الفصل الثاني

تجمُّع أفراد المهمة

أرسلتُ برقيةً إلى ساندي، طالبًا منه أن يأتي على متن قطار الثانية والربع ويُقابلني في شقَّتي.

قلتُ لبوليفانت: «لقد اخترتُ رفيقي.»

فقال: «ابن بيلي أربوثنوت؟ كان والده معي في هارو. أعرف ذلك الرجل؛ إذ اعتاد هاري أن يُحضِره ليصطاد، إنه طويل القامة، ذو وجه نحيلٍ بارز الوجنتَين، وعينَين بُنيتَين كعينَي فتاة جميلة. أعرف سجلَّه أيضًا. يوجَد الكثير عنه في هذا المكتب. لقد مرَّ بحصانه عبر اليمن، وهذا ما لم يفعله رجلٌ أبيض من قبل. سمح له العرب بالمرور؛ لأنهم ظنُّوه مجنونًا تمامًا، وزعموا أنَّ يد الرب كانت ثقيلة عليهِ بما يكفي، ولا داعي لتدخُّلٍ منهم يزيد مُعاناته. إنه أخٌ بالدم لكلِّ أنواع قُطاع الطرق الألبان. وكان له نفوذ في السياسة التركية أيضًا، ونال صيتًا كبيرًا. ذات يوم، كان رجل إنجليزي يشتكي لمحمود شوكت العجوز من ندرة الساسة المُحنَّكين في أوروبا الغربية، فقاطعَه محمود قائلًا: «أليس عندكم فخامة السيد أربوثنوت؟» تقول إنه موجود في كتيبتك. كنتُ أتساءل عمَّا حلَّ به؛ لأننا حاولنا التواصُل معه هنا، لكنه لم يترك أي عنوان. لودوفيك أربوثنوت، نعم، هذا هو الرجل المناسب. إذن فهو مدفون في أعماق الضباط المُكلَّفين في الجيش الجديد؟ حسنًا، سنُخرِجه سريعًا جدًّا!»

«كنت أعرف أنه قد طاف الشرق، لكني لم أكن أعرف أنه ذو مكانة سياسية بارزة هكذا. فساندي ليس من نوعية الرجال الذين يتباهَون بأنفسهم.»

قال السير والتر: «لم يكن ليفعل ذلك. لقد كان دومًا كَتومًا، وأكثر تحفظًا من الشرقيين أنفسهم. لديَّ رفيقٌ آخر لك، إذا أعجبك.»

ثم نظر إلى ساعته. وقال: «يُمكنك أن تذهب إلى مطعم فندق سافوي في غضون خمس دقائق إذا استقللتَ سيارة أجرة. ادخل من شارع ستراند، واستدِر يسارًا، وستجد في تجويف الحائط على الجانب الأيمن طاولةً عليها رجل مُهذب أمريكي ضخم البنيان. إنهم يعرفونه هناك؛ لذا سيكون منفردًا بالطاولة لنفسِه. أُريدك أن تذهب إليه وتجلس بجواره. قُل له إنك من طرفي. اسمه السيد جون سكانتلبري بلنكيرون، وهو الآن مواطن من مواطني مدينة بوسطن في ولاية ماساتشوستس، لكنه وُلد ونشأ في ولاية إنديانا أصلًا. ضع هذا الظرف في جيبك، لكن لا تقرأ محتواه إلَّا بعدما تتحدَّث إليه. فأنا أُريدك أن تكوِّن رأيك عن السيد بلنكيرون من وحي قناعتك الشخصية.»

خرجتُ من وزارة الخارجية بذهنٍ مشوَّش كذهنِ أي دبلوماسي خرج من بواباتها من قبل. كنتُ في غاية الاكتئاب. أولًا، كنتُ أشعر بوجل تام. صحيح أنني دائمًا ما كنتُ أظن أنَّ شجاعتي تكاد تفوق شجاعة أي رجلٍ عادي، ولكنَّ ثمة فارقًا بين شجاعة وأخرى، وبالتأكيد لم تكن شجاعتي من النوع المتبلِّد الإحساس. ضعني في خندق وسأستطيع تحمُّل إطلاق النار عليَّ بصمودٍ أشدَّ من معظم الناس، ويُمكن أن يسخن دمي وأتحمَّس إذا سنحت فرصة لذلك. لكني أظن أنَّ مخيلتي كانت أوسع ممَّا ينبغي. لم أستطع أن أطْرُد من رأسي التوقعات البغيضة التي ظلت تتزاحم فيه.

قدَّرتُ أنني، في غضون نحو أسبوعين، سأكون ميتًا. مُردًى قتيلًا بالرصاص كجاسوس، يا لها من نهايةٍ بشعة! أمَّا في تلك اللحظة، فكنت آمنًا تمامًا، أبحث عن سيارة أجرة وسط وايتهول، لكن جبهتي بدأت تتصبَّب عرقًا. انتابني الشعور نفسه الذي شعرت به في مغامرتي التي خضتُها قبل الحرب. لكنَّ هذه كانت أسوأ بكثير؛ لأنها كانت تتطلب مزيدًا من الهدوء والتريث والتدبير المسبق، ولأن فرصتي في النجاح بدت معدومة. وقفتُ أشاهد القامات المُرتدية الزي العسكري وهي تعبُر الرصيف، وفكرتُ في أنَّ المستقبل القريب الذي ينتظر هؤلاء الأشخاص آمِن جميل مقارنةً بما ينتظرني. نعم، حتى لو أصبحوا في قلعة هوهونتسولرن الأسبوع المقبل، أو خندق هيربين في منطقة المحاجر، أو تلك الزاوية البغيضة في قرية هودج. تساءلتُ لماذا لم أكن أسعد في صباح ذلك اليوم قبل أن أتلقَّى تلك البرقية الملعونة. وفجأة بدت لي كل تفاهات الحياة الإنجليزية غالية وعزيزة إلى حدٍّ لا يوصَف، وبعيدة المنال للغاية. كنتُ غاضبًا جدًّا من بوليفانت، حتى تذكرتُ كم كان عادلًا. فأنا من اخترتُ قدري بمحض إرادتي.

عندما كنتُ أطارد جماعة بلاك ستون، ساعدَني التشويق الكامن في المشكلة على مُواصلة المهمة. لكني في هذه المرة لم أكن أرى أي مشكلةٍ أصلًا. لم يكن لديَّ أي خيطٍ أستند إليه سوى ثلاث كلمات من الهراء المُبهم على قطعةٍ من الورق، ولغز كان السير والتر مقتنعًا بوجوده لكنَّه لم يستطِع أن يُطلق عليه اسمًا معيَّنًا. كان الأمر كالقصة التي قد قرأتها من قبل عن سانت تريزا وهي ترتحل في سنِّ العاشرة مع شقيقها سعيًا إلى إقناع الموريين باعتناق المسيحية. جلستُ في سيارة الأجرة مكوَّمًا على نفسي، مُسنِدًا ذقني على صدري، متمنيًا في نفسي أن لو كنتُ فقدت ساقي في معركة لوس، وانعزلتُ مرتاحًا في مكانٍ بعيد إلى أن تنتهي الحرب.

وجدتُ رجُلي في المطعم كما كان متوقعًا. كان جالسًا هناك، يأكل بجدية ورزانة، وقد دسَّ تحت ذقنه منديل مائدة. كان رجلًا ضخمًا ذا وجهٍ سمين شاحب، حليق اللحية. تجاهلتُ النادل الذي كان يحوم حولي منتظرًا تقديم المساعدة لي، وسحبتُ كرسيًّا بجوار الأمريكي عند طاولته الصغيرة. استدار نحوي بعينَين يملؤهما النعاس كأنه ثور مُجتر.

سألته: «السيد بلنكيرون؟»

فقال: «تعرفُ اسمي أيها السير. السيد جون سكانتلبري بلنكيرون. أتمنَّى لك صباحًا طيبًا، لو رأيتُ أي شيء طيبٍ في هذا الطقس البريطاني اللعين.»

قلت بنبرةٍ خفيضة: «أنا من طرف السير والتر بوليفانت.»

فقال: «حقًّا؟ السير والتر من أصدقائي المُقربين جدًّا. سُررتُ بلقائك أيها السيد، أو ربما الكولونيل …»

قلت: «هاناي، الميجور هاناي.» كنتُ أتساءل ما المساعدة التي يستطيع هذا الأمريكي الناعِس أن يُقدمها لي.

قال: «دعني أُقدم لك غداءً على نفقتي الخاصة أيها الميجور. أيها النادل، أحضر قائمة المأكولات. يؤسِفني أنني لن أستطيع أن أُشاركك تذوُّق ما تُقدمه إدارة هذا الفندق. فأنا، يا سيدي، مصاب بعُسر الهضم، عُسر هضم الاثنا عشر. إنه يُصيبني بعد ساعتَين من تناول الوجبات، ويُشعِرني بجحيم مُستعر أسفل عظام صدري. لذا فأنا مُلزَم باتباع نظامٍ غذائي. طعامي هو السَّمك والحليب المغلي وقليل من الخبز المحمَّص الجاف. أتحسَّر على تلك الأيام التي كنتُ أستطيع فيها أن أُوفِّيَ وجبة غداء في مطعم شيري حقَّها، وألتهِمَ سلطعونات المحار وعظامًا مطهوة بالتوابل الحارة.» وتنهَّد من أعماق جسده العريض.

طلبتُ بيضًا مخفوقًا مقليًّا وشريحةً من اللحم المُقدَّد، وألقيتُ نظرةً أخرى عليه. كانت عيناه الكبيرتان تبدوان كأنهما تُحدِّقان بثباتٍ في وجهي دون أن ترياني فعلًا. كانتا خاويتَين كعينَي طفلٍ شارد الذهن، ولكن انتابني شعور غير مُريح بأنهما كانتا أشدَّ إبصارًا من عينيَّ.

قال: «أكنتَ تقاتل في الحرب أيها الميجور؟ معركة لوس؟ حسنًا، أظن أنها كانت معركةً شعواء بكلِّ تأكيد. نحن في أمريكا نحترم بسالة الجندي البريطاني في القتال، لكننا لا نستوعِب حِيَل الجنرالات البريطانيين وخُططهم إطلاقًا. فنحن نرى أنَّ النزعة العدوانية بين أعاليكم وقادتكم تفوق تفكيرهم العلمي. صحيح؟ لقد قاتل والدي في تشاتانوجا، لكنِّي لم أُعايش شيئًا بنفسي أعنف من الانتخابات الرئاسية. قل لي، هل تُوجَد أي طريقة تُتيح لي دخولَ مشهدٍ تُراق فيه دماء حقيقية؟»

أضحكتني نبرته الجادة. قلت: «الكثير من أبناء بلدك مشاركون في المعركة الحالية. فالفيلق الأجنبي الفرنسي يعجُّ بشبانٍ أمريكيين، وكذلك فيلق الخدمات في جيشنا. نصف السائقين الذين يُصادفهم المرء في فرنسا يَبدون من الولايات المتحدة.»

تنهَّد. وقال: «فكرتُ في الإقدام على عملٍ قتالي مُثير قبل عام. لكني فكرتُ مليًّا، وارتأيتُ أنَّ الربَّ الكريم لم يُنعِم على جون إس بلنكيرون بالبنية الجسدية القتالية التي قد تُشرِّف ميدان المعركة. وتذكرتُ أيضًا أننا، نحن الأمريكيين، كنَّا مُحايدِين، مُحايدِين خيِّرين، ولم يكن من اللائق أن أتدخَّل في الصراعات الدائرة بين الممالك العقيمة في أوروبا. لذا بقيتُ في وطني. وكانت هذه تضحية كبيرة أيها الميجور؛ لأنني كنتُ أرقد مريضًا أثناء الحرب الفلبينية الأمريكية، ولم أُجرِّب المشاعر التي يُنفِّس عنها الرجال في ساحة المعركة بلا رادعٍ قانوني قط. ولأنني مُهتم بدراسة الطبيعة الإنسانية، كنتُ أتوق إلى التجربة.»

سألته: «وماذا فعلتَ منذ ذلك الحين إلى الآن؟» فقد بدأ ذلك الرجل المُهذَّب الهادئ يُثير فضولي.

قال: «حسنًا، انتظرتُ فحسب. لقد أنعم عليَّ الرب بأموالٍ طائلة لأُنفقها كيفما أشاء؛ لذا لم أكن مُحتاجًا إلى أن أهرع كقطةٍ برِّية بحثًا عن إبرام صفقاتٍ أجني بها أرباحًا من وراء الحرب. لكني ارتأيتُ أنَّ الفرصة ستُتاح لي لأدخل اللعبة بطريقةٍ ما، وقد كان. فبصِفتي مُحايدًا، كنتُ في وضعٍ مُواتٍ للمشاركة. عشتُ فترةً حافلةً جدًّا، ثم ارتأيتُ أن أُغادر بلاد الربِّ وأرى ما يحدُث في أوروبا. قررتُ ألَّا أُشارك في ساحات القتال وإراقة الدماء، لكنَّ السلام، كما يقول شاعركم في أغنيتِه، له انتصارات لا تقلُّ مجدًا عن الحرب، وأرى أنَّ هذا يعني أنَّ المُحايد يُمكن أن يكون له دورٌ في الحرب كالمُحارب المولَع بالقتال.»

قلت: «هذا أفضل أنواع الحياد التي سمعتُ عنها في حياتي.»

ردَّ برزانة: «هذا هو النوع الصحيح. أخبِرني أيها الميجور، ما الذي تُقاتل جماعتُك من أجلِه؟ من أجل أرواحكم والإمبراطورية وسلام أوروبا. حسنًا، تلك المُثُل لا تُهمُّنا إطلاقًا. نحن لسنا أوروبيين، ولا تُوجَد أي خنادق ألمانية على جزيرة لونج آيلاند حتى الآن. لقد أرسيتُم القواعد في أوروبا، وإذا تدخلنا، سيكون هذا مُنافيًا لقواعد اللعبة. لن تُرحبوا بنا، وأظن أنكم ستكونون مُحقِّين في ذلك. إننا مراعون جدًّا لأصول اللياقة لدرجة أننا لا نستطيع التدخُّل، وهذا ما كان صديقي، الرئيس ويلسون، يقصده حين رأى أنَّ كبرياء أمريكا يمنعها من التدخُّل. لذا فنحن مُحايدون. لكننا مُحايدون خيِّرون أيضًا. من واقع مُتابعتي للأحداث، يُوجَد ظَرِبان أُطلِق في العالم، ورائحتُه ستجعل الحياة كريهة، إلى حين التخلُّص منه. صحيح أننا لسنا مَن أطلقنا ذلك الظَّرِبان، ولكن علينا أن نُساعد في تطهير الكوكب منه. أتفهمني؟ لا نستطيع خوض الحرب، ولكن، بحقِّ الرب، بعضنا مُستعد لأن يتصبَّب دمًا من أجل كسح الفوضى الناجمة عنها. على المستوى الحكومي الرسمي، لا نفعل شيئًا سوى إصدار بياناتٍ كمِرجَل مثقوب يُسرِّب بخارًا. ولكن على مستوى المواطنين الأفراد، فنحن منشغلون بتلك المسألة حتى النخاع. لذا سأقتدي بجيفرسون ديفيس وودرو ويلسون، وسألتزم بأفضل نوعٍ من الحياد إلى أن يندم القيصر على أنه لم يُعلن الحرب على أمريكا أولًا.»

كنتُ أستعيد هدوئي تمامًا. كان هذا الرجل جوهرة مثالية، وشعرت بأنَّ روحه قد ألهمتني غايةً محددة.

«أظنُّ أنكم أيها البريطانيون كنتم تَلزَمون النوع نفسه من الحياد عندما حذَّر أدميرالكم الأسطول الألماني من اعتراض الأدميرال جورج ديوي في خليج مانيلا في عام ١٨٩٨.» شرب السيد بلنكيرون آخِر قطرة من حليبه المغلي، وأشعل سيجارًا أسود رقيقًا.

انحنيت إلى الأمام. وسألته: «هل تحدثتَ إلى السير والتر؟»

«تحدثتُ إليه، وفهمتُ منه أنَّ ثمة صفقة تنتظِرنا، وأنك ستكون مسئولًا عنها. هذا الرجل الضخم مُتبصرٌ وموثوق بكلامه، وإذا قال إنها صفقة رابحة، فيُمكنك أن تعتبرني مشاركًا فيها.»

«أتعرف أنها خطرة للغاية؟»

«خمَّنتُ ذلك. ولكن لا فائدة من البدء في إحصاء الأخطار. إنني أُومن بالعناية الإلهية الحكيمة الرحيمة، ولكن عليك أن تثِق بالرب وتمنحه فرصة. فما الحياة على أيِّ حال؟ عن نفسي، لا تعني لي الحياة سوى العيش على نظامٍ غذائي صارم، ومُكابدة آلام مُتكررة في معدتي. ليس من الصعب التخلي عنها، بشرطِ أن تجني ربحًا جيدًا من الصفقة. وفوق ذلك، ما حجم الخطر المُحتمل؟ قُرابةَ الساعة الواحدة صباحًا، عندما يكون النوم مُستعصيًا عليك، سيكون الخطر بحجم جبل إيفرست، ولكن إذا ركضتَ لمجابهته مُقبِلًا غير مُدبِر، فسيكون بمنزلة تلٍّ صغير تستطيع القفز من فوقه. فالدب الرمادي يبدو في مخيلتك شرسًا جدًّا وأنت مقبلٌ على الذهاب إلى جبال روكي، متسائلًا عمَّا إذا كنتَ ستنجو وتعود من هناك، لكنه يُصبح مجرد دبٍّ عادي عندما تُسلِّط مِهدافَ بندقيتك عليه. لن أفكر في الأخطار إلَّا بعد أن أغوص فيها حتى عُنقي ولا أرى سبيلًا إلى الخروج منها.»

كتبتُ عنواني في عجالةٍ على قصاصةٍ ورقية وسلمتها للفيلسوف البدين. وقلت: «تعالَ لتتناول العشاء معي الليلة في الساعة الثامنة.»

«شكرًا لك أيها الميجور. أرجو أن تُعِد لي قليلًا من السمك المسلوق دون أي توابل أو إضافات، وبعض الحليب الساخن. وأستميحك عذرًا أن أستعير أريكتك بعد الوجبة، وأقضي المساء مُستلقيًا عليها. فهذه نصيحة طبيبي الجديد.»

استقللتُ سيارة أجرة وذهبت بها إلى النادي الذي كنتُ أرتاده. وفي الطريق، فتحتُ الظرف الذي أعطاني إيَّاه السير والتر. كان يحوي عددًا من الملاحظات كانت بمنزلة ملفٍّ عن السيد بلنكيرون. اتضح لي أنه فعل معجزاتٍ لدول الحلفاء في الولايات المتحدة. فقد كشف مؤامرة دومبا، واضطلع بدورٍ مُهم جدًّا في الحصول على حقيبة أوراق الدكتور ألبرت. حاول جواسيس فون بابن قتله، بعدما أحبط محاولةً لتفجير أحد مصانع السلاح الكبيرة. وكتب عنه السير والتر في النهاية: «أفضل رجل حظينا به على الإطلاق. أفضل حتى من سكادر. إنه مُستعد لاقتحام أهوال الجحيم بعلبةٍ من أقراص البزموت ومجموعة من أوراق اللعب.»

دخلت إلى غرفة التدخين الخلفية الصغيرة، واستعرتُ أطلسًا من المكتبة، وأجَّجتُ نيران المدفأة بالسيخ، وجلست أُفكر. لقد أعطاني السيد بلنكيرون الدَّفعة التي كنتُ أحتاج إليها. وهكذا بدأ عقلي يعمل، وأخذ يستكشف المسألة كلها من جميع جوانبها. لا يعني ذلك أنني كنتُ أطمح إلى التوصُّل إلى أي شيءٍ بتأمُّلاتي تلك. فهذا اللغز ما كان ليُحَل بالتفكير وأنا جالسٌ على كرسيٍّ ذي مسندَين. لكني كنتُ أحاول أن أستجمِع في رأسي ملامح خطةٍ معينة لأُسيِّر العملية وفقها. وما أراحني أنني توقفتُ عن التفكير في الأخطار. لقد أشعرني بلنكيرون بالخجل من نفسي وأخرجني من تلك الحالة. فإذا كان لرجلٍ كثير القعود مُصاب بعُسر الهضم أن يُظهِر جرأة كهذه، فلن أكون أقل منه.

عدتُ إلى شقتي قُرابةَ الساعة الخامسة. كان خادمي بادوك قد رحل منذ فترةٍ طويلة للمشاركة في الحروب؛ لذا انتقلتُ إلى أحد المُجمعات السكنية الجديدة في شارع بارك لين حيث يُوفرون طعامًا وخدمة. لكني ظللتُ محتفظًا بشقَّتي القديمة لأجد مكانًا أذهب إليه عند الحصول على إجازة. فبئس قضاء الإجازات في فندق.

كان ساندي يلتهِم كعكات الشاي بإصرارٍ جادٍّ على التماثُل للشفاء.

سألني: «حسنًا يا ديك، ما الأخبار؟ هل رقَّوك إلى منصبٍ أعلى أم سرَّحوك من الخدمة؟»

«لا هذا ولا ذاك. لكننا سنختفي أنا وأنت من قوات جلالته. سنذهب في إعارةٍ لتنفيذ خدمة خاصة.»

قال ساندي: «ربَّاه! ما هي؟ من أجل الرب فلتُبعِدني عن العناء. هل سنصطحِب وفود المُحايدِين المشبوهِين إلى مصانع السلاح والذخيرة، أم سنأخذ الصحفي المرتعِش في سيارةٍ إلى مكانٍ يتخيل فيه أنه يرى ألمانيًّا؟»

«سنخوض في التفاصيل لاحقًا. ولكن يُمكنني أن أُخبرك الآن بهذا القدر. إنها آمنة وسهلة كعبور خطوط الألمان بعكاز.»

فقال ساندي: «حسنًا، هذا ليس سيئًا جدًّا»، وبدأ يتناول كعكات المافن بمرحٍ وبهجة.

يجب أن أُخصِّص لحظةً لأقدِّم ساندي للقارئ؛ إذ لا يُمكن أن يُقحَم في أحداث هذه القصة فجأة هكذا دون تقديمٍ لائق. إذا عدتَ إلى سجلِّ العائلات النبيلة، فستجد أنَّ إدوارد كوسباتريك، بارون كلانرويدن الخامس عشر، له ابنٌ وُلِد في عام ١٨٨٢، وكان هذا هو ابنَه الثاني، واسمه لودوفيك جوستافوس أربوثنوت، ويُلقَّب عادةً بفخامة السيد المُحترم، إلى آخِر الاسم. تلقى الابن المذكور تعليمه في كلية إيتون وكلية نيو كوليدج في أكسفورد، وكان قائدًا في فوج تويديل يومانري، وعَمِل مُلحقًا شرفيًّا في سفاراتٍ مختلفة عدة سنوات. سيكون سجلُّ العائلات النبيلة مقتصرًا على هذا الحد، لكن هذه ليست نهاية القصة إطلاقًا. وإذا أردتَ أن تعرف البقية، فسيكون عليك الاستعانة بمراجع مختلفة تمامًا. كبعض الرجال السُّمر النُّحفاء الذين يأتون من أقاصي الأرض، والذين قد يراهم المرء على أرصفة لندن بين الحين والآخر بثيابٍ مجعَّدة، يمشون بالخطوة الأجنبية الخفيفة، ويتسلَّلون إلى داخل النوادي كما لو كانوا لا يستطيعون تذكُّر ما إذا كانوا أعضاء فيها أم لا. فهؤلاء قد تعرف منهم معلوماتٍ عن ساندي. ولكن إذا أردتَ مرجعًا أفضل، فستسمع عنه في موانئ الصيد الصغيرة المنسية التي تغوص عندها الجبال الألبانية في البحر الأدرياتيكي. وإذا ذهبت إلى مكة من أجل الحج، فمن المُحتمل أن تلتقي العشرات من أصدقاء ساندي فيها. وفي أكواخ الرعاة في القوقاز، ستجد قِطعًا من ثيابه المتروكة؛ لأنه معتاد أن يترك ملابسه أثناء ترحاله. وهو معروف كذلك في خاناتِ قوافل بُخارى وسمرقند، ويوجَد صيادون في جبال بامير ما زالوا يتحدَّثون عنه وهم يتسامرون حول نيرانهم. وإذا كنتَ ستزور بتروجراد أو روما أو القاهرة، فلن يُفيدك أن تطلُب منه خطابات توصية لتُسهِّل عليك الأمور في هذه المناطق؛ لأنه لو أعطاك إيَّاها، فستقودك إلى أماكن غريبة. ولكن إذا أجبرك القَدَر على الذهاب إلى لاسا أو يارقند أو سيستان، يُمكن لساندي أن يرسُم لك طريقك ويُخبِر أصدقاءه النافذين بقدومِك ليُساعدوك. صحيح أننا نَصِف أنفسنا بأننا مُنعزلون عن بقية البشر، لكن الحقيقة أننا العِرق الوحيد على الأرض الذي يُمكنه أن يُنتِج رجالًا قادرين على الاندماج التام مع الشعوب البعيدة. ربما يكون الاسكتلنديون أفضل من الإنجليز، لكننا جميعًا أفضل بنسبة ألف في المائة من بني أيِّ جنسية أخرى. كان ساندي هو الاسكتلندي المتجوِّل الذي وصل إلى قمة العبقرية في هذه النقطة. ولو كان موجودًا في الزمن القديم، لَقاد حملةً صليبية أو لَاكتشفَ طريقًا جديدًا إلى جزر الهند الشرقية. أمَّا اليوم، فإنه يكتفي بالترحال والتجوال كيفما تَقُوده روحه، إلى أن جرفته الحرب وألقَتْه في كتيبتي.

أخرجتُ الورقة التي أعطاني إيَّاها السير والتر. لم تكن الورقةَ الأصلية؛ لأنه عادةً ما كان يُحب الاحتفاظ بالأصل، لكنها كانت منسوخة عنها نَسخًا استشفافيًّا دقيقًا. ارتأيتُ أنَّ هاري بوليفانت لم يدوِّن تلك الكلمات ليُذكِّر نفسَه بها. فأمثاله ممَّن خاضوا مسيرةً مهنية حافلة كمسيرته لدَيهم ذاكرة قوية. لذا، فلا بد أنه دوَّنها لكي يتسنَّى لأصدقائه، إذا هَلَك ووجدوا جثتَه، أن يحصلوا على خيطٍ ما ليسترشدوا به. ومن ثَم، قلت لنفسي إنَّ هذه الكلمات لا بدَّ أن تكون مفهومةً لشخصٍ ما من بني جلدتنا، ولا بد كذلك أنها مُبهَمة تمامًا لأي تركي أو ألماني يعثر عليها.

لم أفهم شيئًا من الكلمة الأولى «قصر الدين». فسألت ساندي.

قال وهو ما يزال يلتهم الكعكات اللينة الصغيرة: «تقصد نصر الدين.»

فسألته بحدة: «ما هذا؟»

«إنه الجنرال الذي يُعتقَد أنه يقود الحملة المناهضة لنا في بلاد الرافدين. أتذكَّره منذ كنتُ في حلب قبل سنوات. كان يتحدث الفرنسية بركاكة، وكان يشرب ألذ شمبانيا.»

دققتُ في الورقة عن قُرب. فرأيت حرف القاف واضحًا كالشمس.

قال: ««قصر الدين» لا تُشير إلى شيءٍ مُحدد. إنها تعني «بيت الإيمان»، وقد تشمل أي شيءٍ بدءًا من جامع آيا صوفيا حتى فيلا راقية في الضواحي. ما لُغزك التالي يا ديك؟ هل تقدَّمت للمشاركة في مسابقةٍ على جائزة في صحيفة أسبوعية؟»

قرأتُ الكلمة التالية قائلًا: «سرطان.»

«هذا المرادف لكلمة سلطعون. وهو أيضًا اسم لمرضٍ مؤلِم. كما أنها علامة البرج الفلكي الذي يتخذ ذلك الشكل.»

قرأت الكلمة الثالثة: «V. I.»

«لا أعرف الإجابة. يبدو رقم سيارة. ستكتشف الشرطة ذلك لك. أراها مسابقة صعبة بعض الشيء. ما الجائزة؟»

ناولته الورقة. فقال: «من كتبها؟ يبدو كما لو كان في عجلةٍ من أمره.»

قلت: «هاري بوليفانت.»

ارتسمت الجدية على وجه ساندي. وقال: «هاري الذي نعرفه. لقد كان تلميذًا عند مُعلِّمي. أفضل رجل خلقه الرب على الإطلاق. رأيت اسمه في قائمة الضحايا قبل معركة الكوت … لم يكن هاري يفعل شيئًا عبثًا دون غرضٍ مُحدد. ما قصة هذه الورقة؟»

قلت: «انتظر إلى ما بعد العشاء. سأُغيِّر ثيابي وأستحم. ثمة رجل أمريكي قادم ليتعشى معنا، وهو ضلع في تلك المهمة.»

وصل السيد بلنكيرون في موعده بالضبط مرتديًا معطفًا من الفرو كأميرٍ روسي. وبعدما رأيته واقفًا على قدمَيه، بخلاف المرة الأولى، استطعت أن أكوِّن عنه رأيًا أدق. كان سمين الوجه، لكنَّ جسده لم يكن بدينًا للدرجة، وكان له معصمان مفتولا العضلات يظهران من أسفل أساور كُمَّي قميصِه. تخيلتُ أنه إذا اقتضت الحاجة، فسيكون بارعًا في القتال بيدَيه.

أكلتُ أنا وساندي وجبة دسمة، لكنَّ الأمريكي أكل القليل من سمكه المقلي دون شهية، وكان يرتشف حليبه قطرةً بقطرة. عندما انصرف الخادم، أوفَى الأمريكي بوعده واستلقى على أريكتي بالفعل. عرضت عليه سيجارًا فاخرًا، لكنه فضَّل واحدًا من سيجاره البغيض الأسود الرقيق. وجلس ساندي ممددًا في كرسيٍّ مريح وأشعل غليونه. ثم قال: «الآن حان وقت قصتك يا ديك.»

بدأت، كما بدأ السير والتر كلامه معي، بإخبارهم عن اللغز الغامض في الشرق الأدنى. سردتُ القصة بحبكةٍ مُشوقة جدًّا؛ لأنني ظللت أفكر فيها كثيرًا، ولأنَّ اللغز الكامن في المسألة قد استحوذ على خيالي كله. أصبح ساندي متحمسًا جدًّا.

قال: «هذا ممكن جدًّا. بل كنتُ أتوقعه، وإن كنتُ لا أستطيع إطلاقًا أن أُخمِّن الورقة الرابحة التي يُخبئها الألمان. الاحتمالات كثيرة جدًّا. ربما تكون نبوءةً زائفة كالتي ظهرت قبل ثلاثين عامًا وأحدثت خرابًا في اليمن. أو راية كالتي كان «علي واد حلو» يحملها، أو حِلية كعِقد سليمان في الحبشة. لا يُمكن للمرء أبدًا أن يعرف ماهية الشيء الذي سيُطلِق شرارة الجهاد! لكني أظنُّ أنه رجل.»

فسألته: «من أين استطاع أن يحظى بالتأييد اللازم؟»

«من الصعب أن نعرف ذلك. لو كان أتباعه مجرد رجال قَبَليين همجيِّين كالبدو، فربما يكون قد اكتسب سمعةً بوصفه قديسًا وصانع معجزات. أو ربما يكون رجلًا بشَّر بدينٍ خالص، كالرجل الذي أسس الطريقة السنوسية. لكنَّ أغلب ظنِّي أنه لا بد أن يكون رجلًا ذا طابع أكثر استثنائية إذا كان له أن يُسبِل سحره على العالَم الإسلامي كله ويُقنعه باتباعه. فالأتراك والفُرس لن تنطلي عليهم لعبة الإصلاحات اللاهوتية الجديدة التقليدية. لا بدَّ أن يكون ذلك الرجل من نَسَب الأشراف. إن هؤلاء المهدِيين والملالي والأئمة كانوا نَكِرات، لكنهم كانوا يَحظَون بهيبةٍ محلية فحسب. ولكي يسيطر ذلك الرجل على العالَم الإسلامي كله — وهذا ما نخشاه حسبما أفهم — لا بد أن يكون مُنتسبًا إلى قريش، قبيلة النبي نفسه.»

«ولكن كيف يستطيع أي مُحتال أن يثبت ذلك؟ لأنني أظنُّه محتالًا.»

«سيكون عليه أن يُقدِّم مزيجًا من ادِّعاءاتٍ كثيرة. بادئ ذي بدء، يجب أن يكون نَسَبه شريفًا جدًّا، وتذكَّر أنَّ ثمة عائلات تدَّعي أنها من نَسَب قريش. ثم يجب أن يكون أعجوبةً في حدِّ ذاته، أي: ورِع وبليغ وما إلى ذلك. وأتوقَّع أنه سيكون عليه أن يُبيِّن أمارةً ما، وإن كنتُ لا أحمل أي فكرة عن ماهية تلك الأمارة بالتحديد.»

سألته قائلًا: «أنت أدرى بالشرق من أيِّ إنسانٍ على وجه الأرض. هل تظن أنَّ شيئًا كهذا مُمكن؟»

قال ساندي بوجهٍ جادٍّ مُتجهم: «بكل تأكيد.»

«حسنًا، لدَينا بذلك أرضيةٌ مُمهَّدة للبداية. ثم لدَينا الدليل الذي حصلنا عليه من كل عميلٍ سرِّي تابع لنا تقريبًا. كل ذلك يبدو أنه يثبت الحقيقة. ولكن ليس لدَينا أي تفاصيل ولا خيوط باستثناء تلك القُصاصة الورقية.» وأخبرتهما بقصتها.

تفحَّصها ساندي قاطبًا حاجبَيه. ثم قال: «إنها عصيَّة على فهمي. لكنها قد تكون المفتاح لكلِّ ذلك. خيط ربما يكون مُبهَمًا هنا في لندن، وواضحًا تمامًا في بغداد.»

«هذه بالضبط هي النقطة التي كنتُ سآتي على ذكرها. يقول السير والتر إنَّ هذه المسألة مُهمة لقضيتنا بقدْرِ أهمية المدافع الثقيلة. لا يستطيع إعطائي أوامر، لكنه يعرض عليَّ مهمة السفر إلى الخارج لاكتشاف ماهية المؤامَرة الخبيثة. وحالَما يعرفها، يقول إنه يستطيع إحباطها. ولكن يَجب كشفها قريبًا لأنَّ اللغم قد ينفجر في أي لحظة. وقد قبلت المهمة. فهل يُمكنك مساعدتي؟»

كان ساندي يتأمَّل السقف.

«وينبغي أن أضيف أنَّ تلك المهمة محفوفة بأخطار مُهلِكة كلعبة التصويب على الأشياء وسط غمار معركة لوس، يومَ دخلنا ساحة المعركة أنا وأنت. وإذا فشلنا، فلن يستطيع أحدٌ مساعدتنا.»

قال ساندي بنبرةٍ شاردة: «أوه، طبعًا طبعًا.»

بعدما أنهى السيد بلنكيرون استلقاءَه بعد العشاء، انتصب في جلسته وسحب نحوَه طاولة صغيرة. أخرج من جيبه مجموعةً من ورق اللعب، وبدأ يلعب تلك اللعبة المُسماة «دابل نابليون». كان يبدو غير واعٍ بالمحادثة.

شعرتُ فجأة بأنَّ المسألة كلها محض جنون. فها نحن أولاءِ ثلاثة مُغفَّلين جالسين في شقة بلندن نعتزم تنفيذ مهمةٍ في قلعة الأعداء دون أي فكرةٍ عمَّا سنفعله أو كيف سنفعله. وكان أحد الثلاثة يتأمَّل السقف، مُصفِّرًا بصوتٍ خفيض من بين أسنانه، فيما كان آخَر يلعب إحدى ألعاب الورق. انتابني شعورٌ قوي جدًّا بهزلية الموقف لدرجة أنني ضحكت.

نظر ساندي إليَّ بحدة.

«هل يُراودك هذا الشعور؟ يُراودني أنا أيضًا. هذا جنون، لكنَّ الحرب كلها جنونية أصلًا، والأشد جنونًا هو من سيفوز على الأرجح. سنسلُك هذا الطريق المجنون مهما كانت الوجهة التي نتوقع أن يقودنا إليها. حسنًا، أنا معك في هذه المهمة. لكني لا أمانع الاعتراف بأنني مرعوب. فقد اعتدتُ القتال في الخنادق، وكنتُ سعيدًا جدًّا بذلك. وها أنت الآن تُخرجني فجأة من الخندق، وقدماي باردتان جدًّا من الخوف.»

قلت: «لا أعتقد أنك تعرف ما هو الخوف.»

قال بجدية: «أنت مُخطئ في ذلك يا ديك. المختلُّون فقط هم من لا يعرفون الخوف. صحيح أنني فعلتُ أشياء متهورة، لكني لم أكن أبدأ فيها أبدًا دون أن أتمنَّى لو أنها انتهت. وحالما أنخرط في غمار المهمة تصبح الأمور أسهل، بل وأكون حزينًا على تركها حين أصل إلى نهايتها. لكنَّ قدميَّ تكونان متجمَّدتَين في البداية من شدة الخوف.»

«إذن أفهم من ذلك أنك آتٍ معي؟»

قال: «بكل تأكيد. وهل ظننتَ أنني سأخذلك؟»

قلت مُخاطبًا بلنكيرون: «وأنت يا سيدي؟»

كان يبدو أنَّ لعبة الورق التي كان يلعبها تنتهي. فقد كان يُكمِل ثمانية أكوام صغيرة من ورق اللعب بصوتٍ من أنفه ينمُّ عن الرضا. وبينما كنت أحدثه، رفع عينَيه الناعستَين نحوي وأومأ بالإيجاب.

قال: «نعم بالطبع. لا تظنَّا أيها السيدان أنني لم أكن أتابع حديثكما الشائق جدًّا ذاك. أعتقد أنني لم أُفوِّت حرفًا منه. كل ما هنالك أنني أجد أنَّ لعبة الورق هذه تُحفِّز الهضم بعد الوجبات، وتدفعني إلى التفكير بهدوء. جون إس بلنكيرون معكما دائمًا وأبدًا.»

خَلَط ورق اللعب وأعاد توزيعه ليبدأ لعبة جديدة.

صحيح أنني لم أكن أتوقَّع منهما رفضًا قط، لكن هذه الموافقة السريعة أبهجتني جدًّا على كل حال. فما كنتُ لأستطيع مواجهة الأمر وحدي.

«حسنًا، اتفقنا. والآن لننتقِل إلى الطُّرق والوسائل. علينا نحن الثلاثة أن نتمركز في مواضع تُتيح لنا اكتشاف سر ألمانيا، وعلينا الذهاب إلى المكان المعروف فيه هذا السر. علينا أن نصل إلى القسطنطينية بأي طريقةٍ مهما كانت، ولنُغطِّ أكبر مساحة ممكنة من البلاد، علينا أن نسلك طرقًا مختلفة. ساندي، اسمعني يا فتاي، عليك أن تدخل تركيا. أنت الوحيد بيننا الذي يعرف هذا الشعب المثير للاهتمام. لا يُمكنك أن تدخلها عن طريق أوروبا بسهولة؛ لذا عليك أن تُجرِّب آسيا. ما رأيك في ساحل آسيا الصغرى؟»

قال: «هذا مُمكن. من الأفضل أن تترك تلك المسألة برُمَّتها لي. سأجد أفضل طريق. أعتقد أنَّ وزارة الخارجية ستُساعدني للوصول إلى نقطة الانطلاق، أليس كذلك؟»

قلت له: «تذكَّر أنك ينبغي ألَّا تتوغل شرقًا أكثر من اللازم. فالسر، على حدِّ علمنا، ما زال كامنًا غرب القسطنطينية.»

«مفهوم. سأدخلها بغتةً من عند مضيق البوسفور عبر مسارٍ متعرج قصير.»

«أمَّا أنت يا سيد بلنكيرون، فأودُّ أن أقترح عليك رحلة مباشرة. أنت أمريكي وتستطيع السفر عبر ألمانيا مباشرة. لكني أتساءل ما إذا كانت أنشطتك التي مارستها في نيويورك سوف تجعلهم لا يعتبرونك محايدًا تمامًا ويُقيدون تحركاتك أم لا؟»

قال: «فكرتُ في ذلك يا سيدي. فكرتُ في السيكولوجية الفريدة للأمَّة الألمانية العظيمة. حسبما فهمته عنهم، فهُم ماكرون كالقطط. وإذا لعبت لعبة القطط ضدهم، سيتفوقون عليك في كل مرة. أجل يا سيدي، إنهم ليسوا سُذَّجًا في أعمال الاستخبارات السرية. وإذا اشتريتُ شاربًا مستعارًا وصبغتُ شعري، وتنكَّرت في ثوبِ كاهنٍ معمداني، ودخلت ألمانيا محاولًا خداعهم بأنني آتٍ لإرساء السلام، فأظن أنهم سيتعقبونني بلا هوادة، وسيعتبرونني جاسوسًا ويُرْدونني قتيلًا بالرصاص في غضون أسبوع واحد، أو يزجُّون بي في الحبس الانفرادي في سجن موابت. لكنهم لا يرَون الصورة الأكبر. يُمكن الاحتيال عليهم يا سيدي. لذا، فمن بعد إذنك، سأزور «ألمانيا الوطن» بصفتي جون إس بلنكيرون، الذي كان يومًا ما شوكة في حَلق أذكى شبَّانهم على الجانب الآخر من الصراع. لكني أعتزم أن أُوهمهم بأنه قد صار مختلفًا، وأنه قد غير موقفه. سيُقدِّر روحَ ألمانيا العظيمة النقية النبيلة، وسيحزن على ماضيه باعتباره مجرمًا قاتلًا، ويُعلن توبته في أحد تجمعات الاستتابة. سيوهمهم بأنه ضحيةٌ لخِسَّة الحكومة البريطانية وغدرها. سأفتعل مشادَّة مُحتدمة مع وزارة خارجيتكم بخصوص جواز سفري، وسأتحدَّث عنهم بكلمات لاذعة في كل أنحاء هذه العاصمة. سيكون عملاؤكم الاستخباراتيون في أثري خلسة في الميناء الذي سأنطلق منه، وسأصطدم بالمندوبين الدبلوماسيين البريطانيين في الدول الاسكندنافية. وبحلول ذلك الوقت، سيكون أصدقاؤنا الألمان قد بدءوا يتساءلون عمَّا حدث لجون إس، ويرَون أنهم ربما أخطئوا في حكمهم على ذلك الطفل البريء. لذا عندما أصل إلى ألمانيا، سيكونون في انتظاري بصدرٍ رحب دون تحيُّزات أو أحكام سابقة. وأعتقد أنَّ سلوكي عندئذٍ سيُفاجئهم ويشجعهم. سأُفضي لهم بمعلوماتٍ سرية قيِّمة عن الاستعدادات البريطانية، وسأُظهِر الأسد البريطاني على أنه أنذل أنواع الكلاب الجبانة. يُمكنك أن تثق بأنني سأُبهرهم. وبعدئذٍ سأتحرك شرقًا لأرى انهيار الإمبراطورية البريطانية في تلك المناطق. بالمناسبة، أين سيكون الملتقى؟»

«اليوم هو السابع عشر من نوفمبر. إذا لم نستطع اكتشاف ما نريد في غضون شهرين، فقد نترك المهمة. وفي السابع عشر من يناير، سنتجمع في القسطنطينية. أيًّا كان من يصل إلى هناك أولًا ينتظر الاثنين الآخرين. إذا لم نكن كلنا حاضرين في نقطة الالتقاء بحلول ذلك التاريخ، فسيُعتبر أنَّ الغائب قد وقع في مأزق، وسيتحتَّم التخلي عنه. وإذا حدثت المعجزة ووصلنا إلى هناك بسلام، فسنكون قادِمين من أماكن مُختلفة ومُتنكرين في شخصياتٍ مختلفة؛ لذا نريد نقطة الْتقاء يتجمَّع عندها كل الأنواع الغريبة من الناس. ساندي، أنت تعرف القسطنطينية. فلتتكفل أنت بتحديد مكان اللقاء.»

قال: «فكرتُ في هذا بالفعل»، ثم ذهب إلى منضدة الكتابة، ورسم خريطة صغيرة على ورقة. وأضاف: «هذا الزقاق يمتد من البازار الكردي في جالاطا إلى عبَّارة راتشيك. في منتصف الطريق نحو العبَّارة، يوجد على الجانب الأيسر مقهًى يملكه رجل يوناني اسمه كوبراسو. توجَد خلف المقهى حديقة محاطة بأسوار عالية كانت أجزاء من المسرح البيزنطي القديم. يقع عند نهاية الحديقة كوخٌ يسمَّى «كوخ حديقة سليمان الأحمر». كان في الماضي قاعةَ رقصٍ وصالة قمار، والربُّ يعلم ماذا كان أيضًا غير ذلك. إنه ليس مكانًا للمحترمين، لكنَّ أناسًا من كل بقاع الأرض يلتقون هناك، دون أن تُطرَح عليهم أي أسئلة. هذا أنسب مُلتقًى ممكن من وجهة نظري.»

كانت الغلاية تئزُّ على النيران، وكان الليل قارس البرودة، وبدا الوقت مناسبًا لشرب بعضٍ من الويسكي الممزوج بالسكر والليمون. أعددتُ شرابًا لي ولساندي، وغليتُ بعض الحليب لبلنكيرون.

سألتُ قائلًا: «ماذا عن اللغة؟ لا مشكلة عندك في ذلك يا ساندي، أليس كذلك؟»

«أعرف الألمانية جيدًا جدًّا، وأستطيع إيهام الناس في أي مكان بأنني تركي. ستنفعني تلك النقطة الأولى في التنصُّت، وستنفعني الثانية في التعامُلات العادية الأخرى.»

سألت بلنكيرون: «وأنت؟»

قال: «لم تتنزل عليَّ هبةُ تعدُّد الألسنة كالحواريين في عيد العنصرة. يؤسفني الاعتراف بأنني لا أحظى بهِبة إتقان عدة لغات. لكنَّ الدور الذي اخترته لنفسي لا يتطلب تعدد اللغات. فلا تنسَ أبدًا أنني مجرد مواطن عادي اسمه جون إس بلنكيرون من الجمهورية الأمريكية العظيمة.»

قال لي ساندي: «لم تخبرنا بالمسار الذي ستسلكه يا ديك.»

قلت: «سأذهب إلى مضيق البوسفور عبر ألمانيا، ولأنني لست محايدًا؛ فلن تكون رحلتي مهيئة بسُبُل الراحة.»

بدا وجه ساندي متجهمًا مهمومًا.

وقال: «يبدو هذا تهورًا. هل لغتك الألمانية جيدة بما يكفي؟»

«جيدة إلى حدٍّ كبير؛ كافية جدًّا لأُوهِم الناس بأنني مواطن ألماني. لكني سأتظاهر أمامهم بأنني لا أفهم أي كلمة ألمانية. سأدَّعي أنني بويريٌّ من مُستعمرة كيب الغربية في جنوب أفريقيا، كأنني فردٌ من كتيبة الضابط ماريتس القديمة مرَّ ببعض المتاعب، ثم عَبَر الحدود إلى أنجولا، ووصل إلى أوروبا. سأتحدث الهولندية فقط ولا شيء سواها. وسحقًا! سأسبُّ البريطانيين بكلِّ قسوة. فاللغة الأفريقانية تعجُّ بالكثير من الشتائم النابية الجيدة. سأدَّعي أنني أعرف كل شيءٍ عن أفريقيا، وأنني متلهفٌ لنَيل فرصة أخرى لمحاربة الجنود البريطانيين المَلاعين. وآملُ بذلك أن يُرسلوني إلى الحملة الجارية في أوغندا أو مصر، وسأحرص على الذهاب عن طريق القسطنطينية. وإذا قُدِّر لي أن أتعامَل مع السكان الأصليين المسلمين، فمن المؤكد أنهم سيُطلِعونني على الورقة الرابحة التي يحملونها. أو هذا تصوُّري للأمر على الأقل.»

ملأنا كئوسنا — اثنتَين بالويسكي وواحدة بالحليب — وشربنا نخبَ لقائنا السعيد القادم. عندئذٍ بدأ ساندي يضحك، وشاركته الضحك. فقد انتابني مجددًا ذلك الشعور بأنَّ تلك المهمة محض جنون ميئوس منه. فأفضل الخطط التي وضعناها كانت كبضع دلاءٍ من الماء لتخفيف جفاف الصحراء الكبرى، أو كالسيدة العجوز التي كانت ستوقف المحيط الأطلسي بمكنسة. تذكرتُ القديسة تيريزا الصغيرة بإحساسٍ من التعاطف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤