الفصل الثاني والعشرون

مدافع الشمال

لكن لم تسقط أي قذائف أخرى.

خيَّم الظلام، وظهرت مجموعة من النجوم المتلألئة لأنَّ الهواء كان يشتدُّ برودة، إيذانًا بحلول الصقيع مجددًا. انتظرنا ساعة، جاثمين خلف المتاريس البعيدة، لكننا لم نسمع ذلك الصفير المألوف المشئوم.

ثم نهض ساندي وتمطَّى. قال: «أنا جائع. لنُخرِج الطعام يا حسين. فنحن لم نأكل شيئًا من قبل طلوع الفجر. تُرى ما المغزى من تلك الهدنة؟»

خُيِّل لي أنني أعرف.

قلت: «هذا دأب شتوم. يريد تعذيبنا. سيتركنا مُترقبين بفارغ الصبر ساعات وساعات، في حين يجلس هناك مُتلذذًا بما يتصوَّر أننا نعانيه. لديه مخيلة كافية لذلك … كان سيندفع نحونا لو كان لدَيه ما يلزم من الرجال. أمَّا في ظل الوضع الحالي، فسيَنسفنا إلى أشلاء، لكنه سيفعل ذلك ببطء وهو يلعق شفتَيه تلذذًا به.»

تثاءب ساندي. وقال: «سنُخيب آماله؛ لأننا لن نقلق يا صديقي العزيز. فنحن الثلاثة تَجاوزنا هذا النوع من الخوف.»

قلت: «في هذه الأثناء، سنبذُل كل ما بوسعنا. لقد حدَّد شتوم مدى الاستهداف بدقة. علينا أن نجد حفرةً في مكانٍ ما خارج تجويف التل مباشرةً، وأيَّ ساترٍ نحمي به رءوسنا. سنتأذَّى حتمًا في كل الأحوال، لكننا سنصمِد حتى النهاية. وعندما يظنُّون أنهم قضَوا علينا ويهرعون إلى المكان، ربما يكون بيننا رجل حي يُطلق رصاصة تخترق جسد شتوم الوضيع. ما رأيكم؟»

وافقوا على هذا الرأي، وبعدما تناولنا وجبتنا، زحفنا أنا وساندي إلى الخارج للتنقيب، وتركنا الآخرين على أهبة الاستعداد تحسبًا لوقوع هجوم. وجدْنا حفرة صغيرة في الأحدور جنوب القمة المجوفة بقليل، وعملنا بهدوءٍ شديد حتى استطعنا توسيعها، وحفرنا تجويفًا أشبه بكهفٍ غير عميق في صخرِ التل. صحيح أنه ما كان لينفعنا لو أُصبنا بقذيفة مباشرة، لكنه كان سيحمينا من الشظايا المتطايرة. فقد ارتأيتُ من قراءتي للموقف أنَّ شتوم سيُلقي القذائف بقدرِ ما يشاء في تجويف قمة التلِّ نفسه، ولن يشغل باله بالجوانب. وبذلك، فحينما يبدأ القصف العنيف، سيكونُ هناك مأوًى لشخصٍ أو اثنَين في الكهف.

كان أعداؤنا يقِظين. أطلق الرماة المتمركزون في الشرق شعلات مضيئة بمسدسات من طراز فيري على فترات متباعدة، وأطلقت مجموعة شتوم صاروخًا مضيئًا كبيرًا. أتذكَّر أنني، قبل منتصف الليل مباشرة، رأيتُ جحيمًا مدويًا اندلع بالقرب من حصن بالاندوكن. لم تسقط قذائف روسية أخرى داخل المُنخفَض الذي كنا عنده، لكن الطريقَ الممتدَّ إلى الشرق كان كله تحت قصف النيران، ووقع في الحصن نفسه انفجارٌ مدمر، حيث رأيتُ توهجًا قرمزيًّا غريبًا كما لو أنَّ القذائف قد أصابت مخزنًا للذخيرة. ظل إطلاق النار متواصلًا بكثافةٍ على مدار نحو ساعتَين، ثم هدأ. لكني ظللتُ ألتفت تجاه الشمال. فالصوت هناك بدا مختلفًا؛ إذ كان دوي المدافع أكثر حدة، كما لو كانت القذائف تسقط في وادٍ ضيق فيتعالى صداها بفعلِ جدران الوادي الصخرية. تُرى هل تنزَّلت أيُّ مصادفة مباركة على الروس وجعلتهم يلتفُّون حول ذلك الجانب؟

طلبتُ من ساندي أن ينصت، لكنه هز رأسه رافضًا. قال: «تلك المدافع على بُعد عشرة أميال. ولم تقترب قيد أنملة منذ ثلاثة أيام. لكن يبدو كما لو أن الرجال الشجعان في الجنوب ربما يحظَون بفرصة للنجاح. عندما يخترقون ويتدفقون عبر الوادي، سيحتارون حينما يعثرون على ما تبقَّى منا، ولن يجدوا تفسيرًا لذلك … لم نعد ثلاثة مغامرين في أرض العدو. بل صرنا طليعة قوات الحلفاء. صحيح أنَّ أصدقاءنا لا يعرفون بأمرنا، وسنكون معزولين عنهم، كما حدث لطلائع كثيرة من قبل. ولكن على أي حال، ها نحن أولاء مجددًا في جبهتنا التي ننتمي إليها. ألا يسرُّك هذا يا ديك؟»

الحق أنه سرَّني بشدة؛ لأنني أدركتُ حينئذٍ ما العبء الذي كان يُثقل قلبي منذ أن قبلت مهمة السير والتر. كان الشعورَ بالوحدة التي تكتنفها. كنتُ أقاتل بعيدًا عن أصدقائي، بعيدًا عن جبهات القتال الحقيقية. كنت أخوض معركة جانبية لم تكن تحمل ذرة من بهجة المعركة الأساسية، مهما بلغت أهميتها. ولكن ها نحن أولاء قد عدنا الآن إلى مكاننا المألوف. كنا مثل أفراد كتيبة هايلاندرز الذين كانوا معزولين في سيتي سانت أوجست في اليوم الأول من معركة لوس، أو أفراد الحرس الاسكتلندي في فيستوبرت الذين سمعت عنهم من قبل. باستثناء أنَّ أصدقاءنا الآخرين لم يكونوا على علمٍ بوجودنا، ولن يسمعوا به قط. لو نجح بيتر في مهمتِه فسيروي قصتنا، لكني ارتأيتُ أنه على الأرجح قد صار جثةً هامدة في مكانٍ ما في المنطقة المحرمة بين جبهتَي القتال. لن يسمع عنَّا أحد بعدئذٍ أبدًا، لكن أثر عملنا سيبقى خالدًا. سيعرف السير والتر ذلك، وسيُخبر متعلقاتنا القليلة بأننا بذلنا أرواحنا في خدمة بلدنا.

كنا حينئذٍ داخل تجويف قمة التل مرةً أخرى جالسين تحت المتاريس. ولا بد أن نفس الأفكار التي جالت في خاطري قد راودت ساندي أيضًا؛ لأنه ضحك فجأة.

«إنها نهاية غريبة يا ديك. أن نختفي ببساطةٍ هكذا في فضاء الكون اللامتناهي. إذا نجح الروس في العبور، فلن يتعرفوا أبدًا على ما سيتبقى منَّا بين حطام المعركة الكثير ذاك. سيُغطينا الثلج عمَّا قريب، وحينما يأتي الربيع، لن يكون متبقيًا منَّا سوى بضع عظام مُبيضَّة. أقسم بروحي أنَّ هذه هي المِيتة التي طالما أردتها. وأخذ يُناجي نفسه بهدوءٍ ببيتٍ من قصةٍ شعرية اسكتلندية قديمة، قائلًا:

«الكثيرون سيندبونه عند موته،
لكن لا أحد سيعلم أين الجثمان،
وحينما تتعرَّى عظامه البيضاء
ستظل الرياح تذرُوها إلى آخر الزمان.»

فصرختُ بشهقةٍ شديدة مفاجئة من السعادة قائلًا: «لكن عملنا سيبقى خالدًا. المهم هو إنجاز المهمة، وليس الرجال الذين ينجزونها. وقد أنجزنا مهمتنا. لقد انتصرنا يا صديقي العزيز، انتصرنا بلا شك، ونصرُنا حاسمٌ لا مَردَّ له. انتصرنا على أي حال، وإذا حالف بيتر ولو قدرٌ من الحظ، فقد ظفرنا بكل الغنائم … وفي كل الأحوال، نحن لم نكن نتوقع قط أن نخرج من هذه المهمة أحياء.»

أمَّا بلنكيرون، الذي كانت ساقه ممدَّدة أمامه مُتصلبة، فكان يدندن لنفسه بهدوء، كدأبه في أغلب الأحيان عندما يشعر بالبهجة. لم يكن يُغني سوى أغنية «جثمان جون براون» (جون براونز بادي)، وعادةً ما كان يكتفي بسطرٍ واحد فقط في كل مرة، لكنه في هذه اللحظة وصل إلى نهاية المقطع الشعري:

«استولى على هاربرز فيري،
مع رجاله التسعة عشر المُخلصين،
وأرعب فرجينيا القديمة كلها،
حتى صارت ترتعِد وترتعِد.
أطاحوا بعُنقه بتهمةِ الخيانة،
وإن كانوا هم الخائنين.
لكن روحه ستبقى خالدة بأثرها.»

سألته: «أأنت بخير؟»

«بخير. أنا أسعد الرجال حظًّا على وجه الأرض يا حضرة الميجور. فلطالما تمنيتُ المشاركة في معركةٍ كبرى، لكني لم أكن أعرف كيف يمكن أن تسنح هذه الفرصة لمواطنٍ بيتيٍّ مثلي، يعيش في منزل مُدفَّأ بالبخار، يذهب إلى مكتبه في وسط المدينة كل صباح. كنت أحسد والدي العجوز الذي قاتل في تشاتانوجا، ودائمًا ما كنتُ أخبرك بذلك. لكني أعتقد أن تشاتانوجا كانت بمثابة مشاجرةٍ في حانةٍ بشارع باوري مقارنةً بما نحن فيه الآن. عندما أقابل الرجل العجوز في الجنة، ستكون عندي حكاياتٌ جديرة بأن يستمع إليها.»

حالما أنهى بلنكيرون كلامه، تلقَّينا تذكيرًا بوجود شتوم. كان المدفع مصوبًا بدقة؛ لأنَّنا فوجئنا بقذيفةٍ تسقط على الحافة القريبة لتجويف قمة التل. قَضَت على رجلٍ من «الرفاق» كان مكلفًا بالحراسة هناك، وأصابت آخر بجروحٍ بالغة، وأصابت إحدى شظاياها فخذي بجرحٍ عميق. احتمَينا بالكهف الضحل، لكننا عُدنا إلى المتاريس بعدما تعرَّضنا لوابلٍ عنيف من الرصاص من الجانب الشرقي؛ لأننا خشِينا أن يهجموا علينا. لكن لم يهجم علينا أي أحد، ولم تسقط علينا أي قذائف أخرى، وخيَّم الهدوء على الليل مجددًا.

سألتُ بلنكيرون عمَّا إذا كان لدَيه أي أقرباء مُقربين.

فقال: «لا، باستثناء ابنِ أختٍ واحد، وهو طالب جامعي لا يحتاج إلى خاله. من حُسن الحظ أننا نحن الثلاثة لسنا متزوِّجين. ولا أحمل أي حسراتٍ أيضًا؛ لأنني أخذتُ من الحياة ما يكفيني وزيادة. خطر ببالي صباح اليوم أنه من المؤسِف أن أفارق الحياة في الوقت الذي بدأتُ أتخلص فيه للتو من آلام معدتي. لكني أرى هذه رحمةً أخرى من الرحمات التي نعمتُ بها. لقد خلَّصني الرب الرحيم من آلام معدتي لألقاه بذهنٍ صافٍ، وقلب شاكر.»

قال ساندي: «نحن أناس محظوظون؛ فكلنا أخذنا نصيبنا من الدنيا. حينما أتذكر الأوقات السعيدة التي قضيتُها، لا يسعني سوى أن أنشد ترنيمةَ حَمدٍ للرب. لقد عشنا زمنًا كافيًا لنفهم أنفسنا، ونُشكِّل ذواتنا في إطارٍ من الاحترام واللياقة. لكن فكِّر في هؤلاء الفتيان الذين ضحَّوا بأرواحهم بمحض إرادتهم وما زالوا في مُقتبل حياتهم يتعرفون معنى الحياة. كانوا في مُقتبَل الطريق، ولم يكونوا على دراية بالمآسي الكئيبة التي تنتظرهم. كانوا يرَون الحياة كلها مشرقةً وردية، لكنهم تخلَّوا عنها بلا أي تردُّد. وفكِّر في الرجال الذين كانوا ينعمون بعائلاتٍ وزوجاتٍ وأطفال كانوا أغلى ما لدَيهم في الحياة. لو تهرَّب أمثالنا من القتال، لكان ذلك جُبنًا شائنًا، وعارًا يُلازمنا بقية حياتنا. نحن لا نستحقُّ ثناء كبيرًا على صمودنا. ولكن حينما عقد هؤلاء الآخرون عزمَهم وتقدموا، كانوا أبطالًا مُبارَكين …»

بعد ذلك خيَّم السكوت علينا. ففي مثل هذه الأوقات، تبدو أفكار المرء أنشط بكثير من المعتاد، وتصبح ذاكرته حادة ونقية جدًّا. لا أعلم ما الذي كان يجول في خاطرهم آنذاك، لكني أعرف ما الذي كان يجول بخاطري …

لا أظن أن من ينعمون بأغلب مُتَع الدنيا، ويشعرون دومًا بالابتهاج والمرح، هم الأشد خوفًا من الموت. بل أصحاب الأرواح الواهية الذين يَمضون في حياتهم بعيونٍ فاترة هم أكثر مَن يتشبثون بالحياة بشراسة. فهم لا يشعرون ببهجة الوجود على قيد الحياة، التي تُعَد ضمانةً للخلود … أعرف أن أفكاري كانت مُسلطة بالأساس على الأشياء المبهجة التي رأيتها وفعلتها، ولم يكن يشوبها أي ندم أو حسرة، بل كانت مفعمة بالامتنان. مرَّ أمام عينيَّ شريطٌ من أوقات الظهيرة الزرقاء في سهوب جنوب أفريقيا، وليالي الصيد في الأدغال، ومذاق الطعام والنوم، والاستيقاظ في الفجر القارس، ومتعة المغامرات البرية، وأصوات الأصدقاء الأوفياء القدامى. كنتُ أشعر قبل هذه اللحظة بأنَّ الحرب منفصلة عن كل ما سبقها، لكنها آنذاك لم تعد سوى جزءٍ من الصورة الكاملة. تذكرتُ كتيبتي والرفاق الشجعان هناك، الذين سقط كثيرون منهم على متاريس لوس. لم أتوقَّع قط أنني سأخرج من هناك سالمًا. لكنني نجوت، ومُنحتُ فرصة لأداء مهمةٍ أعظم، ونجحت فيها. كانت تلك هي الحقيقة الرائعة، وكنتُ أشعر بمزيج من الامتنان المتواضع للرب والفخر المبتهج. كان الموت ثمنًا زهيدًا مقابل ذلك. وكما كان بلنكيرون سيقول، لقد جنيتُ ربحًا كبيرًا في هذه الصفقة.»

كان الليل يشتدُّ برودة، كما يحدُث قبل الفجر. عاد الصقيع مرة أخرى، وأيقظَت شدتُه جوعنا. فأخرجتُ ما تبقى من الطعام والنبيذ وتناولنا وجبةً أخيرة. أتذكر أنَّ كلًّا منَّا شرب نخب الآخر.

قال ساندي: «لقد أكلنا وجبة الفصح. متى ستحل النهاية برأيك؟»

فقلت: «بعد الفجر. من المؤكد أنَّ شتوم ينتظر ضوء النهار ليستمتع بلذةِ انتقامه كاملةً.»

تحول لون السماء رويدًا من الأسود الداكن إلى الرمادي، وظهرت في خلفيتها تلالٌ سوداء مُظللة. هبت ريح عبر الوادي، حاملة معها رائحة احتراق لاذعة، لكنها أيضًا كانت مُحمَّلة بشيءٍ من نضارة الصباح. أثارت في داخلي أفكارًا غريبة، وأيقظت في دمائي تلك الهمة الصباحية المُعتادة التي ارتأيتُ أني لن أشعر بها مُجددًا أبدًا. عندئذٍ اجتاحني ندم مفاجئ لأول مرة في تلك السهرة الطويلة كاد يمزقني.

قلت: «يجب أن ندخل الكهف قبل وضح النهار. يُستحسن أن نُجري قرعة لاختيار الاثنين اللذَين سيختبئان في الكهف.»

رَسَت القرعة على أحد «الرفاق» وبلنكيرون. فقال الأخير: «يمكنكم أن تعتبروني مُنسحبًا. إذا كنتم تريدون رجلًا يبقى حيًّا عندما يأتي أصدقاؤنا لإحصاء غنائمهم، فأظن أنني لستُ مناسبًا على الإطلاق. أفضِّل البقاء هنا، إذا لم يكن لديكم مانع. لقد تصالحتُ مع خالقي، وأريد أن أنتظر نداءه في هدوء. سألعب بورق اللعب لتمضية الوقت.»

ما كان ليتقبَّل أي رفضٍ منَّا؛ لذا أعدنا القرعة مرة أخرى، ووقعت على ساندي.

قال: «إذا كنتُ أنا آخِر من سيرحل، أعدكم بأنني لن أخطئ الهدف. سأجعل شتوم يلحق بي إلى الآخرة سريعًا.»

صافحَنا بابتسامتِه المبهجة، وانسلَّ هو وفرد عصبة «الرفاق» من فوق المتراس في الظلال الأخيرة قبل الفجر.

نشر بلنكيرون أوراق اللعب على صخرةٍ مسطحة، ووزعها ليلعب لعبة «دابل نابليون». كان في منتهى الهدوء، وأخذ يدندن لنفسه لحنه الوحيد. أمَّا أنا، فكنت أتجرع آخر جرعةٍ من هواء التل. كان رضاي يتلاشى. شعرت فجأة بنفورٍ شديد من الموت.

ولا بد أنَّ بلنكيرون قد راوده شعور مماثل. فقد رفع عينَيه فجأة وسألني باقتباسٍ من رواية «ذو اللحية الزرقاء» الشهيرة، قائلًا: «أختي آن، أختي آن، هل ترَين أحدًا قادمًا؟»

وقفتُ بالقُرب من المتراس، مُراقبًا كل تفاصيل المشهد أثناء ظهورها مع طلوع ضوء النهار الكاشف. رأيتُ على أكتاف جبال بالاندوكن أكوامًا من الركام الثلجي متدليةً من فوق حواف الجروف. تساءلت متى ستنهار. ثم وجدتُ ما يُشبه حقلًا صغيرًا مُسيَّجًا على أحد جوانب التلال، ورأيتُ دخان الفطور قد بدأ يتصاعد من أحد الأكواخ. فأدركتُ أنَّ أفراد مدفعية شتوم مُستيقظون، وبدا لي أنهم كانوا يعقدون مجلسًا. وبعيدًا، وعبر الطريق الرئيسي، رأيتُ قافلة تتحرك، وسمعتُ صرير العجلات من على بُعد ميلَين كاملَين؛ لأن الهواء كان ساكنًا تمامًا.

ثم تحول العالم بغتةً إلى جحيمٍ بشع، كما لو أنَّ زنبركًا مضغوطًا قد انحلَّ فجأة. فقد بدأت المدافع تُطلق قذائفها بهدير شديد في كل أرجاء الأفق. كان قصفها شرسًا في الجنوب بالأخص، حيث سمعتُ انفجارات مُدوية لم أعهدها من قبل. ألقيت نظرة خاطفة خلفي، فرأيتُ الفجوة بين التلال وقد امتلأت بالأدخنة والغبار.

لكن عينيَّ كانتا مُسلطتَين على الشمال. رأيت ألسنةً طويلة من اللهب تتصاعد من أماكن عديدة في مدينة أرضروم. ومن ورائها، ناحية فتحة وادي الفرات، دوَّى صوت فرقعةٍ عالية من مدافع ميدانية. أمعنتُ النظر وأرهفتُ السمع، وأنا أكاد أُجَن من نفاد صبري، وفهمتُ اللغز.

هتفتُ قائلًا: «ساندي، لقد نجح بيتر. الروس يلتفُّون من حول الجناح. المدينة تحترق. الحمد للرب، انتصرنا، انتصرنا!»

وبينما كنتُ أتحدث، بدت الأرض كأنها انشقت بجانبي، وقُذِف جسدي إلى الأمام لأسقط على الحصى الذي كان يُغطي قبر هيلدا فون آينم.

عندما وقفت واستجمعت نفسي، فوجئتُ بأن وجدت نفسي سليمًا بلا إصابات، ورأيت بلنكيرون يمسح الغبار عن عينَيه ويضع إحدى بطاقات اللعب في موضعها الصحيح. كان قد توقف عن الدندنة، وصار يُغني بصوت عالٍ، قائلًا:

«استولى على هاربر فيري، مع رجاله التسعة عشر المخلصين،
وأرعب فيرجينيا القديمة …»

صاح قائلًا: «انظر يا حضرة الميجور، أعتقد أن تنبؤات لعبتي تتحقق.»

فقدتُ صوابي تمامًا حينئذٍ. كان عقلي محمومًا بفكرةِ أن بيتر العزيز قد نجح، وأننا قد نجحنا بما يتجاوز أشدَّ توقعاتنا جموحًا، وأننا إذا متنا، فإنَّ أولئك القادِمين سيثأرون منا بأشدِّ صنوف الانتقام. قفزت على المتراس ولوحتُ بيدي لشتوم، وأنا أصيح معلنًا التحدي. سمعتُ طلقات البنادق من خلفي، وقفزتُ عائدًا إلى الداخل في آخر لحظةٍ قبل إطلاق القذيفة التالية.

لا بد أن كمية الذخيرة التي وُضعت في تلك القذيفة كانت قليلة؛ لأنها أخطأت الهدف، وسقطت على الأحدور. أمَّا التالية، فكانت أدق وسقطت على المتراس القريب، مُحدِثةً فجوة كبيرة في حافة الحلقة الصخرية. هذه المرة وجدتُ ذراعي متدليةً بارتخاء، وأدركت أنها كُسرت بشظية حجر، لكني لم أشعر بأي ألم. بدا لي أنَّ بلنكيرون يحمل روحًا مُحصنة بتعويذةٍ سحرية؛ لأنه كان مُغطًّى بالغبار، ولكن لم يُصَب بأي أذًى. نفض الغبار عن أوراقه بعناية شديدة، وواصل اللعب.

ثم سقطت قذيفة بدقة محكمة داخل تجويف التل على الأرض الرخوة، لكنها لم تنفجر. عقدتُ العزم على الخروج من داخل التل إلى العراء، والمجازفة بالتعرُّض لرصاص البنادق؛ لأنَّنا سنموت حتمًا إذا واصل شتوم إطلاق القذائف على تجويف التل. أمسكتُ بلنكيرون من وسطه، وقفزت به من فوق المتراس، ناثرًا أوراقه في الريح.

قال: «لا تعتذِر يا حضرة الميجور. ففوزي في ذلك الدور كان شبه محسوم. لكن بالله عليك أفلتني؛ لأنك إذا لوَّحت بي كراية الحرية هكذا، فسأموت برصاصهم حتمًا.»

كان كل ما يشغلني هو الاحتماء بساترٍ ما في الدقائق التالية؛ لأنَّ حدسي خبَّرني بأن ترقُّبنا الطويل كان قارَب على الانتهاء. فدفاعات أرضروم كانت تتهاوى كقلاع الرمل، وقد شعرتُ بأن الصوت لا يصل إلى مسامعي، فأدركتُ مدى توتر أعصابي. رآنا شتوم ونحن نعبر المتراس، وبدأ ينثر قذائفه على كل المكان المُحيط بتجويف التل. كنتُ أنا وبلنكيرون مُستلقِيَين كفرقةٍ من العمال عالقة بين جبهتَي القتال تحت نيران الرشاشات، وحاولنا الحفاظ على رباطة جأشنا بقدر المُستطاع. كان ساندي مُحتميًا بساتر، لكننا كنا على الأحدور المكشوف الأبعد، وربما قد نُصبح تحت رحمة الرماة المتمركزين على ذلك الجانب.

لكن لم تأتِنا منهم أي طلقات. نظرت شرقًا، فوجدت جانب التل، الذي كان أعداؤنا متمركزين عليه قبل قليل، خاويًا كالصحراء. ثم رأيت على الطريق الرئيسي منظرًا جعلني أصرخ كالمجنون مرة ثانية. فعبْر ذلك الوادي الضيق، رأيتُ حشدًا قادمًا من رجال وعربات مجرورة بخيول راكضة؛ حشد جامح متدافع يفيض من الطريق إلى المنحدرات الشديدة على جانبَيه، تاركًا وراءه العديد من الجثث التي شكَّلت نقاطًا سوداء كَسَت الثلوج بطبقة داكنة. لقد انهارت بوابات الجنوب الطبيعية، وعبَرَها أصدقاؤنا.

نسيتُ الخطر المُحدِق بنا تمامًا عند رؤية هذا المنظر. لم أعد أُبالي مثقال ذرة بقذائف شتوم. بل صرتُ موقنًا بأنه لا يمكن أن يُصيبني. فالأقدار الرحيمة التي حفظتنا من السوء حتى تذوَّقنا أول طعم للنصر ستُرافقنا وترعانا حتى النهاية.

أتذكر أنني هرعتُ ببلنكيرون بمُحاذاة التل للعثور على ساندي. لكنَّ خبرنا كان متوقعًا. فقد رأيت أسفل الجانب الذي كنَّا مُتمركزين عليه من الوادي نفس الجلبة الفوضوية المُصاحبة لحشد من الرجال. وفوق ذلك، فقد رأيتُ وراءهم، بعيدًا عند عنق الممر، فرسانًا؛ فرسانًا يُطاردونهم. لقد استطاع نيقولا العزيز إدخال فرسانه.

كان ساندي واقفًا على قدمَيه، بشفتَين مُطبَقتَين وعينَين ذاهلتَين. ولولا أن وجهه كان مسفوعًا من كثرة التعرض للشمس، لبدا شاحبًا كخرقةٍ بيضاء. فرجل مثله يستحيل ألَّا يشعر بالتِّيه حينما يجد حياته تُرَد إليه، بعد أن هيَّأ نفسه للموت. ظننتُ أنه لم يكن يفهم ما حدث؛ لذا ضربته على كتفَيه.

صحتُ قائلًا: «يا رجل، هل ترى؟ القوزاق! القوزاق! يا إلهي! انظر كيف يأخذون هذا المنحدر! إنهم يهجمون عليهم الآن. بِربِّي لنركبنَّ معهم! سنأخذ حصانَي المدفع!»

كانت هناك هضبة صغيرة تحجب عن شتوم ورجاله رؤية ما كان يحدث في أعلى الوادي، فلم يُدركوا الوضع حتى وصلت إليهم الموجة الأولى من الفلول المدحورة. واصل قصف تجويف التل والمنطقة المُحيطة به، في حين كان العالَم يتصدَّع فوق رأسه. كان حصانا المدفعِ واقفَين في المُنخفَض الواقع أسفل الطريق، وقد زحفنا — بذراعي اليسرى المُرتخية وساق بلنكيرون العرجاء كالبطة — عبْر التل بين الجلاميد الصخرية.

كان الحيوانان المِسكينان يُعافران ويشدَّان أوتادهما للإفلات منها، ويتنشقان ريح الصباح، التي كانت تحمِل معها أدخنةً كثيفة من القصف الشديد، وصرخات عصية على الفهم أو الوصف من جيش مقهور. وقبل أن نصل إليهما، اجتاحهما ذاك الحشد المجنون بمَن فيه مِن رجالٍ يلهثون ويشهقون أثناء هروبهم، وكثيرين مُلطَّخين بدماء جروحهم، وكثيرين يترنحون على مشارف الانهيار والموت. رأيت عشرات الأيادي تُمسك بالحصانَين في صراعٍ يائس من أجل الاستحواذ عليهما. ولكن حين توقفنا هناك، أخذنا نُحدِّق إلى المدفع المنصوب على الطريق من فوقنا؛ لأنَّ طلائع الفلول المدحورة كانوا يتدفَّقون من حوله في تلك اللحظة.

لم يسبِق لي من قبل أن رأيت انسحابَ جيشٍ مقهور، حينما ينهار صمود الرجال الشُّوس، ولا يتبقى منهم إلا ظلال منكسرة تبحث عن ملاذٍ دون جدوى. ولا شتوم أيضًا قد رأى شيئًا كهذا من قبل، ذاك الشيطان المسكين. لم يتبقَّ بداخلي أي ضغينة تجاهه، مع أنني عندما نزلت من ذلك التل كنتُ آمُل أن نخوض معًا عراكًا أخيرًا. لقد كان فظًّا مُستأسدًا على غيره، لكنه والله كان رجلًا! سمعت زئيره المدوِّي عندما رأى طوفان المُنسحبين، ثم رأيتُ هيئته الوحشية تعمل على المدفع. وجَّهه نحو الجنوب سريعًا وصوَّب فوهته إلى الهاربين.

لكنه لم يُطلق قذيفته قط. فقد انقضُّوا عليه، وانحرف المدفع جانبًا. فوقف بقامته التي كانت أطول بقدمٍ كاملة من أيٍّ منهم، وبدا أنه يُحاول كبح اندفاعهم بمسدسه. لكن الكثرة تغلب الشجاعة، حتى وإن كان كلُّ فردٍ فيها هاربًا منكسرًا. كان شتوم في تلك اللحظة هو العدو في أنظار هذا الحشد الجامح، وكانت لديهم القوة الكافية لسحقِه. تدفقت الموجة من حوله ثم اكتسحته. رأيتُ أعقاب البنادق تنهال على رأسه وكتفَيه تُهشِّمها، وفي الثانية التالية تدفق نهر الرجال فوق جثتِه.

كان ذلك حُكم الرب على الرجل الذي جعل نفسه فوق أمثاله من البشر.

أمسك ساندي بكتفَيَّ وصرخ في أذني قائلًا:

«إنهم قادمون يا ديك. انظر إلى هؤلاء الشياطين الشجعان الرماديين … أوه، الحمد لله، إنهم أصدقاؤنا!»

في اللحظة التالية، كنَّا ننزل على جانب التل بخطًى متعثرة، في حين كان بلنكيرون يتقافز بيننا على ساقٍ واحدة. سمعتُ همسًا خافتًا من ساندي وهو يصرخ قائلًا: «أوه، أحسنتم صنعًا يا حلفاءنا!» وبلنكيرون وهو يُلقي خطبة مطولة عن هاربرز فيري، لكن صوتي كان متلاشيًا تمامًا، ولم أكن راغبًا في الصراخ. كنت أعلمُ يقينًا أن الدموع تملأ عينيَّ وأنني، لو تُركت وحدي، لجلستُ وبكيت بدموعِ الشكر الخالص. فقد رأيت غيمةً من الفرسان الرماديين على صهوات خيول نحيفة صغيرة تجتاح الوادي بسرعةٍ جارفة؛ غيمة لم تتوقف لملاحقة فلول الهاربين، بل واصلَت المُضي بانسيابيةٍ كأقواس قزح، فيما كانت رءوس رماح فرسانها الفولاذية تتلألأ في شمس الشتاء. كانوا مُتجهين بخيولهم إلى أرضروم.

تذكروا أننا كنَّا مع العدو طوال ثلاثة أشهر، ولم نرَ في تلك الفترة وجه رجلٍ من جيش الحلفاء قط. كنَّا مُنعزلين عن رفاقنا الذين يشاركوننا حَمْلَ قضيةٍ عظيمة، كحصنٍ مُحاصَرٍ بجيش من الأعداء. وفي تلك اللحظة تحرَّرنا، وصِرنا نشعرُ من حولنا ببهجة الرفقة الدافئة وبهجة النصر.

رمَينا الحذَر وراء ظهورنا، وجُن جنوننا. كان ساندي يتسلق المنحدر الأبعد للمُنخفَض وهو ما زال مرتديًا معطفه ذا اللون الزمردي وعمامته، وراح يهتف بعباراتِ التحية بكل اللغات التي عرفها البشر. رآه القائد، فأوقف فرسانه لحظةً بكلمةٍ واحدة منه — وكان من الرائع رؤيتهم يكبحون جماح خيولهم الراكضة بهذه السرعة المذهلة — وترجَّل ستة جنود من السرب، واستداروا بسرعةٍ وأتَوا نحونا. ثم وجدنا رجلًا مُرتديًا معطفًا رماديًّا وقبعةً من جلد الغنم واقفًا بجوارنا، ويشدُّ على أيدينا بقوةٍ مُصافحًا إيَّانا.

قال: «أنتم في أمان يا أصدقائي الأعزاء»، كان الصوتُ هو صوت بيتر، وأضاف قائلًا: «سأعيدكم إلى جيشنا وأحضر لكم فطورًا.»

فصاح ساندي: «كلا والله لن تفعل ذلك. لقد مررنا بالنهاية الصعبة للمهمة، والآن حان وقت الاستمتاع. اعتنِ ببلنكيرون ورفاقي هؤلاء. أمَّا أنا، فسأمتطي حصانًا وأذهب به إلى المدينة بجوار مُقاتليك البُسَلاء.»

تحدَّث إليهم بيتر بكلمة، فترجَّل اثنان من القوزاق عن حصانَيهما. لم أدرِ بنفسي بعدها إلَّا وأنا وسط غيمة المعاطف الرمادية، أركض بحصانٍ نحو أسفل الطريق الذي كنَّا قد صعدناه بمشقة في صباح اليوم السابق لنصل إلى قمة التل المجوفة.

كانت تلك أعظم ساعةٍ في حياتي، وكان عيشُها يساوي اثنتي عشرة سنة من العبودية. لم أستطع إحكام سيطرتي على الحصان بسبب ذراعي اليُسرى المكسورة، فاستأمنته على رقبتي وتركته يمضي بي كيفما يشاء. كنتُ متَّشحًا بالسواد من أثر التراب والدخان، ولم أكن أرتدي قبعةً ولا زيًّا عسكريًّا، فبدت هيئتي بربريةً أكثر من أي قوزاقي. وسرعان ما انفصل عني ساندي، الذي كان سليمَ الذراعَين ويمتطي جوادًا أفضل، وبدا عازمًا على الإسراع قُدمًا نحو الطليعة نفسها. كان سيُصبح بمنزلة انتحارٍ لي لو جربتُ أن أحذو حذوه، وبذلتُ كل ما بوسعي لأبقى مواكبًا للمجموعة التي كنتُ أرافقها.

لكنها بالله العظيم كانت ساعةً استثنائية! فقد تعرضنا لإطلاق نار عشوائي على جانبنا، لكنه لم يُشكل أي تهديد لنا، مع أن أحد فرق مدافع الهاوتزر النمساوية، الذي كان يناضل بجنون لعبورِ أحد الجسور، قد اشتبك معنا وكبَّدنا قليلًا من العناء. كان كل شيءٍ من حولي يمضي عابرًا بسرعةٍ خاطفة كغيمةٍ من الدخان، أو كنهاية جنونية لحلمٍ قبل الاستيقاظ مباشرةً. كنتُ واعيًا بالحركة الحية من تحتي، ورفقة الرجال من حولي، لكن شعوري بكل ذلك كان طفيفًا؛ لأنني في قرارة نفسي كنت وحيدًا أحاول جاهدًا استيعابَ عالمٍ جديد يتكشف من حولي. شعرت بظلال وادي بالاندوكن تتلاشى، وبدفقة الضوء الكبيرة عند خروجنا إلى الوادي الأوسع. رأيتُ عند مكانٍ ما أمامنا حجابًا من الدخان تتخلَّله ألسِنة لهب حمراء، ومن ورائه لمحتُ ظُلمةَ تلالٍ أعلى ارتفاعًا. كنت طوال ذلك الوقت أشعر كأنني في حلم، وأدندن لنفسي بمقطوعاتٍ سخيفة، شاعرًا بسعادة شديدة، بل بسعادة تصل إلى حد الهذيان، حتى إنني لم أجرؤ على محاولة التفكير في أي شيء. ظللت أتمتم بشيء أشبه بصلاة مؤلَّفة من كلمات إنجيلية للرب الذي أراني جُودَه في أرض الأحياء.

ولكن حينما ابتعدنا عن أطراف التلال، وبدأنا نسلك المنحدر الطويل نحو المدينة، استعدتُ كامل وعيي. شعرت برائحة جلود الغنم والخيول المتعرِّقة، ومن قبلهما رائحة النار اللاذعة. كانت أرضروم تقع أسفلنا في الأخدود الطولي، حيث وجدتُ النيران مشتعلة في كثير من أجزائها، ورأيتُ فرسانًا يقتربون منها من جهة الشرق متجاوزين الحصون الصامتة. صحتُ قائلًا لرفاقي إننا الأقرب، وإننا سنصل إلى المدينة قبلهم، فأومئوا بسعادة وأطلقوا صيحاتهم الحربية الغريبة. وعندما وصلنا إلى قمة التلال الأخيرة، رأيتُ أسفل مني طليعة هجومنا — التي بَدَت كتلةً داكنة على الثلج — في حين كان فلول العدو المدحورون على كلا الجانبين يطوِّحون أسلحتهم ويتناثرون في الحقول.

وجدتُ على رأس المقدمة — التي كانت تدنو حينئذٍ من أسوار المدينة — رجلًا واحدًا. بدا كرأس رُمح فولاذي سيُصيب هدفه عمَّا قريب. ورأيتُ في هواء الصباح الصافي أنه لم يكن يرتدي زي الغزاة العسكري. بل كان يعتمر عمامةً ويقود حصانه كرجلٍ مَمسوس، ولمحتُ وسط الثلج بريق عباءته الزمردية الداكنة. وبينما كان يركض بحصانه، بدا أنَّ فلول الأتراك الهاربين يتجمَّدون في مكانهم بلا حراك، ويخِرُّون على جانب الطريق مُحدِّقين بعيونهم إلى هيئته وهي تمضي قُدمًا بلا التفات …

أدركتُ عندئذٍ أن النبوءة كانت صادقة، وأن نبيهم لم يخذلهم. لقد أتى الوحي الذي طال انتظاره. وظهر ذو العباءة الخضراء أخيرًا لشعبٍ كان ينتظره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤