الفصل الرابع عشر

السيدة ذات الطرحة

لم تقع عيناي على ساندي منذ تلك الليلة الأولى. فقد كان مختفيًا تمامًا، وكنت أنا وبلنكيرون ننتظر أي خبرٍ بفارغ الصبر. صحيح أنَّ مهمتنا نحن الاثنَين كانت تسير على ما يُرام؛ لأننا كنا سنتَّجه شرقًا نحو بلاد الرافدَين قريبًا، لكننا إذا لم نعرف المزيد عن ذي العباءة الخضراء، فستبوء رحلتنا بفشلٍ ذريع. ولم نستطع معرفة أي شيء عن ذي العباءة الخضراء؛ لأننا لم نجد أي أحدٍ يُلمح إلى وجوده بقولٍ أو فِعل، وبالطبع كان من المُستحيل أن نطرح أسئلةً من تلقاء أنفسنا. كان أملنا الوحيد هو ساندي؛ لأنَّ ما كنا نريد معرفته هو مكان النبي وخططه. اقترحتُ على بلنكيرون أن نبذل المزيد للتودد إلى السيدة فون آينم، لعلنا نعرف منها أي شيء، لكنه أطبق فمه بإحكام كمصيدة الفئران.

قال: «لا جدوى من ذلك لنا. فتلك أخطر امرأة على وجه الأرض، وإذا خالَجَها أي شك في أننا نعرف شيئًا عن مخططاتها العزيزة على قلبها، فسيلقون بنا في قاع البوسفور قريبًا جدًّا.»

بدا كل هذا منطقيًّا جدًّا، ولكن ما الذي سيحدث إذا أرسلوا كلَينا بالفعل إلى بغداد بتعليماتٍ بجرف البريطانيين بمياه النهر؟ كان الوقت ينفد منا بسرعة، وارتأيت أننا قد لا نستطيع البقاء في القسطنطينية أكثر من ثلاثة أيام أخرى. شعرت بنفس الإحساس الذي راودني في تلك الليلة الأخيرة مع شتوم حين كان على وشك إرسالي إلى القاهرة، ولم أجد مهربًا من ذلك. حتى بلنكيرون كان قلقًا. ظل يلعب بأوراق اللعب دون توقف، ولم يكن راغبًا في الكلام. حاولت أن أعرف شيئًا من الخدم، لكنهم إما كانوا لا يعرفون شيئًا، وإما غير راغبين في إخباري بشيء، وأظن أن الاحتمال الأول كان الأرجح. كذلك ظللتُ أتلفت حولي أثناء سيري في الشوارع، لكني لم أرَ أي أثر للمعاطف الجلدية أو الآلات الوترية العجيبة في أي مكان. بدا أنَّ «رفاق الأوقات الوردية» كلهم قد تبَّخروا في الهواء، وبدأت أتساءل عمَّا إذا كان لهم وجودٌ من قبل أصلًا.

جعلني القلق متململًا لا أطيق السكون، ودفعني هذا التململ إلى الرغبة في مُمارسة بعض الرياضة. ارتأيت أنني لن أستفيد من التمشية في أرجاء المدينة. فالطقس قد أصبح عاصفًا مرة أخرى، وقد سئمت الروائح الكريهة والقذارة وحشود الناس الملدوغين من البراغيث. لذا حصلتُ أنا وبلنكيرون على حصانَين تركيين من خيول سلاح الفرسان كان لهما رأسان طويلان، وخرجنا بهما عبر الضواحي إلى الريف المفتوح.

كنا بعد الظهيرة آنذاك، وكان الجو رماديًّا مشوبًا بمطر خفيف، مع بدايات ضبابٍ بحري حجَب الشواطئ الآسيوية المُطلَّة على المضيق. كان من الصعب أن نجد أرضًا مفتوحة لنركض بالحصانين؛ إذ كنا مُحاطين برُقَع زراعية صغيرة لا حصر لها، وبحدائق البيوت الريفية. لزمنا الأرض المرتفعة فوق البحر، وعندما وصلنا إلى رقعة من الروابي المتموجة، صادفنا فِرقًا من جنود أتراك يحفرون خنادق. وكلما أطلقنا العِنان لحصانَينا، كنا نُضطر إلى التوقُّف فجأة لنتفادى الاصطدام بإحدى هذه الفِرق، أو بقطعةٍ مُمتدة من الأسلاك الشائكة. وجدنا لفائف هذه الأسلاك البغيضة ملقاةً طليقة في كل مكان، وكاد بلنكيرون أن يتعثر في إحداها ويتعرض لسقوط بشع من فوق حصانه. وطوال الوقت كان هناك حراس يوقفوننا باستمرار، وكنا نُضطر إلى إظهار تصاريح المرور الخاصة بنا. لكن تلك الجولة نفعتنا رغم ذلك، وبثَّت الحيوية في أجسادنا، وبحلول وقت العودة إلى المنزل، تزايد شعوري بأنني رجل أبيض.

عدنا أدراجنا مهرولِين في الشفق الشتوي القصير، متجاوزين الأراضيَ المشجرة المحيطة بفلل بيضاء، وكنا نتوقف كل بضع دقائق بسبب عربات النقل وسرايا الجنود التي كنا نلقاها. كانت الأمطار قد هطلت بغزارة شديدة، وكنا ممرَّغين بالبلل والوحل على صهوة حصانينا ونحن نزحف عبر الدروب الموحلة. وبينما كنا مارَّين بجوار فيلا محاطة بسور أبيض مرتفع، انبعثت نحونا رائحةُ دخانِ حطبٍ طيبة، فشعرت بحنين إلى السهوب المحترقة في جنوب أفريقيا. والتقطَت أذناي كذلك رنينًا من أوتار إحدى آلات السنطور، ولا أعرف لماذا ذكَّرني هذا بالوقت الذي قضيته بعد الظهر في كوخ حديقة كوبراسو قبل بضعة أيام.

أوقفت حصاني واقترحتُ أن نتفقد الفيلا، لكن بلنكيرون رفض بانزعاج وغضب شديدَين.

قال: «آلات السنطور شائعة هنا كالبراغيث. لن يروقك ما سيحدث حين تُفتِّش حظائر شخصٍ ما وتجد صبيًّا سائسًا يُسلي أصدقاءه بعزف بعض الموسيقى. فهُم لا يُحبون الزوار في هذا البلد، وستجلب على نفسك المتاعب إذا تجاوزت جدران هذا السور. أظن أنه حرملك خاص بنسرٍ رومي عجوز.» كان «النسر الرومي» لفظًا مميزًا خاصًّا به يستخدمه لوصف الأتراك؛ لأنه قال إنه في صباه كان لديه كتاب تاريخ طبيعي يحمل صورةً لطائر يُدعى النسر الرومي، فظل يصف الشعب العثماني بهذا اللفظ لتطابُق الكلمة الإنجليزية المعبرة عن تركيا والديوك الرومية، ولم يستطع التخلُّص من تلك العادة.

لم أقتنع بكلامه؛ لذا حاولتُ تمييز المكان لآتي إليه لاحقًا. بدا أنه يقع على بُعد نحو ثلاثة أميال من المدينة، في نهاية ممرٍّ ضيقٍ شديد الانحدار على الجانب المُواجِه للبرِّ من التل المطلِّ على مضيق البوسفور. تخيلتُ أنَّ وجيهًا ذا شأن يعيش هناك؛ لأننا صادفنا بعد الفيلا بمسافةٍ قصيرة سيارة خاوية كبيرة تسير نحو الأعلى بهدير صاخب من مُحركها، وخطر ببالي أنَّها تخص الفيلا المسوَّرة.

في اليوم التالي كان بلنكيرون يُعاني ألمًا شديدًا بسبب عسر الهضم. وعند منتصف النهار تقريبًا، اضطُر إلى الاضطجاع ليستريح، ولمَّا لم يكن أمامي شيء أفضل أفعله، أخرجت الحصانَين مجددًا وأخذت بيتر معي. كان من المضحك رؤية بيتر في سرج عسكري تركي، راكبًا الحصان بالركاب البويري الطويل، مُرخيًا كتفَيه كأهل سهوب جنوب أفريقيا النائية.

كان ذلك النهار مشئومًا منذ بدايته. لم يكن مشوبًا بضباب ورذاذ خفيف كاليوم السابق، بل بعاصفةٍ شمالية جامدة ضربتنا في وجوهنا بوابلٍ من المطر، وخدَّرَت أيادينا المُمسكة باللجامَين. سلكنا الطريق نفسه، لكننا اندفعنا بالحصانَين غرب مجموعات حُفَّار الخنادق، ووصلنا إلى وادٍ ضحل يضمُّ قرية بيضاء وسط أشجار السرو. بعدها صادفنا طريقًا مُمهدًا جدًّا أوصلَنا إلى أعلى قمة كانت ستمنحنا إطلالةً رائعة بالتأكيد لو كان الجوُّ صافيًا. ثم أدرنا حصانَينا، وحددتُ مسارنا بحيث نصل إلى قمة المَمر الطويل الملاصق لحافة الروابي. كنت أريد تفقُّد الفيلا البيضاء.

ولكن قبل أن نقطع شوطًا طويلًا في طريق عودتنا، وقعنا في مأزق. فقد فوجئنا بكلبٍ هجين أصفر متوحِّش من كلاب الماشية يندفع نحونا كصاعقةِ البرق. بدا أنه كان معجبًا ببيتر تحديدًا؛ إذ ظلَّ يعضُّ عقبَي حصانه بوحشيةٍ حتى جعله يخرج عن الطريق بقفزة جامحة. كان ينبغي أن أُحذر بيتر، لكني لم أُدرك ما كان يحدث إلا بعد فوات الأوان. فقد فوجئتُ به يتبع طريقةً مختصرة للتخلص من ذاك الكلب المزعج؛ لأنه كان معتادًا التعامُل هكذا مع الكلاب الهجينة في قرى الزنوج بجنوب أفريقيا. فقد أخرج مُسدسه وأرداه قتيلًا برصاصة في رأسه لمَّا وجده لا يحترم سوطه.

لم تكد أصداء الطلقة تتلاشى حتى بدأ الشجار. ظهر رجل ضخم يركض نحوَنا صارخًا بعنفوان جنوني. خمنت أنه مالك الكلب، واقترحت ألَّا نُرعيه انتباهًا. لكن صيحاته استدعت رجُلَين آخرين — بدا من مظهرهما أنهما جنديان — ركضا نحونا وهما ينزعان بندقيتيهما عن أكتافهما. خطر ببالي في البداية أن نهرب، لكني لم أكن أريد تَلقِّي رصاصة في ظهري، وبدا أنهما لن يتورَّعا عن إطلاق النار. لذا أبطأنا سرعتنا وواجهناهم.

صرنا بذلك أمام ثلاثيٍّ متوحش لا يتمنى أحدٌ مواجهته بتاتًا. بدا الراعي كأنه خرج من حفرة تحت الأرض؛ إذ كان همجيًّا قذرًا بشعرٍ متلبِّد ولحية كعُش الطائر. وقف الجنديان يحدقان بعبوسٍ غاضب على وجهيهما، واضعَين أصابعهما على زنادَيْ بندقيتَيهما، في حين كان الرجل الآخر يتحدَّث باهتياجٍ وثوران، وظلَّ يُشير إلى بيتر، الذي حدَّق بعينَيه الوديعتَين في ذلك المُعتدي عليه دون أن يرمش حتى.

كانت الكارثة أنَّ كلينا لم يكن يعرف كلمةً تركية واحدة. جربت الألمانية، لكنها لم تؤتِ أي جدوى. جلسنا ننظر إليهم وظلوا يصيحون بغضبٍ في وجوهنا، وكان الظلام يُخيِّم سريعًا. في وقتٍ ما، أدرتُ حصاني كأنني أهمُّ بمواصلة المضي قدمًا، فقفز الجنديَّان أمامي فورًا.

أخذا يُثرثران فيما بينهما بكلامٍ غير مفهوم، ثم قال أحدهما ببطء شديد: «إنه … يريد … جنيهات»، ورفع خمس أصابع. كان واضحًا أنهم رأيا من مظهرنا العام أننا لسنا ألمانًا.

قلت بغضب: «فلْأمُتْ لو كان معه بنس واحد»، وسكن ضجيج المحادثة.

رأيت الوضع يزداد خطورة؛ لذا حادثتُ بيتر بكلمةٍ فيما بيننا. كان الجنديان مُمسكَين بندقيتيهما بقبضةٍ مرتخية، وقبل أن يستطيعا رفعهما، كنا مُصوبَين مُسدسينا نحوهما.

قلت: «إذا تحركتما فستموتان.» فَهِما ذلك بوضوحٍ تام، ووقفا ساكنَين بلا حراك، في حين توقف الراعي عن ثورانه الهائج، وظل يُتمتم كالجرامافون حين ينتهي التسجيل الصوتي المُشغَّل عليه.

قلت بنبرة حادة: «ألقِيا بندقيتيكما. هيا بسرعة، وإلا أطلقنا النار.»

فهِما مقصدي من النبرة، وإن لم يفهما كلماتي. تركا البندقيتين تنزلقان على الأرض وهما ما زالا يُحدقان إلينا. وفي الثانية التالية جعلنا حصانَينا يتعاليان فوقهما، ففر الثلاثة كالأرانب. أطلقتُ رصاصة فوق رءوسهم لتشجيعهم. ثم ترجَّل بيتر من فوق حصانه، ورمى البندقيتَين وسط رقعة من الشجيرات لئلا يُعثَر عليهما بسهولة.

كان هذا التعطيل قد ضيَّع وقتًا. فبحلول تلك اللحظة، كان الظلام يشتد، وصار الليل حالكًا قبل أن نقطع حتى ميلًا واحدًا. كانت ورطة مزعجة؛ إذ ضللتُ وجهتي تمامًا، ولم تكن لديَّ، على أحسن تقدير، سوى فكرة ضبابية عن تضاريس المنطقة. بدا لي أنَّ أفضل خطة هي محاولة الوصول إلى قمة ربوةٍ ما لعلَّنا نرى أضواء المدينة، لكن الريف كله كان مليئًا بالمنخفضات والوديان؛ لذا كان من الصعب أن نجد الربوة الملائمة.

كان علينا الوثوق في غريزة بيتر. سألته عن المسار الذي ينبغي أن نسلُكه، فظلَّ يشم الهواء دقيقة وهو ساكن تمامًا بلا حراك. ثم أشار إلى الاتجاه. كنتُ سأختار اتجاهًا مختلفًا لو كنت اعتمدت على نفسي، لكن بيتر لم يكن يُخطئ في مثل هذه الأمور على الإطلاق تقريبًا.

بعد قليل وصلنا إلى منحدر طويل، فانفرجت أساريري. لكن لم أرَ في أعلاه ضوءًا في أي مكان، بل مجرد فراغ أسود كباطنِ قوقعة. وبينما كنتُ أحدق في الظلام، بدا لي أنني أرى بقعًا من ظلامٍ أحلك، خمنت أنها غابة.

قال بيتر: «أمامنا منزل على اليسار قليلًا.»

حدقتُ حتى آلمَتني عيناي، ولم أرَ شيئًا.

قلت: «حسنًا، فلتُرشدني إليه بالله عليك»، وتقدَّمَني بيتر وانطلقنا معًا نحو أسفل التل.

كانت رحلة محفوفة بالصعاب؛ إذ ظل الظلام ملاصقًا لنا كصدار على أجسادنا. وطئنا مرتَين بالخطأ في بِرَك مُستنقعية، وأفلت حصاني مرةً بأعجوبة من السقوط في أحد مقالع الحصى. علقنا في أسلاك شائكة، وكثيرًا ما وجدنا أنوفنا تحتكُّ بجذوع أشجار. اضطُررتُ مرارًا إلى الترجُّل عن حصاني لأُحدِث فجوةً في حواجز مُشيدة بأحجار متقلقلة كي نمرَّ من خلالها. ولكن بعدما تعرضنا لكمٍّ سخيف من الانزلاقات والتعثرات، وصلنا أخيرًا إلى ما بدا طريقًا مستويًا، ووجدنا أمامنا بقعةً مُظلمة مميزة اتضح أنها سور شاهق.

قلت إنَّ كل أسوار الدنيا لها أبواب؛ لذا أخذنا نتحسَّسه، وسرعان ما وجدنا فجوة. كانت هناك بوابة حديدية قديمة على مفصلات مكسورة، ففتحناها بسهولة ووجدنا أنفسنا على ممشًى خلفي يؤدي إلى منزلٍ ما. بدا واضحًا أنه مهجور من كُتل الأوراق المتعفِّنة التي تُغطيه، ولأننا شعرنا من ملمسِه تحت أقدامنا أنه مغطًّى بالعشب.

ترجَّلنا حينئذٍ، وقُدنا حصانَينا خلفنا، وبعد نحو خمسين ياردة، انتهى الممشى وخرجنا منه إلى طريق مُمهد مُخصص للعربات. أو بالأحرى خمَّنا ذلك؛ لأنَّ المكان كان حالك السواد كالقار. كان واضحًا أنَّ المنزل لا يمكن أن يكون بعيدًا، لكنِّي لم أكن أعرف قطُّ في اتجاه يقع.

لم أكن أرغب آنذاك في زيارة أيِّ تركي في ذلك الوقت من اليوم. كان شغلنا الشاغل هو العثور على مكان انفتاح الطريق على الممر الضيق؛ لأنَّني كنت أعرف أنَّ طريقنا بعدئذٍ إلى القسطنطينية سيكون واضحًا. كان الممر الضيق يقع في اتجاه، على حين كان المنزل يقع في الاتجاه الآخر، ولم يبدُ من الحكمة أن نخاطر بالذهاب بالحصانَين بوقعِ حوافرهما الصاخب حتى باب المنزل الأمامي. لذا طلبت من بيتر أن ينتظرني عند نهاية الطريق الخلفي ريثما أستكشف قليلًا. اتجهت نحو اليمين، عازمًا على أن أعود إذا رأيتُ ضوء منزل، وأسلك الاتجاه الآخر مع بيتر.

مشيتُ كالأعمى في تلك الغياهب المُظلمة. كان يبدو أن الطريق يحظى بعناية جيدة، وكَتَم الحصى المبلَّل الليِّن وقع أقدامي. كانت الأشجار الضخمة تُغطيه من أعلاه بغصونها المُمتدة، وانحرفتُ مرارًا لأجد نفسي وسط شجيراتٍ تقطر ماء. ثم توقفتُ عن المشي فجأة حين سمعت صفيرًا.

كان الصفير قريبًا جدًّا، على بُعد نحو عشر ياردات. والغريب أنه كان لحنًا أعرفه، بل يكاد يكون آخِر لحن قد يتوقع المرء سماعه في هذه المنطقة من العالم. كان لحن الأغنية الاسكتلندية «قُد الخراف إلى التلال»، التي كانت مُفضلة لدى أبي.

من المؤكد أنَّ صاحب الصفير قد شعر بوجودي؛ لأنَّ اللحن توقف فجأة وسط ميزان موسيقي. تملَّكني فضول بالِغ لأعرف هوية ذلك الرجل. لذا بدأت أكمل اللحن وأنهيتُه بنفسي.

ساد الصمت لحظة، ثم سمعت الشخص المجهول يُعاود الصفير ويتوقف مرة أخرى. فأسهمت في إكمال اللحن وأنهيتُه مجددًا. بعدئذٍ شعرت بأنه يقترب. كان الهواء في ذلك النفق الرطب المَخنوق ساكنًا جدًّا، وأحسستُ بأنني سمعت وقعَ أقدامٍ خفيفًا. أظن أنني تراجعتُ خطوة. وفجأة رأيت وميض مصباحٍ كهربائي على بُعد ياردة، لكنه زال بسرعة شديدة فلم أستطع رؤية أي شيءٍ من الرجل الذي كان يحمِله.

ثم تحدث صوت خفيض من وسط الظلام — صوت أعرفه جيدًا — وبعدئذٍ وجدتُ يدًا تُوضَع على ذراعي. قال الصوت: «ما الذي تفعله هنا بحق السماء يا ديك؟» وكانت النبرة ممزوجةً بشيءٍ من الذعر.

حكيتُ له بنبرةٍ مضطربة؛ إذ بدأت أشعر بتوترٍ شديد.

قال الصوت: «أنت الآن في خطرٍ لم تواجِه أشد منه في حياتك. رباه يا رجل، ما الذي جعلك تتجول هنا في هذا اليوم تحديدًا دون كل الأيام؟»

لكم أن تتخيَّلوا قدر ما انتابني من الرعب؛ لأن ساندي لم يكن من الرجال المُبالغين إطلاقًا. وفي الثانية التالية ازداد رُعبي، حين قبض على ذراعي وجرَّني إلى جانب الطريق بخطوةٍ قافزة. لم أستطع رؤية أيَّ شيء، لكني شعرت بأن رأسه التفَّ فجأة، فالتفتُّ مثله. وهناك، على بُعد نحو عشر ياردات، رأيت ضوء المصابيح الكربيدية لسيارة كبيرة.

أقبلَت نحونا ببطء شديد، تهدُر كالنمر، بينما حشرنا أنفسنا وسط الشجيرات. كانت تبعث من مصابيحها الأمامية ضوءًا منتشرًا على كلا الجانبين ولمسافة بعيدة، أظهر عرض الطريق كله وحدوده أيضًا، ونحو نصف ارتفاع الأشجار المقوسة فوقه. رأيت بجوار السائق شخصًا يرتدي زيًّا عسكريًّا لم يكن واضحًا في الوهَج المنعكس، لكن جسم السيارة كان مظلمًا.

زحفت السيارة نحوَنا وتجاوزتنا، ولم يكد بالي يستعيدُ هدوءه حتى توقفت مجددًا. سمعتُ صوت انضغاط مفتاحٍ كهربائي داخلها، وأضيئت الليموزين بنورٍ باهر. عندئذٍ رأيت بداخلها امرأة.

كان الخادم قد ترجَّل من السيارة وفتح الباب، وجاء من داخلها صوت رقيق واضح مُتحدثًا بلغةٍ لم أفهمها. وجدتُ ساندي قد انطلق نحو الأمام عند سماعه، فتبعتُه أنا أيضًا. فلم يكن يليق بي أبدًا أن يراني أحد مُختبئًا وسط الشجيرات.

بهرَني الوهج المفاجئ بشدة إلى حدِّ أنني رمشت في البداية ولم أرَ شيئًا. ثم زالت الغشاوة عن عينيَّ، ووجدت نفسي أنظر إلى سيارة مُنجَّدة من الداخل بقماش ناعم بلون الحمام، ومزين بشكل جميل من الحواف باللونَين العاجي والفضي. كانت المرأة الجالسة فيها ترتدي طرحةً إسبانية من الدانتيل الأسود على رأسها وكتفيها، وكانت تُبقيها مطويةً على معظم وجهها بيدٍ رشيقة مُرصعة بالحلي. لم أرَ منها سوى عينَين شاحبتَين زرقاوَين ممزوجتَين باللون الرمادي، والأصابع النحيلة.

أتذكر أنَّ ساندي كان يقف باستقامةٍ شديدة واضعًا يدَيه على خصره، كما لو لم يكن خادمًا في حضرة سيدتِه إطلاقًا. كان رجلًا جميل الهيئة دومًا، لكنه في تلك الثياب البربرية، وبرأسه الشامخ، وحاجبَيه الداكنَين تحت قلنسوته الضيقة، بدا كأنه ملك مُتوحش من عالَمٍ أقدم. كان يتحدَّث التركية، ويرمقني بنظراتٍ خاطفة بين الحين والآخر كما لو كان غاضبًا ومتحيرًا. ارتأيتُ أن هذا التلميح يدل على أنه يتظاهر بأنه لا يعرف أي لغةٍ أخرى، وأنه يسألني عن هويتي بغضب.

ثم نظرا إليَّ كلاهما؛ ساندي بنظرته الغجرية البطيئة الثابتة، والسيدة بعينَيها الشاحبتَين الجميلتَين الفضوليتَين. ألقيا نظرة سريعة على ثيابي وبنطال ركوب الخيل الجديد تمامًا الذي كنت أرتديه، وحذائي الطويل المُلطخ، وقُبعتي ذات الحافة العريضة. رفعت قبعتي وانحنيتُ بأفضل شكلٍ ممكن.

قلت: «سيدتي، يجِب أن أستميحك عذرًا على دخول حديقتك دون إذن. الحقيقة أنني وخادمي — الذي ينتظِرني عند أسفل الطريق مع الحصانَين، والذي أظن أنكِ لاحظتِه — خرجنا بعد ظُهر اليوم في جولة بالخيول، وضللنا الطريق تمامًا. دخلنا من بوابتك الخلفية، وكنتُ أبحث عن بابك الأمامي لأجد شخصًا ما يُرشدنا إلى وجهتنا، فاصطدمت بزعيم قُطاع الطرق ذاك الذي لم يفهم كلامي. أنا أمريكي، وجئتُ إلى هذا البلد بخصوص مسألةٍ حكومية مهمة. أكره أن أُزعجك، ولكن إذا تكرمتِ بإرسال رجلٍ معي يُرينا كيف نصل إلى المدينة، فسأكون في غاية الامتنان لك.»

لم تُفارق عيناها وجهي قط. قالت بالإنجليزية: «هلا تدخل السيارة؟ في المنزل سأبعث معك خادمًا يُرشدك إلى وجهتك.»

سحبَت إليها أطراف عباءتها المصنوعة من الفرو المُترامية لتُفسِح مكانًا لي، وجلستُ بحذائي الموحِلِ وثيابي التي تقطر ماءً على المقعد الذي أشارت إليه. قالت كلمة بالتركية لساندي، وأطفأت الضوء، وواصلت السيارة طريقها.

لم أصادف كثيرًا من النساء في حياتي من قبل، وكنتُ أجهل الكثير من طبائعهن كجهلي باللغة الصينية. فطوال حياتي كنتُ أعيش مع الرجال فقط، بل حشد من الرجال الغلاظ. عندما جنَيتُ ثروتي وعدتُ إلى وطني، كنت أتطلَّع إلى معايشة مجتمعٍ راقٍ صغير، لكني كُلِّفت بمهمة جماعة «بلاك ستون» أولًا، ثم خضت غمار الحرب؛ لذا تضاءلَت معرفتي بفنون التعامُل مع النساء. لم أركب سيارة مع سيدة راقية من قبل، وشعرت كأنني سمكة على ركام رمليٍّ جاف. ملأتني الوسائد اللينة والروائح الرقيقة بإحساس شديد من عدم الارتياح. لم أكن أُفكر آنذاك في كلمات ساندي المُنذِرة بالخطر، ولا في تحذير بلنكيرون، ولا في مهمتي والعلاقة المؤكدة بينها وبين تلك المرأة. كان كل تفكيري منصبًّا على شعوري المُميت بالخجل. وزاد الظلام الطين بلة. كنت متيقنًا من أنَّ رفيقتي تنظر إليَّ طول الوقت وتضحك عليَّ لأنها تراني مهرجًا.

توقفت السيارة، وفتح خادم طويل القامة الباب. كانت السيدة فوق عتبة المنزل قبل أن أصل إلى درجة المدخل حتى. تبعتُها بخطوات مُتثاقلة، وكان حذائي الطويل يُصدِر صوتًا كإسفنجةٍ مضغوطةٍ من شدة بللِه. لاحظتُ عندئذٍ أنها طويلة جدًّا.

قادتني عبر ممرٍّ طويل إلى غرفةٍ فيها عمودان يحملان مِصباحَين على شكل مشعلَين. كان المكان مُظلمًا خاليًا من أي أنوار باستثناء نورهما، وكان دافئًا كالصوبة بفضلِ مواقد غير مرئية. شعرتُ بملمس سجادٍ ناعم تحت قدميَّ، ووجدت على الحوائط سجاجيد ومنسوجات جدارية ذات نقوشٍ هندسية مُذهلة التعقيد، لكن كل جديلةٍ من خيوطها كانت ثمينة كالجواهر. وهناك، بين العمودَين، استدارت وواجهتني. كانت فراؤها مُنسدلةً إلى الوراء، وكانت الطرحة الإسبانية السوداء منزلقة إلى كتفَيها.

قالت: «سمعتُ عنك. تُدعى ريتشارد هاناو، الأمريكي. لماذا أتيت إلى هذه الأرض؟»

قلت: «لأُشارك في الحملة. فأنا مهندس، وأعتقد أنني أستطيع المساعدة في مهمةٍ كتلك الجارية في بلاد الرافدَين.»

سألتني: «هل أنت منحاز إلى ألمانيا؟»

أجبتُها: «أجل بالطبع. فنحن الأمريكيين يُفترَض أن نكون مُحايدين، وهذا يعني أننا أحرار في اختيار الانحياز إلى أي جانبٍ نُريده. وأنا مع القيصر.»

تفحَّصتني بعينَيها الباردتَين، لكن دون ارتيابٍ في نظراتها. رأيتُ أنها لم تشغل بالها بالشك في صدق كلامي أو عدمه. بل كانت تقيِّمني بصفتي رجلًا. لا أستطيع وصف تلك النظرة الهادئة التقييميَّة. لم يكن فيها أي انجذابٍ جنسي، ولا ذرة حتى من ذاك التعاطف الضِّمني الذي يُفترَض أن يستكشف به الإنسان كينونة إنسانٍ آخر. كنتُ مجرد مَتاع، مجرد شيء جُرِّد من أي فرصةٍ لتذوُّق الأُلفة المفترَضة بين البشر. لكني أنا شخصيًّا أمعن النظر في أي حصانٍ أنوي شراءه، وأتفحص كتفَيه وعراقيبه ومِشيته. ومن المؤكد أيضًا أنَّ أمراء القسطنطينية القدامى كانوا يتفحَّصون العبيد الذين جلبتهم الحرب إلى أسواقهم، ويُقيِّمون مدى منفعتهم في مهمةٍ أو أخرى دون أي تفكيرٍ في إنسانية مشتركة بين المشترَى والمشترِي. لكن المسألة لم تكن هكذا بالضبط. فنظرات تلك المرأة لم تكن تُقيِّمني من أجل أي مهمةٍ خاصة، ولكن لاستكشاف سِماتي الأساسية. شعرتُ بأنني أخضع للتدقيق من شخصٍ خبير في الطبيعة البشرية.

أعرف أنني كتبتُ أنني لا أعرف شيئًا عن النساء. لكن كل رجل لدَيه وعي بالجنس الآخر مُتأصل بداخله. كنت خجلًا ومرتبكًا، لكني كنتُ مبهورًا بشدة. فهذه المرأة الرشيقة، بوقفتِها الثابتة الرائعة كتمثالٍ بين المصباحَين المرتكزَين على العمودين، وشعرها الفاتح الذي يعلو رأسها كغيمة، ووجهها الرقيق الطويل، وعينَيها اللامعتَين بزُرقتهما الباهتة، كان لها سِحر كسحر حُلمٍ جامح. كنت أكرهها كرهًا غريزيًّا، كرهًا شديدًا، لكني كنتُ أتوق لإثارة اهتمامها. فتقييمي بنظراتٍ باردة من هاتَين العينَين أهان رجولتي، وشعرت بالغلِّ يحتدِم في نفسي. فأنا رجل قوي حَسن البنيان، طويل بعض الشيء، وغيظي جعل جسدي جامدًا، من شعري إلى أخمص قدمي. رفعت رأسي في شموخ، وبادلتها النظرة الباردة بنظرةٍ باردة مثلها، والكبرياء بكبرياء.

أتذكر أنني ذات مرة، حين كنتُ على متن سفينةٍ ما، صادفتُ طبيبًا يهوى ممارسة التنويم المغناطيسي، أخبرَني بأن إحساسي أشد تبلدًا من أي شخصٍ قابلَه في حياته. قال لي إنني شِبه مُحصَّن ضد التنويم المغناطيسي كجبل تيبل. بدأتُ أُدرك فجأة أنَّ هذه المرأة كانت تحاول السيطرة عليَّ بتعويذةٍ ما. فقد صارت عيناها أوسعَ وأشدَّ لمعانًا، وشعرتُ لوهلةٍ بإرادةٍ تُقاتل لإخضاع إرادتي. شعرت أيضًا، في اللحظة نفسها، برائحةٍ غريبة ذكَّرتني بتلك الساعة المحمومة التي قضيتُها في كوخ حديقة كوبراسو. مرَّ ذلك بسرعة، ورأيتُ عينَيها ترتخِيان لثانية. بدا لي أنني قرأتُ فيهما الفشل، لكنه أيضًا كان ممزوجًا بشيءٍ من الرضا، كأنها وجدت فيَّ أكثر ممَّا كانت تتوقَّعه.

قالت بصوتها الناعم: «كيف كانت حياتك؟»

فوجئتُ قليلًا بأنني استطعتُ الردَّ بصورةٍ طبيعية. قلت: «كنت مهندس تعدين في أرجاء مختلفة من العالم.»

«واجهتَ الخطر مرات عديدة؟»

«واجهتُ الخطر.»

«حاربتَ مع رجال في معارك؟»

«حاربتُ في معارك.»

ارتفع صدرها ونزل مُتنهدًا. ارتسمَت على وجهها ابتسامة لحظية غاية في الجمال. ثم مدَّت إليَّ يدَها. وقالت: «الحصانان عند الباب الآن، وخادمك معهما. سيُرشدك أحد رعيَّتي إلى المدينة.»

استدارت منصرفةً وخرجت من دائرة الضوء إلى غياهب الظلام المُخيِّم وراءها …

هرولتُ أنا وبيتر بالحصانَين إلى المنزل تحت المطر، في حين كان أحد رفاق ساندي ذوي الثياب الجِلدية يركض خببًا بحصانه بجوارنا. لم نتفوَّه بأي كلمة؛ فقد كانت أفكاري تركض ككلاب الصيد وراء أحداث الساعات الماضية. لقد رأيتُ هيلدا فون آينم الغامضة، وتحدثتُ إليها، وأمسكتُ يدَها. صحيح أنها وجهت إليَّ إهانةً خفية جدًّا، لكني لم أكن غاضبًا. فجأة تغلَّفَت اللعبة التي كنتُ ألعبها جديةً هائلة. بدا أنَّ خصومي القدامى، شتوم وراستا والإمبراطورية الألمانية كلها، تقلصوا وتوارَوا في الخلفية، تاركين المرأة الرشيقة وحدَها، بابتسامتها الغامضة وعينَيها النَّهِمتَين. وصفها بلنكيرون من قبل بأنها «مجنونة وخبيثة، لكن خبثها هو السمة الأساسية». لم أرَ أنَّ هذه كانت الألفاظ المناسبة؛ لأنها تنتمي إلى العالم الضيِّق الذي نعيش فيه تجاربنا العادية. أمَّا تلك المرأة، فكانت تتجاوزه وتفوقه، كما يشذُّ الإعصار أو الزلزال عن طبيعة الكون المألوفة. ربما كانت مجنونةً وخبيثة، لكنها كانت عظيمة أيضًا.

قبل وصولنا، قبض مُرشدنا على ركبتي بقوة، وتحدث ببضع كلمات كان من الواضح أنه حفظها عن ظهر قلب. أبلغني برسالة ساندي قائلًا: «الزعيم يقول لك أن تترقَّب وصوله عند منتصف الليل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤