الفصل الثامن عشر

عصافير على أسطُح المنازل

قال بلنكيرون: «لطالما أسفتُ على أن زمن المعجزات قد ولَّى.»

لم أردَّ عليه؛ إذ كنت أتحسس الجدران بحثًا عن أي فتحة كنافذة أو ما شابَه.

أضاف: «لأنني أظن أننا نحتاج إلى معجزةٍ خارقة مضمونة من المعجزات القديمة لنخرج من هذا المأزق. إنه يتعارض تمامًا مع كل مبادئي. فقد أمضيت حياتي في استخدام المواهب التي حباني بها الرب لأتجنَّب الوصول إلى حد العنف الهمجي، وكنت ناجحًا في ذلك حتى اللحظة. ثم أتيتَ يا حضرة الميجور ودفعت مواطنًا محترمًا في منتصف العمر إلى صراعٍ فوضوي همجي. وهذا غير لائق إطلاقًا. أرى أن الخطوة التالية تقع على عاتقك؛ لأنني لا أُجيد مغامرات الهروب من المنازل.»

رددتُ قائلًا: «ولا أنا، لكني لن أستسلِم للهزيمة أبدًا. ساندي موجود في مكان ما في الخارج، ومن ورائه حشدٌ غفير.»

بصراحة لم أشعر باليأس الذي تُحتِّمه كل أحكام المنطق في موقف كهذا. فالمَدافع قد أسكرتني. كنت لا أزال أسمع أصواتها العميقة مع أننا كنا مُنعزلين عن الهواء العلوي بياردات من الخشب والحجر.

كان الأشد إيلامًا لنا هو جوعنا. فباستثناء بضع لُقيمات على الطريق، لم نأكل شيئًا منذ الصباح، ولأنَّ الطعام الذي تناولناه على مرِّ الأيام الماضية لم يكن وفيرًا؛ كنا نحتاج إلى تعويض لبطوننا. لم يتفقدنا شتوم قط منذ أن حُشرنا داخل السيارة. كان رجاله قد أحضرونا إلى منزلٍ ما وكدَّسونا في مكانٍ أشبه بقبو للنبيذ. كان حالك الظلام، وبعدما تحسستُ الجدران — وأنا على قدميَّ أولًا، ثم وأنا محمول على ظهر بيتر — استنتجتُ أنه بلا نوافذ. وارتأيتُ أنه حتمًا يستمدُّ إضاءته وتهويته من شبكةٍ ما في السقف. لم يكن في المكان أي قطعة أثاث، لا شيء سوى أرضية ترابية رطبة، وجدران حجرية عارية، وكان الباب من بقايا العصر الحديدي، وكنت أسمع خطوات حارس خارجه.

عندما تتفاقم الأمور ويستحيل على المرء أن يُحسِّنها، لا يتسنى له سوى أن يعيش اللحظة الحاضرة دون تفكير فيما هو قادم. التجأ ثلاثتنا إلى النوم ليهوِّن علينا ألَم بطوننا الفارغة. افترشنا الأرضية، وكانت بئس الفراش، لكننا لففنا معاطفنا لنتوسَّدها، واستفدنا من الأرضية أفضل استفادة. وسرعان ما عرفت من أنفاس بيتر المُنتظمة أنه نام، وتبعته بعد قليل …

أيقظتني ضغطة أسفل أذني اليسرى. ظننت لوهلةٍ أنه بيتر؛ لأن هذه حيلة مُعتادة لدى الصيادين لإيقاظ الرجال دون ضجيج. لكن الصوت الذي أيقظني كان مختلفًا. أخبرني بعدم وجود وقتٍ نُضيعه، وطلب مني أن أنهض وأتبعه، وقد كان هذا صوت حسين.

كان بيتر مُستيقظًا، وهززنا بلنكيرون حتى أيقظناه من سباته العميق. أُمِرنا بخلع أحذيتنا وتعليقها من الأربطة حول أعناقنا كما يفعل الصبية الريفيون عندما يريدون السير حفاة. ثم اتجهنا على أطراف أصابعنا نحو الباب الذي كان مواربًا.

وجدنا في الخارج ممرًّا في آخره سلمٌ يقود إلى الهواء الطلق. كان هذا السلم مضاءً ببريق خافت من ضوء النجوم، وبفضل هذا البريق رأيتُ رجلًا متكومًا عند سفحه. تبيَّن لي أنه حارسنا؛ إذ كان مُكممًا ومقيدًا بإحكام وبراعة.

قادتنا درجات السُّلَّم إلى فناء صغير مُحاط بجدران منازل مرتفعة كجروفٍ صخرية. توقفنا، في حين أنصت حسين. بدا المكان خاليًا من أي خطر، وقادنا مرشدنا إلى جانبٍ كان مكسوًّا بتعريشةٍ خشبية متينة. ربما كانت دعامة لبعض أشجار التين يومًا ما، لكن النباتات في تلك اللحظة كانت ميتة، ولم يبقَ منها سوى محاليق ذابلة، وجذوع متعفنة.

كان من السهل للغاية عليَّ أنا وبيتر أن نتسلَّق تلك التعريشة، لكنها كانت مهمة بالغة الصعوبة على بلنكيرون. فقد كانت حالته سيئة وكان يتنفَّس لاهثًا كالدولفين، وبدا أنه لا يستطيع التعامُل مع المرتفعات. لكنه كان شجاعًا كالثور، وبدأ يتسلَّق ببسالة حتى خارت قوى ذراعَيه وصار عالقًا تمامًا. لذا صعدت أنا وبيتر إلى جانبيه، وأمسك كلٌّ منا بإحدى ذراعَيه، مثلما رأيتُ رجلَين من قبل يساعدان رجلًا مصابًا بالدوار عالقًا أعلى مدخنة منجم كلوف على جبل تيبل. كنت في غاية الامتنان حين أوصلته لاهثًا إلى أعلى التعريشة، وكان حسين قد سبقنا إلى أعلاها بعدما تسلَّقها من جوارنا بخفة وبراعة.

زحفنا على طول جدار عريض بعض الشيء، مُغطًّى ببوصةٍ أو بوصتَين من ثلج مسحوق، ثم صعدنا على دعامة مائلة إلى السطح المستوي للمنزل. كانت تلك مهمة بشعة بالنسبة إلى بلنكيرون، الذي كان سيسقط حتمًا لو نظر تحتَه، وكان علينا أنا وبيتر أن نبقى مُنتبهَين طوال الوقت. ثم بدأت مهمة أصعب. فقد أشار حسين إلى حافةٍ قادتنا إلى ما وراء مجموعة من المداخن إلى مبنًى آخر أقل ارتفاعًا بقليل؛ لأن هذا هو المسار الذي رآه مناسبًا. عندئذٍ جلستُ بعزم وانتعلتُ حذائي، وفعل الآخرون مثلي. فقد خشينا أن تُصاب أقدامنا بقضمة الصقيع فتُعوِّق حركتنا في رحلة كهذه.

كانت هذه عقبة صعبة على بلنكيرون، ولم نجعله يتجاوزها إلا بأن مدَدْنا أيادينا وأرجُلنا أنا وبيتر وألصقناها بالحائط، وتركناه يمرُّ على الحافة أمامنا ووجهه نحونا. لم يكن لدَينا شيء نمسِك به أثناء ذلك، وكنا سنسقط نحن الثلاثة في الفناء لو تعثر بلنكيرون. لكننا تجاوزناه بنجاحٍ ونزلنا على سطح المنزل المجاور بأخفتِ صوتٍ ممكن. وضع حسين إصبعه على شفتَيه، وسرعان ما أدركت السبب. فقد كانت ثمة نافذة مُضاءة في الحائط الذي هبطنا منه.

دفعني عفريتٌ شقيٌّ إلى الانتظار والاستكشاف. تبع الآخران حسين، وسرعان ما وصلوا إلى الطرف الأقصى من السطح، حيث كان هناك هيكل أشبه بظُلةٍ خشبية بارزة عن بقية السطح، بينما حاولت أنا إلقاء نظرة إلى الداخل. كانت النافذة مُسدَلة الستائر، وبها لوحان زجاجِيَّان قابلان للطي مشبوكان معًا عند المنتصف. ومن خلال فجوة في الستارة، رأيتُ غرفة صغيرة مضاءة بمصباح، ورجلًا ضخمًا جالسًا إلى طاولة مليئة بأوراق متناثرة عليها.

شاهدته بنظراتٍ مبهورة وهو يلتفِت ليتفحص وثيقةً ما ليعرف منها شيئًا معينًا، ويضع علامة على الخريطة أمامه. ثم نهض فجأة، وتمطى وألقى نظرة خاطفة على النافذة، وخرج من الغرفة، مُحدِثًا قعقعة عالية وهو ينزل الدَّرج الخشبي. لكنه ترك الباب مواربًا والمصباح مشتعلًا.

خمنتُ أنه ذهب ليتفقد سجناءه، وعندئذٍ سيفتضح أمرنا. لكن عقلي كان مفعمًا برغبةٍ جنونية في رؤية خريطته. كانت تلك الرغبة واحدة من تلك الدوافع المجنونة التي تُلقي غيمةً على التفكير السليم لتحجبه تمامًا، ولم تكن معتمِدة على أي خطة، كأنها قفزة مجنونة في الظلام. لكنها كانت جامحة لدرجة أنني كنتُ مستعدًّا لاقتلاع تلك النافذة من إطارها، إذا لزم الأمر، للوصول إلى تلك الطاولة.

لكني لم أحتجْ إلى ذلك؛ لأن المشبك الهش انفتح فور جذبه، وفُتح اللوحان الزجاجيَّان بكل سهولة. هرولت إلى الداخل، بعدما أرهفت السمع لأتيقَّن من عدم وجود خطوات على الدَّرج. طويت الخريطة في عجالةٍ وحشرتها في جيبي، وكذلك الورقة التي رأيته ينسخ منها. ثم أزلتُ كل أثر يدل على دخولي بعناية شديدة؛ إذ جرفتُ الثلج عن الألواح الخشبية عند حافة النافذة، وسحبت الستارة لأعيدها كما كانت، وخرجت وأعدت إغلاق لوحَي النافذة بالمشبك. ولكن لم أسمع أي صوتٍ ينمُّ عن عودته حتى تلك اللحظة. ثم انطلقتُ للَّحاق بالآخرين.

وجدتهم يرتجفون في ظُلة السطح. فقلت: «علينا أن نتحرك بأقصى سرعة؛ لأنني اقتحمتُ غرفة شتوم الخاصة للتو. هل سمعت ذلك يا حسين يا بُني؟ ربما يُطاردوننا في أي لحظة؛ لذا أدعو الرب أن نجد مسارًا أفضل عمَّا قريب.»

فهِم حسين قصدي. فقادنا بخطًى سريعة من سطح إلى آخر؛ لأنَّ كل الأسطح هنا كانت على الارتفاع نفسه، ولم يكن يفصلها سوى حواجز وأسوار منخفضة. لم نرَ أي مخلوق قط؛ لأن الليالي الشتوية ليست مناسبة ليتسكَّع أحد على سطح منزله. ظللتُ منصتًا لأسمع أي مشكلةٍ من خلفنا حال وقوعها، وقد سمعتُها بالفعل في غضون نحو خمس دقائق. فقد اندلعت جلبة من الأصوات، وكان أحد الأصوات أعلى من البقية، فنظرت إلى الوراء، وعندئذٍ رأيت مِشكاوات تتأرجَّح. فتبيَّن لي أن شتوم قد أدرك ما فقده، ووجد آثار اللص.

ألقى حسين نظرة خاطفة خلفه، فأسرع بنا نحو الأمام بسرعة متهورة، في حين كان بلنكيرون العجوز يلهث ويتعثر. تعالت الصيحات خلفنا، كما لو أن عينًا أثقَب من البقية قد رصدت حركتنا في الظلام المضاء بنور النجوم. كان من الواضح تمامًا أنهم إذا واصلوا مطاردتنا هكذا فسيمسكون بنا؛ لأن بلنكيرون كان بطيئًا على الأسطح كفرس النهر.

بعد قليل وصلنا إلى مَسقَطٍ يقع أسفلنا على ارتفاعٍ عالٍ، ووجدنا شيئًا أشبَه بسُلَّم يقود إلى أسفله، حيث كانت توجَد حافة ضيقة تمتد إلى اليسار وتغوص وسط ظلامٍ دامس. أمسك حسين بذراعي وأشار إلى الأسفل. وهمس قائلًا: «اتبعوها، وستصلون إلى سطح يمتد عبر شارع. اعبروه، وستجدون على الجانب الآخر مسجدًا. اتجهوا يمينًا هناك وستجدون مسارًا سهلًا لمسافة خمسين مترًا، مُتواريًا جيدًا عن أسطح المباني الأعلى. بالله عليكم ابقَوا مُختبئين خلف ذلك الحاجز الحاجب. سأعاود الانضمام إليكم هناك في مكانٍ ما.»

هرع بنا عبر الحافة مسافة قصيرة ثم عاد، وأخفى آثار أقدامنا ببعض الثلج من أركان الحافة. وبعدها انطلق وحدَه مباشرة في مسار آخر، حيث مشى بخطواتٍ قصيرة غريبة كطائر. فهمت حيلته. لقد أراد أن يجعل مطاردينا يتبعونه، وكان عليه أن يُضاعف عدد آثار الأقدام، ويعتمد على أن رجال شتوم لن يُدركوا أنَّ كل هذه الآثار من صُنع رجل واحد.

لكن بالي كان مشغولًا بمساعدة بلنكيرون لتجاوز تلك الحافة. فقد كان على وشك الانهيار التام، وكان يتصبَّب عرقًا من شدة الرعب، وفي الحقيقة أنه كان يخوض واحدةً من أصعب الأخطار في حياته؛ لأننا لم يكن معنا حبل، ولأن حياته كانت معتمدة على قدراته الذاتية. سمعته يتضرع لإله غير معروف يُدعى مايك المقدس. لكنه أقدمَ على المخاطرة ببسالةٍ ووصلنا إلى السطح الممتد عبر الشارع. كان ذلك أسهل، مع أنه كان صعبًا ويتطلَّب دقة بالغة، لكن الالتفاف حول حواف قبة ذاك المسجد لم يكن هينًا على الإطلاق. وأخيرًا وجدنا الحاجز وتنفَّسنا الصعداء؛ لأننا صِرنا في مأمنٍ من اتجاه الخطر. ظللت أتلفَّت حولي لحظة، وعلى بُعد ثلاثين ياردة، على الجانب الآخر من الشارع، رأيت مشهدًا غريبًا.

كانت المطاردة جارية عبر الأسطح الموازية للسطح الذي أوينا إليه. رأيتُ وميض المشكاوات المرتعش يتأرجح إلى أعلى وأسفل، في حين كان حاملوها ينزلقون في الثلج، وسمعت صيحاتهم ككلاب صيد تطارد أثرًا ما. لم يكن شتوم بينهم؛ فبِنيته الجسدية لم تكن مناسبة لخوض غمار مطاردة كهذه. تجاوزونا وواصلوا المسير إلى يسارنا، تارة كانت المداخن البارزة تحجبهم عنَّا، وتارة كانوا يظهرون بوضوح وسط الأفق. كانت الأسطح التي كانوا يسيرون عليها أعلى من أسطحنا ربما بستِّ أقدام؛ لذا استطعنا أن نلاحظ مسارهم بوضوح حتى ونحن مختبئون. ارتأيتُ أنهم لو استمرُّوا هكذا وظلوا يُطاردون حسين عبر أرضروم كلها، فسنواجه عواقب مشئومة؛ لأنني لم أكن أعرف أي شيءٍ عن المكان الذي كنا فيه أو الذي سنذهب إليه.

ولكن بينما كنا نشاهد، رأينا شيئًا آخر. كانت المشكاوات المتأرجحة في تلك اللحظة على بُعد ثلاثمائة أو أربعمائة ياردة، لكننا رأينا قامة رجلٍ ظهرت على الأسطح المقابلة لنا على الجانب الآخر من الشارع. ظننتُه أحد مُطاردينا، فجثمنا جميعًا نحو الأسفل، ثم أدركتُ من رشاقته أنه حسين. لا بد أنه قد استدار وعاد مجددًا؛ إذ ظلَّ مُتخفيًا على يسار المطاردة، وعرَّض نفسه لأخطارٍ شديدة في الأماكن المكشوفة. لكن ها هو ذا قد عاد، وكان أمامنا تمامًا، ولم يكن يفصله عنَّا سوى عرض الشارع الضيق.

تراجع خطوة واستجمع قواه استعدادًا للقفز، ووثب برشاقة دون أن يصطدم بأي شيء. ثم هبط كالقطة على السور فوقنا، وتعثر من قوة اندفاعه فوق رءوسنا مباشرة.

همس قائلًا: «نحن في مأمنٍ مؤقتًا، لكنهم حين يكتشفون اختفائي سيعودون. علينا الإسراع.»

ظللنا طوال نصف الساعة التالي عالِقين في متاهة من الانحناءات والانعطافات؛ إذ ظللنا ننزلق على أسطح جليدية ونتسلق مداخن مكسوة بجليد أكبر سُمكًا. كان ضجيج المدينة قد تلاشى، ولم نعد نسمع أي صوت تقريبًا من الشوارع الحالكة الظلام تحتنا. لكن صوت المدافع القوي ظلَّ مستمرًّا طوال الوقت في الشرق. ظللنا ننزل تدريجيًّا إلى مستوًى أدنى، حتى وجدنا أنفسنا فوق سقيفة في فناء. أطلق حسين صيحة غريبة، كصيحة بومة مجنونة، وعندئذٍ بدأ شيء ما يتحرك تحتنا محدِثًا ضجيجًا.

كانت عربة كبيرة مغطاة مملوءة بحزَمٍ من العلف، يجرها أربعة بغال. وفي أثناء نزولنا من فوق السقيفة إلى أرضية الفناء المكسوة بنثارٍ متجمِّد من القش والتبن، خرج رجل من الظل وتحدث إلى حسين بصوت خفيض. رفعْنا بلنكيرون أنا وبيتر إلى العربة، وركبنا بجواره بسرعة، ولم أشعر قطُّ بنعمةٍ أعظم من دفء ذلك المكان وليونته بعد الأسطح المتجمدة. كنت قد نسيتُ جوعي تمامًا، ولم أكن أتوق إلى شيء سوى النوم. ثم سرعان ما خرجت العربة من الفناء إلى الشوارع المظلمة.

عندئذٍ بدأ بلنكيرون يضحك بقرقرة داخلية عميقة هزَّت جسده بشدة، وأسقطت كومة من العلف على رأسه. ظننتُ أنها حالة هستيرية ناجمة من فرط الارتياح بعد التوتر العصبي الذي عاناه في الساعة الماضية. لكنها لم تكن كذلك. فأعصابه دائمًا ما كانت سليمة تمامًا، وإن لم تكن لياقته الجسدية بأفضل حال. لقد كان مفعمًا ببهجة حقيقية.

قال وهو يلهث: «قلَّما أُكِنُّ كراهية تجاه الرجال الآخرين يا حضرة الميجور، لكني لم أستسغ الكولونيل شتوم لسببٍ ما. لكني الآن أكاد أُحبه. لقد ألحقتَ بفكه إصابةً بالغة في ألمانيا، والآن سرقت ملفاته الخاصة التي أظنُّها مُهمة، وإلَّا فما كان ليُصرَّ هذا الإصرار المُستميت على مطاردتك عبر كل هذه الحواجز فوق الأسطح. لم أفعل شيئًا كهذا منذ أن اقتحمتُ كوخ الحطب لدى جاري براون لأسرق «أبسومه» الأليف، وكان ذلك قبل أربعين عامًا. هذه أول تسلية حقيقية أحظى بها في هذه المغامرة، ولم أضحك بهذا القدر منذ أن روى جيم هوكر العزيز حكاية «ابنة العم سالي ديلارد»، حين كنا نصطاد البط في ميشيجان، وأُصيبَ شقيق زوجته بسكتة دماغية ليلًا ومات بسببها.»

غلبني النعاس ونمتُ على صوت ضحكات بلنكيرون المكتومة، لألحق ببيتر الذي نام منذ أول دقيقة.

وعندما استيقظت، كان الظلام لا يزال مخيِّمًا. كانت العربة متوقفة في فناء بدا مظلَّلًا بأشجار كبيرة. كان الثلج أكثر سُمكًا في هذا المكان، واستشعرت من طبيعة الهواء أننا قد غادرنا المدينة، وصعدنا إلى أرض أعلى. وجدت مباني كبيرة على أحد الجانبين، ورأيت على الجانب الآخر ما يُشبه حافة تل مرتفعة. كان المكان خاليًا من أي أنوار، غارقًا في ظلام دامس، لكني شعرت بوجود رجال آخرين على مقربة مني بخلاف حسين والسائق.

اصطحبونا بسرعة إلى مبنًى خارجي ومعنا بلنكيرون، الذي لم يكن قد استفاق تمامًا من نومه، ثم نزلنا بضع درجات سُلم إلى قبو فسيح. وهناك، أشعل حسين مشكاة فوجدنا أنفسنا في مكان كان يُستخدم في السابق مخزنًا للفاكهة. فقد كانت الأرضية لا تزال مغطاة بقشور قديمة متناثرة، وكان المكان يفوح برائحة تفاح. وجدنا في الأركان فُرشًا للنوم من قشٍّ مكدَّس، وطاولة بدائية، وأريكة من ألواح مغطاة بجلود الأغنام.

سألت حسين: «أين نحن؟»

قال: «في بيت الزعيم. ستكونون آمِنين هنا، ولكن عليكم أن تبقَوا ساكنين ريثما يأتي الزعيم.»

سألته: «هل السيدة الألمانية هنا؟»

أومأ حسين بالإيجاب، وأخرج بعض الطعام من جعبة، وكان عبارة عن زبيب ولحم بارد ورغيف خبز. فانقضضنا على الطعام كالنسور، وبينما كنا نأكل، اختفى حسين. ولاحظت أنه أوصد الباب خلفه.

حالما فرغنا من طعامنا، استأنف الآخران نومهما الذي قوطِع. لكني ظللت مستيقظًا، وكان ذهني نهمًا لمعرفة أشياء كثيرة. أخذت مشعل بلنكيرون الكهربائي واستلقيت على الأريكة لأتفحص خريطة شتوم.

أدركت من أول نظرة إلى الخريطة أنني قد عثرت على كنز. فقد تبيَّن أنها خريطة قيادة الأركان الخاصة بدفاعات الجيش في أرضروم، وكانت توضح الحصون والخنادق الميدانية، بالإضافة إلى ملاحظات قصيرة مكتوبة بعجالة بخط شتوم الصغير الأنيق. أخرجت الخريطة الكبيرة التي أخذتها من بلنكيرون، وتبينتُ منها المخطط العام لتضاريس المنطقة. رأيتُ في الشرق سلسلة تلال ديفي-بويون التي تتخذ شكل حدوة حصان، والتي كانت المدافع الروسية تقصفها. كانت خريطة شتوم مُماثلة لنوعية خريطة المدفعية المقسمة إلى مربعات التي استخدمناها في فرنسا؛ إذ كانت مرسومة بمقياس رسم مقداره ١ إلى ١٠ آلاف، وتتضمَّن خطوطًا حمراء عنكبوتية توضح الخنادق، لكنَّ الاختلاف الوحيد أن الخنادق التركية هي التي كانت موضَّحة بالتفصيل، في حين أنَّ الخنادق الروسية كان مُشارًا إليها بلا أي توضيح. في الحقيقة كانت تلك خريطة سرِّية لحدود حصن أرضروم كله، وكانت قيمتها للعدو لا تُقدَّر بالذهب. لا عجب أنَّ شتوم قد استشاط غضبًا لفقدانها.

بدت لي تحصينات ديفي-بويون قوية إلى حدٍّ هائل، وتذكرت مزايا المقاتل التركي حين يقاتل من وراء دفاعات قوية. عندئذٍ بدا لي أنَّ روسيا مقبلة على مواجهة «بلفن» ثانية أو «جاليبولي» جديدة.

ثم انتقلت إلى تفحُّص الجناحَين. كانت سلسلة جبال بالاندوكن تقع جنوبًا، وتضم حصونًا لحماية الممرات الجبلية، حيث تمتد الطرق المؤدية إلى موش وبحيرة وان. وقد بدا ذلك الجانب أيضًا قويًّا جدًّا. أمَّا شمالًا في وادي الفرات، فرأيتُ حصنَين كبيرين، وهما «تافتا» و«كارا جوبك»، يحمِيان الطريقَ الممتدَّ من أولتو. كانت ملاحظات شتوم كثيرة في هذا الجزء من الخريطة، وأوليتُها كل اهتمامي. تذكرتُ معلومة بلنكيرون عن تقدُّم الروس على نطاق جبهة واسعة؛ إذ كان واضحًا أنَّ شتوم يبذل جهدًا مضنيًا للدفاع عن جناح الحصن.

كان حصن كارا جوبك هو النقطة المهمة. كان يقع على قطعةٍ طولية من الأرض بين قمتَين مرتفعتَين بمَيلٍ شديد الانحدار، حسبما اتضح من الخطوط الكنتورية على الخريطة. كان من الواضح أنهم ما داموا مسيطرين عليه فلن يستطيع أيٌّ من الغزاة أن يتقدم نحو أسفل وادي الفرات. كتب شتوم ملحوظةً عن كون القمتَين «غير مُحصنتَين»، وعلى بُعد نحو ميلَين جهة الشمال الشرقي، وجدتُ علامة حمراء من خطَّين متقاطعَين، واسم «شفالسكي». فافترضتُ أنَّ هذه هي أبعد نقطة وصلَت إليها مَيمنة الهجوم الروسي حتى الآن.

ثم انتقلت إلى الورقة التي كان شتوم ينسخ منها الملاحظات الموجزة المدونة على خريطته. كانت مكتوبة بالآلة الكاتبة، وتضم ملاحظاتٍ عن نقاط مختلفة. كانت إحداها معنونة بكلمة «كارا جوبك»، وجاء فيها: «لا وقتَ لتحصين القمتَين المجاورتَين. من الصعب على العدو أن يوصل بطاريات مدفعياته إلى هناك، لكنه ليس مستحيلًا. وهذا هو مكمن الخطر الحقيقي؛ لأنه إذا ظفر شفالسكي بهاتَين القمتَين، فسيسقط حصنا كارا جوبك وتافتا حتمًا، وسيصبح العدو عند الجزء الخلفي الأيسر من معقل ديفي-بويون الرئيسي.»

كنت جنديًّا خبيرًا بما يكفي لأدرك الأهمية الهائلة لتلك الملحوظة. فقد استنتجتُ أنَّ الدفاع عن أرضروم كان معتمدًا على حصن كارا جوبك، وأنَّ الحصن سهل الاختراق إذا عُرف موطن ضعفه. لكن حين تفحصت الخريطة مجددًا، لم أقتنع بأنَّ أي قائد عسكري يمكن أن يرى أن هناك فرصة للظَّفر بالقمتَين المتجاورتَين، حتى وإن رآهما غير مُحصنتَين. كانت تلك المعلومة مقصورة على ضباط الأركان الأتراك والألمان. ولكن إذا أمكن إيصالها إلى الدوق الأكبر، فستُصبح أرضروم في قبضته في غضون يوم واحد. وإلَّا فسيواصل قصف سلسلة تلال ديفي-بويون لأسابيع، وقبل مدة طويلة من الظفر بها، ستصل كتائب جاليبولي، وستُصبح أعداد قوات العدو ضِعف أعداد قواته، وستتلاشى فرصته في تحقيق النصر.

جعلني هذا الاكتشاف أجوب القبو ذهابًا وإيابًا في حماسة مفرطة. كنت أتوق إلى جهاز اتصال لاسلكي أو حمامة زاجلة أو طائرة، أو أي شيء يعبر الأميال الستة الفاصلة بيني وبين الجبهة الروسية. جُن جنوني من عجزي عن الاستفادة من تلك المعلومة المهمة التي صادفتها. فأنَّى لثلاثة هاربين مُختبئين في قبو، مُطارَدين من عُش دبابير الأتراك والألمان الذي أُثيرَ عليهم؛ أن يطمحوا إلى إرسال هذه الرسالة التي كان فحواها مسألة حياة أو موت؟

عدت إلى الخريطة وتفحصت أقرب المواقع الروسية. فقد كانت مُحددة بدقة. كان شفالسكي متركزًا في الشمال، حيث يقود القوة الرئيسية على الجانب الآخر من ديفي-بويون، في حين وصلَت طوابير القوات الجنوبية حتى ممرات بالاندوكن، لكنها لم تعبرها بعد. لم يكن بإمكاني معرفة أيهما الأقرب إلينا قبل أن أعرف مكاننا بالتحديد. وبينما كنتُ أفكر في ذلك، بدأت أرى ملامح خطة متهورة. كانت خطتي تعتمد على بيتر، الذي كان في تلك اللحظة نائمًا ككلبٍ مُنهَك على أريكة من القش.

كان حسين قد أوصد الباب، وكنت مضطرًّا إلى انتظاره ريثما يعود لأعرف منه المعلومة التي أريدها. لكني فجأة لاحظت وجود نافذة في السقف، وبدا واضحًا أنها كانت تُستخدم لرفع المؤن التي تُخزن في القبو وإنزالها. بدا مصراعها غير موضوع بإحكام في إطاره، وربما لا تكون موصدة؛ لذا سحبتُ الطاولة إلى أسفلها، ووجدت أنني أستطيع رفع المصراع بلا عناء. كنت أعلم أنني أخوض مجازفة هائلة، لكن حرصي الشديد على تنفيذ خطتي جعلني أتجاهل كل الأخطار. استطعتُ ببعض العناء أن أقتلع المصراع، وتشبثتُ بحواف الفتحة بأصابعي، ثم رفعت جسدي ووضعت ركبتيَّ على الحافة.

وجدتُ نفسي في المبنى الملحق الخارجي الذي كنا مُختبئين في قبوه، وكان شِبه مُضاء. لم أجد مخلوقًا هناك، وأخذت أبحث حتى عثرت على مرادي. كان ما وجدته سُلَّمًا يؤدي إلى حجيرة أشبَهَ بعليةٍ، وكانت هذه بِدَورها تقود إلى السطح. وهنا كان عليَّ أن أتوخَّى الحذر الشديد؛ لئلَّا يراني أحد من المباني العالية حولي. لكني، من حسن حظي، وجدتُ تعريشةً لكروم العنب مُمتدة في أرجاء المكان، فأتاحت لي ستارًا حاجبًا لا بأس به. استلقيتُ على بطني وأمعنت النظر على امتداد مساحةٍ شاسعة من الريف المفتوح.

نظرت شَمالًا، فرأيت المدينة وسط ضبابٍ من سديم الصباح، ورأيت خلفها سهلَ الفرات وفتحة الوادي الضيق التي يخرج عندها النهر من التلال إلى السهل. وهناك في الأعلى، وسط المرتفعات المكسوة بالثلوج، وجدتُ حِصنَيْ تافتا وكارا جوبك. أمَّا في جهة الشرق، فكانت هناك سلسلة تلال ديفي-بويون، حيث كان الضباب ينقشع قبل شروق شمس الشتاء. رأيتُ وسائل نقل تتحرك على الطرق المؤدية إلى هناك، ورأيت دائرة الحصون الداخلية، لكن صوت المدافع سكت لحظةً. وفي الجنوب، وجدت جدارًا شاهقًا من جبل أبيض استنتجتُ أنه جبل بالاندوكن. وكذلك استطعت رؤية الطرق المؤدية إلى الممرات، ودخان المعسكرات وطوابير الخيول أسفل الجروف.

لقد عرفت كل ما كنت أحتاج إليه. فتبيَّن لي أننا كنا في المباني الخارجية المُلحَقة بمنزل ريفي كبير يقع على بُعد ميلَين أو ثلاثة أميال جنوب المدينة. وكانت أقرب نقاط الجبهة الروسية إلينا تقع في مكانٍ ما عند سفوح بالاندوكن.

وأثناء نزولي، سمعتُ صوتًا رقيقًا خافتًا جميلًا كصيحة طائر بري، وتبيَّن لي أنه صوتُ المؤذن من مآذن أرضروم.

عندما أسقطتُ نفسي من خلال نافذة السقف، وجدت الآخرين مُستيقِظين. كان حسين يضع الطعام على المائدة، وينظر إلى نزولي باستنكارٍ قَلِق.

فقلت له: «لا بأس. لن أُكرر ذلك مرة أخرى؛ لأنني عرفت كل ما كنت أريده. عزيزي بيتر، استعِد لأداء أهم مهمةٍ في حياتك!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤