الفصل العاشر

كوخ حديقة سليمان الأحمر

وصلنا إلى روسجق في يوم العاشر من يناير، لكننا لم نرسُ في ذلك اليوم إطلاقًا. فقد حدثت مشكلة ما في ترتيبات تفريغ الشحنة، أو على الأرجح في السكة الحديدية التي كانت ستُستخدَم لنقلها، وظلَّت السفينة تتمايل بنا طوال النهار في النهر العكر بعيدًا عن البر. وفوق ذلك، أُصيبَ الربان شينك بالملاريا، وبحلول المساء، صار جسده أزرق ومرتعشًا، وساءت حالته بشدة. ولأنه قد نفعني وأحسن معاملتي، قررتُ أن أقف بجانبه. لذا أخذت أوراق باخرته ومستندات بيانات الحمولة، وتوليتُ الإشراف على نقل الحمولة إلى قطار البضائع. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أتعامَل فيها مع مهمةٍ كهذه، وكنت أعرف الكثير بالفعل عن عمل الرافعات البخارية. أخبرته بأنني سأواصل المضيَّ إلى القسطنطينية وسأصحب بيتر معي، ووافق. فقد كان سيُضطر إلى الانتظار في روسجق ليتسلَّم الشحنة التي سيعود بها، وبذلك كان يستطيع تعيين مهندس جديد بسهولة.

ظللتُ أعمل طوال أصعب أربع وعشرين ساعة في حياتي لإنزال الحمولة إلى البر. كان ضابط الإنزال بلغاريًّا، وكفئًا للغاية، ولكن كان ينقصه أن يجعل السكك الحديدية تجلب إليه الشاحنات التي كان يحتاج إليها. كانت توجَد مجموعة من ضباط نقلٍ ألمان مُتعطشين لممارسة سلطتهم، وكانوا يتدخلون فيما لا يعنيهم طوال الوقت، ويعاملون الجميع بوقاحةٍ فظيعة. تبنَّيتُ أسلوبًا متشامخًا متغطرسًا في التعامُل معهم، ولمَّا كان القائد البلغاري بجانبي، فقد استطعتُ إسكاتهم بعد نحو ساعتَين من السباب واللعنات.

لكنَّ المشكلة الكبرى حدثت في صباح اليوم التالي، عندما انتهيتُ تقريبًا من تحميل الحمولة كلها على متن الشاحنات.

جاء ضابط شاب على حصانٍ مُرتديًا زيًّا استنتجتُ أنه زي عسكري تركي، وكان معه ياور. لاحظتُ الحراس الألمان يُحيُّونه تحية عسكرية؛ لذا فهمت أنه ذو شأنٍ كبير نوعًا ما. اقترب مني وسألني بلهجةٍ ألمانية مهذبة جدًّا عن مستندات الشحنة. أعطيته إياها، فأمعن النظر فيها، وعلَّم على بعض الأصناف بقلم رصاص أزرق. ثم سلَّمها ببرود إلى الياور وتحدث إليه بالتركية.

قلت له: «أصغ إليَّ، أريد استعادة هذه المستندات. لا يُمكنني الاستغناء عنها، وليس لدينا وقت نُضيعه.»

قال مبتسمًا: «حالًا»، وتركني وانصرف.

لم أعترض؛ إذ قلتُ لنفسي إنَّ الشحنة متجهة إلى الأتراك، ومن الطبيعي أن يكون لهم الحق في تحديد كيفية التعامُل معها. كان التحميل قد انتهى تقريبًا عند عودة الضابط المهذب. أعطاني مجموعة جديدة من مستندات الشحنة مكتوبة بتنسيق مُنمَّق بالآلة الكاتبة. ولاحظت بنظرةٍ واحدة أنَّ بعض الأصناف المهمة قد حُذفَت.

صِحت قائلًا: «اسمع، هذا مرفوض. أَعِد إليَّ المستندات الأصلية. هذا لا ينفعني.»

رد بغمزة لطيفة، وابتسم كملاكٍ داكن من ملائكة السارافيم، ومدَّ لي يده. فرأيت فيها لفافة من المال.

قال: «هذه من أجلك. إنه العُرف المعتاد.»

كانت هذه هي المرة الأولى على الإطلاق التي يحاول فيها أحد رشوتي، ما جعل دمي يغلي كالمِرجَل من شدة الغضب. لقد فهمتُ حيلته بكل وضوح. ستدفع تركيا الكثير لألمانيا مقابل تلك الشحنة، ومن المرجَّح أن تكون قد دفعت فاتورتها بالفعل، لكنها بذلك ستدفع مبلغًا مضاعَفًا نظير الأشياء غير المُدرَجة في مستندات الشحنة، وستدفع لهذا الرجل وأصدقائه. كنت أعرف أنَّ الأساليب الشرقية في إبرام الصفقات مشوبة ببعض الفساد، لكني لم أكن أتوقَّع أن يصل إلى هذا الحد.

قلت: «أصغ إليَّ أيها السيد، لن أتحرك قيد أنملة من هذا المكان حتى أحصل على المستندات الأصلية الصحيحة. وإذا لم تُعطني إيَّاها، فسأُخرِج كل المحتويات من الشاحنات وأكتب قائمة جديدة. إمَّا أن تكون معي قائمة صحيحة، وإما ستبقى الشحنة هنا إلى يوم القيامة.»

كان رجلًا مَمشوقًا مبالِغًا في التأنق، ولم يكن يبدو غاضبًا بقدرِ ما كان متحيرًا.

قال وهو يمدُّ يدَه مجددًا: «أنا أعرض عليك ما يكفي.»

عندئذٍ زأرتُ بعلوِّ صوتي. «إذا حاولت رشوتي أيها العقَّاد الضئيل اللعين، فسأُنزِلك عن هذا الحصان وأرميك في النهر.»

أصبح يفهمني بوضوح. فبدأ يطلق السباب والتهديدات، لكنني قاطعتُه.

قلت له: «تعالَ معي إلى القائد أيها الفتى»، ومشيتُ بعيدًا وأنا أُمزِّق أوراقه المكتوبة بالآلة الكاتبة أثناء سيري، وأنثرها ورائي كأنها ذيلٌ من النثار الورقي.

أحدثنا ضجةً شديدة في مكتب القائد. قلت إنَّ عملي، بصفتي ممثلًا للحكومة الألمانية، هو تسليم الشحنة إلى المُرسَل إليه في القسطنطينية سليمةً كاملة كما هي. وأخبرته بأنني لستُ معتادًا أن أؤدي عملي بمستنداتٍ مُتلاعَبٍ فيها. لم يسَعه سوى أن يتفق معي، لكنَّ ذاك الشرقي الغاضب كان واقفًا هناك بوجهٍ ثابت كتمثال بوذا.

قال له القائد: «معذرة يا سيد راستا، لكنَّ هذا الرجل مُحِقٌّ.»

رد بعُبوس قائلًا: «لديَّ تفويض من اللجنة بتسلُّم الشحنة.»

فقلت: «ليست عندي تعليمات بهذا. الشحنة مُرسَلة إلى قائد المدفعية في جتالجة، الجنرال فون أوسترتسي.»

هزَّ الرجل كتفيه. وقال: «حسنًا إذن. سوف أتحدث إلى الجنرال فون أوسترتسي لاحقًا، أمَّا هذا الرجل الذي يستهزئ باللجنة، فسيكون عندي كلام كثير له.» وخرج بخطواتٍ واسعة كصبيٍّ وقح.

ابتسم القائد المنزعج. وقال لي: «لقد أسأتَ إلى سيادته، وهو عدو سيئ. كل أعضاء تلك اللجنة الملاعين سيئون. أنصحك بألَّا تواصل رحلتك إلى القسطنطينية.»

«وأتركُ ذلك الحثالة ذا القبعة الحمراء ينهب الشاحنات في الطريق؟ لا، شكرًا. سأواصل حتى أضمن وصولها سالمة إلى جتالجة، أو أيًّا كان اسم مستودع المدفعية.»

قلتُ أكثر من ذلك بكثير، لكن هذه ترجمة مختصرة لما قلتُه بالألمانية. ففي الحقيقة استخدمتُ المرادف الألماني لكلمة «أحمق» بدلًا من كلمة «حثالة»، لكني استخدمت تعبيراتٍ أخرى كانت ستُبهِج صديقي التركي الشاب لو كان سمِعها. عندما أسترجِع ذلك الموقف، يبدو لي أنه كان من السُّخف أن أُثير كل هذه الضجة على أسلحةٍ كانت ستُستخدَم ضد أبناء وطني أصلًا. لكني لم أكن أرى ذلك آنذاك. فكبريائي المِهنية كانت ثائرة، ولم أستطع تحمُّل المشاركة في صفقةٍ مشبوهة.

قال القائد: «حسنًا، أنصحُك بأن تذهب مسلحًا. سنُعيِّن لك حراسةً لحماية الشاحنات بالطبع، وسأنتقي لك رجالًا أكْفاء. لكنهم قد يسطون عليك رغم ذلك. لا أستطيع مساعدتك حالَما تتجاوز الحدود، لكنني سأرسل برقية إلى أوسترتسي، وسيتَّخذ الإجراءات اللازمة إذا وقعت أي مشكلة. ما زلتُ أرى أنه كان من الحكمة أن تُرضي السيد راستا.»

وبينما كنتُ مغادرًا أعطاني برقية. «هذه برقية مُرسَلة إلى ربانك الكابتن شينك.» فدسستُ الظرف في جيبي وخرجت.

كان شينك مريضًا جدًّا؛ لذا تركتُ له رسالةً صغيرة. انطلق القطار في الساعة الواحدة حاملًا اثنَين من الجنود الاحتياطيين الألمان في كل شاحنة، وأنا وبيتر في عربةٍ مُخصصة للأحصنة. سرعان ما تذكرتُ برقية شينك، التي كانت لا تزال في جيبي. فأخرجتُها وفتحتُها وأنا أنوي إرسالها إليه من أول محطةٍ نتوقف عندها. لكني غيرتُ رأيي حين قرأتها. كانت مُرسَلةً إليه من مسئولٍ ما في ريجنسبورج، طالبًا منه القبض على رجلٍ يُدعى براندت، يُعتقَد أنه صعد على متن باخرة في أبستافن في يوم ٣٠ ديسمبر، وإعادته بأول قارب.

صفَّرتُ وأريتُ بيتر إيَّاها. كان واضحًا أننا كلما أسرعنا في الوصول إلى القسطنطينية كان ذلك أفضل لنا، ودعوتُ الرب أن نصل إلى هناك قبل أن يعيد صاحب البرقية إرسالها، ويجعل القائد يُبلِغ الرسالة قبل وصولنا، فيعترضوا طريقنا في جتالجة. فقد كنتُ مصممًا بشدة على موقفي بخصوص هذه الذخائر، وكنت مستعدًّا لخوض أي مخاطرة من أجل إيصالها سالمةً إلى مالكها الحقيقي. لم يستطع بيتر أن يفهم موقفي إطلاقًا. كان لا يزال راغبًا بشدة في إلحاق تلفٍ بالِغٍ بالذخائر أثناء نقلها. ولكن لا عجب في ذلك؛ فسلامة الشحنة لم تكن ضِمن اختصاص بيتر المهني، وكبرياؤه لم تكن مُهدَّدة. كانت رحلتنا بطيئة بُطئًا قاتلًا. لقد كانت بشعة في بلغاريا أصلًا، ولكن حين عبرنا الحدود عند مكانٍ يُدعى مصطفى باشا، اصطدمنا بالخمول الحقيقي للشرق. من حُسن الحظ أنني صادفتُ ضابطًا ألمانيًّا كان يعي أهمية الإسراع، وعلى كل حال، كان من مصلحته ضمان نقل الشحنة إلى وجهتها. وفي صباح يوم السادس عشر، بعدما كنتُ أنا وبيتر نعيش كالخنازير على خبز أسود وطعام مُعلَّب لعين، أصبحنا نرى بحرًا أزرق عن يميننا، وأدركنا أنَّ نهاية الرحلة باتت قريبةً بلا شك.

كانت الرحلة قُرب نهايتها مرحةً من منظورٍ آخر. فعندما توقفنا عند محطةٍ ما، وكنا نتمشى قليلًا على الرصيف لنُحرك أرجُلنا، رأيتُ شخصًا مألوفًا يقترب. كان راستا، ومعه ستة من رجال الدرك الأتراك.

ناديتُ بيتر، وتسلَّقْنا بصعوبةٍ إلى الشاحنة المجاورة لعربة الأحصنة التي كنا فيها. كنتُ أتوقع خطوة كهذه نوعًا ما، وأعددتُ لها خطة سلفًا.

جاء إلينا التركي مُتبخترًا وخاطبنا. قال: «يُمكنكما العودة إلى روسجق. سأتولى أنا زمام الأمور منكما هنا. أعطِياني الأوراق.»

سألته ببراءة: «هل هذه جتالجة؟»

قال بعجرفة: «هذه نهاية علاقتكما بالشحنة. أسرِعا، وإلَّا فستواجِهان عواقب وخيمة.»

قلت: «أصغِ إليَّ يا بُني؛ أنت طفل ولا تعرف شيئًا. سأُسلِّم الشحنة إلى الجنرال فون أوسترتسي ولا أحد سواه.»

صاح قائلًا: «أنت في تركيا، وستُطيع الحكومةَ التركية.»

قلت: «سأطيع الحكومة بالتأكيد، ولكن إذا كنتَ أنت الحكومة، فأستطيع تشكيل حكومةٍ أفضل بمريلة أطفالٍ وخُشخيشة.»

قال شيئًا لرجاله، فأنزلوا بنادقهم عن أكتافهم.

قلت: «رجاء لا تبدأ إطلاق النار. ففي هذا القطار اثنا عشر حارسًا مسلحًا مُستعدون لأخذ أوامرهم منِّي. وفوق ذلك، فأنا وصديقي بارعان قليلًا في إطلاق النار.»

صاح قائلًا وهو يستشيط غضبًا: «أحمق! أستطيع إحضار كتيبة كاملة في غضون خمس دقائق بأمرٍ منِّي.»

فقلت: «ربما يكون هذا صحيحًا، لكن تأمَّل الوضع. أنا جالس على كمية من التولوين تكفي لنسفِ هذا الريف. إذا تجرأتَ على الصعود إلى متن القطار، فسأطلق عليك النار. وإذا استدعيتَ كتيبتك، فسأُخبرك بما سأفعله. سأطلق هذه المتفجرات، وأعتقد أنهم عندئذٍ سيلملمون أشلاءك أنت وكتيبتك من شبه جزيرة جاليبولي.»

حاوَلَ استعراض قوته وترهيبي بأسلوبٍ أجوف غير مُقنِع، وتحدَّيتُه أن ينفِّذ تهديده. رأى أنني كنتُ جادًّا فيما أقول، فلانت شدتُه.

قال: «إلى اللقاء أيها السيد. لقد حظيتَ بفرصةٍ عادلة ورفضتها. سنلتقي مجددًا عمَّا قريب، وستندم على وقاحتك.»

مشى بعيدًا بتبختُر، وبالكاد منعتُ نفسي من أن أركض وراءه. كنت أريد أن أُمسك جسده بإحكامٍ على ركبتي وأصفعه على مؤخرته.

وصلنا سالِمين إلى جتالجة، واستقبلنا فون أوسترتسي بحفاوة كما لو كنا شقيقَيه ورجعنا إليه بعد غيابٍ طويل. كان مثالًا نموذجيًّا لضابط المدفعية؛ إذ لم يكن يشغل باله سوى مدافعه وقذائفه. اضطُررت إلى الانتظار نحو ثلاث ساعات ريثما يراجع محتويات الشحنة ويطابقها بالفواتير، ثم أعطاني إيصالًا ما زال بحوزتي حتى الآن. أخبرته بما فعله راستا، واتفق معي في أنني فعلت الصواب. لم يجعله ذلك يستشيط غضبًا مثلما توقعت؛ لأنه قد تسلَّم شحنته سالمةً على أيِّ حال. كل ما هنالك أنَّ الأتراك البائسين اضطُروا إلى دفع ثمن الشحنة كلها مرتَين.

قدَّم لنا أنا وبيتر الغداء، وكان مهذبًا جدًّا، وراغبًا في الحديث عن الحرب. كنت أتمنَّى أن أسمع ما كان يريد قوله؛ لأنَّ هذا كان سيُطلعني على بعض خبايا حملة ألمانيا في الشرق، لكنني لم أجرؤ على الانتظار. فقد تصل برقية تُجرِّمني من روسجق في أي لحظة. وأخيرًا أعارنا سيارة لتُقِلنا إلى المدينة التي كانت على بُعد بضعة أميال.

وهكذا شهدَت الساعة الثالثة وخمس دقائق من مساء السادس عشر من يناير دخولَنا أنا وبيتر القسطنطينية دون أي شيءٍ سوى الثياب التي كنَّا نرتديها.

كانت معنوياتي مرتفعة؛ لأنني قد بلغت وجهتي الأخيرة بنجاح رغم كل الصعوبات، وكنتُ أتطلع بجنونٍ إلى لقاء صديقيَّ، لكني مع ذلك أُصبتُ بخيبة أمل شديدة من أول نظرة إلى المدينة. لستُ متيقنًا تمامًا من ماهية توقعاتي السابقة لها، ربما كنت أتصورها مدينةً شرقية شبيهة بعالم الجن الخيالي، تكتسي كلها برخام أبيض ومياه زرقاء، تعج بأتراك مهيبين يرتدون أردية بيضاء، وحوريات مُحجبات، وورود وعنادل، وفرقة من عازفي الآلات الوترية تعزف موسيقى عذبة. كنتُ ناسيًا أنَّ الشتاء واحدٌ تقريبًا في كل مكان. كان يومًا مشوبًا بمطرٍ خفيف ورياح جنوبية شرقية، وكانت الشوارع أشبه بأحواض طويلة من الوحل. كان أول جزء صادفته منها أشبه بضاحيةٍ استعمارية قاتمة قذرة؛ إذ كان يعجُّ ببيوت خشبية وسقوف من الحديد المموَّج، وعدد لا حصر له من أطفال شاحبين متَّسخين. أتذكر أنني وجدتُ هناك مقبرة، حيث كانت قبعاتٌ تركية مُعلقة على رأسِ كل قبر. ثم ولجنا إلى شوارع ضيقة منحدرة تؤدي إلى مجرًى مائي أشبَهَ بقناةٍ كبيرة. رأيتُ ما افترضتُ أنه مساجد ومآذن، وكانت مُبهرة كمداخن المصانع. وبعد بعض الوقت عبرنا جسرًا، ودفعنا بنسًا مقابل نَيل شرف عبوره. لو كنت أعرف آنذاك أنَّ ذلك هو القرن الذهبي الشهير، لكنتُ نظرت إليه باهتمامٍ أكبر، لكني لم أرَ شيئًا سوى صنادل كثيرة متآكلة بفعلِ العث، وبعض القوارب الصغيرة الغريبة تُشبه الجنادل. ثم دخلنا شوارع أكثر ازدحامًا؛ حيث وجدنا عربات أجرة متهالكة تجرها خيول عجاف تخشخش عبر الوحل. رأيت رجلًا عجوزًا واحدًا يُشبه تصوري عن الأتراك، لكن معظم السكان كانوا أشبه بالرجال ذوي الثياب القديمة في لندن. كلهم باستثناء الجنود، الذين كانوا أتراكًا وألمانًا، وكانوا أقوياء البنية حِسان الهندام.

كان بيتر ماشيًا بجواري يخوض بقدمَيه في الوحل ككلبٍ وفيٍّ، دون أن يتفوَّه بأي كلمة. ولكن بدا واضحًا أنه لم يكن يستحسن تلك العاصمة الرطبة القذرة.

وإذا به يقول فجأة: «هل تعرف أننا مُلاحَقون يا كورنيليس؟ منذ اللحظة التي أتينا فيها إلى تلك البلدة الكريهة الرائحة.»

كان بيتر لا يُخطئ أبدًا في شيء كهذا. أفزعني هذا الخبر بشدة، خوفًا من أن تكون البرقية قد وصلت إلى جتالجة. ثم ارتأيت أنَّ هذا غير ممكن؛ لأنَّ فون أوسترتسي لو كان يريد القبض عليَّ ما كان ليتكبَّد عناء مُلاحقتي خلسة. كان ذلك هو صديقنا راستا على الأرجح.

وجدتُ عبَّارة راتشيك بعدما سألت جُنديًّا عنها، وأخبرني بحار ألماني هناك بمكان البازار الكردي. أشار نحو أعلى شارعٍ منحدر ممتدٍّ بمحاذاة بنايةٍ عالية من مخازن كلُّ نوافذها مكسورة. كان ساندي قد قال إنَّ البازار يقع على اليسار إذا كان المرء متجهًا إلى أسفل الشارع؛ لذا فمن المؤكد أنه يقع على اليمين عندما نكون متجهين نحو الأعلى. غصنا داخل الشارع، ووجدناه أقذر مكانٍ على الإطلاق. كانت الرياح تهبُّ نحو أعلاه مُحدِثة صفيرًا، وتثير القمامة في الهواء. وكان يبدو مكتظًّا بالسكان؛ إذ وجدنا عند كل الأبواب مجموعاتٍ من الأشخاص جالسين القرفصاء، مُغطِّين رءوسهم، مع أننا لم نرَ أي نوافذ تقريبًا في الجدران الصمَّاء.

كان الشارع مُلتويًا وممتدًّا إلى ما لا نهاية. كان يبدو في بعض الأحيان أنه يتوقف، ثم يجد فجوة في البناء المقابل له فيشقُّ طريقَه خلالها. وجدنا أغلبه غارقًا في ظلام شِبه دامس، باستثناء بصيصٍ من الشفق الرمادي يتخلَّله بين الحين والآخر في المواضع القليلة التي كان عَرضُ الشارع عندها معقولًا. لم يكن من السهل العثورُ على منزل في هذا الظلام، وبحلول الوقت الذي قطعنا فيه رُبع ميل، بدأتُ أخشى أن نكون قد مرَرْنا عليه بالفعل دون أن نُلاحظه. لم يكن من المُجدي أن نسأل أي شخصٍ من الحشود التي كنا نلتقيها. فقد كان يبدو أنهم لا يفهمون أي لسانٍ مُتحضر.

وأخيرًا تَعثَّرنا به مصادفة؛ كان مقهًى مُتهدمًا يحمل كلمة «إيه كوبراسو» مكتوبة فوق بابه بخطٍّ غريب يفتقر إلى التمرُّس. وكان في داخله مصباح متَّقد، ورجلان أو ثلاثة يُدخنون على طاولات خشبية صغيرة.

طلبنا قهوة، لكنها كانت سوداء ثقيلة كالعسل الأسود، فلعنها بيتر. أحضرها إلينا رجل زنجي، وقلت له بالألمانية إنني أريد محادثة السيد كوبراسو. لم يُرْعِني انتباهًا، فصرختُ فيه بصوتٍ أعلى، وعندئذٍ خرج رجل من الجزء الخلفي من المقهى على أثر الضجيج.

كان رجلًا سمينًا عجوزًا بعض الشيء ذا أنف طويل، تمامًا كالتجار اليونانيين الذين يُشاهَدون على ساحل زنجبار. أشرتُ له فتقدَّم نحوي متهاديًا بخطواتٍ متثاقلة، ومبتسمًا بتزلُّف. ثم سألته ماذا سيأخذ، فأجابني بلهجة ألمانية شديدة التلعثم قائلًا إنه يريد شرابًا سكريًّا مركَّزًا.

قلت: «أنت السيد كوبراسو. لقد أردتُ أن أُرِي صديقي هذا المكان. فهو قد سمع عن كوخ حديقتك والمرح الذي هناك.»

فقال: «السيد مخطئ. فليس لديَّ أي كوخ كهذا.»

قلت: «هراء؛ فأنا أتيتُ إلى هنا من قبل يا بُني. أتذكر كوخك الخلفي وكثيرًا من ليالي المرح التي عشتها هناك. ماذا كنتم تسمُّونه؟ أوه، تذكرت؛ كوخ حديقة سليمان الأحمر.»

وضع إصبعه على شفتِه ليُسكتني، وبدا خبيثًا للغاية. قال: «السيد يتذكر ذلك. لكنَّ ذلك كان في الأيام الخوالي السعيدة قبل اندلاع الحرب. المكان مُغلق منذ فترةٍ طويلة. فالناس هنا أفقر من أن يرقصوا ويغنوا.»

قلت له: «لكني أريد إلقاء نظرة أخرى عليه»، ودسستُ في يده جنيهًا ذهبيًّا إنجليزيًّا.

نظر إليه متفاجئًا وتغيَّر أسلوبه. قال: «سيادته أمير، وسألبِّي رغبته.» صفَّق بيدَيه فظهر الزنجي، وبإيماءةٍ منه حل محلَّه خلف نَضَد جانبي صغير.

قال: «اتبعاني»، وقادنا عبر زقاق طويل كريه الرائحة كان غارقًا في الظلام، مرصوفًا رصفًا غير متساوٍ. ثم فتح بابًا موصدًا، فأمسكَته دوامةٌ من الرياح ودفعته نحونا مجددًا.

ثم دخلنا ووجدنا أنفسنا ننظر إلى فناءٍ صغير وضيع؛ كان مُحاطًا من أحد جانبَيه بجدارٍ مُنحنٍ عالٍ يبدو عتيقًا، يحمل شقوقًا تتخلَّلها شجيرات نامية. كانت توجَد بعض نباتات الآس الضامرة في أُصُص مكسورة، ووجدنا أعشابًا من القراص قد نَمَت في أحد الأركان. رأينا عند أحد طرفَيه مبنًى خشبيًّا يُشبه كنيسةً مُنشقة، لكنه كان مطليًّا بلونٍ قرمزي قاتم مُتسخ. كانت نوافذه ومناوره سوداء من كثرة الدنس، وكان بابه، المربوط بحبل، يتأرجح مع الريح.

قال كوبراسو بفخر: «انظروا إلى مقصورة الاستراحة.»

قلتُ متظاهرًا بشعورٍ من الحنين: «هذا هو المكان القديم. يا لها من أوقاتٍ تلك التي قضيتُها فيه! أخبِرْني يا سيد كوبراسو، هل تفتحه في الوقت الحاضر لأي سبب؟»

وضع شفتَيه الغليظتَين في أُذني.

وقال: «إذا كنت ستلتزم الصمت أيها السيد، فسأُخبرك. يُفتَح أحيانًا، لكن ليس كثيرًا. فالرجال يجب أن يُرفِّهوا عن أنفسهم، حتى في وقت الحرب. يأتي بعض الألمان هنا للاستمتاع والترفيه عن أنفسهم، وفي الأسبوع الماضي للتو، استضفنا عرض باليه الآنسة سيسي. الشرطة توافق على ذلك، لكن ليس كثيرًا؛ لأنَّ هذا ليس وقتًا مناسبًا للإفراط في المرح. سأبوح لك بسر. بعد ظهر غد سيشهد المكان هنا رقصًا، رقصًا رائعًا! لا أحد يعرف هذا سوى قِلة من زبائني. خَمِّن من سيأتي إلى هنا؟»

حنى رأسه ليقترب منِّي أكثر، وقال هامسًا:

«فرقة رفاق الأوقات الوردية.»

قلت بنبرة احترام لائقة: «أوه، حقًّا»، مع أنني لم أفهم قصده.

«هل تريد المجيء أيها السيد؟»

قلت: «بالتأكيد. سيأتي كِلانا. فنحن من أشدِّ مُحبي الأوقات الوردية.»

«إذن تعاليا غدًا في الساعة الرابعة بعد الظهر. امشيا قُدمًا في اتجاهٍ مستقيم عبر المقهى، وستجدان رجلًا في انتظاركما ليفتح الباب الموصد. أنتما وافدان جديدان هنا، أليس كذلك؟ خُذا نصيحة أنجلو كوبراسو واجتنِبا الشوارع بعد حلول الليل. فإسطنبول في الوقت الحاضر ليست مكانًا آمِنًا للرجال المُسالمين.» طلبتُ منه أن يرشح لنا فندقًا مناسبًا، فسرد علينا قائمة طويلة بسرعة، واخترت منها فندقًا بدا متواضعًا من اسمه، يتماشى مع شكل ثيابنا العجيب. لم يكن بعيدًا؛ إذ كان يقع يمينًا عند قمة التل على بُعد مائة ياردة فقط.

عندما خرجنا من باب مقهاه، كان الليل قد بدأ يسدل أستاره. لم نكد نقطع عشرين ياردة حتى اقترب منِّي بيتر بشدة وظلَّ يتلفَّت كظبي طريد.

قال بهدوء: «نحن مُلاحَقان عن كثب يا كورنيليس.»

وبعد عشر ياردات أخرى كنا عند مُفترَق طرق، حيث وجدنا «ساحة» صغيرة أمام مسجدٍ كبير بعض الشيء. رأيتُ في الضوء المُتضائل حشدًا من الناس بدا أنهم قادمون نحوَنا. سمعتُ صوتًا عاليًا يصيح مهذرمًا بكلماتٍ حماسية، وبدا لي أنني سمعت ذلك الصوت من قبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤