الفصل السادس عشر

خان المسافرين المُتهالك

بعد ذلك بيومَين، وصلنا مساء إلى أنقرة، التي كانت أولى محطات رحلتنا.

كنا قد تسلَّمنا جوازات السفر في صباح اليوم التالي، كما وعدَتْنا السيدة فون آينم، ومعها خارطةٌ لرحلتنا. وفوق ذلك خصَّصَت فردًا من عصبة «الرفاق» ذا درايةٍ بسيطة بالإنجليزية ليُرافقنا، وكان ذلك إجراءً احترازيًّا حكيمًا؛ لأننا كلنا لم نكن نفقه شيئًا من اللغة التركية إطلاقًا. كان هذا مُجمل ما لدينا من تعليمات. ولم أسمع شيئًا آخر عن ساندي أو ذي العباءة الخضراء أو السيدة بعد لقائنا الأخير. فقد كان مُقررًا أن تسافر مجموعتنا هذه وحدَها.

ذهبنا إلى أنقرة عبر السكة الحديدية؛ إذ ركبنا عربة نوم ألمانية مريحة جدًّا ملحَقة بنهايةِ قطار عسكري. لم تتسنَّ لنا رؤية كثير من المناظر الريفية؛ لأننا بعدما غادَرْنا مضيق البوسفور اصطدمنا بهبوبِ نُدَف ثلجية، ولم يكن لديَّ أي فكرةٍ عن المنظر الطبيعي المُحيط بنا باستثناء شعوري بأننا كنا نصعد هضبةً كبيرة. قضينا وقتًا مُمتعًا، وكانت هذه معجزة لأن ذلك المسار كان أشدَّ اكتظاظًا من أيِّ مكانٍ رأيته في حياتي. فالمكان كان مزدحمًا بالجنود العائدين من جاليبولي، ووجدتُ كل مسارٍ جانبي مُكتظًّا بشاحنات المؤن والإمدادات. وعندما كنا نتوقف — بمعدل مرة كل ساعة في المتوسط تقريبًا — كنا نرى معسكراتٍ شاسعة على جانبَي مسار القطار، وكثيرًا ما صادفْنا أفواجًا من جنود راجِلِين عبر مسار السكة الحديدية. بدَوا مجموعةً رائعة حَمولة من الأوغاد المتوحِّشين، لكن كثيرين منهم كانوا في حالة رثة مؤسِفة، ولم تُعجبني أحذيتهم. تساءلتُ كيف سيقطعون الأميال الخمسمائة المؤدية إلى أرضروم.

سلَّى بلنكيرون نفسه بلعبة سوليتير بأوراق اللعب، فيما جربتُ أنا وبيتر لعبة بيكيه الثنائية، لكننا كنا ندخن ونثرثر أغلب الوقت. فالابتعاد عن تلك المدينة اللعينة قد بث في نفوسنا بهجة عجيبة. كنا في تلك اللحظة على الطريق المفتوح، حيث كنا نتحرك نحو صوت المدافع. حتى في أسوأ الأحوال لن نَهلِك كالجرذان في أنابيب المجاري. بل وسنكون كلنا معًا أيضًا، وكان في ذلك عزاء لنا. أظن أننا كنا نشعر بالارتياح الذي ينتاب المرء عند إعادته إلى كتيبته بعد اغترابه عنها في موقع عسكري منعزل. وفوق ذلك، فزمام المسألة قد انفلت تمامًا من أيادينا. لم يكن مُجديًا أن نُخطط وندبر؛ فلا أحد منَّا كان يحمل أدنى فكرة عن ماهية الخطوة التالية. كنا آنذاك قَدَريِّين مؤمِنين بقسمة الرب، وهذا الإيمان بث الطمأنينة في نفوسنا.

كلنا عدا بلنكيرون. فدخول هيلدا فون آينم في المسألة قد أصابه بنفور شديد. كان من المُثير للاهتمام أن أتأمَّل تأثير تلك المرأة في مختلف أفراد عُصبتنا. ولم يكن بيتر مهتمًّا إطلاقًا؛ إذ لم يكن يُفرِّق بين رجلٍ وامرأة ومخلوق أسطوري حتى؛ لذا واجه المسألة كلها بمنتهى الهدوء كما لو كان يُخطط لاصطياد أسد عجوز في رقعة من الشجيرات، متقبلًا الحقائق كما هي، متعاملًا معها كمسألة حسابية. أمَّا أنا وساندي، فكنا مبهورين، لا جدوى من إنكار ذلك، كنا مبهورين إلى حدٍّ رهيب، لكننا من فرط اهتمامنا لم نكن نشعر بخوف، ولم نكن مفتونَين بها إطلاقًا. بل كنا نكرهها بشدة. لكنها أفقدت بلنكيرون النطق. قال بنفسه إنَّ الأمر أشبه تمامًا بلقاء بين أفعى مجلجلة وطائر.

جعلتُه يتحدث عنها؛ لأنني ارتأيتُ أن حالته ستسوء لو جلس وأطال التفكير فيها باكتئاب. استغربتُ أن أجد هذا الرجل — الذي كان في رأيي أشد اتزانًا وأشجع من أي رجلٍ آخر قابلته في حياتي — عاجزًا هكذا بسبب امرأةٍ نحيفة. لم يكن ثمة شك في هذا. فالتفكير فيها جعل المستقبل أمامه حالك السواد كغيمةٍ رعدية. لقد انتزعَتِ القوة من مفاصله، وبدا أنها إذا وُجدت معه في نفس المكان كثيرًا، فقد يعجز عن إكمال المهمة.

ألمحت إلى أنه مُغرم بها، لكنه أنكر ذلك بشدة.

«كلَّا يا سيد، لا أحمل عاطفةً من أي نوع تجاه السيدة. مشكلتي أنها تُربكني، ولا أستطيع التعامُل معها باعتبارها عدوة. أظن أننا، نحن الأمريكيين، نفتقر إلى رباطة الجأش المناسبة للتعامُل مع هذا النوع من الإناث. لقد عظَّمنا قدر نسائنا حتى أصبحن إلهاتٍ صغيرات من الصفيح، وفي الوقت نفسه تركناهن خارج مُعترك الحياة العملية الفعلي. لذا فحين نُصادف امرأة تؤدي أصعب نوع من الأدوار الرجالية، لا نستطيع استيعابها. فلسنا مُعتادين أن نعتبرهنَّ سوى ملائكة وطفلات. ليتني حظيتُ بتنشئةٍ كالتي حظيتم بها يا أولاد.»

كانت أنقرة مُشابهة لتصوُّري عن مكانٍ مثل أميان أثناء الانسحاب من مونس. فكانت كتلةً واحدة من القوات ومركبات النقل، بدت كعنق الزجاجة لأنها كانت تستقبل مزيدًا من الوافدين كل ساعة، دون وجود أي مخرجٍ متاح سوى الطريق الوحيد المؤدي إلى الشرق. وجدنا البلدة في حالةٍ من الهرج والمرج، في حين كان ضباطٌ ألمان مشتتون يُحاولون فرض بعض النظام عليها. لم يشغلوا بالَهم بنا؛ إذ كان من المستبعد العثور على شخصيات مشبوهة في قلب الأناضول. أخذنا جوازات سفرنا إلى القائد، الذي أشَّر عليها فورًا، ووعدَنا بأنه سيبذل كل ما بوسعه ليُدبر لنا وسيلة نقل. بِتنا الليلة في مكانٍ شبيه بالفندق، حيث تكدَّسنا نحن الأربعة كلنا في غرفة نوم واحدة صغيرة، وفي صباح اليوم التالي جلبتُ لنا سيارة بصعوبة بالغة. فقد استغرقتُ في ذلك أربع ساعات، واستعنتُ بكلِّ اسمٍ بارز في الإمبراطورية التركية لأجلب سيارة حقيرة من طراز ستوديبيكر، وساعتَين أخريَين لأحصل على الوقود والإطارات الاحتياطية. لكني لم أستطع العثور على سائق بشتَّى السُّبُل، واضطُررت إلى قيادة ذلك الشيء بنفسي.

غادرنا بعد منتصف النهار مباشرة، وخرجنا متأرجِحين بالسيارة إلى وسط رَوابٍ متموِّجة قاحلة جرداء مُرقَّعة بأراضٍ حرجية قصيرة الشجيرات. لم يكن هناك ثلوج، لكننا اصطدمنا بهبوب رياحٍ شرقية كانت تخترق النخاع. وبعد قليلٍ صعدنا إلى تلال، وصار الطريق وعرًا كقعرِ مجرًى مائي، مع أنَّ حالته الأصلية التي أُنشئَ عليها لم تكن سيئة. ولا عجب في ذلك؛ لأنَّه كان يشهد زحامًا مروريًّا كالذي رأيتُه من قبل على ذاك الطريق البشِع الواصل بين كاسل وإيبر، ولم تكن توجَد فِرَق من عمَّال إنشاء الطرُق البلجيكيِّين لإصلاحه. وجدنا جنودًا بالآلاف يمشون في نفس اتجاهنا مُسرعي الخُطى بوجوه تركية جامدة الملامح، وقوافل من الثيران، وقوافل من البغال، وعربات تجرُّها خيول أناضولية صغيرة قوية، أمَّا الاتجاه المعاكس، فكان فيه مجموعةٌ كبيرة قادمة من سيارات الهلال الأحمر المُتهالِكة وعربات نقل الجرحى. اضطُررنا إلى الزحف ساعاتٍ طويلةً متواصلة حتى تجاوزنا أحد الانسدادات المرورية. وقبل حلول الظلام بقليل، بدا أننا سبقنا التكدُّس المروري الأول، وقطعنا نحو عشرة أميال بلا معوقات عبر ممرٍّ منخفض وسط التلال. بدأتُ أقلق على السيارة؛ لأنها كانت سيارة رديئة حتى في أحسن حالاتها، ولأنني كنتُ متيقنًا من أنَّ الطريق سيحوِّل أي سيارة إلى قطعةٍ من الحديد الخردة عاجلًا أو آجلًا، حتى وإن كانت من طراز رولز رويس.

لكني مع ذلك كنت مبتهجًا بالخروج إلى الهواء الطلق مجددًا. اكتسى وجه بيتر بمظهرٍ جديد، وأخذ يستنشق الهواء القارس كأنه ظبي. كان الجو مُحملًا برائحة دخانِ حطبٍ وحرائق روثٍ منبعثة من معسكرات صغيرة على جانب الطريق. وتلك الرائحة، مع الرائحة الشتوية اللاذعة الغريبة المُنبعثة من المساحات الشاسعة التي تضربها الرياح، ستظل تراود ذاكرتي دومًا كلما تذكرتُ ذاك اليوم. كنت أزداد طمأنينة وعزمًا في كل ساعة. شعرتُ بالإحساس نفسه الذي راودَني في أول مرة زحفَت فيها كتيبتي من بلدة إير نحو خط القتال، والذي كان أشبه بمزيج من الترقب والتوقع الجامح. فأنا لستُ معتادًا المدن، والتسكعُ في أرجاء القسطنطينية قد أوهنَ هِمتي. أمَّا في تلك اللحظة، ومع هبوب الرياح القارسة، فكنتُ أشعر بأنني مُستعد لأي نوع من الأخطار. كنا على الطريق الرئيسي المؤدي إلى الشرق والتلال الحدودية، وكنا نقترِب من أبعد جبهة قتالية في الحرب. لم تعُد هذه مهمةً استخباراتية عادية. فقد انتهى كل هذا، وكنا حينئذٍ في طريقنا إلى منطقة إطلاق النار، حيث سنشارك في سقوط أعدائنا المُحتمل. لم أفكر في أننا كنَّا بين هؤلاء الأعداء بالفعل، وأننا قد نشاركهم سقوطهم، إن لم نُردَ قتلى بالرصاص قبلها. ففي الحقيقة كنت قد توقفت عن اعتبار الأمر صراعًا بين جيوش وأمم. لم أشغل بالي بالتفكير في محلِّ تعاطُفي وانحيازي. بل كنت أعتبر المسألة، في المقام الأول، صراعًا بيننا نحن الأربعة وامرأة مختلة، وهذا العداء الشخصي جعل صراع الجيوش مجرد شيءٍ هامشي باهت.

نمنا تلك الليلة هامدين بلا حراك كجذوع الأشجار على أرضية خان قذرة، وانطلقنا في صباح اليوم التالي وسط حُبَيبات الثلج. كنا على ارتفاعٍ شاهق جدًّا حينئذٍ، وكان البرد مُهلكًا. كان عضو عصبة «الرفاق» المصاحب لنا — الذي كان اسمُه حسين تقريبًا — قد قطع ذاك الطريق من قبل، وظل يُخبرني بأسماء الأماكن التي كنا نمرُّ بها، لكني لم أفهم شيئًا منها. ظللنا طوال الصباح نسير مُتعرِّجين وسط عددٍ كبير من القوات كانوا يُشكلون لواءً على الأقل، ويمضون قُدمًا بمشية عسكرية منتظمة بوتيرةٍ سريعة، وخطوات متحررة جميلة لا أظن أنني رأيتُ أفضل منها من قبل. يجب أن أقول إنني كنتُ معجبًا بالمقاتل التركي، تذكرتُ شهادة رفاقنا له بأنه مقاتل شريف، وتحسرتُ بشدة على أنَّ ألمانيا دفعته إلى هذا المعترك القذر. توقفوا لتناول وجبة، وتوقفنا نحن أيضًا، وتغدَّينا ببعض الخبز الأسمر والتين المجفف وقارورة من نبيذ حامض جدًّا. تبادلت بضع كلمات مع أحد الضباط الذي كان يتحدث الألمانية قليلًا. أخبرني بأنهم متجهون نحو روسيا مباشرة؛ لأنَّ تركيا أحرزت نصرًا عظيمًا في القوقاز. قال بجمودٍ كأنه يردد درسًا ملقَّنًا: «هزمنا الفرنسيين والبريطانيين، والآن حان دور روسيا.» لكنه أضاف أن الحرب قد أعيَته بشدة حدَّ الموت.

تجاوزنا طابور القوات بعد الظهر، وظللنا نسير في طريق مفتوح بضع ساعات. كانت الأرض حينئذٍ مائلة نحو الشرق، كأننا نتحرك نحو وادي نهر كبير. وسرعان ما بدأنا نصادف مجموعاتٍ صغيرة من رجالٍ قادمين من الشرق بنظرة جديدة في وجوههم. كانت مجموعات الجرحى الأولى مُشابهة لمظهر الجرحى المعتاد على كل جبهة، ورأيتُ محاولات شكلية للتحلي بشيءٍ من النظام. لكن هذه المجموعات الجديدة كانت منهكة ومحطمة تمامًا؛ إذ كان أغلب أفرادها حفاة، وبدا أنهم فقدوا وسيلة نقلهم وكانوا يتضوَّرون جوعًا. كنا نجد مجموعةً منهم مُمدَّدين على جانب الطريق في أقصى درجات الإعياء. ثم كنا نجد آخرين سائرين بخطوات عرجاء وإنهاكٍ شديد إلى حد أنهم كانوا لا يلتفتون لينظروا إلينا قط. كانوا كلهم تقريبًا مُصابين، بعضهم بجروح بليغة، وبدا على معظمهم النحول الشديد. تساءلتُ كيف سيشرح صاحبي الضابط التركي القادم على الطريق من خلفنا ذاك المنظر لرجاله، إذا كان يؤمن بأنَّ بلاده حققت نصرًا عظيمًا. فلم يكن يبدو عليهم أنهم بقايا جيش منتصر.

حتى بلنكيرون، الذي لم يكن جنديًّا، لاحظ ذلك.

قال: «هؤلاء الأولاد يبدون بحالة بشِعة. علينا أن نسرع يا سيادة الميجور إذا أردنا أن نجد مقاعد لمشاهدة الفصل الأخير.»

كان هذا رأيي أنا أيضًا. فالمنظر جعلني متلهفًا بجنون للإسراع؛ لأنني رأيتُ أنَّ الشرق يشهد أحداثًا كبرى. كنت أحسبُ أنَّ أربعة أيامٍ ستكفي لتأخذنا من أنقرة إلى أرضروم، لكنَّا صِرنا على مشارف نهاية اليوم الثاني ولم نبلُغ ثلث الطريق بعد. ضغطت على دواسة الوقود بتهوُّر، وهذه العجلة جلبت خرابًا على رءوسنا.

ذكرتُ لكم أن سيارة ستوديبيكر كانت قديمة ورديئة جدًّا. فكان نظام التوجيه فيها مُختلًّا بشدة، وازداد الطين بلةً بسبب سطح الطريق السيئ وانعطافاته الحادة المُتكررة. سرعان ما وصلنا إلى أرض مكسوة بجليد سميك جدًّا، ومتجمِّد بشدة، ومليء بأخاديد طولية من آثار سير عربات النقل الكبيرة. ظللنا نتخبَّط ونتقافز، وكنا نهتز كحبات أرزٍ في بالون منفوخ. بدأت أقلق بشدة على تلك المركبة المتداعية القديمة، خصوصًا أننا كنا نبدو بعيدِين جدًّا عن القرية التي اقترحتُ أن نبيت فيها. كان الشفق يُسدل أستاره وكنا ما نزال في أرضٍ مُقفرة بلا ملامح، حيث كنا نعبر واديًا ضيقًا ضحلًا لمجرًى مائي. وجدنا هناك جسرًا مشيدًا بجذوع الشجر والتُّراب عند أسفل منحدَر، وبدا أنه قد قُوِّي بمزيدٍ من الدعامات مؤخرًا ليتحمل الكثافة المرورية الشديدة. وبينما كنا نقترِب منه بسرعةٍ كبيرة، لم تعد السيارة تستجيب لعجلة القيادة.

بذلت جهدًا مُضنيًا لأُبقيها في مسارٍ مُستقيم، لكنها انحرفت يسارًا وطارت من فوق ضفة جانبية وغاصت بنا في منخفَضٍ سبخ. تعرضنا لارتطامٍ أصابنا بالغثيان حين اصطدمنا بالأرض السفلية، وقُذف الرجال كلهم خارجًا في الوحل الجليدي المتجمِّد. لا أعرف حتى الآن كيف أفلتُّ سالمًا؛ لأن السيارة انقلبت وكان من المفترض أن ينكسر ظهري. لكن لم يتأذَّ أحد. كان بيتر يضحك، وشاركه بلنكيرون الضحك بعدما نفض الثلج عن شعره. أما أنا، فكنت أفحص السيارة كالمسعور. كانت في أبشع حالة مُمكنة؛ لأن محور العجلات الأمامية كان مكسورًا.

عندئذٍ لعنتُ سوء حظي وشعرت باليأس. فقد كنا عالِقين وسط آسيا الصغرى بدون أي وسيلة نقل؛ لأن الحصول على محور جديد كان مستحيلًا كاستحالة العثور على كراتٍ ثلجية في الكونغو. كان الظلام على وشك الحلول، ولم يكن لدَينا وقت نضيعه. أخرجت عبوات الوقود والإطارات الاحتياطية وخبأتها وسط صخور على جانب التل. ثم جمعنا أمتعتنا القليلة من سيارة ستوديبيكر المهجورة. كانت كل آمالنا معلقة على حسين. كان عليه أن يجد لنا مكانًا للمبيت، على أن نحاول في اليوم التالي الحصول على أحصنة أو استقلال أي عربة عابرة. لم يكن لديَّ أمل في الحصول على سيارة أخرى. فكل السيارات في الأناضول آنذاك ستكون قليلة وباهظة.

كان حادثًا مؤسفًا بغيضًا جدًّا إلى حد أننا كلنا تقبلناه بهدوء. فما كانت الشتائم النابية لتفيدنا بشيء. انطلق حسين وبيتر في اتجاهَين مختلفَين من الطريق بحثًا عن منزل، وأَويتُ أنا وبلنكيرون إلى أسفل أقرب صخرة، وأخذنا ندخن بشراهة.

كان حسين هو أول مَن وجد ما ينِّقب عنه. فقد عاد بعد عشرين دقيقة مُخبرًا إيَّانا بأنه وجد مسكنًا ما على بُعد ميلَين بمحاذاة مجرى النهر. ثم ذهب ليُحضر بيتر، وحملت أنا وبلنكيرون أمتعتنا، ومشَينا بخطوات متثاقلة بمحاذاة النهر. كان الظلام قد اشتدَّ بحلول ذلك الوقت، وتعرَّضنا لعدة تعثُّرات سيئة وسط البرك المُستنقعية. وعندما لَحِق بنا حسينٌ وبيتر، وجدا طريقًا أفضل، وسرعان ما رأينا وميضًا مرتعشًا من الضوء في المنخفَض الواقع أمامنا.

تبيَّن أنها مزرعة مُتهالكة بائسة وسط أيكة من أشجار الحور، مكونة من ساحةٍ موحلة كريهة الرائحة، وكوخ حقير من غرفتَين للسَّكَن، وحظيرة كانت جافة بعض الشيء، فاخترناها لننام فيها. كان المالك رجلًا عجوزًا مُحطمًا منهكًا عرفنا منه أنَّ أبناءه جميعًا قد سافروا للمشاركة في الحرب، واستقبلَنا بهدوء عميق ينمُّ عن شخص لا يتوقع من الحياة سوى الكدر.

كنا بحلول هذا الوقت قد تمالكنا أعصابنا مجددًا، وكنت أحاول جاهدًا تطبيق فلسفتي الجديدة المؤمنة بقسمة الرب. ارتأيتُ أنه إذا كانت الأخطار مقدَّرة على المرء سلفًا، فالصعوبات أيضًا كذلك، وأننا يجب أن نتقبَّل الاثنتَين باعتبارهما جزءًا من الحياة اليومية. أشبعنا جوعنا ببقايا مُؤَنِنا وبعض الحليب الرائب، وتقوقعنا بين قش البازلاء في الحظيرة. أعلن بلنكيرون بتنهيدةٍ تفوح بالسعادة أنه لم يشعر بعُسر الهضم طوال اليومَين الماضيين.

أتذكَّر أنني رأيتُ حلمًا غريبًا في تلك الليلة. رأيتني كأنني في مكان مقفر وسط جبال، وكنت مطارَدًا، لكني لم أستطع معرفة هوية مُطارِدي. أتذكر أنني كنتُ أتعرق من الخوف؛ لأنني بدوت وحدي تمامًا، ولأن الشيء المرعب الذي كان يُلاحقني بدا أفظع من مجرد قوة بشرية عادية. كان المكان هادئًا ساكنًا إلى حد رهيب، وكانت كل أرجائه مغطاةً بثلوج سميكة لدرجة أنني شعرتُ بأن كل خطوةٍ كنت أخطوها ثقيلة كالرصاص. ستقولون إنه كابوس عادي جدًّا. هذا صحيح، لكن كان فيه شيء غريب. فالليل كان حالك السواد، لكني رأيتُ في الممر الضيق أمامي بقعةً من الضوء كشفَت لي عن تلٍّ صغير عجيب ذي قمة صخرية مجوفة، على غرار التلال التي نُشبِّهها في جنوب أفريقيا بقدور الطعام. خطر ببالي أنني إذا استطعت الوصول إلى هذا التل فسأنجو؛ لذا ركضتُ لاهثًا نحوَها وسط أكوام الثلج، في حين كان ولي الدم يُلاحقني. استيقظتُ لاهثًا لأجد ضوء الصباح الشتوي يحاول أن يتخلل عوارض السقف الخشبية المُتشقِّقة، وسمعتُ بلنكيرون يقول مبتهجًا إنَّ أمعاءه كانت مهذبة طوال الليل. استلقيتُ في سكون بعض الوقت محاولًا تثبيت الحلم في ذهني، لكنه تلاشى كله إلى ضبابٍ باستثناء صورة التل الصغير، الذي كان جليًّا تمامًا بكل تفاصيله. قلت لنفسي إنها ذكرى لمكانٍ ما في السهوب البرية في ريف واكرستروم بجنوب أفريقيا، لكني لم أستطع تذكُّر موضعه بدقة، مع أنني بذلت كل جهدي في ذلك.

لن أخوض في تفاصيل الأيام الثلاثة التالية؛ لأنها كانت سلسلة مُتواصلة من خيبات الأمل الشديدة. مشَّط حسين وبيتر الريف بحثًا عن أحصنة، وجلس بلنكيرون في الحظيرة ولعب بورق اللعب، في حين ظللت أنا أتردد على جانب الطريق قرب الجسر لعلِّي أجد وسيلة نقلٍ من أي نوع. لكن مهمتي باءت بالفشل الذريع. مرَّت بي طوابير القوات، وكانوا يرمقون السيارة المُحطَّمة وسط الأعشاب المُستنقعية المتجمدة بعيونٍ متسائلة، لكنهم لم يستطيعوا تقديم أي مساعدة. وعدَني صديقي الضابط التركي بأن يبعث برقيةً من أقرب مكان متاح إلى أنقرة لاستدعاء سيارة جديدة، لكني تذكرتُ الوضع في أنقرة، فلم أُعلِّق أي أمل على ذلك. مرَّت بي سيارات كثيرة مكتظة بضباط أركان أتراك وألمان، لكنهم كانوا أشدَّ استعجالًا حتى من أن يتوقفوا ويتحدثوا. الاستنتاج الوحيد الذي خرجتُ به من طول انتظاري على جانب الطريق أن الوضع كان يزداد احتدامًا بجوار أرضروم. فكل مَن صادفته على هذا الطريق كان في عجلة جنونية إمَّا للوصول إلى هناك وإما للفرار من هناك.

كان حسين أفضل فرصة لنا؛ لأن عصبة «الرفاق»، كما قلت، كانت تحظى بنفوذٍ خاص وغريب جدًّا في كل أنحاء الإمبراطورية التركية. لكنه في اليوم الأول عاد خاوي الوفاض. قال إنَّ الخيول كلها خُصصت للحرب بأوامر عُليا، وإنه — وإن كان متيقنًا من أن بعض أصحاب الخيول قد امتنعوا عن تسليم خيولهم وأخفَوها — لم يستطع العثور على أي حصان. وفي اليوم الثاني عاد بحصانَين مُنهكَين بائسَين لاهثين بحالة يُرثى لها من العيش على تناول الفول فقط. فالريف لم يكن متبقيًا فيه أي غذاءٍ مناسِبٍ من الذُّرة أو التبن. وفي اليوم الثالث تَحصَّل على فحلٍ عربي ضئيل مقبول، صحيح أن حالته كانت سيئة، لكنه كان سليمًا تمامًا. دفعنا ثمنًا باهظًا مقابل تلك البهائم؛ لأن بلنكيرون كان موسرًا، ولأننا لم يكن لدينا وقت نُهدره في المساومة الشرقية التي لا تنتهي.

قال حسين إنه قد مشَّط الريف كله، وصدقتُه. لم أكن أجرؤ على التأخُّر يومًا آخر، حتى وإن كان ذلك يعني تركه ورائي. لكنه لم يكن ينوي تركنا إطلاقًا. فقد قال إنه عدَّاء سريع، ويستطيع مواكبة سرعة خيولٍ كخيولنا تلك حتى وإن ظلَّ يركض بجوارها إلى الأبد. عندئذٍ حسبتُ أننا لن نصل إلى أرضروم قبل عدة أسابيع إذا كانت هذه هي وتيرة سيرنا.

انطلقنا في فجر صباح اليوم الرابع بعدما تمنَّى لنا المزارع العجوز رحلة موفقة، وباع لنا بعض خبز الجاودار البائت. امتطى بلنكيرون الفحل العربي لأنه كان الأثقل وزنًا، فيما ركبتُ أنا وبيتر الحصانَين المنهكَين الوضيعَين. وسرعان ما تحققت أسوأ هواجسي المتشائمة، ووجدتُ حسين يسير بجواري بخطواتٍ واسعة متمهلة بعدما لحق بنا بكل سهولة. كنا نسير ببطءٍ شديد كعربة ثقيلة تجرها ثيران. كانت البهائم بلا حدوات، ورأيت أن حوافرها ستتمزق قِطعًا عمَّا قريب من شدة وعورة الطرق. مَضينا قُدمًا ببطءٍ كعربة مقطورة تحمل رحَّالة غجريين، بسرعة لم تتجاوز نحو خمسة أميال في الساعة، عاجزين بلا حيلة لدرجة أننا بدَونا عارًا على طريقٍ سريع بحالتنا تلك.

كانت السماء في تلك اللحظة تمطر رذاذًا خفيفًا، فاشتد اكتئابي. مرت بنا سيارات وتوارت في الضباب، سائرة بسرعة ثلاثين ميلًا في الساعة، ساخرة من بطئنا. لم يتحدث أيٌّ منا؛ لأن عُقم مسعانا أحبط معنوياتنا. عضضتُ بقوة على شفتي لأكبح اهتياجي، وأظن أنني كنت على استعداد لأن أبيع روحي هناك مقابل أي شيء سريع الحركة. فلا أعرف تجربة أشد إيلامًا من أن يكون المرء متلهفًا للوصول بسرعة ويُضطر إلى الزحف ببطء كالحلزون. كنت أزداد تأهبًا لخوض أي مغامرة متهورة.

عند منتصف النهار تقريبًا، نزلنا إلى سهلٍ فسيح مليء بعلاماتٍ تنم على أنه غني بالزراعات. صرنا نرى قرًى كثيرة، ووجدنا الأرض مليئة ببساتين أشجار الزيتون وأخاديد الري. وممَّا تذكرتُه من الخريطة، استنتجتُ أننا نقترب من ذاك الريف المفتوح قُرب مدينة سيفاس، التي تُعَد صومعة حبوب تركيا، وموطن السلالة العثمانية الحقيقية.

ثم وصلنا إلى خان المسافرين عند منعطف الطريق.

كان مكانًا قذرًا متهالكًا، ورأينا رقعًا متساقطة من الجص الوردي الذي يكسو جدرانه. كان هناك فناء ملاصق للطريق، ومبنًى ذو سطح مستوٍ يحمل فجوةً كبيرة في جانبه. كان المكان بعيدًا عن أي ساحة معركة؛ لذا توقعت أن يكون هذا الضرر ناتجًا من انفجارٍ ما. وعلى بُعد بضع مئات الياردات خلفه، رأيت سريةً من أفراد سلاح الفرسان مُخيِّمة بجوار جدول ماء، في حين كانت خيولهم مربوطة في صفوفٍ طويلة من الأوتاد.

وعلى جانب الطريق، وجدنا سيارة كبيرة جديدة متوقفة، كانت وحيدة ومهجورة تمامًا.

لم نرَ في الطريق كله من أمامنا ومن خلفنا رجلًا واحدًا باستثناء الجنود المُخيِّمين بجوار الجدول. لذا أيقنتُ أنَّ مُلاك السيارة، أيًّا كانت هويتهم، موجودون داخل الخان حتمًا.

كنت قد قلتُ إنني راغب في فعل شيء متهور، وللعجب، منحتني العناية الإلهية الفرصة! اشتهيتُ تلك السيارة كما لم أشتهِ أي شيءٍ في الدنيا من قبل. كانت كل خططي في تلك اللحظة منحصرة في شوقٍ محموم إلى بلوغ ساحة المعركة. كان علينا أن نجد ذا العباءة الخضراء في أرضروم، ومن المفترض أننا كنا سنحظى بحماية هيلدا فون آينم فور وصولنا إلى هناك. كنا في وقتِ حربٍ آنذاك، وكان التحلي بالجرأة هو أضمن سبيل إلى الأمان. لكني في الحقيقة لم أستطع التوصل إلى أي خطةٍ تستحق الذكر. لم أرَ سوى شيءٍ واحد؛ سيارة سريعة قد تُصبح لنا.

تبادلت كلمة مع الآخرين، وترجَّلنا من فوق خيولنا وربطناها عند طرف الفناء القريب منَّا. كنت أسمع همهمة خافتة لأصوات الفرسان عند جدول الماء، لكنهم كانوا على بُعد ثلاثمائة ياردة ولم يرَونا. طلبنا من بيتر أن يتقدَّمنا ليستطلِع الوضع في الفناء. لم يكن في المبنى نفسه سوى نافذة واحدة تُطلُّ على الطريق، وكانت موجودة في الطابق العلوي.

في تلك الأثناء زحفتُ بجوار الحائط إلى مكان السيارة، وألقيت نظرةً عليها. كانت سيارة رائعة ذات مُحرك من ستِّ أسطوانات، وجديدة تمامًا مع أنَّ إطاراتها كانت متآكلة قليلًا. وجدت سبع علبٍ صفيحية من البنزين متراصَّة خلفها وإطارات احتياطية، ثم نظرت داخل السيارة، فوجدتُ أجربة خرائط ومناظير ميدانية متناثرة على المقاعد، كما لو أن أصحابها قد خرجوا من السيارة ليُمدِّدوا سيقانهم ويتمشَّوا دقيقة ليس إلَّا.

عاد بيتر وأخبرنا بأنَّ الفناء فارغ.

قال: «يوجَد رجال في الغرفة العلوية، أكثر من واحد؛ لأنني سمعت أصواتهم. إنهم يتحركون بلا توقف، وربما يخرجون قريبًا.»

ارتأيتُ أن لا وقت لدينا لنضيعه، فطلبت من الآخرين أن يتسللوا خلسةً على الطريق وينتظروني على بُعد خمسين ياردة وراء الخان، وأن يكونوا متأهِّبين لركوب السيارة حالما أنطلق بها وأمرُّ بهم. كان عليَّ تشغيل محرك تلك السيارة اللعينة، وربما يترتب على ذلك إطلاق نار.

انتظرتُ بجوار السيارة حتى رأيتهم يصلون إلى المكان المتفق عليه. سمعتُ أصوات رجال قادمة من الطابق الثاني، وخطواتٍ تتحرك جيئة وذهابًا. كنت في غاية القلق؛ فقد كنتُ معرَّضًا لأن يراني أحدهم من النافذة في أي لحظة. ثم ارتميتُ على مقبض تشغيل المحرك، وعملتُ بكلِّ همة.

صعَّب البرد مهمتي، وكنت مرعوبًا؛ لأنَّ الضجيج الذي أحدثتُه في ذلك المكان الهادئ لا بد أنه قد أيقظ حتى الأموات. ثم اشتغل المحرك بفضل الرب، فقفزت فورًا إلى مقعد القيادة، وحللتُ تعشيق القابض، وضغطت دواسة الوقود. انطلقت السيارة الرائعة إلى الأمام، وشعرت بأنني سمعت من ورائي أصواتًا حادة. فوجئتُ برصاصة مسدس تخترق قبعتي، واستقرت رصاصة أخرى في بطانة المقعد بجواري.

وفي غضون لحظة واحدة صرتُ خارج المكان، وكان بقية رفاقي يركبون السيارة. صعد بلنكيرون على المرقاة ودخل إلى المقعد الخلفي متدحرجًا كجوال فحم. وركب بيتر بجواري قافزًا بحركة بهلوانية، ودخل حسين من الخلف بعدما تسلَّق السيارة بالصعود فوق ثنايا سقفها. كانت أمتعتنا في جيوبنا، ولم يكن لدَينا ما نحمله.

انهال علينا الرصاص من حولنا، لكنه لم يُصبنا بأي أذًى. ثم سمعت دويَّ إطلاق نار في أذني، ولمحتُ بيتر بطرفِ عيني يُنزِل مسدسه. وبعد قليل ابتعدنا عن مرمى نيرانهم، وعندئذٍ نظرت إلى الوراء، فرأيت ثلاثة رجال يلوِّحون بإيماءاتٍ منفعلة في منتصف الطريق.

قال بيتر بأسًى: «تبًّا لهذا المسدس. لم أستطع إصابة الهدف بدقة بمسدس صغير قط. لو كانت بندقيتي معي …»

فسألته في ذهول: «لمَ أطلقت النار؟ لقد أخذنا سيارة الرجال، ولا نريد أن نُلحِق بهم أي أذًى.»

قال بيتر بهدوء: «كنت سأوفر علينا العناء لو كانت بندقيتي معي. فذلك الرجل الضئيل الذي تدعوه راستا كان هناك، وقد عرفك. سمعته ينادي باسمك. إنه رجل ضئيل غاضب، وأنا ألاحظُ أن هناك خطَّ تلغراف على هذا الطريق.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤