الفصل الحادي والعشرون

التل الصغير

كان رجلًا حكيمًا ذاك الذي قال إن أعظم أنواع الشجاعة أن تكون قادرًا على البقاء ساكنًا بلا حراك. كان ذلك ما اعتدتُ أن أشعر به عندما كنا نتعرَّض للقصف في الخنادق الاحتياطية خارج فيرميليس. وشعرت به قبل أن نتجاوز متاريس الخنادق في لوس، لكنه لم يجتحني قط بقدْر ما اجتاحني في اليومَين الأخيرين في ذلك القبو. كان عليَّ ببساطة أن أكتفيَ بإطباق أسناني والحفاظ على رباطة جأشي. كان بيتر قد ذهب في مهمةٍ جنونية، ورأيتُ أن نجاحه فيها شِبه مُستحيل. أمَّا ساندي، فلم يظهر له أي أثر، كان موجودًا في مكانٍ ما على بُعد مائة ياردة حيث يخوض معاركه الخاصة، وكانت تؤرِّقني فكرةُ أنه قد ينفعل مجددًا من فرط إحساسِه بالذنب ويُفسد كل شيء. أحضر إلينا فردٌ غريب من أفراد عصبة «الرفاق» طعامًا، لكنه لم يكن يتحدث إلا التركية ولم يستطع إخبارنا بأي شيء، أما حسين، فخمَّنتُ أنه كان منشغلًا بتدبر أمر الخيول. تمنيتُ أن أستطيع فعل أي شيءٍ للمساعدة في قضاء حوائج المهمة؛ لأن ذلك كان من شأنه أن يُخلصني من قلقي، لكن لم يكن بإمكاني فعل شيء، لا شيء سوى الانتظار والتأمُّل في كآبة. يُمكنني القول إنني قد بدأت أتعاطف مع الجنرال الذي يبقى خلف الخطوط في المعركة، ويضع الخطة التي يُنفذها الآخرون. فقيادة الهجوم في ساحة المعركة لا يمكن أن تكون مُوتِّرة بقدرِ الجلوس في كرسي مريح وانتظار أخبارها.

كان الجو قارس البرودة، وكنَّا نقضي معظم النهار مُتدثرين بمعاطفنا الثقيلة، مدفونِين في أعماق القش. أذهلني بلنكيرون في تلك الفترة. فلم يكن في القبو ضوءٌ يُتيح له اللعب بالورق، لكنه لم يتذمَّر قط. كان ينام فتراتٍ طويلة من الوقت، وعندما يستيقظ، يتحدث بمرحٍ كأنه يستهل عطلة. كان عزاؤه المريح الوحيد أنه لم يعُد يُعاني عسر الهضم. ووجدته يواظب على إنشاد الترانيم شكرًا للعناية الإلهية الرحيمة التي خلَّصت مَعِدته من آلامها.

أمَّا أنا، فكان شُغلي الشاغل الوحيد هو الاستماع إلى المدافع. في نهار أول يومٍ بعد رحيل بيتر، وجدتُ صوتها هادئًا جدًّا على الجبهة الأقرب إلينا، ولكن في وقتٍ متأخر من المساء، بدأ قصف مروع. وفي اليوم التالي لم يتوقَّف قط من الفجر حتى الغسق، فذكَّرني بالساعات الثماني والأربعين الرهيبة التي سبقَت معركة لوس. حاولت أن أستشف من ذلك دليلًا ما على أن بيتر قد نجح في مهمته، لكني لم أفلح. بل بدا أنَّ العكس هو ما حدث؛ لأن هذا القصف الشديد كان يعني حتمًا أنَّ الروس ما زالوا مُصمِّمين على مهاجمة خطوط العدو من الجبهة الأمامية.

تسلقت إلى سطح المنزل مرتَين أو ثلاثًا لأستنشِق هواء نقيًّا. كان النهار ضبابيًّا ورطبًا، ولم أرَ من الريف إلَّا القليل جدًّا. كانت وسائل النقل ما زالت تمضي مُترجرجة نحو الجنوب على طول الطريق المؤدي إلى بالاندوكن، وكانت العربات البطيئة المُحملة بالجرحى عائدة من هناك. لكني لاحظتُ شيئًا واحدًا؛ كانت ثمة حركة مستمرة من الذهاب والإياب بين البيت والمدينة. كنت أرى سياراتٍ ورُسلًا على ظهور خيولهم يأتون إلى البيت ويغادرون باستمرار، واستنتجتُ أن هيلدا فون آينم كانت تتأهَّب لدورها في الدفاع عن أرضروم.

كانت كل مرات الصعود هذه في اليوم الأول بعد رحيل بيتر. وحين جرَّبتُ فتح نافذة السقف في اليوم الثاني، وجدتُها مغلقةً بوزنٍ ثقيل من فوقها. استنتجتُ أنَّ أصدقاءنا هم من فعلوا ذلك حتمًا، وارتأيتُه تصرفًا صائبًا تمامًا. فما دام المنزل قد بدأ يتحول إلى منتجعٍ عام، فلن يكون في صالحي إطلاقًا أن أصعد إلى السطح.

عاود حسين الظهور في وقتٍ متأخر من الليلة الثانية. كان ذلك بعد العشاء، عندما غطَّ بلنكيرون في نومٍ هانئ، وبدأتُ أنا أعد الساعات حتى الصباح. لم يغمض لي جفن في نهار تلك الأيام، ولم أكن أنام كثيرًا خلال الليل.

دخل حسين دون أن يُشعل مشكاة. سمعت صوت مفتاحه في القفل، ثم وقْع خطوته الخفيفة بالقرب من مرقدنا.

سألني: «أنائم أنت؟» وحين أجبتُه جلس بجواري.

قال: «لقد عثرنا على الخيول، وأمرَني الزعيم أن أخبرك بأننا سننطلق في الصباح قبل طلوع الفجر بثلاث ساعات.»

سُررتُ بهذا الخبر. ورجوته قائلًا: «أخبِرني بما يحدث؛ فنحن راقدون هنا في هذا القبر منذ ثلاثة أيام ولم نسمع أي أخبار.»

قال: «المدافع تُواصِل القصف. والألمان يأتون إلى هنا كل ساعة، لا أعرف لماذا. أيضًا هناك بحث مُكثف عنك. جاء بعض الباحِثين إلى هنا، لكننا صرفناهم خاوي الوفاض … نَم يا سيدي؛ فأمامنا مهمة شاقة.»

لم أنم كثيرًا، لأنني كنتُ متوترًا جدًّا من فرطِ الترقُّب، وكنت أحسد بلنكيرون على سباته العميق الذي كان يهنأ به حينئذٍ مع زوال عسر الهضم. لكن غلبني النعاس ساعة أو نحو ذلك، وعندئذٍ عاودني كابوسي القديم. وجدتُ نفسي مجددًا في عُنق ممر جبلي ضيق، حيث كنت أطارَد مطاردةً شعواء، وأبذل جهدًا مضنيًا للوصول إلى ملاذ كنت أعلم أنني يجب أن أصل إليه. لكني لم أكن وحدي هذه المرة. بل كان معي أناس آخرون، وإن لم أعرف عددهم؛ لأنَّهم تلاشَوا في الضباب حينما حاولت رؤية وجوههم. كانت الثلوج سميكة من تحت أقدامنا، والسماء رمادية فوقنا، وكنا مُحاطين من كل جانبٍ بقِمم سوداء، لكننا كنا نرى أمامنا، وسط ضباب الممر الجبلي، ذلك التل الغريب الشبيه بقِدْر الطعام، الذي رأيته لأول مرة في حلمي الذي راودني على طريق أرضروم.

رأيته واضحًا حتى أدق تفاصيله. كان يظهر عن يسار الطريق المُمتد عبر الممر الجبلي، فوق مُنخفَض يضم جلاميد صخرية كبيرة بارزة وسط الثلج. كانت جوانبه شديدة الانحدار إلى حدِّ أنَّ الثلج قد تساقط عن رُقَعٍ معينة منه، ليكشف عن امتداداتٍ طويلة من صخره الزيتي الأسود اللامع. لم تكن حواف قمتِه رأسية، بل كانت مائلة بزاوية مقدارها خمس وأربعون درجة، وبدت القمة نفسها مجوفة من الداخل، كما لو أنَّ الطقس قد أزال التربة من وسط إطارها الصخري، فحوَّلها إلى كوب.

كانت هذه هي حال معظم التلال الشبيهة بقدور الطعام في جنوب أفريقيا، وكنت أعلم أنَّ هذا التل من النوع ذاته. كنا نبذل جهدًا مُضنيًا لبلوغه، لكن الثلج كان يُعوِّقنا، وكان أعداؤنا قريبين جدًّا من خلفنا.

عندئذٍ أيقظني شخص بجواري. قال: «استعد يا سيدي؛ حانت لحظة الانطلاق.»

خرجنا كالسائرين نيامًا إلى الهواء القارس. اقتادنا حسين إلى الخارج من بابٍ خلفي سري قديم، ثم قادنا عبر مكانٍ أشبه ببستان، حتى وصلنا إلى ظُلَّةٍ من أشجار طويلة دائمة الخضرة. وجدنا الخيول واقفة هناك، وهي تأكل وتمضغ بهدوء من مَخاليها. قلت لنفسي: «جيد، وجبة من الشوفان قبل مجهود شاق.»

وجدنا هناك تسعَ دواب لتسعة فرسان. فامتطيناها دون أن ننبس ببنت شفة، وسرنا بها وسط أجمة من الأشجار حتى وصلنا إلى سياج خشبي مكسور، حيث كانت هذه بداية أرض مزروعة. اختار حسين أن يقودنا هناك طوال عشرين دقيقة تقريبًا وسط ثلوجٍ سميكة تعوق الحركة. فقد أراد تجنُّب إصدار أي صوتٍ حتى نبتعد بما يكفي عن مسامع مَن في المنزل. بعدها سلكنا طريقًا فرعيًّا سرعان ما التحم بطريق سريع صلب خمَّنتُ أنه متجه إلى ما بين الاتجاه الغربي والاتجاه الجنوبي الغربي. وحالَما وصلنا إلى هناك، انطلقنا بخيولنا بسرعةٍ جامحة وسط الظلام.

وجدت نفسي قد استعدتُ كل بهجتي. بل بثَّت فيَّ الحركة شعورًا بالنشوة، وكان بوسعي أن أُقهقه بأعلى صوتٍ وأغني. فأسفل مظلة الليل الحالكة، إمَّا تُنسَى الأخطار وإما تجتاح المرء اجتياحًا مروعًا. وقد صارت أخطاري أنا منسية. فالظلام الذي كنت أركض فيه كان يقودني إلى الحرية والأصدقاء. أجل، والنجاح أيضًا، النجاح الذي لم أجرؤ على أن أتمناه، بل لم أجرؤ حتى على أن أحلم به.

كان حسين يقود حصانه في المقدمة، وأنا بجواره. التفتُّ ورأيت بلينكيرون خلفي، وبدا واضحًا أنه كان مُستاءً للغاية من السرعة التي كنا نركض بها، والحصان الذي كان يمتطيه. صحيح أنه قال لنا من قبل إنَّ ركوب الخيل مُفيد لكبده، لكنه كان يُحب الخبب الخفيف والركض وقتًا قصيرًا، لا هذا الاندفاع الجامح. كانت فخذاه مُكتنزتَين جدًّا، حتى إن جِلد السرج لم يكن يلائمهما. مررنا بنارٍ في جوفٍ منخفض يضمُّ مُخيمًا مؤقتًا لوحدة عسكرية تركية، فانتفضَت الخيول كلها بعنف. عرفت من شتائم بلنكيرون عندئذٍ أن قدمَيه انفلتتا من ركابه، وأنه صار جالسًا على رقبة حصانه.

كان الحصان الراكض بجواره يحمل شخصًا طويلًا ملثَّمًا حتى عينَيه، يرتدي حول رقبته شالًا تتطاير أطرافه من خلفه. فبالطبع لم يكن ساندي لدَيه معطف سميك أوروبي؛ لأنه لم يرتدِ ثيابًا لائقة منذ عدة أشهر. أردتُ التحدث إليه، لكني، بطريقة ما، لم أجرؤ. منعني سكونه التام. كان فارسًا بارعًا رائعًا، بجلسته الإنجليزية الثابتة الشائعة بين الصيَّادين، وقد نفعته براعتُه؛ لأنه لم يكن يُعطي أي انتباه إلى حصانه. فقد كان رأسه ما زال يموج بأفكار جامحة.

ثم بدأت رائحة الهواء من حولي تصير حادة موحية ببرودة قارسة، ورأيت ضبابًا يتصاعد من المنخفضات.

صحتُ قائلًا لحسين: «تبًّا لسوء حظنا. هل تستطيع إرشادنا وسط الضباب؟»

هز رأسه. وقال: «لا أعلم. كنت أُعوِّل على رؤية شكل التلال.»

«لدينا خريطة وبوصلة، على أي حال. لكن هذا سيبطئ حركتنا. نسأل الرب أن ينقشع!»

وبعد قليلٍ تحوَّل البخار الأسود إلى رمادي، وطلع النهار. لكن ذلك لم يحمِل عزاءً لنا. فقد انساب الضباب متموجًا حتى بلغ آذان الخيول، وبينما كنتُ أقود حصاني على رأس المجموعة، لم أستطع رؤية الصف التالي إلا على نحوٍ خافت.

قال حسين: «حان الوقت لترك الطريق، وإلا فقد نلتقي بأناس فضوليين.»

اتجهنا يسارًا، فوق أرضٍ شبيهة تمامًا بمُستنقع اسكتلندي. كان بها بِرَك من المطر، وكُتل من شجيرات العرعر المتشابكة المُحملة بالثلوج، وسلاسل طويلة من الصخور الأردوازية الرطبة. كان طريقًا سيئًا، وقضى الضباب على أيِّ أملٍ في أن نسلك مسارًا مواتيًا. أخرجت الخريطة والبوصلة، وحاولتُ تحديد طريقنا بحيث نلتفُّ من عند جانب نتوءٍ جبلي كان يفصلنا عن الوادي الذي كنا نقصده.

قلت لحسين: «أمامنا جدول مائي. هل هو ضحل؟»

قال وهو يسعل: «إنه مجرد نُهَير ضئيل. هذا الضباب لعنة من إبليس.» لكني كنتُ أعلم قبل وقتٍ طويل من وصولنا إليه أنه ليس نُهيرًا ضئيلًا. كان مجرًى مائيًّا يتدفَّق على جانب التل بفيضان غزير، وسرعان ما خمنتُ أنه يجري في وادٍ ضيق عميق، وقد كان هكذا بالفعل. وصلنا بعد قليلٍ إلى حافته، حيث وجدنا دوَّامة متصلة طويلة من شلالات رغوية ومنحدرات بُنِّية سريعة. كان عبورنا بالخيول إلى الضفة الأخرى لا يقل صعوبةً عن الصعود بها إلى أعلى جروف بالاندوكن الشاهقة.

نظر حسين إليه بفزع. وقال: «اللهم اغفر لي حماقتي؛ فقد كان ينبغي لي أن أعلم. يجب أن نعود إلى الطريق السريع ونجد جسرًا. معذرة يا سادتي على أنني ضلَّلتكم هكذا.»

عدنا إلى ذلك المُستنقع وأنا في غاية الإحباط. فنحن لم نكن متقدِّمين بفارقٍ زمني طويل عن مطاردينا، وكانت هيلدا فون آينم على استعداد لأن تقلب السموات والأرض للحاق بنا. وجدتُ حسين يسرِّع وتيرة ركضنا؛ إذ لم يكن قلقُه يقلُّ عن قلقي.

وقبل أن نصل إلى الطريق، انقشع الضباب فكشف لنا عن قطعة أرض كالإسفين، مُمتدة مباشرة إلى التلال الواقعة على الجانب الآخر من النهر. كان مشهدًا واضحًا، وبرَزَت كل تفاصيله مبتلةً وجليةً في ضوء الصباح. رأينا الجسر والفرسان مُصطفِّين بعرضه، ورأينا كذلك حراسًا من سلاح الفرسان يتحركون عبر الطريق.

لكنهم رأَونا في اللحظة نفسها. فتناقلوا الخبر عبر الطريق، وأُطلقَت صافرة عالية، وانطلق الحراس بخيولهم نحو الضفة حيث بدءوا يعبرون المستنقع.

فقال حسين بغضب ونحن نستدير بسرعةٍ ونركض بالخيول عائدين أدراجنا: «ألم أقل إن هذا الضباب لعنة من إبليس؟ لقد رآنا هؤلاء الضباط الملاعين، وقُطع علينا الطريق.»

كنت أرغب في تجربة عبور النهر بأي ثمن، لكن حسين أوضح أن هذا لن يُجدينا أي نفع. فأفراد سلاح الفرسان المتمركزون على الجانب الآخر من الجسر كانوا يقتربون من الجانب المقابل لنا على الضفة الأخرى. قال حسين: «أعرف دربًا يمرُّ عبر التلال، ولكن علينا أن نسلكه سيرًا على الأقدام. إذا استطعنا توسيع المسافة التي نسبقهم بها، وحجَبَنا الضبابُ عن أنظارهم، فما زالت لدَينا فرصة.»

خضنا مسيرة مُنهِكة بخطًى بطيئة مُتثاقلة صعودًا إلى أطراف التلال. كان مطاردونا وراءنا آنذاك، وهذا فاقَم كل صعوباتنا. أتذكر أننا كنا نسير على منحدرات جانبية طويلة من ركامٍ صخري متكسر، حيث كان الثلج ينزلق في أشكال لولبية تحت أقدامنا. اضطُررنا إلى الالتفاف حول جلاميد صخرية ضخمة، واصطدمنا بِبُقع مستنقعية، تكونت حين التقت الجداول المائية المنبثقة من الثلوج لأول مرةٍ مع السهول، فغمَرَنا وحْلُها حتى بلغ أحزمة سروج خيولنا. ومن حُسن حظنا أن الضباب قد انسدل علينا مرة أخرى، لكنَّ هذا، وإن أعاق مُطاردينا، فقد صعَّب على حسين إيجاد الدرب.

لكنه عثر عليه. وجدنا هناك الوادي الضيق ودرب البغال الوعر المؤدي إلى الأعلى. لكن كان هناك أيضًا انهيار أرضي، وبدا من علاماته أنه حديث جدًّا. وقد أحدث تجويفًا كبيرًا بعرضِ جانب التل، وكشف عن باطن التربة الخام، ولمَّا كان جانب التل مُغطًّى من أعلاه بالثلج، فقد بدا المنظرُ كما لو أنَّ شريحةً قُطِعت من كعكة شوكولاتة مُغطاة بطبقةٍ من الكريمة البيضاء.

ظللنا مُحدِّقين به ببلاهة للحظة، حتى أدركنا أن لا أمل لنا في اجتيازه.

قلت: «سوف أحاول الوصول إلى الجروف المنحدرة. فحيثما يوجَد طريق، يمكن إيجاد طريق آخر.»

قال حسين مُتجهمًا: «ليصطادنا هؤلاء الرماة واحدًا تلو الآخر بكل ارتياح. انظر!»

كان الضباب قد انقشع مُجددًا، وبنظرة خاطفة ورائي تبيَّنتُ مطاردينا وهم يقتربون منا. كانوا حينئذٍ على بُعد أقل من ثلاثمائة ياردة. فاستدرْنا بخيولنا وانطلقنا شرقًا عبر حواف الجروف.

عندئذٍ تحدث ساندي للمرة الأولى. «لا أعرف ما رأيكم يا رفاق، لكني لن أدعهم يأخذونني. ليس أمامنا سوى أن نعثر على مكان ونقاتلهم منه. يُمكننا أن نقتل منهم الكثير قبل أن يقتلونا.»

قال بلنكيرون بابتهاج: «هذا هو الخيار الوحيد.» كان الركض بالخيل طوال هذا الوقت قد عذَّبه بشدة، فصار يُرحِّب بأي نوع من القتال ما دام سيكون ثابتًا على الأرض.

قال ساندي: «وزعوا الأسلحة.»

كان كل أفراد عصبة «الرفاق» يحملون بنادق مُعلقة على أكتافهم. أخرج حسين بنادق وأحزمة طلقاتٍ لبقيَّتنا من حقيبةٍ عميقة مُعلقة بسرج حصانه. وبينما كنت أضع بندقيتي على قربوس حصاني، وجدتها بندقية ماوزر ألمانية من أحدث طراز.

قال ساندي: «سننطلق بأقصى سرعة إلى أن نجد نقطة ارتكاز مناسبة لمقاومة العدو. الظروف ضدنا هذه المرة.»

دخلنا وسط الضباب مرة أخرى، وسرعان ما وجدنا أنفسنا على أرض مُمهدة ممتدة على منحدرٍ مستوٍ. ثم وصلنا إلى رابية مرتفعة، ورأيت الشمس على قمَّتها. بعد ذلك بقليل غُصنا في ضوء النهار الساطع، مُطلِّين على وادٍ واسع، حيث رأينا طريقًا منحنيًا صاعدًا إلى ممرٍّ في سلسلة التلال. كنت أتوقَّع ذلك. كان طريقًا أحاديَّ الاتجاه يؤدي إلى ممرِّ بالاندوكن الجبلي، على بُعد بضعة أميال جنوب المنزل الذي كنا ماكثين فيه.

ثم نظرت جنوبًا، فأبصرتُ ما كنت أترقَّبه منذ عدة أيام. وجدتُ تلًّا صغيرًا في منتصف الوادي، وعلى قمتِه حلقة دائرية من الصخور. كان هذا هو «التل الشبيه بقِدر الطعام» الذي رأيته في ذلك الحلم الذي كان يُراودني باستمرار.

عندئذٍ تولَّيت زمام المبادرة. صحت قائلًا: «ها هو حصننا هناك. حالما نصل إليه، يُمكننا أن نبقى فيه أسبوعًا كاملًا. هيا امتطوا خيولكم وانطلقوا نحوه.»

قُدنا خيولنا على جانب التل نحو الأسفل بأقصى سرعة كما لو كنا رجالًا مَمسوسين، وحتى بلنكيرون ظلَّ ثابتًا على ظهر حصانه بكل رجولة بين الانحناءات والانعطافات والمنزلقات. وسرعان ما صرنا على الطريق، نركض بجوار جنودٍ راجِلين من المشاة وخيولٍ لجر المدافع وعربات فارغة. لاحظت أن معظمهم بدَوا يتحركون نحو أسفل الطريق، في حين أنَّ القليل منهم كانوا مُتجهين إلى أعلاه. صرخ حسين ببضع كلماتٍ تركية فأفسحوا لنا الطريق لنمر، لكن سرعتنا الجنونية جعلتهم يُحدقون بنا بالطبع. وبطرفِ عيني رأيت ساندي قد تخلَّص من معظم الأغطية التي كان متشحًا بها، وصار شكلُه يبدو مبهرًا جدًّا وزاهي الألوان. لكني لم أكن منشغلًا إلا بالتفكير في التل الصغير، الذي كان في تلك اللحظة شِبه مواجِهٍ لنا على الجانب الآخر من الوادي الضحل.

لم يكن بإمكان أي حصان أي ينزل ذلك المنحدر الشديد. لذا دفعنا خيولنا إلى داخل المُنخفَض، ثم ترجَّلنا بسرعة، وحملنا أمتعتنا الثقيلة على ظهورنا، وبدأنا نشقُّ طريقنا بصعوبة صعودًا على جانب التل الصغير. كان جانبه مليئًا بجلاميد صخرية كبيرة، مما أتاح لنا غطاءً ساترًا احتجنا إليه بعد ثوانٍ معدودة. فحينما ألقيت نظرة خاطفة ورائي، رأيت مطاردينا على الطريق من فوقنا، يستعدون لإطلاق النار.

كنا سنصير صيدًا سهلًا في الأوقات العادية، ولكن من حُسن حظنا أنَّ المُنخفَض في تلك اللحظة كان محاطًا بخيوطٍ وأشرطة من الضباب. استطاع الآخرون حماية أنفسهم من الرصاص؛ لذا بقيت ملاصقًا لبلنكيرون وسحبته — وقد انقطعَت أنفاسه تمامًا — عبر المسار الأقل تعرضًا لرصاصهم. كان الرصاص يتناثر بين الحين والآخر على الصخور، وسمعتُ إحدى الرصاصات تُغني بصرير مزعج قُرب رأسي. قطعنا ثلاثة أرباع المسافة هكذا، ولم يعُد متبقيًا أمامنا سوى الياردات العشر المكشوفة حيث كان مَيل المنحدر يتضاءل حتى حافة الحلقة الصخرية.

أُصيبَ بلنكيرون في ساقه، وكان هو الجريح الوحيد بيننا. لم يكن لديَّ خيار سوى حمله؛ لذا أرجحته واضعًا إيَّاه على كتفيَّ، وقطعتُ ذلك الشوط الأخير بقلبٍ يكاد ينفجر. كانت مهمة محمومة، وكان الرصاص يتطاير بكثافةٍ شديدة من حولنا، لكننا وصلنا كلنا سالمين إلى الحلقة الصخرية، وصعدنا فوق حافتها بعدما تسلَّقنا ارتفاعًا قصيرًا. وضعت بلنكيرون داخل تجويف قمة التل، وشرعتُ في إعداد دفاعنا.

لم يكن لدينا مُتسع من الوقت لذلك. فقد لمحتُ وسط الضباب الرقيق أشخاصًا يقتربون نحونا وهم جاثمون يحتمون وراء ساتر. كان المكان الذي كنا فيه حصنًا طبيعيًا، باستثناء أنه كان بلا فتحاتٍ لإطلاق النار ولا أجولة رمال. لذا كان علينا أن نرفع رءوسنا فوق الحافة لإطلاق النار، لكن الخطر لم يكن كبيرًا بفضلِ مرمى النيران الرائع الذي أتاحه لنا ذلك الأحدور الممتد على تلك الياردات العشر الأخيرة. نشرتُ الرجال في أماكنهم وانتظرت، وأصرَّ بلنكيرون، بوجهٍ شاحب، على أن يشارك معنا، قائلًا إنه كان بارعًا في استخدام الأسلحة النارية فيما مضى.

أصدرت الأمر بألا يطلق أي شخص النار إلَّا بعدما يخرج أفراد جيش العدو من وراء الصخور إلى الأحدور المكشوف. كان الأحدور يحيط بالقمة تمامًا؛ ولذا كان علينا أن نُراقب كل الجوانب لنمنعهم من التسلل إلينا من الجنب أو الخلف. وبالفعل سرعان ما سمعتُ بندقية حسين تطلق النار من الخلف، فأدركتُ أنَّ احتياطاتي كانت في محلِّها.

كنا نحن الثلاثة رُماة بارعين، وإن لم يكن أيٌّ منَّا يرقى إلى مستوى بيتر الإعجازي، وأبلى «الرفاق» أيضًا بلاء حسنًا. كنتُ أدرى بالماوزر من أي سلاح آخر، وأصابت معظمُ رصاصاتي الهدف بدقة. لم تُتَح لمهاجمينا أي فرصة قط للتغلُّب علينا؛ لأن أملهم الوحيد كان الاندفاع نحونا ومباغتتنا بأعدادٍ كبيرة، ولكن لأنَّ المجموعة بأكملها لم تزد على دزينتَين، فقد كان عددهم أقل بكثيرٍ ممَّا يلزم لخطوة كهذه. أعتقد أننا قتلنا منهم ثلاثة؛ لأن جُثثهم تُركت وراءهم، وجرحنا ستةً على الأقل، في حين تراجع البقية نحو الطريق. وهكذا انتهى الاشتباك كلُّه في غضون ربع ساعة.

سمعت حسين يقول بشراسة: «إنهم كلاب الأكراد. فلا يُطلِق النارَ على كسوة الكعبة إلَّا كافر كردي.»

عندئذٍ ألقيتُ نظرة فاحصة على ساندي. كان قد تخلص من الشيلان والأغطية التي كانت تكسوه، مرتديًا أغرب زيٍّ ارتداه رجل في معركة على الإطلاق. كان قد تمكن، بطريقةٍ ما، من شراء حذاء ميداني طويل، وبنطال قديم من بناطيل ركوب الخيل. وكان يرتدي فوقه جبةً حريرية رائعة، أو مئزرًا ذا لون زمردي لامع، تصِل حتى ما أسفل خصره بكثير. صحيح أنني وصفتها بالحريرية، لكنها لم تكن كأي حريرٍ شهدته من قبل؛ إذ كان نسيجها بديعًا جدًّا، ويحمِل بين ثناياه بريقًا شديدًا وعُمقًا بالغًا. كان صدرُها مطرزًا بنقشٍ غريب لم أستطع تتبُّع شكلِه في الضوء الخافت. أراهنُ أنَّ هذا هو أندر وأغلى ثوب عُرِّض للرصاص على تلٍّ شتوي قاحل.

بدا ساندي غير واعٍ بثيابه. فراح يتفحَّص المنخفَض بعينِه التي لم تعد فاترة. وصاح قائلًا: «هذا مجرد عزفٍ تمهيدي. أمَّا المعزوفة الكبرى، فستبدأ قريبًا. يجب أن ننصب متراسًا في هذه الفجوات، وإلا فسيصطادوننا من على بُعد ألف ياردة.»

في هذه الأثناء كنتُ قد ضمدتُ جرحَ بلنكيرون في عجالةٍ بخرقةٍ كتانية أعطاني إياها حسين. كان الجرح ناتجًا من رصاصةٍ مرتدة اخترقت شظاياها ساقه اليسرى. ثم شاركت مع الآخرين في تشييد سواتر ترابية لاستكمال الدائرة الدفاعية حول الحصن. لم تكن المهمة سهلة؛ لأننا كنا نعمل بسكاكيننا فقط، وكان علينا أن نحفر عميقًا تحت الحصى المُغطى بالثلج. وبينما كنا نعمل، قيَّمتُ ملاذنا.

كان التل ذا شكلٍ شبه دائري، وقُطر يبلغ نحو عشر ياردات، مملوءًا من الداخل بجلاميد صخرية وأحجار غير مثبتة معًا، وكان ارتفاع متراسِه نحو أربع أقدام. كان الضباب قد انقشع على نطاق مساحةٍ كبيرة، واستطعت رؤية المناطق المحيطة بنا مباشرة. نظرت نحو الغرب، على الجانب الآخر من المنخفَض، فرأيت الطريق الذي جئنا منه، ووجدتُ بقايا مُطاردينا مجتمعِين عليه. ثم نظرت جهة الشمال، فرأيت التل ينحدر بميلٍ شديد إلى قاع الوادي، أمَّا جهة الجنوب، فكان هناك منخفَض، لكني اصطدمت بعده بسلسلة من التلال حجبَت الرؤية. وناحية الشرق، وجدتُ تفرعًا آخر للنهر خمنت أنه التفرع الرئيسي، وكان من الواضح أن الطريق الرئيسي يمتد بمُحاذاته إلى الممر الجبلي؛ لأنني رأيته مزدحمًا بوسائل النقل. بدا أن الطريقَين يلتقيان عند مكانٍ ما في الجنوب أبعدَ من نطاق رؤيتي.

خمنتُ أننا قريبون من الجبهة حتمًا؛ لأن ضجيج المدافع بدا قريبًا جدًّا، سواءٌ الفرقعة الحادة من المدافع الميدانية أو الدوي الأعمق لمدافع الهاوتزر. وفوق ذلك، كنت أسمع طقطقة الرشاشات، التي بدت كزقزقة طيور العقعق بين نباح كلاب الصيد. حتى إنني رأيت انفجار القذائف الروسية، التي كان واضحًا أنها تحاول بلوغ الطريق الرئيسي. فقد سقطت قذيفة كبيرة، قُطرها نحو ثماني بوصات، على بُعد أقل من عشر ياردات من قافلة متجهة نحو شرقنا، وسقطَت أخرى في المنخفَض الذي كنا قد أتينا منه. كان واضحًا أنَّ تلك قذائف تجريبية لتحديد مدى الاستهداف، وتساءلت عمَّا إذا كان الروس لديهم نقاط مراقبة على المرتفعات لتحديد مواضع سقوطها. ارتأيتُ أنهم، لو صح ذلك، قد يحاولون قريبًا إنشاء حزامٍ ناري بقذائفهم، وأننا حتمًا سنكون قريبين جدًا من حافته. ستكون واحدة من عجائب سُخريات القدر أن نُصاب بقذائف صديقة.

سمعت ساندي يقول: «أقسم بالشيطان أننا لو كنا نملك رشاشين فقط، لأمكننا التحصُّن في هذا المكان ضد فرقة كاملة.»

فسألته: «وماذا عن القذائف اللازمة لذلك؟ إذا صعدوا بمدفعٍ، فيمكنهم تفجيرنا إلى أشلاء صغيرة في عشر دقائق.»

أجاب قائلًا: «لنَرجُ من الرب أن يبقَوا منشغلين بالروس فلا ينتبهوا إلى ذلك.»

أخذتُ أراقِب أعداءنا على الطريق بنظراتٍ قلقة. فقد بدا أن أعدادهم قد زادت. وكانوا يشيرون أيضًا إلى راية بيضاء ترفرف. ثم انسدلت أستار الضباب علينا مرة أخرى، وصار نطاق رؤيتنا مقتصرًا على عشر ياردات ملبَّدة بشبورةٍ.

صحت قائلًا: «خذوا حذركم؛ فقد يُحاولون الاندفاع نحونا في أي لحظة. فليُبقِ كل رجلٍ عينَه على حافة الضباب، ويطلق النار عند أول إشارة.»

ظللنا مُنتظرين هكذا نصف ساعة تقريبًا على ساعةِ يدي في ذاك العالم الأبيض الغريب، وكانت أعيُننا تتألَّم بإجهادٍ من طولِ التحديق. بدا أن صوت المدافع قد سكت، وخيَّم صمت مُطبِق على كل شيء. وفجأة فزع كل الرجال بصرخةٍ من بلنكيرون حينما اصطدمَت ساقه المُصابة بصخرة.

ثم جاء صوت من وسط الضباب.

كان صوتًا نسائيًّا عاليًا ثاقبًا عذبًا، لكنه تكلَّم بلغة لم أفهمها. لم يفهمها سوى ساندي. انتفض فجأة كأنه يدافع عن نفسه ضد لكمةٍ تلقاها.

ظهرت صاحبة الصوت بوضوح على الأحدور على بُعد ياردة أو اثنتَين. وكان وجهي هو أول وجه رأته.

قالت بالإنجليزية: «جئت لأتفاوض وأعرض شروطي. فهل تسمح لي بالدخول؟»

لم يسعني أن أفعل شيئًا سوى خلع قُبعتي والقول: «أجل يا سيدتي.»

أمَّا بلنكيرون، الذي كان متكئًا على المتراس، فأخذ يسبُّ بغضبٍ في سرِّه.

تسلَّقَت الحلقة الصخرية وخطَت من فوق حافتها بخفةٍ كالغزال. كانت ثيابها غريبة؛ إذ كانت تنتعِل حذاء طويلًا، وترتدي بنطالًا قصيرًا لركوب الخيل، ومن فوقه فستان أخضر قصير. كانت تعتمِر قبعةً صغيرة مُزينة بدبوس مُرصع بجواهر، وتكتسي رداءً من قماش ريفي خشن متدلٍّ من كتفَيها. كانت مرتدية قفازات واقية خشنة في يديها، ومتسلحة بسوطٍ من سياط ركوب الخيل. أتذكر أن بلورات الضباب كانت ملتصقةً بشعرها، وأنَّ ثيابها كانت مُغطاة بطبقة فضية رقيقة من الضباب.

لم يسبق لي أن رأيتها جميلة قط. ربما تكون غريبة أو مبهرة أو مدهشة، قل ما شئت، لكن كلمة الجمال كانت تحمل طابعًا بشريًّا لطيفًا لا يتماشى إطلاقًا مع وجهٍ كهذا. ولكن بينما كانت واقفة هناك ببشرتها المتورِّدة، وعينَيها اللامعتَين كالنجوم، ووقفتها التي كانت كوقفة طائر بري، اضطُررت إلى الاعتراف في قرارة نفسي بأنها ذات حُسن فريد من نوعه. ربما كانت شيطانة، لكنها كانت ملكة أيضًا. ارتأيتُ أنَّ دخول القدس على حصانٍ بجوارها قد يحمِل مزايا.

وقف ساندي متصلبًا، وكان وجهه في غاية الجدية والثبات. مدَّت إليه يدَيها الاثنتين، وتحدثت بالتركية بمنتهى الرقة. لاحظتُ أن الرفاق الستة قد اختفَوا من على قمة التل، وكانوا في مكانٍ ما بعيد عن الأنظار على الجانب الآخر.

لا أعرف ما قالته، لكني استنتجتُ من نبرتها، ومن عينَيها قبل كل شيء، أنها كانت تتوسَّل إليه؛ تتوسَّل من أجل أن يعود، من أجل أن يشاركها في مغامرتها الكبرى، تتوسَّل إليه كي يُحبها، على ما أظن.

كانت قسماته أشبه بقناع الموت؛ إذ كان حاجباه مشدودَين بعبوسٍ طفيف، وكان فكُّه جامدًا.

قال: «سيدتي، أطلب منك أن تُخبريني سريعًا بالغرض من مجيئك، وأن تقوليه بالإنجليزية. فأصدقائي يجب أن يسمعوه بكل وضوح مثلي تمامًا.»

صاحت قائلة: «أصدقاؤك! ما علاقة أميرٍ مثلك بهؤلاء المأجورين؟ ربما يكونون عبيدك، ولكن ليسوا أصدقاءك.»

فكرر ساندي بتجهُّم: «بل أصدقائي. عليك أن تعلمي يا سيدتي أنني ضابط بريطاني.»

كانت تلك ضربةً صاعقة مُحكَمة بلا شك. الرب أعلم بما كانت تُخمِّنه من قبل عن هويته الأصلية، لكن المؤكد أنها لم تتخيل ذلك قط. اتسعت عيناها أكثر وازدادت لمعانًا، وافترقت شفتاها كأنها على وشك التحدُّث، لكن صوتها خذلها. ثم تمالكت نفسها بصعوبة، وانطفأ كل وهَج الشباب ولهيب الحُب من وجهها الغريب. واكتسى مجددًا بالقناع الشرير الذي عرفتها به في أول لقاء جمعَنا.

سألَته بصوتٍ هادئ: «وهذان الآخران؟»

«أحدهما ضابط زميل معي في كتيبتي. والآخر صديق أمريكي. لكن ثلاثتنا مشاركون في نفس المهمة. جئنا إلى الشرق لتدمير ذي العباءة الخضراء وطموحاتك الشيطانية. لقد دمرتِ أنبياءكِ بنفسكِ، والآن حان دوركِ لتُهزَمي وتختفي. اعلمي يقينًا يا سيدتي أنَّ تلك الحماقة قد انتهت. سأمزق هذا الثوب المقدس ألفَ قطعة وأنثرها في الريح. الناس ينتظرون الكشف عن النبي اليوم، لكن هذا لن يحدث. فلتقتلينا إذا استطعتِ، لكننا على الأقل سحقنا كذبتكم، وأسدينا خدمة إلى بلدنا.»

ما كنتُ لأرفع عينيَّ عنها في هذه اللحظة ولو بكنوز الدنيا. كتبتُ من قبل أنها كانت ملكة، ولم يكن في ذلك أيُّ شك. كانت لديها روحٌ انتصارية قاهرة؛ إذ لم يُخالط سيماءها ذرةُ ضعف أو خيبة أمل. لم تكن عيناها تشعُّ إلا كبرياء وإصرارًا مفعمًا بهيبة لا توصف.

«قلت إنني جئتُ لأعرض شروطي. وسأعرضها على أي حال، مع أنها صارت مختلفة عمَّا كان في حسباني. بخصوص الأمريكي السمين، سأعيده إلى وطنه سالمًا. فأنا لا أعادي أمثاله. إنه عدو ألمانيا، وليس عدوي أنا.» ثم أضافت وهي تلتفت نحوي بشراسة: «أمَّا أنت، فسأشنقك قبل حلول الغسق.»

كانت هذه أسعد لحظةٍ في حياتي. فقد أدركتُ ثأري أخيرًا. لقد اختصتني هذه المرأة دون الآخرين بصبِّ جام غضبها عليَّ، وكدتُ أُحبها بسبب ذلك.

التفتت إلى ساندي، وقد زالت الشراسة من وجهها.

قالت له: «أنت تبحث عن الحقيقة. وأنا أيضًا مثلك، وإذا استخدمنا كذبة، فما ذلك إلَّا لسحقِ كذبةٍ أكبر. إنني أعتبرك واحدًا من أهلي بالروح، وأنت الوحيد من بين كل الرجال الذي رأيته جديرًا بأن يُصاحبني في مهمتي. قد تفشل ألمانيا، لكني لن أفشل. إنني أعرضُ عليك أعظم مهنةٍ عرفها إنسان. أعرض عليك مهمة تتطلَّب كل ذرة من العقل والقوة والشجاعة. فهل سترفض هذا المصير؟»

لا أعرف التأثير الذي كان ذلك التبجُّح سيُحدِثه لو كانا في غرفة معطرة ساخنة، أو في لحظةٍ من الاسترخاء في حديقة فخمة، لكنه فوق قمة ذلك التل البارد كان واهيًا، مثله مثل الضباب المُحيط بنا. لم يبدُ حتى مبهرًا، بل مجرد كلام مجنون.

قال ساندي: «سأبقى مع أصدقائي.»

«إذن، سأعرض المزيد. سأنقذ أصدقاءك. سأجعلهم هم أيضًا يشاركونني انتصاري.»

لم يستطع بلنكيرون تحمُّل ذلك. فهبَّ واقفًا على قدمَيه ليعبِّر عن الاحتجاج الذي انتُزع من أعماق روحه، ونسي ساقه المصابة، فتدحرج على الأرض متأوهًا.

ثم بدا أنها تتوسَّل للمرة الأخيرة. كانت تتكلم بالتركية حينئذٍ، ولا أعرف ماذا قالت، لكني استنتجتُ أنه كان توسلًا من امرأة إلى حبيبها. عادت لتُصبح المرأةَ الجميلة المُعتدة بكبريائها، لكن كبرياءها كانت مشوبة برعشة، كنت سأكتب «حنان». كان الاستماع إليها خيانة فظيعة، كالتنصت على شيء مُثير للشفقة. أنا متيقن من أنَّ وجهي قد احمرَّ من الخجل آنذاك، أما بلنكيرون، فقد أشاح بوجهه بعيدًا.

ظل وجه ساندي جامدًا تمامًا. وردَّ بالإنجليزية.

قال: «لا رغبة لي في أي شيءٍ يمكن أن تعرضيه عليَّ. فأنا خادم وطني، وأعداؤه أعدائي. يستحيل أن أشارك معك إطلاقًا. وهذا هو جوابي النهائي يا سيدة فون آينم.»

عندئذٍ انكسرت رباطة جأشها الفولاذية. بدا كأنَّ سدًّا ينهار أمام كتلة مكبوحة من المياه الجليدية. خلعَت أحد قفازيها مُمزِّقة إياه وألقت به في وجهه. ورأيتُ عينَيها تُشعان كراهية حاقدة.

صاحت قائلة له: «لقد اكتفيتُ منك. لقد استخففتَ بي، لكنك حفرت قبرك بنفسك.»

ثم قفزَت على المتراس، ونزلَت على الأحدور في طرفة عين. كان الضباب قد انقشع مجددًا، ورأيتُ على الجانب الآخر من المنخفَض مدفعًا ميدانيًّا منصوبًا وحوله رجالٌ ليسوا أتراكًا. لوحَت لهم بيدها، ونزلَت مسرعة نحو أسفل التل.

لكني في تلك اللحظة سمعتُ صفير قذيفة روسية بعيدة المدى. وقعَت بين الجلاميد الصخرية فأحدثت انفجارًا مصحوبًا بصوتِ اصطدام مكتوم، وتصاعُد كتلة من التراب الأحمر على شكلِ فطر عيش الغراب. مرَّ كل ذلك في لحظة خاطفة؛ رأيت أفراد المدفعية على الطريق يشيرون بأياديهم وسمعتهم يصيحون، وسمعتُ أيضًا صوتًا كالنحيب من بلنكيرون، كل هذا قبل أن أدرك بنفسي ما حدث. ثم رأيت ساندي، الذي كان على الجانب الآخر من الأحدور بالفعل حينئذٍ، يقفز بوثبات كبيرة نحو أسفل التل. كانوا يُطلقون النار عليه، لكنه لم يكترث بهم. اختفى عن الأنظار دقيقة، ولم أعد أعرف مكانه إلا من فرقعات وابل الرصاص المصوَّب إليه.

ثم عاد، وصعد الجزء المائل الأخير ببطءٍ شديد، حاملًا شيئًا ما بين ذراعَيه. عندئذٍ لم يعُد أفراد العدو يُطلقون النار؛ لأنهم أدركوا ما حدث.

أنزَل حِمله بلُطف في أحد أركان تجويف التل من الداخل. كانت القبعة قد سقطت، وكان الشعر منحلًّا طليقًا. رأيتُ الوجه شديد البياض، لكنه كان خاليًا من أي جروح أو كدمات.

سمعته يقول: «لقد قُتلَت في الحال. كُسِر ظهرها بشظيةِ قذيفة. ديك، يجب أن ندفنها هنا … اسمعني، لقد … لقد أحبتني. وهذا هو الشيء الوحيد الذي أستطيع تقديمه لها نظير ذلك.»

كلَّفنا أفراد عصبة «الرفاق» بالحراسة، وتمكنَّا، ببطءٍ شديد جدًّا، من حفر قبرٍ ضحل أسفل المتراس الشرقي باستخدام أيادينا وسكاكيننا. وعندما انتهينا، غطَّينا وجهها بالعباءة الكتانية التي كان ساندي يرتديها صباح ذلك اليوم. ثم رفع جثمانها ووضعه في مكانه بخشوع.

قال: «لم أكن أعلم أنني سأحمل في حياتي شيئًا بهذه الخفة.»

لم يكن من اللائق أن أنظر إلى مشهد كهذا. فذهبت إلى المتراس بمنظار بلنكيرون وألقيت نظرة على أصدقائنا المتمركزين على الطريق. لم يكن بينهم أي تركي، وخمنت السبب؛ فلم يكن من السهل الاستعانة برجال مُسلمين ضد صاحب العباءة الخضراء. كان الأعداء ألمانًا أو نمساويين، وكان معهم مدفع ميداني. بدا لي أنهم مصوِّبون إيَّاه نحو حصننا، لكنهم كانوا ينتظرون. وبينما كنتُ أنظر، رأيت خلفهم قامة ضخمة بدا لي أنني أعرف صاحبها. لقد جاء شتوم ليرى هلاك أعدائه.

ثم رأيت جهة الشرق مدفعًا آخر في الحقول الواقعة أسفل الطريق الرئيسي مباشرة. أدركتُ أنهم أحاطوا بنا من الجانبَين، وصرنا عالقين بلا مهرب. لقد شاءت الأقدار أن تحظى هيلدا فون آينم بمحرقةٍ نبيلة، ورفقة صالحة في رحلتها الوشيكة إلى الدار الآخرة.

كان الغسق يسدل أستاره على الأجواء حينئذٍ، غسقٌ صافٍ ساطع حيث كانت النجوم تبرز عبر بريق أرجواني. كان القصف المدفعي متواصلًا في كل أرجاء الأفق، وحينما نظرت ناحية الممر الجبلي على الطريق الآخر، حيث يقع حصن بالاندوكن، رأيت غبارًا ودخانًا متصاعدًا من قصفٍ عنيف. وبدا لي أيضًا أنَّ المدافع المتمركزة على الجبهات الأخرى قد اقتربت. كان حصن ديفي-بويون محجوبًا عنِّي بنتوء بارز من أحد التلال، لكني رأيت جهة الشمال غيومًا بيضاء تتدلى فوق وادي الفرات كأشرطةِ سُحُب المساء. كانت السماء كلها ترنُّ وتطنُّ كوترٍ مشدود يُضرَب …

وبينما كنت أنظر، انطلقَت قذيفة من المدفع الموجود جهة الغرب؛ المدفع الذي كان شتوم عنده. سقطت القذيفة إلى يميننا على بُعد عشر ياردات. وبعد ثانية، سقطت قذيفة أخرى خلفنا.

كان بلنكيرون قد جرَّ نفسه إلى المتراس. لا أظن أنه تعرَّض لقصفٍ من قبل، لكني رأيت في وجهه فضولًا لا خوفًا.

قال: «أعتقد أن دِقتهم في التصويب سيئة جدًّا.»

فقلت: «بالعكس، هم يعرفون عملهم. إنهم يطوِّقون …»

لم تكد الكلمات تخرج من فمي حتى سقطت إحدى القذائف بيننا. أصابت الحافة البعيدة لقمةِ التل المجوفة، وحطمت الصخر، لكن معظم الانفجار وقع في الخارج. انبطحنا جميعًا لنتفاداها، ولم يُصَب أيٌّ منَّا بأي أذًى سوى بعض الخدوش الطفيفة. أتذكَّر أن كثيرًا من الحطام والفتات سقط على قبر هيلدا فون آينم.

سحبتُ بلنكيرون من فوق المتراس البعيد، وطلبتُ من الباقين أن يتبعوني، قاصدًا الاحتماء بساترٍ على الجانب الوعر من التل. ولكن حالما ظهرنا من مَخبئنا، أُمطِرنا من أمامنا بطلقات نارية من مسافة بضع مئات من الياردات. عندئذٍ فهمت ما حدث بسهولة. لقد أرسلوا رماة ليُبقونا في الخلف. وما كانوا ليهاجمونا ما دمنا داخل تجويف التل، لكنهم سيمنعون أي محاولة للعثور على ملاذٍ آمِن خارجه. كنا تحت رحمة شتوم ومدفعه.

جثمنا تحت المتراس مرة أخرى. قلت: «لنُجرِ قُرعة. أمامنا خياران فقط؛ إمَّا أن نبقى هنا ونُقصَف، وإما أن نُحاول شق طريقنا عَنوة وسط هؤلاء الرجال المتمركزين في الخلف. وكلاهما محفوف بالخطر كثيرًا.»

لكني كنت أعرف أننا لا نملك خيارًا. فعجزُ بلنكيرون عن الحركة أجبرَنا على البقاء داخل تجويف التل. كنا في عداد الأموات بلا شك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤