الفصل الثالث عشر

الانتقال إلى مجتمع راقٍ

خرجتُ من ذلك المنزل في صباح اليوم التالي متأبطًا ذراع بلنكيرون، ينتابني شعور بأنني كائن مختلف عن ذاك المخلوق الذي كان يشعر بالوحدة، ويبحث بلا جدوى عن ملاذٍ آمنٍ في اليوم السابق. فبادئ ذي بدء، كنتُ مرتديًا ثيابًا رائعة أنيقة. فقد كنت أرتدي حُلة كُحلية ذات أكتافٍ مربعة مبطنة، وربطة عنق سوداء أنيقة، وحذاء ذا نتوء بارز عند مقدمته، وقبعة بُنِّية. وكنت أرتدي فوق ذلك معطفًا مبطنًا بفروِ الذئب. كنت أمسك عكازًا أنيقًا مصنوعًا من الروطان، وأحمل واحدًا من سيجار بلنكيرون في فمي. كنا قد جعلنا بيتر يُهذِّب لحيته، ومع ثيابه البسيطة الملونة بالأبيض والأسود، بدا بعَينَيه الطيِّعتَين وصوته الهادئ خادمًا وقورًا جدًّا. كان بلنكيرون العزيز قد أنجز مهمة إلباسنا بأناقةٍ مبهرة؛ لأنه، لو كنتم ستُصدقون ذلك، قد أحضر الملابس معه طوال طريق رحلته من لندن. أدركت عندئذٍ لماذا كان هو وساندي يُنقِّبان في خزانة ملابسي. كان ساندي من اشترى حُلةَ بيتر، ولم يكن مقاسها مضبوطًا كمقاس حُلتي. لم أجد صعوبةً في اللكنة. فأيُّ رجلٍ نشأ في المستعمرات يستطيع أن يجعل لسانه يتحدَّث الأمريكية بنُطقٍ شبهِ سليم، وأثنيتُ على نفسي لأنني استطعتُ مُحاكاة لهجة الغرب الأوسط بشكلٍ مقبول جدًّا.

كانت الرياح قد اتجهت جنوبًا، وكان الثلج يذوب بسرعة. رأيتُ رقعة زرقاء من السماء فوق آسيا، ونظرتُ بعيدًا ناحية الشمال فوجدتُ كتلًا من السُّحُب البيضاء تنجرِف فوق البحر الأسود. وبعدما كانت المدينة في اليوم السابق تبدو أحقر المدن، صارت تكتسي في تلك اللحظة بجمالٍ غريب، جمال الآفاق المُفاجئة، وألسنة المياه الرمادية التي كانت تتلوَّى أسفل ضفافٍ مُزينة بأشجار السرو. إنَّ مزاج المرء مُرتبط ارتباطًا قويًّا بتقديره للمناظر الطبيعية. وهكذا شعرت بأنني رجُل حرٌّ مرة أخرى، وصارت الرؤية واضحة أمام عيني.

كان ذاك الشارع خليطًا من كل الجنسيات الموجودة على وجه الأرض. كان فيه جنود نظامِيُّون أتراك يعتمِرون خوذَهم المخروطية العجيبة الملوَّنة باللون الكاكي، ومجندون ذَوو مظهر بربري لا تربطهم صلة بأوروبا. وكان هناك فِرَق من جنود ألمان يعتمرون قبعاتٍ عسكرية لينة مسطحة، ويحدِّقون ببلاهة إلى المناظر الجديدة عليهم، ويسارعون لأداء التحية العسكرية لأي ضابطٍ على رصيف المشاة. مرَّ بنا أتراكٌ في عرباتٍ مُغلقة، وأتراك على ظهور خيولٍ عربية أصيلة، وأتراك بدَوا كأنهم قادمون من عصر النبي نوح. لكنَّ الرعاع هُم مَن كانوا يلفتون الأنظار؛ رعاع بربريون للغاية وفي غاية النحافة والبؤس. لم أرَ في حياتي مثل هذه الحشود المتزاحِمة من الشحاذين، وكان المرء يمشي في ذلك الشارع مُحاطًا بتوسلاتٍ تطلب الصَّدَقات بكلِّ لهجات «برج بابل». تصرفتُ أنا وبلنكيرون كأننا سائحان مُهتمان. كنا نتوقف ونضحك على أحد الرجال، ونُقدِّم فلسًا لرجلٍ ثانٍ، مُتفوهين ببعض التعليقات بنبرةٍ غربية عالية.

ذهبنا إلى أحد المقاهي واحتسَينا فنجانًا من القهوة. جاء شحاذٌ وسألَنا صَدَقة. كانت محفظة بلنكيرون مقفلة طوال هذا الوقت، لكنه في تلك اللحظة فتحها وأخرج منها بعض النيكلات الصغيرة وألقى خمسةً منها على الطاولة بقوة. صاح الرجل داعيًا بحلول البركة على بلنكيرون وأخذ ثلاثة نيكلات. فأخذ بلنكيرون الاثنَين الآخرَين ودسَّهما في جيبه بمنتهى السرعة.

استغربتُ ذلك، وقلتُ إنني لم أرَ من قبل شحاذًا يُعيد باقي الصدقة. لم يقل بلنكيرون شيئًا، وبعد قليلٍ واصلنا المسير ووصلنا إلى جوار المرفأ.

وجدنا هناك عدة زوارق قاطرة راسية بجانبه، وبضعة مراكب أكبر حجمًا، واستنتجتُ أنَّ تلك المراكبَ قواربُ فاكهة كانت تُبحِر في بحر إيجة في الماضي. كانت تبدو متآكلة جدًّا بفعلِ العُث من شدة الإهمال. توقفنا عند أحدها وشاهدنا رجلًا معتمرًا قلنسوةً ليلية زرقاء يَجدِل مجموعةً من الحبال معًا. رفع عينَيه مرة ونظر إلينا، ثم واصل عمله.

سأله بلنكيرون عن موطنه، لكنه هزَّ رأسه لأنه لم يفهم لهجته. جاء شرطي تركي وحدَّق بنا بارتيابٍ حتى فتح بلنكيرون معطفه، كأنه غير قاصد، وأظهَر مربعًا صغيرًا جدًّا من شارةٍ مُعلَّقة بثيابه، فأدَّى له الشرطي التحية العسكرية حين رآه. فشل بلنكيرون في محادثة البحَّار، فرمى له ثلاثةً من سيجاره الأسود.

قال: «أظن يا صاح أنك تستطيع التدخين ما دمتَ لا تستطيع الكلام.»

ابتسم الرجل ابتسامةً عريضة والْتقف الثلاثة في الهواء ببراعة. ثم فاجأني بأنه ألقى أحدَها مُعيدًا إيَّاه.

نظر بلنكيرون بتساؤلٍ مُتحير إلى السيجار المُلقى على الرصيف. وقال: «هذا الصبي خبير في تذوُّق التبغ.» وبينما كنا نهمُّ بالانصراف، رأيتُ الشرطي التركي يلتقِطه ويضعه داخل قبعته.

عدنا عبر الشارع الطويل الواقع على قمة التل. كان هناك رجل يبيع ثمار برتقالٍ على صينية، وتوقف بلنكيرون ليلقي نظرةً عليها. لاحظت أنَّ الرجل خلط البرتقال مُكوِّنًا مجموعة من خمس عشرة واحدة. تحسَّس بلنكيرون البرتقالات كما لو كان يود التيقُّن من أنها سليمة، وأزاح اثنتَين منها جانبًا. فأعادهما الرجل فورًا إلى المجموعة، دون أن يرفع عينَيه إطلاقًا.

قال بلنكيرون ونحن نواصل سيرنا: «هذا ليس موسم شراء الفاكهة. تلك البرتقالات مُتعفنة كثمار البشملة.»

لم أستطع تخمين المغزى من كل ذلك إلَّا عندما صرنا على مشارف عتبة بابنا.

قلت له: «هل انتهى عملك الصباحي؟»

سألني ببراءة: «تمْشِيتنا الصباحية؟»

«لقد قلت «العمل».»

ابتسم بفتور. وقال: «توقعتُ أنك ستفهم ذلك. حسنًا، نعم، ولكن ما زال مُتبقيًا أن أقلِّب بعض الأمور في رأسي. امنحني نصف ساعة وسأكون في خدمتك يا حضرة الميجور.»

بعد ظُهر ذلك اليوم طها لنا بيتر غداءً شهيًّا رائعًا، ثم تجاذبت مع بيتر أطراف محادثة حميمية.

قال: «عملي هو الحصول على معلومات، ودائمًا ما أُجري استعدادات كبيرة قبل الشروع في مهمةٍ صعبة. كنت عاكفًا مع السير والتر على تدبير كل شيءٍ مُسبقًا طول الوقت الذي قضيتُه في لندن، أثناء تظاهري بتوجيه انتقادات لاذعة إلى الحكومة البريطانية. كنا نلتقي في أماكن غريبة وفي كل أوقاتِ الليل. أسستُ شبكةً كبيرة من العلاقات في هذه المدينة قبل وصولي، وبالأخص أنشأتُ شبكة لتبادل المعلومات مع وزارة خارجيتكم عن طريق رومانيا وروسيا. أفترضُ أنَّ أصدقاءنا سيعرفون كل شيءٍ عمَّا اكتشفناه في غضون يومٍ أو اثنَين.»

عندئذٍ فتحت عينيَّ على اتساعهما.

«أجل بالطبع. ليست لديكم أدنى فكرة، أيها البريطانيون، عن مدى يقظة جهازكم الاستخباراتي. أعتقد أنه الأفضل بين كل استخبارات الدول المشاركة في الحرب بلا شك. صحيح أنكم لم تتحدثوا عنه قط في وقت السلم، وتجنَّبتم الأساليب الاستعراضية للألمان. لكنَّ شبكته راسخة بكفاءة وإحكام بالفعل. أظن أنكم تستطيعون معرفة كل ما يحدث تقريبًا في كل ركنٍ من العالم في غضون يومٍ واحد فقط من حدوثه. ليس معنى كلامي أنَّ مسئوليكم يستخدمون تلك المعلومات كما ينبغي. فأنا لا أثق كثيرًا في عصابة ساستكم. لا شك أنَّ ألسنتَهم فصيحة جدًّا، لكنَّ تلك الفترة الصاخبة العنيفة لا تحتاج إلى فصاحة. إن بلاغة وليام جنينجز بريان تصبح بلا قيمة في أوقات الحرب. فالمُعترَك السياسي كحظيرة دجاج، مَن بداخله يتصرفون كما لو أنَّ حظيرتهم الضيقة هي العالَم كله. لكنَّ أخطاء الساسة لا تعني عدم وجود توجيهٍ جيد يُرشِد خطواتهم. ولو كانت أمامي مهمة صعبة ينبغي إنجازها، وكان لي أن أختار مُساعدين، لوقع اختياري على قسم الاستخبارات في الأدميرالية البريطانية. نعم يا سيدي، أرفع قُبعتي لرجال الاستخبارات السرية في حكومتكم.»

سألته بدهشة: «هل أمدُّوك بجواسيس جاهزين هنا؟»

قال: «لا بالطبع. لكنهم أعطَوني المفتاح، وأجريت أنا ترتيباتي بنفسي. في ألمانيا دفنتُ نفسي في أعماق الأجواء المحلية ولم ألفت الانتباه إليَّ قط. اتبعت هذه الحيلة؛ لأنني كنتُ أبحث عن شيءٍ ما داخل ألمانيا نفسها، ولم أُرِد أي معلوماتٍ من مصادر أجنبية. صحيح أنني فشلتُ فيما نجحتَ فيه أنت، كما تعلم. لكن حالما عبرتُ الدانوب بدأتُ أفتح خطوط اتصالاتي، ولم أُمضِ يومَين هنا حتى وجدت هاتفي لا يكفُّ عن الرنين. سأشرح لك المسألة لاحقًا؛ لأنه عمل بسيط ورائع. لديَّ أجمل شفرة رسائل … لا، ليست من ابتكاري. بل من ابتكار حكومتك. يستطيع بها أي شخص، سواء أكان ساذجًا أم أبله أم خرِفًا، أن يحمل رسائلي — لقد رأيتَ بنفسك بعضًا منها اليوم — لكنَّ تعيين الشفرة يتطلَّب بعض الذكاء، وحل الشفرة لاستخلاص المعلومة يستلزم تحليلًا عميقًا من جانبي. ستسمع المسألة بكل تفاصيلها يومًا ما؛ لأنني أظن أنها ستُعجبك.»

سألته: «كيف تستخدِمها؟»

«حسنًا، أتلقى معلوماتٍ مبكرة عمَّا يحدث في هذه المنطقة الشبيهة بحقل الكرنب. وكذلك أتلقى معلوماتٍ موثوقة عن بقية أوروبا، وأستطيع إرسال رسالةٍ إلى السيد «س» في بتروجراد والسيد «أ» في لندن، أو السيد «د» في نيويورك إذا شئت. فأي شيءٍ يَنقصُ هذا ليكون كمكاتب البريد إذن؟ لقد أصبحتُ أوسع الرجال اطلاعًا في القسطنطينية؛ لأنَّ الجنرال العجوز ليمان لا يسمع معلوماتٍ إلا من جانبٍ واحد فقط، ومعظمها أكاذيب، على حين يُحبِّذ أنور عدم الاستماع إلى أي شيء. حتى إنني أستطيع إعطاءهما معلومات مفيدة عمَّا يحدث عند عتبة بابهم ذاتها؛ لأنَّ صديقنا ساندي زعيم قيادي في أنجح جماعةٍ من المُحتالين المتمرسين في استخلاص الأسرار من صدور الرجال بحِيَل مختلفة. لولا مساعدتهم لَما أحرزتُ تقدمًا يُذكَر في هذه المدينة.»

قلت: «أُريدك أن تُخبرني بشيءٍ يا بلنكيرون. لقد عشتُ متنكرًا بهوية زائفة طول الشهر الماضي، وهذا يُجهِد أعصابي بشدةٍ حدَّ التلف. هل هذه الوظيفة مُتعبة جدًّا؟ لأنها إن كانت كذلك، أظن أنني قد أتراجع عن خوضها.»

بدا مُنهمكًا في تفكير عميق. وقال: «لا يُمكنني وصف عملنا بأنه مُريح إطلاقًا في أي وقت. فعليك أن تبقى متيقظًا، ودائمًا ما تكون معرَّضًا لكثيرٍ من الأخطار بغتةً دون سابق إنذار. ولكن مقارنةً بالأخطار الكائنة في مثل تلك الوظائف، أرى هذا العمل سهلًا. فكل ما علينا أن نبقى على طبيعتِنا. نرتدي ثيابنا العادية، ونتحدث بالإنجليزية، ونتصنع ابتسامةَ تيدي روزفلت، وليس فيها أي داعٍ إلى مواهب تمثيلية. الأوقات التي وجدتُ فيها الوظيفة صعبةً كانت هي تلك التي استلزمَت منِّي أن أكون طبيعيًّا، وأندمج مع مَن حولي وأفعل كل ما يفعلونه، وأُضطر في الوقت نفسه إلى فعل أشياء منافية لطبيعتي. ليس سهلًا أن تذهب إلى وسط المدينة للعمل وتتناول شرابًا مع السيد كارل روزنهايم، وفي الساعة التالية تنشغل بتدمير أصدقاء السيد روزنهايم. ليس سهلًا أن تُواصِل تمثيل دورٍ مختلف تمامًا عن نمط حياتك العادية. لم أجرب هذا من قبل. فدائمًا ما كان نهجي أن أبقى على طبيعتي. لكنك جربته يا حضرة الميجور، وأظن أنك وجدتَه مُرهِقًا.»

قلت: ««مرهقًا» كلمة هينة. لكني أريد أن أعرف شيئًا آخر. أرى النهج الذي اخترتَه مِثاليًّا. لكنه جامد للغاية لا يمكن تغييره بأي حال. فهو يُحتِّم علينا التزامًا شديدًا به، ولن يكون تركه سهلًا.»

قال: «حسنًا، هذه هي النقطة التي كنتُ سأذكرها. كنت سأنبِّهك إلى هذا الأمر تحديدًا. عندما انطلقت نحو مهمتي كنت متوقعًا مواجهة موقف كهذا. قلت لنفسي إنني إذا لم أتقمص دورًا واضحًا للغاية يُوهِم الآخرين بأشياء زائفة عنِّي، فلن أنال الأسرار التي كنتُ أحتاج إليها. علينا أن نكون في قلب المعمعة، ونُسهِم بمشاركةٍ فعلية ولا نكتفي بالمشاهدة. لذا قررتُ أن أتظاهر بأنني مُهندس كبير، وادعيتُ أنَّ جون إس بلنكيرون كان من أعظم مهندسي الولايات المتحدة يومًا ما. تحدثتُ بتباهٍ عمَّا يُمكن تحقيقه في بلاد الرافدَين لسحقِ البريطانيين هناك، وإلقائهم بمياه النهر لتجرفهم. لاقى كلامي استحسانًا. كانوا على عِلم بسُمعتي باعتباري خبيرًا هيدروليكيًّا، ووجدتُهم متحمِّسين جدًّا لضمِّي إليهم. أخبرتهم أنني أريد مساعدًا، وحكيت لهم عن صديقي ريتشارد هاناو، واصفًا إياه بأنه ألماني أصيل كطبقِ حساء الملفوف، وأخبرتُهم بأنه قادم عبر روسيا ورومانيا محايدًا خيِّرًا، لكنه عندما يصل إلى القسطنطينية سيتخلى عن حياده ويضاعف إحسانه الخيِّر. لقد تلقَّوا تقارير عنك عبر برقياتٍ من الولايات المتحدة؛ لأنني رتبتُ لهذا قبل أن أغادر لندن. لذا ستلقى ترحيبًا واحتضانًا كجون إس بالضبط. كلانا لديه وظيفة يُمكنه الاحتفاظ بها، والآن وأنت ترتدي هذه الثياب الجميلة تبدو نسخةً طبق الأصل من ألمعِ المهندسين الأمريكيين … لكن لا يُمكننا التراجع. فإذا أردنا المغادرة إلى كونستانتسا الأسبوع المقبل فسيكونون مُهذبين جدًّا معنا، لكنهم لن يسمحوا لنا بذلك أبدًا. علينا أن نمضي قُدمًا في هذه المغامرة ونستكشف طريقنا بحذر حتى بلاد الرافدين، على أمل أن يظل الحظ حليفنا … الرب وحده يعلم كيف سنخرج منها، ولكن يُحبَّذ ألا يذهب المرء إلى المتاعب بنفسه. وكما قلتُ من قبل، إنني أومن بالعناية الإلهية الحكيمة الخيِّرة، ولكن عليك أن تمنحها فرصة.»

يجب أن أعترف بأنَّ الاحتمال الذي لاح أمامي في الأفق صدمني وجعلني مترددًا. قد يتركوننا نقاتل؛ بل والأسوأ أنهم قد يجعلوننا نقاتل بَني بلدنا وحلفاءنا. تساءلتُ عمَّا إذا كان من الأفضل أن نهرب فورًا، وقلت له ذلك.

هزَّ رأسه بالرفض. وقال: «لا أتفق مع ذلك. فنحن أولًا لم نُكمل تحرياتنا. صحيح أننا عرفنا مكان «ذي العباءة الخضراء» تحديدًا، بفضلك، لكننا ما زلنا نجهل الكثير عن هذا الرجل المقدس. وثانيًا، لن يكون الوضع سيئًا بقدر ما تظن. فهذه المعركة تفتقر إلى التماسُك يا سيدي. لن تستمر إلى الأبد. وأحسب أنَّ الوضع سيشهد منعطفًا غريبًا قبل أن يُدركنا الموت ونبلغ جنات الخلد. على أي حال، الأمر جدير جدًّا بالمخاطرة.»

ثم جاء ببعض الأوراق ورسم لي مخططًا لتوزيعات القوات التركية. لم أكن أعرف إطلاقًا أنه دارس الحرب بتفصيل شديد هكذا؛ إذ كان شرحه وافيًا كمحاضرة من أحد ضباط الأركان. أوضحَ أنَّ الوضع لم يكن مبشرًا للأتراك إطلاقًا في أي مكان. فالقوات التي سُرِّحت من جاليبولي كانت تحتاج إلى الكثير من الإحلال والتجديد، وستكون بطيئةً في الوصول إلى حدود القوقاز، التي كانت معرضةً للتهديد الروسي. أمَّا جيش سوريا، فكان تقريبًا مجرد حشدٍ من الرعاع تحت قيادة جمال المُختل. لم يكن هناك أي احتمالية لشنِّ غزوٍ حقيقي على مصر. ولم يبدُ الوضع باعثًا على التفاؤل نوعًا ما إلَّا في بلاد الرافدَين، بسبب الأخطاء الفادحة للاستراتيجية البريطانية. ثم قال: «وأؤكد لك بكلِّ ثقةٍ أنَّ الخليفة التركي العجوز إذا حشد ما مجموعُه مليون رجل، فإنه قد خسر ٤٠ في المائة منهم بالفعل. وإذا كنتُ عرافًا مكشوفًا عنه الحجاب، فإنه سيخسر المزيد قريبًا جدًّا.»

مزَّق الأوراق، وتكلَّم عن السياسة باستفاضة. قال: «أظن أنني فهمتُ جوهر حركة «الشبان الأتراك» ولجنتهم الأثيرة. هؤلاء الصبية ليسوا أكْفاء إطلاقًا. صحيح أنَّ أنور ذكي جدًّا، وشجاع بالتأكيد. فهو مُستعد لمواصلة القتال بعنادٍ حتى آخِر قطرة من دمه، لكنه لا يرى الصورة الكبرى يا سيدي. لا يفهم تعقيدات وظيفته كأنه طفل رضيع؛ لذا يتلاعَب الألمان به، إلى أن يفقد صوابه ويقفز هائجًا كالبغل. وطلعت كلبٌ نزِقٌ يريد أن يُوسِع البشر كلهم ضربًا بهراوة. هذان الولدان كلاهما لديهما من الإمكانات ما كان جديرًا أن يجعلهما راعيَيْ بقر كُفأَيْن في الأيام الخوالي، وربما كانا سيكسبان رزقهما في الغرب بأن يكونا شقِيَّين مُسلحَين مأجورَين لدى إحدى نقابات العمال. فهُما يكادان يشبهان جيسي جيمس أو الولد بيلي راعي البقر، باستثناء أنهما تربية جامعات ويستطيعان الثرثرة بلُغات مختلفة. لكنهما يفتقران إلى القُدرة التنظيمية اللازمة لإدارة التصويت الأيرلندي في انتخابات إحدى الدوائر مثلًا. لا يشغلان بالَيهما إلَّا بالأسلحة والعنف، والناس بدءوا يسئمون أسلوب تنظيم «اليد السوداء» الاستعراضي العنيف الذي ينتهجانه. فهما لا يفرضان سيطرتهما على الشعب إلَّا بقوةِ السلاح. أصحاب العقول الحكيمة الهادئة في اللجنة صاروا يخجلون منهما، وثعلب عجوز مثل داود يبقى متواريًا إلى أن تحين لحظته المناسبة. الآن لا داعي إلى القول إنَّ عصابة كهذه عليها أن تبقى مترابطةً معًا بحبلٍ واحد، وإلَّا فسيُعلَّق أفرادها بحبل المشنقة كلٌّ على حدة. ليست لهم أي سيطرة على المُواطن التركي العادي إلَّا لأنهم نَشِطون وهو خانع، ولأنَّ أسلحتهم عامرة بالذخيرة.»

سألته: «ماذا عن الألمان هنا؟»

ضحك بلنكيرون. وقال: «ليسوا على وفاقٍ تام معهم. لكن «الشبان الأتراك» يدركون أنهم بدون الدعم الألماني سيُشنَقون مثل هامان، وكذلك الألمان لا يقدرون على تحمُّل عواقب التخلِّي عن حليفٍ لهم. تخيَّل ما سيحدُث إذا سئمت تركيا اللعبة وعقدَتْ سلامًا منفصلًا وحدَها. سيصبح الطريق إلى بحر إيجة مفتوحًا أمام روسيا. سيأخذ فرديناند ملك بلغاريا بضاعته المستهلكة إلى السوق الأخرى فورًا دون أن يضيِّع يومًا واحدًا في التفكير. ستجد رومانيا تنضم إلى صف الحلفاء. ستكون ضربةً قاصمة لسيطرة الألمان على الشرق الأدنى بعدما كانوا يُعوِّلون على تلك السيطرة لتحقيق النصر. يقول القيصر إنهم يجب أن يمنعوا ذلك بأي ثمن، ولكن كيف سيتحقق ذلك؟»

اكتسى وجه بلنكيرون بجدية واجمة شديدة مجددًا. وقال: «لن يتحقق ذلك إلَّا إذا كان لدى ألمانيا ورقة رابحة. صحيح أنَّ لعبتها قريبةً جدًّا من الفشل، ولكن ما زال لديها فرصة. وهذه الفرصة تكمُن في امرأة ورجل عجوز. أعتقد أنَّ صاحبة منزلنا أذكى من أنور وليمان. إنها المتحكمة الحقيقية في الأحداث. عندما أتيتُ إلى هنا، ذهبتُ إليها، وعليك أن تفعل الشيء نفسه سريعًا. إنني متلهِّف لأعرف الانطباع الذي ستأخذه عنها؛ لأنني لا أمانع الاعتراف بأنها أبهرتني بشدة.»

قلت: «يبدو أنَّ مهمتنا ما زالت بعيدةً جدًّا عن خط النهاية.»

قال بلنكيرون: «بل لم تبدأ تقريبًا.»

رفع هذا الكلام معنوياتي بشدة؛ لأنني أدركتُ أنَّ الصيد الذي كنَّا نحاول اقتناصه تلك المرة كان الأكبر على الإطلاق. وأنا شخص اقتصادي، بمعنى أنني إذا كنتُ سأُشنَق مقابلَ شيء ما، فيجب أن يكون مقابلُ عنقي قيِّمًا.

ثم بدأت أعايش تجارب متنوعة بعدئذٍ. كنتُ أستيقظ صباحًا وأنا أتساءل أين ينبغي أن أكون ليلًا، لكني كنت سعيدًا جدًّا بتلك الحيرة. أصبحتُ أرى ذا العباءة الخضراء وكأنه أسطورة خرافية. عجزتُ بطريقةٍ ما عن الوصول إلى أي تصوُّر ثابت في رأسي عن شكله. كان أقربُ ما توصلتُ إليه صورةَ رجل عجوز ذي عمامة يخرج من زجاجة وسط غيمة من الدخان، وهي صورة كنت أتذكَّرها من قصص «ألف ليلة وليلة» حسبما حكاها لي أحد الأطفال. لكن إذا كان الرجل غامضًا، فالسيدة كانت أشدَّ غموضًا. فتارةً كنتُ أتخيَّلها عجوزًا ألمانية شمطاء سمينة، وتارة أخرى أتصورها جامدة الملامح كناظرة مدرسة بشفتَين رفيعتَين ونظَّارة. لكن كان عليَّ إضفاء لمسة شرقية على الصورة؛ لذا جعلتُها شابة صغيرة وأضفيتُ عليها لمسةً طفيفة من شكلِ حوريةٍ واهنة مُحجبة. كنتُ طول الوقت أحاول استخلاص معلومات من بلنكيرون عن هذا الموضوع، لكنه كان يُطبِق فمَه كمصيدة الفئران. كان يترقب حدوث مشكلة جسيمة من وراء تلك المسألة، ولم يكن يريد التحدُّث عنها سلفًا.

كنا نعيش في سلام وسكون. كان يخدمنا اثنان من جماعة ساندي؛ لأنَّ بلنكيرون قد اتخذ قرارًا صائبًا جدًّا بطردِ الخَدَم الأتراك، وكانا يعملان بجدٍّ شديد تحت أنظار بيتر، حتى أدركت أنني لم أحظَ برعايةٍ جيدة كهذه في حياتي من قبل. تمشيت في المدينة برفقة بلنكيرون، متحليًا باليقظة، متحدثًا بتأدُّب شديد. في الليلة الثالثة تلقَّينا دعوة لتناول العشاء في منزل مولندورف؛ لذا ارتدَينا أفضل ثيابنا وانطلقنا في سيارة أجرة عتيقة. كان بلنكيرون قد أحضر معه حُلة من حُللي الشخصية، ووجدتُ مُلصَق خيَّاطي منزوعًا منها، ووُضع مكانه مُلصَق خياطٍ من نيويورك.

كان الجنرال ليمان والسفير مترنيش قد سافرا شمالًا بالقطار إلى نيش للقاء القيصر، الذي كان في جولة في تلك الأنحاء؛ لذا كان مولندورف أكبر مسئول ألماني في المدينة. كان رجلًا نحيفًا ذا وجه يُشبه وجوه الثعالب، ذكيًّا بعض الشيء، لكن كان مغرورًا للغاية، ولم يكن محبوبًا جدًّا سواء بين الألمان أو الأتراك. كان يتعامل معنا بتأدُّب، ولكن عليَّ الاعتراف بأنني شعرت بذعرٍ شديد حين دخلت الغرفة؛ لأنَّ أول رجل رأيتُه هناك كان جاوديان. ارتأيتُ أنه ما كان ليتعرَّفني حتى لو كنتُ مرتديًا نفس الثياب التي ارتديتها حين كنت برفقة شتوم؛ لأنَّ بصره كان ضعيفًا جدًّا. لكني على أيِّ حال لم أكن معرَّضًا لأيِّ خطر ببذلتي الرسمية وشعري المُمشط إلى الوراء، ولكنتي الأمريكية الممتازة. أغدقت عليه ثناءً بالغًا بصفته زميلًا لي في مجال الهندسة، وترجمت جزءًا من محادثة هندسية متخصصة جدًّا بينه وبين بلنكيرون. كان جاوديان يرتدي زيه العسكري، وازداد إعجابي بمظهرِ وجهه الصادق عن أي وقتٍ مضى.

لكنَّ الحدث العظيم كان رؤية أنور. كان رجلًا ممشوق القوام ببنيانٍ كبنيان راستا، متأنقًا جدًّا، دقيقًا للغاية في انتقاء ثيابه، ذا وجه بيضاوي ناعم كوجهِ فتاة، وحاجبَين أسودَين مستقيمَين رفيعَين بعض الشيء. كان يتحدث الألمانية بطلاقة، وكان أسلوبه مثاليًّا؛ إذ لم يكن وقحًا ولا متعجرفًا. وكذلك لاحظتُ فيه عادةً طيبة؛ إذ كان يناشد كلَّ الجالسين حول الطاولة أن يؤكدوا كلامه، وبذلك كان يُشرِك الجميع في الحديث. ليس معنى هذا أنه كان كثير الكلام، لكني وجدتُ كل كلامه حكيمًا عقلانيًّا، وكان يقوله بأسلوب مبتسم. عارَض مولندورف بضع مرات، ورأيت أنَّ كليهما لم يكن يُحب الآخر. لم أشعر بأنني أريده صديقًا؛ فقد كان أبرد ممَّا أتحمل ومصطنعًا للغاية، وكنتُ مُتيقنًا تمامًا من أنني لا أريده عدوًّا بعينَيه السوداوين الثابتتَين هاتَين. لكن لم يكن مُجديًا أن أنكر سماته الجيدة. فذلك الرجل الضئيل كان ذا شجاعة باردة كفولاذ السيوف الأزرق المصقول الممتاز.

أتصوَّر أنني أحرزتُ بعض النجاح في ذلك العشاء. فأوَّلًا كنت أستطيع التحدث بالألمانية، وبذلك كانت لي أفضلية على بلنكيرون. وثانيًا كنت في حالة مزاجية جيدة، وكنت مستمتعًا حقًّا ببذل كل جهدي في تمثيل دوري. تحدَّثوا بتشامخٍ ومبالغة شديدة عمَّا فعلوه وما سيفعلونه، وكان أنور متحمسًا بشدة في حديثِه عن جاليبولي. أتذكر أنه قال إنه كان يستطيع تدمير الجيش البريطاني كله لولا جُبن شخصٍ ما، فرمقه مولندورف بنظرةٍ غاضبة عندئذٍ. تحدثوا عن بريطانيا وكل أفعالها بحنقٍ لاذع جدًّا لدرجة أنني استنتجتُ أنهم كانوا مرعوبين، ما أسعدني بشدة. ويؤسِفني القول إنَّ كلامي أنا شخصيًّا عن ذلك الموضوع لم يخلُ من التعليقات اللاذعة. فقد قلتُ عن بلدي أشياء يَندى لها الجبين، لدرجة أنني أستيقظ في الليل أحيانًا وأتصبَّب عرقًا حين أتذكرها.

بدأ جاوديان يتطرق إلى استخدام الطاقة المائية في الحرب، وهذا منحني فرصة.

قلت: «في بلدي عندما نريد التخلص من جبل، نزيله بالماء. فلا شيء على وجه الأرض يصمد أمام الماء. الآن، ومع كل احترامي لكم أيها السادة، ولأنني ما زلت مُستجدًّا تمامًا في الفنون العسكرية؛ أتساءل أحيانًا لماذا لا أجد اهتمامًا أكبر باستخدام ذلك السلاح الربَّاني في الحرب الحالية. صحيح أنني لم أذهب إلى أي جبهات حرب من قبل، لكني درستُ بعضها من الخرائط والصحف. انظروا مثلًا إلى موقع قواتكم الألمانية في فلاندرز، حيث تحظَون بالأراضي المرتفعة. لو كنتُ جنرالًا بريطانيًّا، أعتقد أنني سرعان ما كنتُ سأجردكم من أفضلية ارتفاع موقعكم.»

سأل مولندورف: «كيف؟»

«حسنًا، كنت سأزيله بالماء. كنت سأجرف بالماء أربع عشرة قدمًا من التراب وصولًا إلى الحجر. توجد مجموعة كبيرة من مقالع الفحم خلف الجبهة البريطانية حيث يُمكنهم توليد الطاقة، وأعتقد أنَّهم يحظَون هناك بإمدادات مائية وفيرة من الأنهار والقنوات. أؤكد لك أنني كنتُ سأزيلكم بالماء في غضون أربع وعشرين ساعة فقط، نعم، رغم كل مدافعكم الكبيرة. لا أفهم لماذا لم يُطبِّق البريطانيون تلك الفكرة. فقد كان لديهم بعض المهندسين الممتازين.»

كان أنور منتبهًا ومتأهبًا جدًّا للمشاركة في الحديث، أسرع بكثير من جاوديان. استجوبني بطريقةٍ أظهرَت أنه كان يعرف كيفية التعامل مع موضوع هندسي مُتخصص، مع أنه ربما لم يكن مُلمًّا بالكثير من المعرفة التخصصية. وفي اللحظة التي همَّ فيها بإعطائي نبذة موجزة عن الفيضان في بلاد الرافدين، أحضر إليه أحد الياوران رسالة قصيرة، فهبَّ واقفًا.

قال: «لقد ثرثرتُ طويلًا. مُضيفي الكريم، أنا مضطر إلى تركك. وأيها السادة جميعًا، تقبلوا اعتذاري ووداعي.»

وقبل أن يُغادر، سألني عن اسمي وكتبَه. قال بلُغةٍ إنجليزية سليمة جدًّا: «هذه مدينة خَطِرة على الغرباء يا سيد هاناو. لديَّ صلاحيات بسيطة كافية لحماية صديق، ويُمكن أن تعتبرها تحت تصرفك.» قال ذلك بتعالٍ كأنه ملكٌ يَعِد أحد رعيته بإسداء صنيع له.

كنتُ مُتسليًا جدًّا بهذا الرجل الضئيل البنية، ومنبهرًا بعض الشيء أيضًا. قلتُ هذا لجاوديان بعد رحيل أنور، لكن ذلك الإنسان المحترم لم يُوافقني الرأي.

قال: «لا أحبه. صحيح أننا حليفان، لكننا لسنا صديقَين. فهو ليس ابنًا حقيقيًّا للإسلام، الذي يتسم بالنُّبل، ويحتقر الكاذبين والمُختالين الفخورين، وخائني العِشرة.»

كان هذا حُكمَ رجلٍ صادق على ذلك المهدي المنتظر. وفي الليلة التالية سمعتُ حُكمًا آخر من بلنكيرون على شخصيةٍ أعلى شأنًا من أنور. كان قد خرج وحيدًا وعاد متأخرًا جدًّا في تلك الليلة بوجهٍ شاحب ومهموم من الألم. تفاقم عُسر الهضم لديه بسبب الطعام الذي أكلناه — والذي لم يكن سيئًا من نوعه إطلاقًا — والرياح الشرقية الباردة. ما زلتُ أستطيع تخيله وهو يغلي الحليب على مصباح كحولي، في حين كان بيتر يُسخِّن له الماء على موقدٍ من طراز بريموس. كان يعبِّر عمَّا يشعر به بكلماتٍ بشعة.

«أقسم بربِّي، أيها الميجور، إنني لو كنت مكانك بمعدة سليمة، لغزوتُ العالم كله. لكني أؤدي عملي بنصفٍ واحد فقط من عقلي؛ لأنَّ النصف الآخر منشغل بأمعائي. صرتُ كالطفل الذي كان لديه ثعلب ينهش أعضاءه الحيوية، كما وَرَد في الكتاب المقدس.»

غلى حليبه وبدأ يرتشفه.

قال: «ذهبتُ للقاء صاحبة منزلنا الجميلة. فقد استدعتني وذهبت بخطًى عرجاء وجعبة عامرة بالمخططات؛ لأنها متمسكة للغاية ببلاد الرافدين.»

سألتُه بلهفة: «هل عرفتَ أي شيء عن ذي العباءة الخضراء؟»

«لا، لكني توصلت إلى استنتاج واحد. أظن أنَّ النبي المنحوس لن يطيق تلك المرأة. أظنه سرعان ما سيتمنى الموت ودخول الجنة. فلو افترضنا أنَّ الرب خلق شيطانًا على هيئة أنثي، فهي السيدة فون آينم.»

ارتشف القليل من حليبه مجددًا بوجهٍ متجهم.

قال: «هذا ليس تأثير عسر الهضم الذي أعانيه في أمعائي أيها الميجور. بل حُكم من واقع تجربة حياتية ناضجة؛ لأنني ذو بصيرة رصينة ثاقبة، حتى وإن كانت معدتي مضطربة. وقد استنتجتُ بعد تفكير عميق أن تلك المرأة مجنونة خبيثة، لكن خبثها هو السِّمة الأساسية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤