الفصل السابع عشر

متاعب عند أنهار بابل

أعتبرُ أنَّ جنوني بدأ من تلك اللحظة. فجأة نسيت كل هموم الحاضر والمستقبل وصعوباتهما وأصبحت خاليَ البال ببلاهة. كنا منطلقين بسرعة نحو المعركة الكبرى حيث الرجال منخرطون في القتال؛ مهنتي الأصلية. أدركتُ عندئذٍ كُرهي الشديد للأيام التي قضيتها وحيدًا في ألمانيا، بل وكرهي الأشد للأسبوع الذي أهدرته متسكعًا في القسطنطينية. كنت في تلك اللحظة متحررًا من كل هذا، متجهًا نحو صدام الجيشين. لم أشغل بالي بأننا كنا على الجانب الخطأ من جبهة المعركة. فقد خبَّرني حدسي بأن فرصتنا ستكون أفضل كلما كان الوضع أشد قتامة وجموحًا.

قال بلنكيرون وهو ينحني فوقي: «يبدو لي أن هذه الرحلة الممتعة بالسيارة المسروقة ستنتهي قبل الأوان عمَّا قريب جدًّا. بيتر محق. ذاك الشاب سيبعث ببرقية، وسيوقفوننا في البلدة التالية.»

أجبته: «عليه أن يذهب إلى مكتب تلغراف أولًا. وهنا تكمن أفضليتنا عليه. فليستخدم الأحصنة الوضيعة التي تركناها وراءنا إن شاء، وإذا استطاع أن يصل إلى مكتب تلغراف قبل المساء، فأنا لا أَفقَه شيئًا. سأخرق كل قواعد القيادة وأستغل أقصى إمكانات هذه السيارة. ألا ترى أننا كلما اقتربنا من أرضروم أصبحنا أكثر أمنًا؟»

قال ببطء: «لا أفهم. أعتقد أنهم سيكونون في انتظارنا بالأصفاد في أرضروم. لماذا بحق السماء لم يستطع هؤلاء الصعاليك ذوو الشعر الكثيف إبقاء ذلك القصير اللعين محتجَزًا؟ إنَّ سجل تصرفاتك متهور جدًّا حتى في نظر أشد القادة العسكريين سذاجة يا حضرة الميجور.»

«هل تتذكر ما قلتَه عن إمكانية الاحتيال على الألمان بالتظاهر الخادع؟ حسنًا، سأستخدم أقوى أنواع التظاهر الخادع. سيوقفوننا بالطبع. سيبذل راستا كل ما بوسعه. لكن تذكَّر أنه وأصدقاءه ليسوا محبوبين للدرجة لدى الألمان، على عكس السيدة فون آينم. نحن نحظى بحمايتها، وكلما كان المسئول الألماني الذي سأقف أمامه أكثر نفوذًا، سأشعر بأمان أكبر. لدينا جوازات سفرنا وأوامرنا التي تلقيناها، ولن يجرؤ رجل على إيقافنا فور دخولنا نطاق الأراضي الألمانية. لذا سأنطلق بأقصى سرعة يقدرني عليها الرب.»

كانت تلك الرحلة بالسيارة تستحق كتابة ملحمة عنها. فالسيارة كانت جيدة، وتعاملتُ معها ببراعة، وإن كان ينبغي ألَّا أقول ذلك عن نفسي من باب التواضع. كان الطريق في ذاك السهل المركزي الفسيح ممهدًا بلا عوائق، وكثيرًا ما كنت أصل بها إلى سرعة خمسين ميلًا في الساعة. مررنا بمجموعاتٍ من الجنود على مسار دائري مُمتد عبر السهل، حيث واجهنا أخطارًا رهيبة، وانزلقنا في إحدى المرات بجوار إحدى عربات النقل حتى كادت عجلاتنا الجانبية تتجاوز حافة وادٍ ضيق عميق. سِرنا عبر شوارع سيفاس الضيقة كسيارة إطفاء، في حين كنت أصرخ بالألمانية بأننا نحمل رسائل عاجلة إلى مقر القيادة. مضينا بسرعة وسط رذاذ مطر خفيف، ثم صادفنا لحظاتٍ قصيرة من ضوء الشمس الشتوية، وبعدها اصطدمنا بعاصفة ثلجية كادت تنزع الجلد من وجوهنا. وطوال هذا الوقت، كان الطريق الطويل ممتدًّا أمامنا إلى حيث يتناحر جيشان بشراسة في صراع مُميت في موضع ما في نهايته.

لم نبحث عن مأوًى في تلك الليلة. تناولنا طعامًا زهيدًا في السيارة وسقفها مقفل علينا، وتحسَّسنا طريقنا في الظلام بمساعدة المصابيح الأمامية التي كانت حالتها ممتازة. انحرفنا عن الطريق أربع ساعات للنوم، وتفحصتُ الخريطة. انطلقنا مجددًا قبل الفجر ووصلنا إلى ممرٍّ جبلي ضيق مُؤدٍّ إلى وادي نهر كبير. أظهر فجر الشتاء امتدادات النهر اللامعة، التي كانت مكسوة بالجليد وسط المروج المُغطاة بنُدَف ثلجية متناثرة. ناديتُ بلنكيرون قائلًا:

«أعتقد أن هذا النهر هو الفرات.»

فقال باهتمامٍ شديد: «حقًّا. إذن، فهذه هي أنهار بابل. يا إلهي، لا أصدق أنني عشت حتى رأيت الحقول التي كان الملك نبوخذ نصر يأكل فيها العشب! هل تعرف اسم هذا التل الكبير يا حضرة الميجور؟»

صحتُ قائلًا: «أرارات، على الأرجح»، وصدَّقني.

كنا في تلك اللحظة وسط التلال الصخرية، التي كانت منحدرة وضخمة وسوداء، ورأينا من خلال الوديان الضيقة الجانبية منطقة نائية ذات قمم جليدية. أتذكر أنني ظللت أبحث عن التل ذي القمة المجوَّفة الذي رأيته في حلمي. فذاك الشيء لم يكفَّ عن مُطاردتي قط، وكنت واثقًا تمامًا في تلك اللحظة بأنه ليس جزءًا من ذكرياتي في جنوب أفريقيا. صحيح أنني لست رجلًا مؤمنًا بالخرافات، لكنَّ الرسوخ الشديد الذي ظلَّت حافة تلك القمة الصغيرة المنحدرة عالقة به في ذهني أوحى إليَّ بأنه كان تحذيرًا مرسَلًا من العناية الإلهية. كنت متيقنًا تمامًا من أنني سأكون في مواجهة ورطة شديدة عندما تقع عيناي عليها.

ظللنا طوال الصباح ماضين في طريقنا نحو أعلى ذلك الوادي العريض، وقبل الظهر مباشرة، وصلنا إلى جزء أوسع، ووجدنا الطريق ينخفض نحو حافة النهر، ورأيت أمامي الأسطح البيضاء لبيوت إحدى البلدات. كان الثلج في تلك اللحظة سميكًا، ممتدًّا حتى ضفة النهر، لكن السماء كانت صافية، ووسط خلفيةٍ من زُرقة السماء ارتفعت قمم متلألئة كالجواهر جنوبًا. ظهرت أمامي أقواس جسر مُمتد عبر فرعَي النهر، وعندما أبطأتُ سرعتي عند المنعطف، سمعنا صيحة مدوية من حارس من كوخ محصَّن، سائلًا إيَّانا عن هويتنا. كنا قد وصلنا إلى قلعة أرزينجان؛ معقل أحد الفيالق التركية وبوابة أرمينيا.

أطلعت الرجل على جوازات سفرنا، لكنه لم يؤدِّ التحية العسكرية لنا، وتركنا نمضي. نادى رجلًا آخر من كوخ الحراسة، فأشار إلينا ذاك الرجل بأن نُسايره، ومشى بخطًى متثاقلة نحو أسفل ممر جانبي. وعند الطرف الآخر من الممر، رأينا ثكنة كبيرة وحراسًا خارجها. تحدث الرجل إلينا بالتركية، التي ترجمها لنا حسين. قال لنا إنَّ شخصًا ما في تلك الثكنة يريد رؤيتنا بشدة.

اقتبس بلنكيرون من سِفر المزامير قائلًا بهدوء: «على أنهار بابل جلسنا وبكينا. أخشى يا حضرة الميجور أن نجد أنفسنا نتذكر صهيون قريبًا.»

حاولت إقناع نفسي بأن هذا مجرد إجراء اعتيادي في قلعة حدودية، لكن حدسي خبَّرني بأنَّ ثمة صعوبات تنتظرنا. كنت متأهبًا لممارسة أجرأ أنواع التظاهر الخادع لو صحَّ أن راستا قد أرسل برقيات تفضح أمرنا؛ إذ كنا لا نزال على بعد ثمانين ميلًا من أرضروم، وكان علينا أن نصل إلى هناك قبل حلول الليل بأي ثمن.

استقبلنا ضابطُ أركان نزِقٌ عند الباب. وعندما رآنا، صاح مناديًا أحد أصدقائه ليأتي ويرانا.

«ها هي الطيور قد دخلت القفص. رجل سمين واثنان نحيفان وهمجي يبدو كرديًّا. استدعِ الحارس وقُدْهم إلى الخارج. لا شك في هويتهم.»

قلت: «معذرة يا سيدي. ولكن ليس لدَينا وقت نضيعه، ونودُّ أن نكون في أرضروم قبل حلول الظلام. أتوسَّل إليك أن تُتمم أي إجراءات شكلية بأسرع وقت ممكن.» وأضفتُ مشيرًا إلى الحارس: «هذا الرجل يحمل جوازات سفرنا.»

قال بصفاقة: «اهدأ؛ فأنتم لن تواصلوا رحلتكم فورًا، وعندما تواصلونها، فلن يحدث ذلك بسيارة مسروقة.» أخذ جوازات السفر وقلَّبها بأصابعه بلامبالاة. ثم رأى فيها شيئًا جعله يعقد حاجبَيه.

سأل، ولكن بنبرةٍ أقل ثقة، قائلًا: «من أين سرقتم هذه؟»

تحدثتُ بأدبٍ شديد. «يبدو أنك ضحية خطأ مُضلِّل يا سيدي. هذه أوراقنا نحن. لدينا أوامر بتسجيل حضورنا في أرضروم دون أي تأخير. مَن يعوقُنا سيكون هو المسئول أمام الجنرال فون ليمان. سنكون شاكرين إذا اقتدتَنا فورًا إلى الحاكم.»

قال: «ليس مسموحًا لكم برؤية الجنرال بوسلت، هذا عملي. لديَّ برقية من سيفاس مفادها أنَّ أربعة رجال سرقوا سيارة تخص أحد رجال الداماد أنور. والبرقية تحمل أوصافكم جميعًا، وتقول إنَّ اثنين منكم جاسوسان سيِّئا السمعة، مطلوب القبض عليهما من الحكومة الإمبراطورية. ما قولكم في ذلك؟»

«لا شيء سوى أنَّ هذا هراء. يا سيدي الفاضل، لقد رأيت جوازات سفرنا. لا يمكن الإفصاح عن مهمتنا، لكنَّ خمس دقائق مع الجنرال بوسلت ستكون كفيلة بتوضيح المسألة. ستندم بشدة إذا تأخرتَ دقيقة أخرى.»

تأثر بكلامي رغمًا عنه، وبعدما شدَّ شاربه، استدار على عقبيه وغادر وترَكَنا. ثم سرعان ما عاد وقال بفظاظة شديدة إن الحاكم سيُقابلنا. تبعناه عبر ممر مؤدٍّ إلى غرفة كبيرة مطلَّة على النهر، حيث وجدنا رجلًا عجوزًا بعض الشيء يجلس على كرسي بمسندَين للذراعَين بجوار مدفأة، ويكتب رسائل بقلم حبر.

كان هذا بوسلت، الذي ظل حاكمًا لأرضروم حتى مَرِض وحل محلَّه أحمد فوزي. كان له فم ذو شفتَين ممتلئتَين، وكان تحت عينَيه انتفاخات زرقاء كبيرة. من المفترض أنه كان مهندسًا بارعًا، وأنه جعل أرضروم حصينة، لكنَّ تعبيرات وجهه أعطتني انطباعًا بأن سمعته في تلك اللحظة كانت مُهددة بعض الشيء.

تحدث إليه ضابط الأركان بهمسٍ خافت.

فقال بانفعال نزِق: «أجل أجل، أعرف. هل هؤلاء هم الرجال؟ يبدون مجموعة من الأوغاد. ما الذي تقوله؟ ينكرون ذلك؟ لكن السيارة معهم. لا يمكنهم إنكار ذلك.» ثم حدق في بلنكيرون قائلًا: «يا أنت، من أنت بحق الجحيم؟»

ابتسم له بلنكيرون ابتسامة ناعسة وهو لا يفهم أي كلمة، فبادرت بالكلام.

قلت: «جوازات سفرنا تثبت هويتنا يا سيدي.» فألقى نظرة خاطفة عليها، وازداد وجهه تجهُّمًا.

قال: «إنها سليمة تمامًا. ولكن ماذا عن قصة سرقة السيارة هذه؟»

قلت: «صحيحة تمامًا، لكني أحبذ استخدام كلمة ألطف. سترى من أوراقنا أن كل سلطة على الطريق لديها تعليمات بأن تتيح لنا أفضل وسائل النقل. تعطلت سيارتنا، وبعد تأخير دام طويلًا، تحصلنا على خيول وضيعة منهكة. ومن المهم للغاية أن نكون في أرضروم دون تأخير؛ لذا قررت الاستيلاء على سيارة فارغة وجدناها خارج أحد النُّزُل دون استئذان. أنا آسف على الإزعاج الذي سببتُه لأصحابها، لكن مهمتنا كانت عاجلةً جدًّا بما لا يحتمل التأخير.»

«لكن البرقية تقول إنكم جواسيس سيئو السمعة!»

ابتسمت. وسألته: «مَن أرسل البرقية؟»

«لا أجد سببًا يمنعني من إخبارك باسمه. إنه السيد راستا. لقد جلبت لنفسك عدوًّا صعبًا.»

لم أبتسِم هذه المرة، بل ضحكت. صحتُ قائلًا: «راستا! إنه أحد أتباع أنور. هذا يُفسر أشياء كثيرة. أودُّ أن أُحادثك على انفراد يا سيدي.»

أومأ برأسه لضابط الأركان، فرحل، وعندئذٍ تظاهرتُ بأقصى درجات الرزانة وبدوتُ جادًّا كأنني عمدة بلدة في زيارة ملكية.

قلت: «أستطيع أن أتحدث بحُرية؛ لأنني أتحدَّث إلى جندي ألماني. لا توجَد أي مَحبة بين أنور وأولئك الذين أعمل بخدمتهم. لا داعي إلى أن أخبرك بذلك. لقد ظنَّ هذا المدعو راستا أنه وجد فرصة لتأخيرنا، لذا اختلق ذلك الهراء بشأن كوننا جواسيس. إنَّ أعضاء تلك اللجنة مهووسون بالجواسيس … خصوصًا أنه يكره السيدة فون آينم.»

قفز من مكانه عند سماع الاسم.

وسألني بنبرة محترمة: «هل لديكم أوامر منها؟»

فأجبته: «نعم بالطبع، وهذه الأوامر عاجلة.»

نهض واتجه نحو طاولة، ثم استدار ناظرًا إليَّ بوجهٍ مُتحير. قال: «أنا ممزق بين الأتراك وأبناء وطني. إذا أرضيتُ أحدهما فسأغضب الآخر، والنتيجة أنني في حيرة لعينة. يمكنكم الذهاب إلى أرضروم، لكني سأرسل معكم رجلًا ليتيقَّن من وصولكم إلى المقر الرئيسي هناك. آسف على ذلك أيها السادة الأفاضل، لكني مُجبر على عدم المجازفة في هذه المسألة. راستا قدم شكوى ضدكم، لكن يمكنكم بسهولة أن تحتموا بالسيدة. لقد مرَّت بهذه البلدة منذ يومين.»

بعد ذلك بعشر دقائق كنا نسير بالسيارة منزلقين على الثلج الذائب في الشوارع الضيقة، وبجواري يجلس ملازم ألماني مُتبلد الملامح.

كان نهار ذاك اليوم واحدًا من تلك الأنهُر النادرة التي يحظى فيها المرء، أثناء توقفات الثلج القصيرة، بفاصلٍ قصير من طقس معتدل كطقس شهر مايو. تذكرتُ أنني مررتُ بأيام عديدة كهذا أثناء تدريبنا الشتوي في هامبشير. كان الطريق جيدًا ومصممًا ببراعة، ويحظى بصيانة جيدة أيضًا، بالنظر إلى كم السيارات التي تسير عليه. لم نتأخر كثيرًا؛ لأنه كان عريضًا بما يكفي ليسمح لنا بتجاوز القوات وعربات نقلهم دون أن نُبطئ من سرعتنا. كان الرجل الجالس بجواري ودودًا جدًّا، لكن وجوده كبح مُحادثتنا بالطبع. ولم أكن أريد التحدُّث على أي حال. فقد كنت أحاول تجميع خطةٍ في رأسي، ولم أحرز سوى تقدم ضئيل جدًّا؛ لأنني كنت بلا أيِّ خطوط إرشادية. يجب أن نجد هيلدا فون آينم وساندي، ويجب أن نعمل فيما بيننا على إحباط مخطط ذي العباءة الخضراء. وبعدما ننجح في ذلك، لا يهم ما سيحدث لنا. فقد استنتجتُ أنَّ الأتراك يمرون بوضعٍ عصيب حتمًا، وأنهم إذا لم ينالوا دَفعةً تحفيزية من «ذي العباءة الخضراء» فسينهارون أمام الروس. كنت أتطلع إلى أن نحظى بفرصة، في خضمِّ فوضى تلك الهزيمة الكارثية المُرتقبة، للانضمام إلى الجانب المقابل. ولكن لم يكن مُجديًا في تلك اللحظة أن أبتعد بتطلُّعاتي إلى هذا الحد؛ إذ كان علينا الوصول إلى ساندي أولًا.

كنتُ في تلك اللحظة ما أزال مفعمًا بالجرأة المتهورة التي نلتُها من سرقة السيارة. لم أدرك كم كانت قصتنا غير مُقنعة، وأنَّ راستا قد يستطيع بأساليبه المُلتوية أن يكسب نفوذًا في مقر القيادة الرئيسي بكلِّ سهولة. ولو كنتُ أدركت ذلك، لرميتُ الملازم الألماني من السيارة قبل وقتٍ طويل من وصولنا إلى أرضروم، ووجدت طريقةً ما لأذوب وسط جموع السكان. كان من المُمكن أن يساعدني حسين في ذلك. كنت أزداد ثقةً منذ لقائنا مع بوسلت لدرجة أنني شعرت بأنني أستطيع خداع الجيش الألماني كله.

لكن شغلي الشاغل آنذاك كان محض هراء. فقد كنت أحاول العثور على تلِّي الصغير. كنت أتوقع عند كل منعطف من الطريق أن أجد ذلك التل ذا القمة المجوفة أمامنا. يجب أن تعلموا أنني مهووس بالجبال العالية منذ صغري. فقد أخذني والدي إلى باسوتولاند عندما كنت صبيًّا، وأظن أنني تسلقتُ كل شبرٍ تقريبًا من مرتفعات جنوب نهر الزامبيزي، من جبال هوتنتوتس هولاند إلى زوتبانسبرج، ومن التلال النائية الصفراء القبيحة في دامارالاند إلى منحدرات مونت أو سورس المبهرة. صحيح أنَّ إحدى الأمنيات التي كنت أتطلَّع إليها عند عودتي إلى دياري هي فرصة تسلق جبال الألب. لكني في تلك اللحظة كنت وسط قممٍ تخيلتُها أعلى من جبال الألب، ولم أستطع أن أتحاشى الالتفات إليها وأُبقِي عينيَّ على الطريق إلَّا بشِق الأنفس. كنتُ متيقنًا تمامًا من أنَّ تلِّي الصغير المنشود موجود بين تلك القمم؛ لأن ذلك الحلم كان مُسيطرًا على ذهني بقوة. ومن المُضحك أنني لم أعد أعتبر ذلك التل نذير شؤم؛ لأنَّ المرء سرعان ما ينسى أجواء الكوابيس. لكنني كنتُ موقنًا بأنَّ قدَري أن أراه، بل أن أراه عمَّا قريب جدًّا.

حل الظلام في حين كنا على بُعد بضعة أميال من المدينة، وعانينا في اجتياز الشوط الأخير بالسيارة. فقد وجدنا مجموعة من عربات النقل وإمدادات المهندسين مُصطفَّة على جانبَي الطريق، وكان بعضها منحرفًا إلى وسط الطريق السريع. لاحظتُ الكثير من التفاصيل الصغيرة التي كانت تعني أننا وصلنا إلى حافة جيش؛ إذ رأيتُ كتائب من حاملي الرشاشات الآلية، ومجموعات من أفراد سلاح الإشارة، وفِرقًا من حاملي النقالات، وحالما بدأ الليل يخيِّم، بدأَت كشافات السيارة تتلمس السماء بأصابعها البيضاء.

بعدئذٍ طغى على الهمهمة الصادرة من جانب الطريق صوتُ المدافع الضخمة. كانت القذائف تنفجر على بُعد أربعة أو خمسة أميال، ولا بد أن المدافع كانت على مسافةٍ أبعدَ بكثير. لكنها، في ذلك التجويف السهلي المحاط بأراضٍ مرتفعة في الليل المكسو بالصقيع، بدَت قريبة للغاية. ظلَّت أصواتها المهيبة تتردد، يفصل بين كل تكرار لها دقيقة واحدة، لم تكن انفجارات نارية متلاحقة كتلك التي تُشبه قرع الطبول، بل كانت منتظمةً بوتيرة ثابتة تنمُّ عن أن نيران المدفعية مصوَّبة بدقة نحو هدفٍ ما. استنتجتُ أنهم يقصفون الحصون الخارجية حتمًا، وفوجئتُ في لحظةٍ ما بانفجار مدوٍّ ووهج أحمر كما لو أن القصف أصاب مخزنًا للذخيرة.

لم أكن قد سمعتُ صوتًا كهذا منذ خمسة أشهر، وقد أصابني بجنون شديد. تذكرت كيف سمعته من قبلُ لأول مرة على الحافة الجبلية قبلَ بلدة لافينتي. شعرت عندها بمزيج من الخوف والمهابة، لكن كل أعصابي شُحِذَت بهمَّة بالغة. عندها كانت تلك تجربةً جديدة في حياتي حبست أنفاسي من شدة الترقب، أمَّا في تلك اللحظة، فكان ذلك شيئًا معتادًا، شيئًا تَشاركتُه مع الكثير من الرجال الباسِلِين، أي: مهنتي الطبيعية، والمهمة الوحيدة التي تليق بالرجال. شعرتُ عند سماع أصوات المدافع بأنني أمضي وسط أجواءٍ طبيعية مجددًا. شعرت بأنني عدت إلى دياري.

أُوقِفنا عند صفٍّ طويل من المتاريس، وأخذ رقيب ألماني يحدق فينا حتى رأى المُلازم بجانبي، فأدَّى التحية العسكرية ومضينا قُدمًا. سرعان ما غصنا في شوارع ضيقة ملتوية مكتظة بالجنود، حيث كابدتُ صعوبة في توجيه السيارة. كانت الأضواء قليلة؛ فلم نكن نرى سوى لهب مشعل يظهر بين الحين والآخر يُظهِر لنا المنازل الحجرية الرمادية، التي كانت كل نوافذها مغلقة ومغطاةً بسلك شبكي. كنت قد أطفأت مصابيحي الأمامية تاركًا المصابيح الجانبية فقط؛ لذا كان علينا أن نتحسس طريقنا بحذر عبر تلك المتاهة. تمنيتُ أن نصل إلى مهجع ساندي قريبًا؛ لأن بطوننا كلنا كانت خاوية تمامًا، ولأنَّ الجو قد حلَّ به صقيع جعل معاطفنا السميكة تبدو رقيقة كالورق.

تولَّى الملازم إرشادنا. اضطُررنا إلى تقديم جوازات سفرنا، وتوقعت أن تكون المسألة سهلة كنزولنا من السفينة في بولوني. لكني أردت الانتهاء من كل ذلك؛ فقد كنت أتضور جوعًا، والبرد كان رهيبًا. ومع ذلك، ظلَّت أصوات المدافع تتعالى ككلاب صيد تنبح وراء طريدة ما. كانت المدينة خارج مرمى النيران، لكني رأيت أضواء غريبة على قمة التل جهة الشرق.

وصلنا إلى وجهتنا أخيرًا، ودخلنا من مدخلٍ مقوس قديم جميل مزخرف بالنقوش إلى فناء، ومنه إلى بهو تعصفُ به تيارات هوائية.

قال مرشدنا: «يجب أن تقابلوا قائد الوحدة.» فنظرت حولي لأتيقن من أننا كلنا موجودون، ولاحظت اختفاء حسين. لكني لم أهتم بذلك؛ لأن اسمه لم يكن مُدرجًا على جوازات السفر.

تبعْنا المرشدَ وهو يقتادنا عبر باب مفتوح. وجدنا رجلًا يقف موليًا ظهره لنا وينظر إلى خريطة مُعلقة على الحائط، كان رجلًا ضخمًا جدًّا بعُنق منتفخ فوق ياقته. كنتُ سأعرف ذلك العنق حتى لو كان وسط مليون واحد. وحين رأيته، التفتُّ نصف التفاتة لأهرب. لكن الأوان قد فات؛ لأن الباب كان قد أُغلقَ خلفنا، ووجدتُ بجانبه حارسَين مسلحَين.

استدار الرجل فجأة ونظر إلى عيني. راودني أملٌ يائس في أن أخدعه بمظهري؛ إذ كنتُ أرتدي ثيابًا مختلفة، وحلقت لحيتي. ولكن يستحيل ألَّا يتعرف عليك عدوك بعدما تشتبِك معه في معركة حياة أو موت لمدة عشر دقائق.

شحب وجهه جدًّا، ثم تمالك نفسه، ولوى قسمات وجهه ليبتسِم ابتسامته العريضة المعتادة.

قال: «عجبًا، الهولنديان الوضيعان! ها نحن التقينا مجددًا بعد فترة طويلة.»

لم يكن من المُجدي أن أكذب أو أقول أي شيء. فأطبقتُ أسناني وانتظرت.

«وأنت يا سيد بلنكيرون؟ لم يُعجبني مظهرك قط من البداية. كنت تثرثر كثيرًا، ككل مواطنيك الأمريكيين المَلاعين.»

قال بلنكيرون بهدوء: «أظن أن تفضيلاتك الشخصية ليس لها علاقة بالمسألة. إذا كنتَ القائد المسئول هنا، فلتتفضل مشكورًا بإلقاء نظرة على جوازات السفر تلك؛ لأننا لا نستطيع الانتظار إلى أجل غير مسمًّى.»

أغضبه ذلك بشدة. فصاح قائلًا: «سأُعلمك الأدب»، وتقدم خطوة ليمسك بكتف بلنكيرون، محاولًا أن يُرهبه باللعبة التي لعبها معي مرتَين من قبل.

لكن بلنكيرون لم يُخرج يدَيه من جيبَي معطفه إطلاقًا. قال له بنبرة جديدة متشدقة: «إيَّاك أن تقترب. فأنا أصوب مسدسي نحوك، وسأثقب رأسك الطويل الغبي إذا لمستني.»

استعاد شتوم هدوءه بصعوبة. ثم ضغط جرسًا وبدأ يبتسِم. جاء حاجبٌ فتحدث إليه بالتركية، وسرعان ما دخل صفٌّ من الجنود إلى الغرفة.

قال: «سأُجردكم من أسلحتكم أيها السادة. فمحادثتنا ستكون ألطف بلا مسدسات.»

كان من العبث أن نقاوم. سلَّمنا أسلحتنا، وكاد بيتر أن يبكي من الغيظ وهو يُسلم سلاحه. أرجحَ شتوم ساقَيه من فوق كرسيٍّ، وجلس عليه بالعكس مُسنِدًا ذقنه إلى مسند الظهر.

قال: «لقد انتهت لعبتك، كما تعلم. لقد قال هؤلاء الحمقى من الشرطة التركية إنَّ الهولنديين ماتا، ولكن راودَني آنذاك شعور أكثر تفاؤلًا. كنتُ مؤمنًا بأنَّ الرب الكريم استبقاهما لي. عندما وصلَت إليَّ برقية راستا، كنتُ متيقنًا؛ لأن أفعالك ذكَّرَتني بحيلة صغيرة خدعتَني بها من قبل على طريق شفاندورف. لكني لم أتوقع العثور على هذا العجوز السمين الذي يُشبه طائر الحجل معكم»، ونظر إلى بلنكيرون مبتسمًا. ثم أضاف: «مهندسان أمريكيان بارزان وخادمهما متجهون إلى بلاد الرافدين في مهمةٍ حكومية بالغة الأهمية! كانت هذه كذبة مقنعة، ولكن لو كنتُ في القسطنطينية، لفُضِح أمرها بسرعة. راستا وأصدقاؤه لا يُهمونني. يمكنك أن تخدعهم كما تشاء. لكنك حاولت كسب ثقة سيدةٍ مُعينة، ومصالحها هي مصالحي. كما أنك أهنتني، وأنا لا أُسامح.» وصاح بنبرة حادة مفعمة بالانفعال: «بربِّي، بعدما أنتهي منكم، ستبكي أمهاتكم في قبورهن على أنهنَّ أنجبنَكُم أصلًا!»

كان بلنكيرون هو الذي رد. كانت نبرته هادئة كأنه رئيس شركة محتالة، ونزلَت على الأجواء العكرة تلك كوقعِ الحمض على الشحم.

قال: «لا أكترث بالجعجاعين ذوي الكلام الرنان. إذا كنت تحاول إخافتي بكلام الروايات الرخيصة هذا، فأظن أنك اخترت الرجل الخطأ. إنك كالكناس العالق في المدخنة، أي: أكبر قليلًا ممَّا تتطلبه وظيفتك. أعتقد أنَّ لديك موهبة في كتابة الروايات المُثيرة تُهدرها في الخدمة العسكرية. لكن إذا كنت ستمارس معي أي ألعابٍ دنيئة، فأود أن تعلم أنني مواطن أمريكي، وأحظى بتقديرٍ كبير في بلدي وفي بلدك، وستندم على ذلك لاحقًا. قد أعذر من أنذر يا كولونيل شتوم.»

لم أكن أعرف ما يعتزمه شتوم، لكن كلام بلنكيرون زعزع ثقته بالقدر المطلوب بالضبط. أعني أن شتوم قد اكتشف حقيقتي أنا وبيتر بوضوحٍ تام، لكنه لم يكن مُتيقنًا من علاقة بلنكيرون بنا، وكان خائفًا من أن يؤذِينا نحن الثلاثة، أو أن يطلق سراح بلنكيرون. وكان من حُسن حظنا أنَّ الأمريكي تصرف بهذه الجرأة المُبهرة في معقل الألمان.

قال بلامبالاة: «لسنا في عجلة من أمرنا. سنقضي ساعات سعيدة طويلة معًا. سآخذكم جميعًا معي إلى بيتي؛ لأنني إنسان مِضياف. ستكونون معي أكثر أمنًا ممَّا ستكونون في سجن المدينة؛ لأنه ليس آمنًا. فيمكن التسلُّل إلى داخله، وربما يمكن التسلُّل إلى خارجه.»

أصدر أمرًا آخر، فاقتادونا إلى الخارج، يُصاحب كلًّا منَّا جنديٌّ ملاصق له. حشرونا نحن الثلاثة في المقعد الخلفي للسيارة، في حين جلس أمامنا رجُلان واضعَين بندقيتيهما بين رُكبهما، ووقف رجل ثالث خلفنا على رفِّ الأمتعة، وجلس رابع بجوار سائق شتوم. وهكذا انطلقنا مُكدَّسين كقِطع السردين نحو الشوارع القاتمة، التي كانت النجوم تتلألأ فوقها في أشرطةٍ من السماء.

كان حسين قد اختفى تمامًا من على وجه الأرض، وارتأيت أنه محقٌّ تمامًا في ذلك. صحيح أنه كان رجلًا شهمًا، ولكن لم يكن لدَيه سبب يجعله يُورط نفسه في مشكلاتنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤