إذا كانت خنادق الجبهة هي المكان الأمثل للاستفادة من هذا الحذر.»

فسألته بحدة: «هل وزارة الحرب غير راضية عن أدائي؟»

«بل راضون تمامًا. ويقترحون أن يُوَلُّوك قيادة كتيبتك. لقد بات من المؤكد الآن أنك إذا نجوتَ من الموت برصاصةٍ طائشة ما، فستُصبح قائد لواءٍ بلا شك. إنها حرب رائعة لذوي الشباب والعقول المُدبرة. لكن … أحسب أنك مُشارك في هذا العمل لخدمة بلدك يا هاناي، أليس كذلك؟»

قلت: «أحسبني كذلك. فبالتأكيد لستُ مشاركًا فيه من أجل صحتي.»

نظر إلى ساقي التي كان الأطباء قد نَخرُوها ليُخرِجوا منها شظايا القنبلة، وابتسم ابتسامةً حملت تساؤلًا.

سألني: «هل استعادت لياقَتَها بعض الشيء؟»

«إنها صلبة صلابة سوطٍ جِلديٍّ ثقيل. أصبحتُ أعيش على لعب كرة المضرب والأكل والنوم كتلاميذ المدارس.»

نهض مُولِّيًا ظهره للنار، وأخذ يُحدِّق في شرودٍ عبر النافذة إلى الحديقة الشتوية.

قال: «إنها لعبة كبيرة، وأنت الرجل المناسب لها بلا شك. ولكن يوجَد آخرون يستطيعون أن يلعبوها أيضًا؛ لأن الجُندية اليوم صارت تتطلَّب قدراتٍ بشريةً عادية لا قدرات خارقة. إنها كآلةٍ كبيرة أجزاؤها مُوحَّدة. أنت تُقاتل، ليس لأنك تفتقر إلى وظيفة؛ بل لأنك تريد مساعدة إنجلترا. فماذا إن كنتَ تستطيع أن تُقدم لها مساعدة أفضل من تلك التي قد تُقدمها لها بقيادة كتيبة أو لواء، أو حتى فِرقة، إذا وصل الأمر إلى ذلك الحد؟ ماذا لو أنَّ ثمة مهمةً لا يقدر على فعلها سواك؟ ليست مهمة مكتبية بغرض التهرُّب من القتال، بل مهمة صعبة جدًّا لدرجة أنَّ معركتك التي خُضتَها في لوس ستكون كنزهةٍ مدرسية بسيطة إذا ما قُورنَت بها. أنت لا تخشى الخطر، أليس كذلك؟ حسنًا، لن تقاتل في هذه المهمة مُحاطًا بجيشٍ من حولك، بل ستكون وحدك. تعشق مُجابهة الصعوبات، أليس كذلك؟ حسنًا، سأعطيك مهمة تمتحِن كل قُدراتك. هل لدَيك أي شيءٍ تريد قوله؟»

بدأ قلبي يخفق بقوةٍ من شدة التوتر، فالسير والتر لم يكن رجلًا مبالِغًا.

قلت: «أنا جندي، وأطيع الأوامر.»

«هذا صحيح، لكن المهمة التي أُوشِك على اقتراحها لا تقع بأيِّ حال ضِمن نطاق واجبات الجندي المُتعارَف عليها. لك مُطلَق الحرية في أن تتصرَّف كما كنتُ سأتصرف أنا شخصيًّا، أقصد كما كان أي رجلٍ عاقل سيتصرف إذا عُرِضت عليه. لن أضغط عليك إطلاقًا. وإذا شئت، فلن أَعرِض الاقتراح حتى، بل سأدَعُك ترحل من هنا، في التوِّ واللحظة، وأتمنَّى لك التوفيق مع كتيبتك. فأنا لا أريد أن أُربِك جنديًّا كفئًا بقراراتٍ مستحيلة.»

أثار هذا فضولي وشحذ هِمتي.

«لن أهرب قبل أن تبدأ المعركة. دعني أسمع اقتراحك.»

اتجه السير والتر نحو خزانة، وفتحها بمفتاحٍ من سلسلته، وأخذ ورقة من أحد الأدراج. كانت تبدو نصف ورقة عادية من أوراق الملاحظات.

قال: «أظن أن رحلاتك لم تمتدَّ إلى الشرق.»

قلت: «لا، باستثناء رحلة صيدٍ في شرق أفريقيا.»

«هل تُتابع الحملة الجارية هناك؟»

«أُواظب على قراءة الصحف منذ أن ذهبتُ إلى المستشفى. لديَّ أصدقاء مشاركون في الأحداث الجارية في بلاد الرافدَين، وأنا حريص بالطبع على معرفة ما يحدُث في جاليبولي وسالونيك. وأعتقد أن مصر آمنة جدًّا.»

«إذا أَرعَيتني انتباهك عشر دقائق، فسأُكمل لك المعلومات التي حصلتَ عليها من قراءة الصحف.»

جلس السير والتر مُستلقيًا على كرسيٍّ بمسندَين للذراعَين، وتحدَّث ناظرًا إلى السقف. كانت تلك أفضلَ وأوضح وأكمل قصةٍ سمعتُها عن أي جزءٍ من الحرب طَوال حياتي. حكى لي كيف انحرفت تركيا عن مسارها، ولماذا ومتى. سمعتُ منه عن شكاواها بشأن استيلائنا على سُفنها الحربية المدرَّعة، وعن الضرَر الذي ألحقَه بها مجيء طَرَّاد جوبن الحربي، وعن أنور ولجنته الغالية، والطريقة التي أحكموا بها قبضتهم على التركي العجوز. وبعدما تحدَّث قليلًا، بدأ يسألني.

«أنت رجل ذكي، ولعلك ستتساءل كيف استطاع مُغامر من أصل بولندي — أعني أنور — ومجموعة من اليهود والغجر أن يُسيطروا على عِرق مُعتدٍّ بنفسه. سيُخبرك أيُّ رجل عادي بأنها منظمة ألمانية مدعومة بأموال وأسلحة ألمانية. ستتساءل مرةً أخرى كيف يُنحَّى الإسلام جانبًا في كل ذلك، في حين أنَّ تركيا قوة دينية أصلًا. فهم يتجاهلون شيخ الإسلام، ومع أنَّ القيصر يدَّعي أنها حرب مُقدسة، ويُسمِّي نفسه الحاج محمد غليوم، ويقول إنَّ آل هوهنتسولرن من سلالة النبي، يبدو أن هذا لم يُجدِ أي نفع. سيُجيبك الرجل العادي مجددًا بأنَّ الإسلام في تركيا قد عفا عليه الزمن، وأنَّ مدافع كروب صارت هي الآلهة الجديدة. لكني لستُ مُتيقنًا من ذلك. فلا أُومن إطلاقًا بأنَّ الإسلام قد عفا عليه الزمن.»

أردف قائلًا: «انظر إلى الأمر من زاويةٍ مختلفة. إذا كان أنور وألمانيا هما وحدهما من يَجُرَّان تركيا إلى حرب أوروبية لأغراضٍ لا تُهِمُّ أي تركي إطلاقًا، فيُمكننا أن نتوقَّع أن نجد الجيش النظامي مُطيعًا، والقسطنطينية كذلك. ولكن في الولايات العثمانية، حيث يحظى الإسلام بتأثيرٍ قوي، سيُواجهون متاعب. لقد عوَّل كثيرون منَّا على ذلك. لكننا أُصبنا بخيبة أمل. فالجيش السوري مُتعصب مثل قبائل المهدي. والسنوسية شاركوا في اللعبة. والمُسلمون الفُرس يُهددون بإثارة متاعب. ثمَّة رياح جافة تهبُّ عبر الشرق، والهشيم ينتظر الشرارة. وتلك الرياح تهبُّ نحو الحدود الهندية. فمن أين تهبُّ تلك الرياح برأيك؟»

كان السير والتر قد خفض نبرتَه، وكان يتحدَّث ببطءٍ شديد ووضوح بالِغ. كنت أسمع قطرات المطر تتساقط من أفاريز النافذة، وصوت آلات تنبيه سيارات الأجرة في وايتهول من بعيد.

سألني مُجددًا: «هل لديك تفسير يا هاناي؟»

قلت: «يبدو أنَّ الإسلام كان له في تلك المسألة دورٌ أكبر ممَّا كنَّا نظن. أتصوَّر أنَّ الدِّين هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يرتق إمبراطورية مُمزقة كهذه.»

قال: «أنت مُحق. لا شكَّ أنك مُحق. لقد سخِرنا من الحرب المقدسة، الجهاد الذي تنبأ به فون دير جولتز. لكني أعتقد أنَّ العجوز الغبي ذا النظارة الكبيرة كان مُحقًّا. ثمة حرب جهادية قيد الإعداد. والسؤال هو: كيف؟»

قلت: «بالتأكيد لا أعرف، لكني أراهن على أنها لن تُشَن بمجموعةٍ من ضباط ألمان سِمَان يرتدون خوذًا ذات سنون مُدببة. أتصوَّر أن المرء لا يُمكن أن يشنَّ حروبًا مقدسة بمدافع كروب وحدَها، وبعضٍ من ضباط الأركان، وطَرَّاد حربي ذي مراجل مُعطلة.»

«أتفق معك. هم ليسوا حمقى، مهما حاولنا إقناع أنفسنا بعكس ذلك. لكن ماذا لو حصلوا على تأييد مُقدس هائل، ماذا لو أتاهم شيء مُقدس، ككتابٍ أو إنجيلٍ ما، أو نبيٍّ جديد من الصحراء، شيء من شأنه أن يُجمِّل الآلية القبيحة للحرب الألمانية كلها، ويُضفي عليها رونق الغزوات الجارفة القديمة التي سحقت الإمبراطورية البيزنطية، وهزَّت أسوار فيينا؟ فالإسلام عقيدة قتالية، والفقيه ما زال واقفًا على المنبر حاملًا القرآن في يدٍ، وسيفًا مسلولًا في اليد الأخرى. ماذا لو وجدوا تابوت عهدٍ يُمنِّي حتى أبعَدَ القرويين المسلمين السُّذَّج بأحلام الجنة؟ كيف سيكون الوضع عندئذٍ يا صديقي؟»

«عندئذٍ سُتفتَح أبواب الجحيم في هذه المناطق قريبًا جدًّا.»

«جحيم قد ينتشِر. وتذكَّر أنَّ خلف بلاد فارس، تقع الهند.»

فسألته قائلًا: «أنت تُواصِل الافتراضات. ما مقدار ما تعرفه حقًّا؟»

«قليل جدًّا، عدا الحقيقة. لكنَّ الحقيقة مؤكدة بلا أي شك. لديَّ تقارير من عملاء في كل مكان؛ باعةٍ مُتجولين في جنوب روسيا، وتجار خيول أفغان، وتجار تركمان، وحُجاج على الطريق إلى مكة، وشيوخ في شمال أفريقيا، وبحَّارة على سواحل البحر الأسود، ومغول مُكتسين بفراء الأغنام، وفقراء هندوس، وتجار يونانيين في الخليج، بل وقناصل ذوي شأن يستخدمون الرسائل المشفرة. وكلهم يروون القصة نفسها. الشرق ينتظر وحيًا. وحيًا موعودًا. وهذا الوحي — الذي قد يكون في صورة رجلٍ من السماء، أو نبوءة، أو حلية رخيصة — آتٍ من الغرب. الألمان يعرفون ذلك، وهذه هي الورقة التي سيُذهلون بها العالَم.»

«والمهمة التي تحدَّثتَ عن تكليفي بها هي الذهاب واكتشاف حقيقة ذلك؟»

أومأ بالإيجاب بكل جدية. وقال: «هذه هي المهمة المجنونة والمستحيلة.»

قلت له: «أخبرني يا سير والتر. أعرف أنَّ العُرف السائد في هذا البلد أنَّ الرجل إذا كان على معرفةٍ مُتخصصة بشيءٍ ما، يُكلَّف بمهمةٍ عكسها تمامًا. أنا أعرف كلَّ شيءٍ عن دامارالاند، ولكن بدلًا من أن يُعيِّنوني ضِمن فريق عمل لويس بوتا، كما كنت أريد في الطلب الذي تقدمتُ به، أبقَوني في وحل هامبشاير حتى انتهت الحملة في جنوب غرب أفريقيا الألمانية. أعرف رجلًا يُمكن أن يحسبه الجميع عربيًّا، لكن هل تظن أنهم أرسلوه إلى الشرق؟ لقد تركوه في كتيبتي، وكان هذا من حسن حظي؛ لأنه أنقذ حياتي في لوس. أعلم العُرف السائد، ولكن أليست هذه مبالغة بعض الشيء في تطبيقه؟ من المؤكد أنَّ لديكم آلافَ الرجال أمضَوا سنوات في الشرق، ويستطيعون التحدث بأيِّ لغة. هؤلاء هم الرجال المناسبون لهذه المهمة. أمَّا أنا، فلم أرَ تركيًّا في حياتي من قبلُ باستثناء رجلٍ كان يؤدي بعضًا من حركات المصارعة في عرضٍ ببلدة كيمبرلي. لقد اخترتَ أقل الرجال نفعًا لهذه المهمة على وجه الأرض.»

قال السير والتر: «كنتَ مُهندسَ تعدين يا هاناي. وإذا كنت تريد رجلًا ليُنقِّب عن الذهب في باروتسلاند، فبالطبع سترغب في الاستعانة بشخصٍ يعرف البلد والشعب واللغة. لكنَّ أهم شرطٍ ستحتاج إلى توفره فيه أن يكون ذا قدرة فطرية رائعة في تتبُّع مواقع الذهب، ومُلمًّا بخبايا عمله. هذا هو الوضع الآن. أعتقد أنك ذو قدرة فطرية بارعة في معرفة ما يحاول أعداؤنا إخفاءه. أعلم أنك شجاع رابط الجأش واسع الحيلة. لهذا أُخبرك بالقصة. وفوق ذلك …»

وبَسَط خريطةً كبيرة لأوروبا على الحائط.

«لا أستطيع إخبارك بالمكان الذي ينبغي أن تتعقب السرَّ فيه بالضبط، لكني أستطيع أن أُحدِّد لك النطاق الذي ستُنقِّب فيه. لن تجده شرق البوسفور، ليس بعد. فما زال في أوروبا. ربما يكون في القسطنطينية، أو في تراقيا. ربما يكون أبعدَ ناحية الغرب. لكنه يتحرك شرقًا. وإذا وصلتَ إليه في الوقت المناسب، فقد تعترِض طريقَه نحو القسطنطينية. هذا كل ما أستطيع إخبارك به. السرُّ معروف في ألمانيا أيضًا لمَن يُهمهم الأمر. يجب على الباحث عنه أن يُنقِّب في أوروبا، حاليًّا على الأقل.»

فقلت: «هلَّا تُخبرني بالمزيد. لا تستطيع إخباري بأي تفاصيل أو تعليمات. وبالطبع لن تستطيع مساعدتي إذا أخفقتُ وأصابني ضرر.»

أومأ بالإيجاب. وقال: «ستكون خارج حدود صلاحياتي الرسمية.»

«إذن، فأنت تُعطيني حرية التصرُّف.»

«بكل تأكيد. لك أن تأخُذ ما تشاء من المال، وأن تحصل على أي مساعدةٍ تريدها. لك أن تتبع أي خطةٍ تخطر ببالك، وأن تذهب إلى أي مكانٍ تراه مفيدًا. لا نستطيع إعطاءك أي توجيهات.»

«سؤال أخير. تقول إن المسألة مهمة. أخبِرني بحجم أهميتها.»

قال بجدية: «إنها مسألة حياة أو موت. لا يُمكنني أن أصِفها بوصفٍ أشد أو أبسط من ذلك. حالَما نعرف ماهية الخطر، نستطيع مواجهته. وما دُمنا نجهله، سيظلُّ يَسري دون رادع، وقد يفوت الأوان. لا بد أن تُحسَم الحرب بالنصر أو الهزيمة في أوروبا. نعم، ولكن إذا اشتعل الشرق، سيتشتَّت انتباهنا عن أوروبا، وقد يفشل «الانقلاب» الكبير. لا أُبالغ حين أقول إنَّ النصر أو الهزيمة في هذه الحرب مرهونان بهذه المسألة يا هاناي.»

قمتُ من مقعدي ومشيتُ إلى النافذة. كانت تلك لحظة صعبة في حياتي. لقد كنتُ سعيدًا بجُنديتي، وفوق ذلك، كنت سعيدًا برفقة إخواني الضباط. لقد طُلِب منِّي الذهاب إلى أراضي العدو في مهمةٍ استكشافية كنتُ مقتنعًا بأنني غير مُناسب لها تمامًا، مهمة تقتضي أن أقضي أيامًا ولياليَ وحيدًا، مهمة محفوفة بإجهادٍ مُحطِّم للأعصاب، وخطرٍ قاتل يُحاوطني كعباءة. ارتجفتُ من القشعريرة وأنا أنظر خارج النافذة إلى الجو القاتم. كانت مهمةً قاسية جدًّا، تفوق احتمال أي إنسانٍ من لحمٍ ودم. لكنَّ السير والتر قد وصفها بأنها مسألة حياة أو موت، وأنا أخبرتُه من قبل أنَّ غرضي هو خدمة بلادي. صحيح أنه لم يستطع أن يُصدر لي أي أوامر إلزامية، ولكن ألَم أكن مأمورًا بالفعل، ألم أكن مأمورًا من سلطةٍ أعلى من قائد لوائي؟ وصحيح أنني كنت أرى نفسي غير كفءٍ لها، لكنَّ رجالًا أذكى مني كانوا يرَونني كفئًا لها، أو على الأقل بالكفاءة الكافية ليمنحوني فرصةً ويؤمنوا بأنني سأنجح على الأرجح. كنتُ أعرف في قرارة نفسي أنني إذا رفضت، فلن أنعم بأي سلامٍ قط في الدُّنيا. لكنَّ السير والتر قد وصف المُخطط بأنه مجنون، وقال إنه هو نفسه ما كان ليَقبله أبدًا.

كيف يأخذ المرء قرارًا فارقًا؟ أقسمُ إنني حين استدرتُ لأتحدث كنتُ عازمًا على الرفض. لكنَّ إجابتي كانت «موافق»، وقد تجاوزت بذلك نقطة اللاعودة. كان صوتي يبدو مُتقطعًا وبعيدًا.

صافحني السير والتر ورمَشَتْ عيناه قليلًا.

«ربما أكون مُرسِلًا إيَّاك إلى حتفك يا هاناي، يا إلهي، يا له من سيِّدٍ مُتعِبٍ لَعِينٍ ذاك الواجب! إذا حدث ذلك، فسيُطاردني الندم، لكنك لن تندم أبدًا. لا تخشَ ذلك. لقد اخترتَ الطريق الأكثر وعورة، لكنه يقود مباشرة إلى قِمم التلال.»

سلَّمَني ورقة الملاحظات. كان مكتوبًا عليها ثلاث كلمات: «قصر الدين»، و«سرطان»، ورمز v. I..

قال: «هذا هو الخيط الوحيد لدينا. لا أستطيع تفسيره، ولكن يُمكنني أن أُخبرك بالقصة. كان لدَينا عملاء يعملون في بلاد فارس وبلاد الرافدين منذ سنوات، معظمهم ضبَّاط شبَّان من الجيش الهندي. يحملون أرواحهم على كفوفهم، ويختفي منهم واحدٌ بين الحين والآخر، وربما تروي بالوعات شوارع بغداد حكاياتٍ عن سرِّ اختفائهم. لكنهم اكتشفوا أشياء كثيرة، ويُقدِّرون أنَّ المسألة تستحقُّ العناء. لقد أخبرونا بالنجم الصاعد في الغرب، لكنهم لم يُعطونا أي تفاصيل. كلهم عدا واحد، وهو الأفضل بينهم. كان يعمل راعي بغالٍ بين الموصل وحدود بلاد فارس، وقد ذهب جنوبًا إلى تلال بختياري. اكتشف شيئًا ما، لكنَّ أعداءه علِموا أنه عرفه، ولاحقوه. وقبل ثلاثة أشهر، قُبَيل معركة الكوت مباشرة، دخل معسكر ديلامين مُترنحًا وقد اخترقت عشر رصاصات جسده، وجُرح جبينُه بسكينٍ. تمتم باسمِه، لكنه لم يُخبرهم بشيءٍ سوى ذلك، وأنَّ ثمة «شيئًا ما» آتيًا من الغرب. مات في غضون عشر دقائق. وجدوا هذه الورقة عليه، ولمَّا كان قد صرخ بكلمة «قصر الدين» وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فلا بدَّ أنَّ لها علاقة بمهمته البحثية. عليك أن تكتشِف ما إذا كان لها أي معنًى.»

طويتُ الورقة ووضعتها في محفظتي.

ثم سألته: «يا له من رجلٍ عظيم! ماذا كان اسمه؟»

لم يُجب السير والتر فورًا. فقد كان ينظر خارج النافذة. ثم قال أخيرًا: «كان اسمه هاري بوليفانت. كان ابني. فلترقد رُوحه الشجاعة في سلام!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤