الفصل العشرون

بيتر بينار يذهب إلى الحرب

أسردُ في هذا الفصل القصةَ التي حكاها لي بيتر بعد ذلك بمدة طويلة، وهو جالسٌ بجوار موقد في الفندق بمدينة برجن، حيث كنا ننتظر سفينتنا.

بعدما ودَّعَنا، تسلَّقَ إلى السطح ونزل منه إلى الأرض متكئًا بيدَيه وقدمَيه على قوالب الطوب المكسورة في الجدار الخارجي. كان المبنى الخارجي الذي كنا ماكثين فيه متاخمًا لطريقٍ ما، وكان يقع خارج السور الرئيسي المحيط بالمنزل. ولا شك أنَّ ذلك الجانب يعجُّ بالحراس في الأوقات العادية، ولكن من المُحتمل أن يكون ساندي وحسين قد تمكَّنا من إبعادهم عنه بعض الوقت. لكنه لم يرَ أحدًا آنذاك وهو يعبر الطريق ويغوص وسط الحقول المُغطاة بالثلوج.

كان يُدرك تمامًا أنَّ أمامَه اثنتي عشرة ساعة فقط لينجز المهمة قبل انقشاع الظلام. فجبهة المعركة تكون مكشوفةً تمامًا في النهار ولا يمكن لأحدٍ أن يختبئ فيها، لا سيما مع وجود طبقةٍ سميكة من الثلج تجعل كل شيءٍ بارزًا بوضوح. كان بيتر يكره التعجُّل في مثل هذه المهام؛ لأنه يُفضِّل التأني والدقة كسائر البويريين، لكنه كان يستطيع الإسراع بما يكفي إذا اقتضت الحاجة. وبينما كان يندفع عبر الحقول المكسوة بالثلوج، أخذ يُحصي العوامل المواتية له، فلم يجد سوى الطقس السيئ. فقد كانت الأجواء مشوبةً برياحٍ عاتية عاصفة تحمل وابلًا من نُدَف الثلج، لكنها لم تصل قطُّ إلى حدِّ الهطول الغزير. كان الصقيع قد زال، وصار الثلج المُتراكم لينًا كالزبد. ارتأى ذلك مواتيًا له؛ إذ كان سيُعاني الأمرَّين لو كانت تلك ليلة صافية جافة.

قطع الشوط الأول من رحلتِه عبر أراضٍ زراعية كانت تتخلَّلها أخاديد صغيرة للري مملوءة بالثلوج. وكان يُصادف بين الحين والآخر بيوتًا ورقعًا من أشجار الفاكهة، لكنه لم يكن يجِد أي أحدٍ في الخارج. كانت الطُّرُق مزدحمة جدًّا، لكن الطُّرُق لم يكن لها نفع لدى بيتر. أستطيع تخيُّله وهو يمضي قُدمًا بانسياب، حانيًا ظهره، ومتوقفًا بين الحين والآخر ليتشمَّم ويتسمَّع، ومتيقظًا ليستشعر الخطر قبل وقوعه. كان يستطيع أن يقطع الريف كله كظبيٍ رشيق عندما يشاء.

ثم سرعان ما وجد طريقًا كبيرًا مكتظًّا بعربات النقل. كان ذلك هو الطريق المُمتد من أرضروم إلى ممرِّ جبال بالاندوكن، وتحيَّن بيتر فرصته وعبَره. بعدها وجد نفسه على أرضٍ وعرة مليئة بجلاميد صخرية ورُقَع من الأشجار الشائكة، فأتاح له ذلك ساترًا رائعًا، حيث أمكنه التحرك بسرعةٍ بلا قلق. ثم توقف فجأة حينما وجد نفسه على ضفة نهر. صحيح أنه كان يعلم بوجوده سلفًا من الخريطة، لكنه فوجئ بأنه كبير جدًّا.

كان النهر أشد غزارة من المعتاد بفعلِ الثلج الذائب وانهمار مياه الأمطار من التلال، وكان عرضه خمسين ياردة. فكر بيتر أنه كان يستطيع أن يعبُره سباحةً، لكنه كان يكره أن يغمر جسده بالماء. فقال: «الرجل المُبلل يُحدِث ضوضاء أعلى مما ينبغي»، وفوق ذلك، كان معرَّضًا، ولو بنسبة ضئيلة، لأن يكون التيار شديدًا بالنسبة إليه. لذا مشى بمحاذاة النهر بحثًا عن جسر.

وفي غضون عشر دقائق، عثر على واحدٍ بالفعل؛ إذ وجد جسرًا حديثًا مثبتًا على حوامل، عريضًا بما يكفي لاستيعاب عربات النقل. كان الجسر تحت الحراسة؛ لأن بيتر سمع وقْع أقدام حارس، وبينما كان يصعد بمشقة نحو أعلى الضفة لاحَظ بضعة أكواخ خشبية طويلة، وبدا واضحًا له أنها مساكن لإيواء الحراس. كانت هذه الأكواخ تقع على الجانب القريب من بيتر، وتبعد نحو اثنتي عشرة ياردة عن الجسر. وجد بيتر باب أحدها مفتوحًا ورأى فيه ضوءًا، وسمع أصواتًا قادمة من داخله … كانت حاسَّة السمع لدى بيتر تُضاهي الحيوانات البرية، واستطاع حتى من وسط الثرثرة المختلطة أن يميز أنَّ الأصوات ألمانية.

وبينما كان جاثمًا يتنصَّت، مرَّ رجل فوق الجسر. كان ضابطًا؛ لأن الحارس أدَّى له التحية العسكرية. ثم اختفى ذلك الرجل داخل أحد الأكواخ. اتضح لبيتر أنه وصل إلى مساكن وورشة إصلاح تابعة لكتيبةٍ من المهندسين العسكريين الألمان.

وبينما كان يهمُّ بالعودة أدراجَه مفعمًا بالأسى، ومحاولة العثور على مكانٍ مُواتٍ ليسبح منه إلى الضفة الأخرى من النهر، خطر له أنَّ الضابط الذي مرَّ به كان يرتدي ثيابًا مُطابقة تمامًا لثيابه. فقد كان هو أيضًا يرتدي كنزةً رمادية وخوذة صوفية؛ لأنَّ حتى الضباط الألمان لا يشغلون بالهم بالتأنق في ليلةٍ شتوية كهذه في الأناضول. عندئذٍ خطر ببال بيتر أن يعبر الجسر بجرأة، معتمدًا على أن الحارس لن يلاحظ الفرق.

تسلل بيتر من حول زاوية الكوخ وسار على الطريق. كان الحارس آنذاك عند الطرف البعيد من الجسر، وكان ذلك من حُسن حظ بيتر؛ لأنه كان بذلك يستطيع أن يَخنقه في أسوأ الأحوال. تقمص بيتر المشية الألمانية الصارمة، ومرَّ بالحارس خافضًا رأسه كأنه يَحمي نفسه من الريح.

أدى الحارس التحية العسكرية له. ولم يكتفِ بذلك، بل بادرَه بالحديث أيضًا. لا بدَّ أنَّ الضابط الذي انتحل بيتر شخصيته كان ودودًا.

قال الحارس بالألمانية: «إنها ليلة صعبة يا حضرة الكابتن. العربات تأخَّرت. أدعو الرب ألا يكون مايكل قد تلقى قذيفة في عرباته. فقد بدءوا في إطلاق قذائف ضخمة.»

فتمنَّى له بيتر ليلةً طيبة بكلماتٍ ألمانية مقتضبة، وواصل السير بخطًى واسعة. وبينما كان على وشكِ مُغادرة الطريق، سمع صيحةً عالية خلفه.

من المؤكد أنَّ الضابط الحقيقي ظهر من بعدِه مباشرة، وبذلك أُثيرت شكوك الحارس. انطلقت صافرة، ونظر بيتر إلى الوراء، فرأى مشكاوات تلوح في الجو العاصف. لقد خرجوا بحثًا عن مُنتحل شخصية الضابط.

توقف ساكنًا للحظة، ولاحظ الأضواء تنتشر جنوب الطريق. وبينما كان يهمُّ بالهروب من الجانب الشمالي، أدرك وجود عقبةٍ أمامه. فقد وجد هناك حدًّا جانبيًّا شديد الانحدار ينزل إلى مصرفٍ مائي محدود من الناحية المقابلة بحدٍّ جانبي آخر، ورأى فيما بينهما فيضانًا جارفًا. فقد أبصر تموُّجات الماء الخافتة تحت تيارات الريح.

كان سيُلقَى القبض عليه سريعًا لو سلك الطريق نفسه؛ لأنهم بدءوا البحث عند جنوبه، والمصرف نفسه لم يكن مناسبًا للاختباء فيه؛ لأنه رأى فيه مشكاةً آتية نحوه. لكنه قفز فيه على أي حال، ووضع خطة. كان الجانب الواقع أسفل الطريق مُجوفًا قليلًا إلى الداخل، شديد الانحدار. فقرَّر أن يلتصِق به؛ لأنه بذلك سيكون مخفيًّا عن الطريق، ومن المُستبعَد أن يبحث عنه أحد من مُمشِّطي المصرف في الجوانب الخالية من أي شقوق أو فجوات. كانت حِكمة بيتر الدائمة أن أفضل مخبأ ممكن هو المكان الأسوأ الذي لا يخطر ببال مَن يبحثون عنك.

انتظر حتى اقتربَت منه أضواء مشكاوات الباحثين عنه على الطريق وفي المصرف، ثم أمسك الحافة بيُسراه، حيث اتكأ على بعض الحجارة، وغرس طرفَي حذائه الأمامِيَّين في التربة الرطبة، وألصق جسدَه بالحد الجانبي للمصرف كالبطلينوس. كان البقاء في هذه الوضعية طويلًا يتطلب قوة بدنية، لكن عضلات ذراعَيه وساقَيه كانت قوية مرنة كالسوط.

سرعان ما تعب الباحث عنه في المصرف؛ لأن المكان كان شديد البلل، وانضمَّ إلى رفاقه على الطريق. اقتربوا منه وهم يركضون ويُسلطون أنوار مشكاواتهم داخل الخندق، ويتفقَّدون كل أجزاء المنطقة الريفية المجاورة.

ثم انبعث ضجيج من عجلات وخيول قادمة من الاتجاه المعاكس. كان مايكل يقترب ومعه العربات المتأخِّرة. جاءت مندفعة بسرعة شديدة؛ لأن سائقيها كانوا يقودونها بتهور واهتياج، وارتعب بيتر لوهلةٍ ظنًّا منه أنها ستسقط في المصرف عند المكان نفسه الذي كان مُختبئًا فيه. مرَّت العجلات على مقربةٍ شديدة من الحافة لدرجة أنها كادت تخدش أصابعه. صاح أحد الرجال بأمرٍ ما، فتوقفت العربات على بُعد ياردة أو اثنتَين من الجسر. ثم جاء الآخرون وجرى تشاورٌ فيما بينهم.

أقسم مايكل أنه لم يمر بأحدٍ على الطريق.

قال الضابط بنفاد صبر: «لقد رأى هذا الأحمق هانوس شبحًا. الجو بارد ولا يحتمِل هذه التفاهات الطفولية.»

كرَّر هانوس كلامه وهو يكاد يبكي. صاح قائلًا: «لقد حادثني الرجل بلغةٍ ألمانية جيدة.»

قال الضابط: «سواءٌ أكان شبحًا أم لا، فقد صار بعيدًا جدًّا ولن يَمسَّنا بسوء. ربَّاه، كانت تلك ضخمة!» وسكت ونظر إلى انفجار خلَّفَته قذيفة مُدوية؛ لأن القصف المدفعي من الشرق كان يزداد شراسة.

وقفوا دقيقةً يتحدَّثون عن نيران الانفجار، ثم سرعان ما انفضَّ الجمع. أمهلهم بيتر دقيقتَين ليبتعِدوا، ثم تسلق عائدًا إلى الطريق السريع وانطلق راكضًا. استطاع الركض بأمانٍ بفضل ضجيج القصف والرياح إلى جانب الظلام الشديد.

ترك الطريق مع أول فرصةٍ سنحت له واتجه إلى الريف الوعر. وجد الأرض هناك مائلةً تدريجيًّا إلى الأعلى نحو أحدِ نتوءات جبال بالاندوكن، وكانت الخنادق التركية تقع على الجانب الآخر من ذلك النتوء. كانت تلك الليلة في بدايتها حالكة السواد كالقار، إلى حدِّ أنَّ حتى الدخان المتصاعد من انفجارات القذائف، الذي غالبًا ما يُرى في الظلام، لم يكن مرئيًّا. ولكن بينما كانت الرياح تسوق السُّحُب الثلجية بعرض السماء، كشفت عن رقعٍ من النجوم فيها. كان بيتر يحمل بوصلة، لكنه لم يحتجْ إلى استخدامها؛ لأنه كان يعرف الاتجاهات في البيئات الطبيعية بنوعٍ من «الحدس»، بإحساسٍ فطري خاص لدى أهل البراري البدائيين، ولا يمكن أن يكتسِبه الرجل الأبيض إلا بعد خبرةٍ طويلة. أعتقد أنه كان يستطيع معرفة اتجاه الشمال بالشمِّ. كان شِبه مُستقر على الموضع الذي سيُحاول التسلل من عنده، وقد اختاره لمجرد قربه من العدو. لكنه كان مُستعدًّا لتغييره إذا رأى سببًا يستدعي ذلك، وبينما كان يتحرك، بدأ يرى أن آمَن مكان للتسلل هو المكان الأشد تعرضًا للقصف. لم تُعجبه هذه الفكرة، لكنها بدت منطقية.

وفجأة صادف أشياء غريبة في الأرض تساءل في حيرة عن ماهيتها، واستغرق لحظةً ليعرف ما هي؛ لأنه لم يرَ مدافع كبرى من قبل. سرعان ما أطلق أحدها قذيفة استقرت بجواره مباشرة، مُحدِثة دويًّا شديدًا كأنه يوم القيامة. كانت تلك مدافع نمساوية من طراز هاوتزر، وأتصور أن عيارها لم يكن يتعدَّى ثماني بوصات، لكنها بدت في نظر بيتر كوحوش لوياثان الأسطورية. وهناك أيضًا رأى لأول مرة حفرة كبيرة وحديثة جدًّا من الحفر التي تنشأ من انفجار القذائف؛ إذ كانت المدافع الروسية تحاول استكشاف هذا الموقع. وقد استحوذت على اهتمامه لدرجة أنه تطفَّل على مكانٍ يُفترَض ألا يوجَد فيه، وسقط بثقله في الحفرة الواقعة خلف منصة أحد المدافع.

إنَّ المدفعيين دأبهم واحِد في أي مكانٍ في العالَم؛ فهم أناسٌ خجولون يختبئون في الحفر ويبقَون ماكثين فيها، ويكرهون أن يكشف أمرَهم أحد.

صاح صوت أجش في وجه بيتر قائلًا: «من أنت؟» وقبضت يدٌ غليظة على رقبته.

كان بيتر جاهزًا بقصة مختلَقة. ادعى أنه فردٌ من فريق عربة مايكل، وأنهم تركوه وراءهم. وطلب أن يعرف الطريق إلى مخيم المهندسين العسكريين. كانت نبرته اعتذارية جدًّا، إن لم تكن متذلِّلة.

قال أحد المدفعيين: «إنه أحد تلك الخنازير البروسية القابعة على جسر مارتا. اركُله ليتعلَّم أن يكون واعيًا بتصرفاته. اتَّجِه يمينًا أيها الرجل القصير، وستجد طريقًا. وكن حذرًا عندما تصل إلى هناك؛ لأن الروس يستهدفونه بقذائفهم.»

شكرهم بيتر واتَّجَه يمينًا. بعدها ظل يُراقِب مدافع الهاوتزر بحذر، وشعر بالامتنان حين خرج من نطاق إطلاقها إلى المنحدرات أعلى التل. فقد كانت هذه هي نوعية الأراضي المألوفة له، وتحدَّى أي تركي أو جندي ألماني أن يستطيع العثور عليه وسط الشجيرات وجلاميد الصخور. وبينما كان يمضي قُدمًا على أحسنِ ما يُرام، فوجئ مجددًا بسماع دويٍّ كدوي قيام القيامة بالقُرب من أُذنه.

كان ذلك دويَّ المدافع الميدانية هذه المرة، وهو يؤذي الأعصاب حين يسمعه المرء بغتةً على مقربةٍ منه. ظن بيتر أنه قد أُصيبَ بقذيفة، واستلقى قليلًا ليفكر. ثم أدرك الحقيقة، وزحف إلى الأمام بمنتهى الحذر.

بعدها بقليل رأى أول قذيفة روسية في حياته. سقطت على بُعد ستِّ ياردات إلى يمينه، حيث أحدثت حفرةً كبيرة في الثلج، وقذفت في الهواء كتلةً من التراب المُختلط بالثلج والحجارة المكسورة. بصق بيتر التراب وشعَر بمهابةٍ شديدة. تذكروا أنه لم يرَ قصفًا شديدًا في حياته قبل ذلك، وأنه في تلك اللحظة كان يَخوض غمار قصفٍ حامي الوطيس من الدرجة الأولى بلا أي استعداد. قال لي إنه شعر ببرودةٍ في مَعِدته من شدة الخوف، وبرغبةٍ شديدة في الهروب، لو كان يوجَد مهرب يلجأ إليه أصلًا. لكنه ظلَّ ملازمًا قمة التل، التي كان يتسع فوقها وهجٌ كبير كضوء شروق الشمس. تعثَّر في إحدى المرات بسلكٍ ما، استنتج أنه فخ، وبعدَها واصل السير بحذَر شديد. وبعد وقت قصير وصل إلى صخرتَين كبيرتَين فوضع وجهه بينهما، وأطلَّ على ساحة المعركة الحقيقية.

قال لي إنها كانت صورة طبق الأصل من وصف الوعاظ لجهنم. كانت الخنادق التركية على بُعد نحو خمسين ياردة أسفل المنحدر، حيث كانت مظلمةً وسط الثلوج، وكان بين الحين والآخر يلمح هيئةً سوداء كهيئة الشيطان تظهر لحظيًّا وتختفي. من الواضح أن الأتراك كانوا يتوقَّعون هجومًا من المشاة؛ لأنهم كانوا يُطلقون قنابل مُضيئة وشعلات إنارة بمسدسات من طراز «فيري». كان الروس يقصفون جبهتهم ويرشُّون كل المنطقة الواقعة خلفها، ليس بقنابل شظايا، وإنما بقذائف صلبة شديدة الانفجار. فكان المكان يُصبح ساطعًا كالنهار للحظةٍ ويختنق كله بدوَّامة من الدخان والثلج والحطام، ثم تُخيِّم عليه سحابة من السواد الحالك، فيكون رعد المدافع هو الشيء الوحيد الدال على جريان المعركة هناك.

شعر بيتر بغثيانٍ شديد. لم يكن يتصور أنه يمكن أن يسمع ضجيجًا هائلًا كهذا في الدنيا، وكانت طبلتا أُذنَيه تتمزقان. إنَّ مَن تكون الشجاعة دأبه وديدنه طوال حياته، يجتاحُه شعور فظيع حين يتذوق طعم الخوف؛ الخوف المُطلق الصريح. فعندئذٍ يشعر بأنه يمحو رجولته كلها. استلقى بيتر على القمة، وأخذ يُراقب انفجار القذائف، وكان واثقًا من أنه قد يتحوَّل في أي لحظة إلى مجرد أشلاء. استلقى وناجى نفسه، وراح ينعت نفسه بكل وصفٍ مُهين خطر بباله، لكنه كان مدركًا أن لا شيء يمكن أن يزيل الخوف المتجمِّد في قلبه.

ثم لم يعُد يستطيع تحمُّل الأمر. فنهض وركض لينجو بحياته.

لكنه ركض إلى الأمام.

كان ذلك هو التصرف الأشد جنونًا. فقد انطلق بأقصى سرعة على أرضٍ تُمطَر بوابلٍ من القذائف الشديدة الانفجار، ولكن بفضلِ رحمة الرب لم يُصبه أيٌّ منها. صحيح أنه سَقَط سقطات مروعة في حفر القذائف، لكنه تمكن في النهاية من اجتياز الياردات الخمسين، تارةً على قدمَيه وتارةً على أطرافه الأربعة، ووقع في خندقٍ تركي، حيث سقط مباشرةً فوق جثة رجل.

عاد إلى رشدِه حين لامس تلك الجثة. فحقيقةُ أنَّ الرجال يمكن أن يموتوا أصلًا بدَت له شيئًا مُطمئنًا مألوفًا بعد كل هذا الجحيم غير الطبيعي الذي لاقاه. وفي اللحظة التالية، أصابت قذيفةٌ متراس الخندق على بُعد بضع ياردات إلى يساره، ليُدفَن نصف جسده وسط انهيارٍ ثلجي.

خرج من تحت ذلك الانهيار زاحفًا، وقد أُصيبَ بجرحٍ بالغٍ في رأسه. كان في تلك اللحظة هادئًا تمامًا ويفكر مليًّا في خطوته التالية. وجد رجالًا في كلِّ مكانٍ من حوله، ورأى وجوههم داكنة متجهمة عندما انطلقت شعلات الإنارة. كانوا مُتمركزين عند المتاريس، ومتلهِّفين لأي شيء آخَر غير القصف. لم يُرعوه أي اهتمام؛ لأنني أتخيل أن الوحدات في ذلك الخندق كانت تضمُّ أفرادًا مُختلطين، وتحت وطأة القصف الشديد، لا أحد يهتم بجاره. فوجد نفسه يستطيع التحرك كما يشاء بمنتهى الحرية. ورأى أرض الخندق وقد تناثرت عليها فوارغ الطلقات، وكان هناك كثير من الجثث.

كانت القذيفة الأخيرة، كما قلت، قد دمرت متراس الخندق. وفي خضمِّ نوبة الظلام التالية، زحف بيتر خلال الفجوة التي أحدثها الانفجار، وأخذ يمضي ملتويًا وسط روابٍ ثلجية. لم يعُد خائفًا من القذائف، بل صار يعتبرها كأي عواصف رعدية شهدِها سابقًا في سهوب أفريقيا. لكنه كان مُتحيرًا جدًّا وهو يحاول إيجاد سبيل للوصول إلى الروس. لقد صار الأتراك خلفه، لكن الخطر الأكبر كان أمامه.

ثم توقف القصف المدفعي. فاجأه ذلك بشدة حتى إنه ظن أنه قد أُصيبَ بالصمم، وكاد لا يُدرك نعيم الراحة في هذا التوقُّف وينعم به. وبدا أن الرياح أيضًا قد تلاشت، أو ربما كان التل يَحجبها عنه. وجد كثيرًا من الجثث هناك أيضًا، ولم يستطع فهم ذلك؛ لأنها كانت جثثًا حديثة. هل هاجم الأتراكُ وأجبرهم الروس على التراجع؟ بعدما قطع نحو ثلاثين ياردة، توقف ليُحدد مكانه ويُقيِّم موقفه. وجد إلى يمينه أنقاض مبنًى كبير مُشتعل بنيران قذائف المدافع. ورأى حول المبنى ملامح ضبابية لأشجار وحطام جدران. وبعيدًا إلى اليسار، وجد تلًّا آخر مُمتدًّا بعيدًا إلى الشرق، وبدا المكان الذي كان فيه أشبه بكوبٍ مُجوَّف بين نتوءَين جبليَّين. وأمامه مباشرة، وجد مبنًى صغيرًا مُتهدمًا، ورأى السماء من خلال عوارض سقفه الخشبية؛ لأنَّ المبنى الخَرِب الآخر المُشتعِل على اليمين نشر بصيصًا من الضوء. وتساءل عما إذا كانت جبهة إطلاق النار الروسية تقع هناك.

عندئذٍ سمع أصواتًا — أصواتًا مكتومة — على بُعد أقل من ياردة واحدة، وبَدَت آتية من تحت الأرض. وفي الحال توصَّل إلى تفسير ذلك. كان ذلك خندقًا تركيًّا مُخصصًا للاتصالات. لم يكن بيتر يعرف الكثير عن الحرب الحديثة، ولكن كان لدَيه ما يكفي من المعلومات، سواء مما قرأه في الصحف أو مما سمعه مني، ليستخلص الاستنتاج الصحيح. ووجود الجثث الجديدة كان يُشير إلى الاستنتاج نفسه. لقد أدرك أنَّ ما دخلها قبل قليل كانت خنادق الدعم التركية، وليست جبهة إطلاق نيرانهم. فهذه كانت لا تزال أمامه.

لم ييئَس؛ لأن تعافِيه من الذُّعر بثَّ فيه جرعةً إضافية من الشجاعة. زحف إلى الأمام، رويدًا رويدًا، دون أن يُجازف بأي شكلٍ من الأشكال، وسرعان ما وجد نفسه ينظر إلى المتراس الخلفي لخندق جديد. عندئذٍ استلقى في هدوء ليفكر في الخطوة التالية.

كان القصف قد توقف، وساد ذلك السكونُ الغريب الذي أحيانًا ما يُخيِّم على جيشَين بينهما أقل من ربع ميل. قال بيتر إنه لم يسمع شيئًا آنذاك سوى تنهُّد الرياح البعيد. ولم يبدُ له أن هناك أي حركة إطلاقًا في الخندق الذي أمامه، والذي كان يمرُّ عبر المبنى المدمَّر. كان ضوء الاحتراق يخبو، ولم يتسنَّ لبيتر سوى رؤية كومة التراب الواقعة على بُعد ياردةٍ واحدة أمامه. بدأ يشعر بالجوع، فأخرج صرة طعامه وشرب جرعة من قنينة البراندي. أراحه ذلك، وشعر بأنه عاد سيد مصيره مجددًا. لكن الخطوة التالية لم تكن سهلة إطلاقًا. فكان عليه معرفة ما يُوجَد وراء تلك الكومة الترابية.

وفجأة وقع صوتٌ غريب على مسامعه. كان خافتًا جدًّا إلى حد أنه ظن في البداية أن حواسَّه تخدعه. ثم تعالى الصوت أكثر مع هبوب الرياح. بدا يُشبه تمامًا صوت قطعة معدنية مجوفة عند ضربها بعصًا؛ إذ كان موسيقيًّا ورنانًا بغرابة.

استنتج أنَّ الصوت ناجِم عن غُصنٍ تُطَوِّحُه الرياح فتصدمه بمرجلٍ قديم في المبنى الخَرِب أمامه. غير أنَّ الرياح في ذاك الكوب المجوف المعزول الذي كان جاثمًا فيه لم تكن قوية بما يكفي لذلك.

ولكن بينما كان يُنصت، سمع الصوت الموسيقي مرة أخرى. كان صوتَ جرسٍ، جرس ساقط، ومن المؤكد أن المكان الذي أمامه كان كنيسة صغيرة. تَذكَّر أنه رأى ديرًا أرمينيًّا مُحددًا بعلامة على الخريطة الكبيرة، وخمَّن أنه هو نفسه ذلك المبنى المُحترق عن يمينه.

أوحت إليه فكرة الكنيسة والجرس بوجود قوةٍ بشرية وراء ذلك الصوت. وفجأة تأكد له هذا الإيحاء. فقد جاء الصوت منتظمًا منسقًا، كما لو كان ممثلًا بنقطةٍ ثم شرطة، ثم نقطة ثم شرطة، ثم نقطة ثم نقطة. ربما يمكن للغصن والريح أن يخدعا المرء بحيلٍ غريبة، ولكن يستحيل أن يُرسِلا رسالةً مشفرة بشفرة مورس.

هنا استفاد بيتر من عملِه الاستخباراتي السابق في حرب البوير. كان يعرف شفرة مورس ويستطيع قراءتها، لكنه لم يفهم تلك الإشارة. إما أنها كانت مشفرة بشفرةٍ خاصة، وإما أنها مُرسَلة بلغةٍ غريبة.

استلقى ساكنًا وراح يفكر بهدوء. كان أمامه رجلٌ، جندي تركي مأجور يعمل لصالح العدو. لذا ارتأى بيتر أنه يمكن أن يتحالف معه؛ لأنهما كانا مُنحازين إلى الجانب نفسه. لكن كيف له أن يقترب منه دون أن يُطلِق عليه الرصاص أثناء اقترابه؟ كذلك كيف يمكن لرجل أن يُرسِل إشارات إلى العدو من جبهة إطلاق نار دون أن يُكتشَف أمره؟ وجد بيتر إجابة في النَّسَق الغريب للأرض. فقد أدرك أنه لم يسمع صوتًا إلَّا بعدما أصبح على بُعد ياردات قليلة من المكان، وأن الأصوات لن تكون مسموعةً للرجال في الخنادق الاحتياطية ولا حتى في خنادق الاتصالات. وإذا تصادف أنَّ فردًا من خنادق الاتصالات سمع الصوت أثناء اقترابه من الجبهة، فسيكون من السهل تفسيره بأي سببٍ طبيعي. لكن الرياح التي كانت تهبُّ عبر ذلك التجويف الطبيعي الشبيه بالكوب من شأنها أن تحمل الصوت بعيدًا في اتجاه العدو.

بَقِي مُمكنًا أن يسمعه أولئك القابعون بموازاة الجرس في خنادق إطلاق النار. واستنتج بيتر أن عدد أفراد ذلك الخندق قليل حتمًا، والأرجح أنهم بضعة مُراقِبين فقط، وأن أقربهم ربما يكون على بُعد اثنتي عشرة ياردة كاملة. فقد قرأ من قبل أنَّ هذا هو النهج الفرنسي أثناء التعرُّض لقصف شديد.

كانت الخطوة التالية أن يتوصل إلى طريقة ليُعرِّف بها هذا الحليف بنفسه. وقرَّر أن السبيل الوحيد لذلك هو أن يباغته. ربما يُطلِق عليه الرصاص، لكن بيتر كان واثقًا في قوته وخفة حركته أمام رجلٍ مُنهَك لا شك. وبعدما يُحكِم قبضته عليه ويأمن شره، يمكن أن يشرح له الأمر.

كان بيتر في تلك اللحظة مُستمتعًا جدًّا. تمنَّى أن تبقى تلك المدافع اللعينة صامتة، ليلعب اللعبة بالطريقة الرصينة اللائقة التي يُحبها. بدأ يزحف في حركةٍ ملتوية بمنتهى الحذر إلى مصدر الصوت.

كان الليل آنذاك حالك السواد من حوله، وهادئًا جدًّا أيضًا، باستثناء تنهدات العاصفة المحتضَرة. كان الثلج قد انجرف وتراكم قليلًا عند الجدران المدمرة غير المواجهة للرياح، وكان يتقدم ببطء شديد جدًّا بطبيعة الحال. لم يكن قادرًا على إزاحة أونصة واحدة من الثلج. لكن صوت الرنين استمر، وصار أعلى في تلك اللحظة. خاف بيتر أن يتوقف الصوت قبل أن يصِل إلى رَجُله.

بعدها بقليل وجد يدَه تنزل على مساحة فارغة. فأدرك أنه بلغ حافة الخندق الأمامي. كان الصوت عندئذٍ على بُعد ياردة واحدة إلى يمينه، فغيَّر وضعيته بحذر بالغ. أصبح الجرس حينئذٍ تحته مباشرة، وأحسَّ بالعارضة الخشبية الكبيرة التي كان الجرس يتدلى منها. وأحس بشيء آخر أيضًا؛ شريط سلكي مثبت في الأرض، وطرفه البعيد متدلٍّ في الفراغ. وفطن إلى أنَّ هذا هو التفسير الذي كان الجاسوس سيختلقه إذا سمع أحد الصوت وجاء يبحث عن سببه.

كان الرجل آنذاك موجودًا أمامه وتحته في مكانٍ ما وسط الظلام الحالك، على بُعد أقل من ياردة واحدة. بقي بيتر ساكنًا تمامًا يدرس الوضع. لم يكن يرى شيئًا، لكنه كان يشعر بالوجود من حوله، وكان يُحاول تحديد مكان الرجل والجرس بالنسبة إليه، والمسافة التي تفصله عنهما بالضبط. لم يكن الأمر سهلًا كما بدا؛ لأنه لو قفز إلى المكان الذي يوجَد فيه الرجل حسبما يعتقد، فقد يُخطئ الهدف ويتلقى رصاصةً في بطنه. كان موقنًا أنَّ الرجل الذي يلعب لعبةً محفوفة بالأخطار كهذه من المُرجَّح أن يكون بارعًا في استخدام الأسلحة النارية. وفوق ذلك، فإذا اصطدم بالجرس نفسه، فسيثير ضجة رهيبة، ويلفت انتباه الجبهة كلها.

وفجأة منحه القدر الفرصة المناسبة. فقد وقف الشخص الخفي وتحرك خطوة حتى أصبح ظهره مستندًا إلى المتراس الخلفي للخندق. واحتكَّ بمرفق بيتر بالفعل، لكن بيتر حبس أنفاسه تمامًا.

يشتهر الزنوج بمسكةٍ مُعينة تتطلَّب عدة مخططات بيانية لشرحها. تقوم هذه الطريقة على إمساك الرقبة مع ليِّ الذراع اليُمنى للخلف ليًّا يُصيبها بالشلل التام، ولكن إذا طُبقت على رجل من وراء ظهره، فإنها تُقيد حركته بإحكام كما لو كان مُكبَّل اليدَين. رفع بيتر جسده ببطءٍ وسَحَب ركبتَيه تحته ليتكئ عليهما، ثم مد يدَه نحو فريسته.

أمسك به. ثم سحب رأسه إلى الوراء من فوق حافة الخندق، وشعر بحركة ذراعِه اليُسرى وهي تضرب الهواء بوهنٍ دون أن تستطيع الوصول إلى الخلف.

همس له بيتر بالألمانية: «اهدأ، لن أوذيك. فنحن صديقان لدينا الغرض نفسه. هل تتحدَّث الألمانية؟»

قال الرجل بصوت مكتوم: «لا.»

«الإنجليزية؟»

«نعم.»

فقال بيتر: «حمدًا للرب. إذن يمكن لكلَينا أن يفهم الآخر. رأيتُ اختراعك لإرسال الإشارات، وهو رائع جدًّا. عليَّ أن أصل إلى الجبهة الروسية بأي طريقةٍ قبل الصباح، وأُريدك أن تُساعدني. أنا إنجليزي، أو يُمكنك أن تعتبرني إنجليزيًّا، لذا فنحن حليفان. إذا تركتُ رقبتك، هل ستتصرَّف بأدب وتتحدَّث بعقلانية؟»

أبدى الرجل موافقته. فأفلته بيتر، وفي اللحظة نفسها انسلَّ إلى جواره. استدار الرجل ومد ذراعه بسرعة، لكنه وجد نفسه يُمسك الفراغ.

قال بيتر: «على رسلك يا صديقي، إياك أن تُحاول خداعي وإلا فسأغضب.»

فسأله الصوت المتحير: «من أنت؟ من أرسلك؟»

خطرَت ببال بيتر فكرة ذكية. فقال: «رفاق الأوقات الوردية.»

قال الصوت: «إذن، فنحن حليفان بالفعل. اخرج من الظلام يا صديقي، ولن أُوذيك. أنا تركي صالح، قاتلتُ مع الإنجليز في كردفان وتعلمت لُغتهم. كل مرادي من الحياة أن أرى هلاك أنور، الذي أفقر عائلتي وذبح أخي التوءم. لذا أخدم كفار موسكو.»

«لا أعرف من هم كفار موسكو، ولكن إذا كنت تقصد الروس، فأنا معك. عندي معلومة لهم ستجعل أنور سقيمًا شاحبًا. والسؤال هو: كيف أستطيع الوصول إليهم؟ وهذا هو ما ستساعدني فيه يا صديقي.»

«كيف؟»

«بعزفِ لحنك الصغير ذاك مجددًا. أخبرهم بأن يترقبوا خلال نصف الساعة القادم وصول هاربٍ من الجيش يحمل رسالةً مهمة. أخبرهم بالله عليك ألا يطلقوا النار على أي شخصٍ قبل أن يتيقنوا أنه ليس أنا.»

أخذ الرجل طرفَ حربته الكليل وجلس القرفصاء بجوار الجرس. أحدثت الضربة الأولى رنة واضحة ثاقبة طارت عبر الوادي. ثم أطلق ثلاث رنات أخرى على فتراتٍ متباعدة. قال لي بيتر إن الرجل كان أشبه تمامًا بعامل تلغراف يتَّصِل بإحدى المحطات.

قال له بيتر: «أرسل الرسالة بالإنجليزية.»

فقال الرجل: «قد لا يفهمونها.»

«إذن، أرسلها كيفما شئت. فأنا أثِق بك؛ لأننا إخوة.»

بعدها بعشر دقائق توقف الرجل وأنصت. ومن بعيدٍ جاء صوتُ جرسِ خندقٍ، على غرار تلك الأجراس التي كانوا يستخدمونها على الجبهة الغربية لإطلاق إنذار الغاز.

قال له الرجل: «يقولون إنهم سيكونون جاهزين في انتظارك. لا أستطيع تدوين الرسائل في الظلام، لكنهم أعطَوني الإشارة التي تعني «موافقة».»

قال بيتر: «حسنًا، هذا ممتاز. والآن يجب أن أتحرك. تريد نصيحة منِّي. عندما تسمع إطلاق نارٍ كثيفًا جهة الشمال، استعد للانسحاب بسرعة؛ لأنَّ مدينتك ستكون في ورطةٍ ميئوس منها. وأخبر قومك أيضًا بأنهم يرتكبون خطأً فادحًا بالسماح لهؤلاء الألمان الحمقى بأن يحكموا أراضيهم. اجعلهم يشنقون أنور وأصدقاءه التافِهين، وستعمُّ السعادة علينا مجددًا.»

قال التركي: «فليقبل الشيطان روحه في الجحيم! أمامنا سياجٌ شائك، لكنني سأريك طريقًا لتجتازه. لقد أحدثَت المدافع فتحاتٍ كثيرةً فيه هذا المساء. ولكن أسرِع؛ لأنهم قد يستدعون فريقًا لإصلاحه عمَّا قريب. تذكر أنك ستقابل الكثير من الأسلاك الشائكة قبل خطوط الخنادق الأخرى.»

اجتاز بيتر تشابُكات الأسلاك الشائكة بسهولة، بفضل توجيهات مُعينة. صحيح أن أحد أجزائها خدش ظهره وأصابه بجرحٍ فيه، لكنه سرعان ما وصل إلى آخر الأوتاد ووجد نفسه في أرضٍ مفتوحة. قال لي إن المكان كان مقبرةً لجُثث غير مدفونة، وإن رائحتها كانت بشعة وهو يزحف بينها. لكن لم يكن بإمكانه التباطؤ إطلاقًا؛ إذ شعر بأنه سمع حركة فريق العمال الأتراك من خلفه، وكان خائفًا من أن تكشفه شعلة ما ويُمطَر بوابلٍ من الرصاص أثناء انسحابه.

شق طريقه زحفًا كالدودة من حفرةٍ إلى أخرى من حفر القذائف، حتى لقي خندق اتصالاتٍ قديمًا مُدمرًا كان يؤدي إلى الاتجاه الصحيح. لا بد أن الأتراك أُجبِروا على التراجُع في الأسبوع الماضي، وأن الروس كانوا حينئذٍ في الخنادق التي أخلاها الأتراك. كان الخندق مملوءًا بالماء حتى نصفه، لكنه أعطى بيتر شعورًا بالأمان؛ لأنه مكَّنه من خفض رأسه تحت مستوى الأرض. ثم وصل إلى نهايته ووجد أمامه غابةً من الأسلاك الشائكة.

كان التركي قد ذكر في إشارته أنَّ بيتر سيصِل في غضون نصف ساعة، لكن بيتر شعر بأنه استغرق نحو ساعتَين كاملتَين قبل أن يتمكن من اجتياز تلك التشابكات المؤذية. لم يكن القصف قد ألحق بها ضررًا جسيمًا. فقد كانت الأوتاد كلها سليمة، وكادت لفائف الأسلاك الشائكة أن تلامس الأرض. تذكَّروا أنه لم يكن يحمِل قطَّاعة أسلاك، لم يكن لدَيه سوى يدَيه العاريتَين. تملَّكه الخوف مرة أخرى. فقد شعر بأنه عَلِق في شبكة، وأن النسور الوحشية تنتظر الانقضاض عليه من أعلى. كان معرضًا في أي لحظة لاكتشاف أمره بشعلةٍ مضيئة تنطلق في الهواء، وتصويب عشرات البنادق نحوه عندئذٍ. نسي تمامًا أمر الرسالة التي أُرسلت؛ لأنَّ كل رسائل الدنيا ما كانت لتبدِّد شعور الموت الدائم الذي كان يُحدِق به. قال لي إنه شعر وكأنه يتبع أسدًا شرسًا إلى الأدغال عبر مدخلٍ واحد ضيق، ثم لم يجد مخرجًا.

بدأ القصف المدفعي مجددًا — وكان صادرًا هذه المرة من المدافع التركية المتركزة وراء التلال — ونزلت قذيفة أمامه بمسافة قصيرة مزقت السلك الذي كان هناك. استغل أنَّ الانفجار سيصرف الأنظار عنه، وتمكن من قطع مسافة طويلة بعض الشيء، تاركًا أجزاءً كبيرة من ملابسه عالقة في لفائف السلك. وفجأة، عندما كاد الأمل يموت في قلبه، شعر بالأرض ترتفع بحدة. استلقى ساكنًا بلا حراك، وأُنيرَ المكان بصاروخٍ مضيءٍ من الجانب التركي، فوجد أمامه متراسًا رأى من خلفه رءوس الحراب. لقد كانت تلك ساعة استعداد القوات الروسية.

رفع أطرافه المُتشنجة عن الأرض وصرخ قائلًا: «أنا صديق! إنجليزي!»

رأى وجهًا ينظر إليه من الأعلى، ثم خيَّم الظلام مرة أخرى.

قال بصوتٍ مبحوح: «صديق. إنجليزي.»

سمع كلامًا خلف متراس الخندق. ثم سُلِّط عليه وميض مِشعل كهربائي للحظة. وبعدها سمع صوتًا يتحدَّث، صوتًا ودودًا، وبدا أنَّ صاحب الصوت كان يدعوه إلى المجيء.

كان واقفًا على قدمَيه آنذاك، وعندما وضع يدَيه على متراس الخندق، شعر بأنَّ الحراب قريبة جدًّا منه. لكن الصوت الذي تحدَّث كان ودودًا؛ لذا رفع جسده بمشقةٍ وتسلَّق حافة الخندق بيدَيه وقدمَيه وارتمى داخله. سُلط عليه وميض المِشعل الكهربائي مرة أخرى، فرأى المتفرجون رجلًا نحيلًا في منتصف العمر، قذرًا على نحوٍ لا يوصف، ووجدوا رأسه ملطخًا بالدماء، وظهره لا يكاد يحمل أي قطعة مُتبقية من قميصه. رأى الرجل وجوهًا ودودةً من حوله، فابتسم مبتهجًا.

قال: «كانت تلك رحلة شاقة يا أصدقاء، أريد لقاء جنرالكم بأقصى سرعة؛ فأنا أحمل له هدية.»

اقتيد إلى ضابط في مخبأ تحت الأرض، فخاطبه بالفرنسية التي لم يفهمها. لكن رؤية خريطة شتوم كان لها مفعول السحر. فبعدها اقتادوه سريعًا عبر خنادق الاتصالات، ثم فوق حقول سبخة إلى مزرعة بين الأشجار. وهناك وجد بعض ضباط الأركان الذين نظروا إليه ونظروا إلى خريطته، ثم وضعوه على حصانٍ وهرعوا به شرقًا. ووصل في النهاية إلى منزلٍ كبير مُتهدم، واقتادوه إلى غرفة بدت مليئة بالخرائط والجنرالات.

وهنا يجب أن تُحكى الخاتمة بلسان بيتر نفسه.

«وجدتُ هناك رجلًا ضخمًا جالسًا إلى طاولةٍ يشرب القهوة، وعندما رأيته، قفز قلبي من جسدي من هول المفاجأة. لقد كان الرجل الذي اصطدت معه في بونجوي في عام ٩٨، والذي أطلق عليه الزنوج لقب «قرن الأيل»، بسبب شاربه المَبروم الطويل. كان أميرًا آنذاك، وصار الآن جنرالًا عظيم الشأن. عندما رأيته، ركضتُ نحوه وأمسكت يده وصرخت قائلًا بالهولندية: «كيف حالك يا سيدي؟» عرفني وصاح قائلًا بالهولندية: «عجبًا، بيتر بينار العزيز!» ثم قدم لي قهوةً ولحم خنزير وخبزًا طيبًا، ونظر إلى خريطتي.»

«صاح بوجهٍ مُحمر قائلًا: «ما هذه؟»»

«فقلت: «إنها خريطة قيادة الأركان الخاصة بشخصٍ يُدعى شتوم، وهو وغد ألماني يتولى قيادة الجيش في تلك المدينة.»»

نظر إليها عن كثبٍ وقرأ العلامات، ثم قرأ الورقة الأخرى التي أعطيتني إيَّاها يا ديك. عندئذٍ رفع ذراعَيه وضحك. أخذ رغيفًا ورماه في الهواء فسقط على رأس جنرال آخر. تحدث إليهم بلُغتهم، فضحكوا هم أيضًا، ووجدتُ رجلًا أو اثنَين منهم يخرجان ركضًا كأنهما كُلِّفا بمهمةٍ ما. لم يسبق لي أن رأيتُ مثل هذا الاحتفال المرح. كانوا رجالًا أذكياء، وأدركوا قيمة ما أعطيتني إيَّاه.

ثم وقف على قدمَيه وعانقني، مع أنني كنت متسخًا جدًّا، وقبَّلني على كلتا وجنتيَّ.

«وقال: «أُشهِد الرب يا بيتر أنك أعظم صيادٍ منذ نمرود. لقد وجدتَ لي صيودًا كثيرة من قبل، لكن هذا أكبر صيدٍ جلبته لي!»»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤