الفصل الثالث

بيتر بينار

كان رحيلُ كلٍّ منَّا في طريقه هادئًا غير لافتٍ للانتباه، باستثناء الأمريكي. فقد قضى ساندي أسبوعَين حافلَين بعيدًا عن أنظارنا كعادته؛ فذهب إلى المتحف البريطاني، ثم هرع في أرجاء البلاد ليلتقي ببعض رفاقه المُستكشفين القدامى، ثم زار مكتب وزارة الحرب، وبعدها ذهب إلى وزارة الخارجية، لكنه أمضى أغلب الوقت في شقتي، غائصًا في كرسي ذي مسندَين، مستغرقًا في التأمُّل. ثم غادر أخيرًا في الأول من ديسمبر على أنه مبعوث من الملك إلى القاهرة. وكنت أعرف أنَّه حالَما يصل إلى هناك، سيتخلَّى عن شخصية مبعوث الملك، ويتنكر بدلًا من ذلك في ثوبِ شخصٍ همجي شرقي غريب الأطوار. كنتُ سأبدو وقحًا لو سألته عن خططه. فقد كان هو المحترف الحقيقي، في حين كنتُ أنا مجرد هاوٍ.

أمَّا رحيل بلنكيرون فكان مُختلفًا. لقد أخبرني السير والتر بأن أتوخَّى الحذر من العواصف الشديدة، ورأيتُ في عينيه آنذاك لمعةً أوحَت إليَّ بما سيحدث لاحقًا. كان أول ما فعله ذاك الرجل الرائع أن أرسل خطابًا مُوقعًا باسمه إلى الصحف. كان مجلس العموم قد شهد جدلًا بخصوص السياسة الخارجية، واستلهم بلنكيرون محتوى رسالته من حديث أحد الحمقى في المجلس. لقد صرَّح بأنه كان مُتضامنًا مع البريطانيين قلبًا وقالبًا في البداية، لكنه اضطُر، على مضض، إلى تغيير آرائه. قال إنَّ حصارنا لألمانيا قد انتهك كل القوانين الإلهية والإنسانية، وإنه يرى أنَّ بريطانيا الآن أسوأ مثال حيٍّ للبروسية. أحدثَ ذلك الخطابُ ضجة كبيرة، واندلعت مشادة بين الصحيفة التي نشرته ومسئول الرقابة. لكنَّ هذه لم تكن إلَّا بداية حملة السيد بلنكيرون. فقد انضم إلى بعض الدجالين الذين كانوا يطلقون على أنفسهم «رابطة الديمقراطيين المعارضين للعدوان»، والذين كانوا يرَون أنَّ ألمانيا ستكون مُسالمة وديعة لو امتنعنا عن إيذاء مشاعرها فقط. ألقى خطبة أمام جمع من الناس تحت رعاية تلك الرابطة، وقاطعَه حشد الحاضرين قبل إكمالها، لكنَّ ذلك كان بعدما أفضى بالكثير من الأشياء المذهلة. لم أكن حاضرًا، لكنَّ أحد الرجال الذين حضروا قال لي إنه لم يسمع هراءً دسمًا كهذا من قبل. فقد قال بلنكيرون إنَّ ألمانيا كانت مُحقَّة في رغبتها في حرية الإبحار في المياه الدولية، وإنَّ أمريكا ستدعمها، وإنَّ التهديد الذي تُشكِّله البحرية البريطانية على سلام العالم أكبر من تهديد جيش القيصر نفسه. واعترف بأنَّ رأيه كان مُختلفًا عن ذلك في الماضي، لكنه صرَّح بأنه رجل أمين لا يخشى مواجهة الحقائق. ثم اختُتمت الخطبة فجأةً حين أُصيبَ بإحدى حبَّات كرنب بروكسل في عينِه، وهو ما قابله بسبٍّ بأسلوبٍ غير سلميٍّ إطلاقًا، حسبما قال لي صديقي.

بعدئذٍ أرسل خطاباتٍ أخرى إلى الصحافة، قال فيها إنَّ إنجلترا صارت تمنع حرية التعبير، وأيَّده في ذلك كثيرٌ من الأوغاد. طالَب بعضُ الأمريكيين بأن يُغطَّى بالقطران والريش عقابًا له على تلك الأفعال، وطُرد من فندق سافوي. اندلع حراكٌ عامٌّ مُطالِب بترحيله، وبدأ البرلمان يشهد استجوابات عنه، وقال وكيل وزارة الخارجية للشئون الخارجية إنَّ وزارته تدرس المسألة. بدأت أرى أنَّ بلنكيرون كان يُبالغ في مسرحيته السخيفة؛ لذا ذهبتُ للقاء السير والتر، لكنه طلب منِّي أن أهدأ وأطمئن.

قال لي: «مبدأ صديقنا هو «الإتقان التام»، وهو عليمٌ بما يفعله. لقد وجهنا له طلبًا رسميًّا بالرحيل، وسيُبحِر من نيوكاسل يوم الإثنين. سنتعقَّبه كظلِّه أينما ذهب، ونأمُلُ أن يثير مزيدًا من الاحتجاجات الغاضبة. إنه رجل قدير جدًّا.»

كانت آخر مرة رأيتُه فيها بعد ظُهر يوم السبت حين قابلته في شارع سانت جيمس ومددتُ يدي لأُصافحه. قال لي آنذاك إنَّ حُلتي العسكرية دَنَس، وألقى خطبةً أمام حشدٍ صغير من الناس عن هذا. فطالبوه بالسكوت، واضطُر إلى أن يستقلَّ سيارة أجرة. وبينما كان يغادر، لمحتُ في عينه اليُسرى طيفَ غمزةٍ طفيفة. وقرأت يوم الإثنين أنه رحل، وعلَّقَت الصحف قائلة إنَّ شواطئنا قد استراحت منه أخيرًا.

أمَّا أنا، فأبحرتُ في الثالث من ديسمبر على متن سفينةٍ متجهة من ليفربول إلى الأرجنتين، كان من المُقرر أن ترسو في لشبونة. اضطُررت بالطبع إلى الحصول على جواز سفرٍ من وزارة الخارجية لمغادرة إنجلترا، لكنَّ اتصالي بالحكومة قد انقطع بعدئذٍ. كانت كل تفاصيل رحلتي مدروسةً بعناية. ارتأيتُ أنَّ لشبونة ستكون نقطة انطلاق مناسبة؛ لأنها كانت مُلتقًى للأوغاد من معظم أنحاء أفريقيا. كان متاعي يتمثل في حقيبةٍ قديمة من طراز جلادستون، وكانت ثيابي بقايا ممَّا كان موجودًا في خزانتي في جنوب أفريقيا. أطلقتُ لحيتي بضعة أيامٍ قبل أن أُبحر، ولأنها تنمو بسرعة؛ فقد صعدتُ على متن السفينة بذقنٍ مكسوٍّ بشعرٍ طويل على غرار شبَّان بوير. كان اسمي حينئذٍ براندت، كورنيليس براندت، أو على الأقل كان جواز سفري يقول ذلك، وجوازات السفر لا تكذب أبدًا.

كان معي راكبان آخران فقط على متن تلك السفينة البغيضة، ولم يظهرا قطُّ حتى خرجنا من الخليج. كنت أنا شخصيًّا أشعر بتوعُّك بعض الشيء، لكني تمكنتُ من التحرُّك في أنحاء السفينة طَوال الوقت؛ لأنَّ البرودة في حُجَيرتي كانت شديدة إلى حدٍّ قد يُصيب فرس النهر نفسه بالإعياء. استغرقَت السفينة القديمة المتهالكة يومَين وليلة للسفر من جزيرة أوشا إلى شبه جزيرة فينيستر، كما لو كانت بطةً عرجاء. عندئذٍ تغير الطقس، وخرجنا من الزوابع الثلجية إلى جوٍّ شبيه جدًّا بالصيف. كانت تلال البرتغال كلها زرقاء وصفراء كصحراء كالاهاري، وقبل أن نصل إلى نهر تاجه، بدأت أشعر بأنني لم أغادر روديسيا قط أصلًا. كان ضِمن البحَّارة رجل هولندي اعتدتُ أن أثرثر معه باللغة الأفريقانية، وباستثناء «طاب صباحك» و«طاب مساؤك»، اللتَين كنت أقولهما للقبطان بلغةٍ إنجليزية ركيكة، كان ذلك هو كل كلامي في تلك الرحلة.

رسَونا عند أرصفة ميناء لشبونة في صباحٍ أزرق ساطع، وكان الجو قريبًا إلى الدفء بما يكفي لنرتدي قمصانًا تحتانية خفيفة من صوف الفلانيل. أصبح عليَّ آنذاك أن أكون حذرًا جدًّا. لم أترك السفينة مع الزورق الصغير الذي كان مُتجهًا إلى الشاطئ، بل أعددتُ فطوري على مهل. ثم تسكعتُ على متن السفينة، وعندئذٍ رأيتُ سفينة أخرى كانت تُلقي مرساتها آنذاك بالضبط في منتصف المجرى المائي، وكانت تحمل مدخنةً ملوَّنة بالأزرق والأبيض كنتُ أعرفها جيدًا جدًّا. قدَّرتُ أنها كانت راسيةً عند مُستنقعات أشجار المانجروف في أنجولا قبل نحو شهر. وهكذا كانت مثاليةً لتلبية غرضي. ارتأيتُ أن أصعد على متنها، متظاهرًا بأنني أبحث عن صديق، وأنزل منها إلى الشاطئ؛ كي يظنَّ أي شخصٍ فضولي في لشبونة أنني قادم مباشرة من أفريقيا البرتغالية.

صحتُ مُناديًا أحد المراكبية الهَمَج المجاورين، وركبتُ قاربه ومعي متاعي. وصلنا إلى السفينة — التي كانوا يُسمُّونها «هنري الملَّاح» — تزامنًا مع رحيل زورق الشاطئ الأول. كان الركاب المُحتشدون فيها كلهم برتغاليين، وكان هذا ملائمًا تمامًا لغرضي.

ولكن عندما صعدتُ السُّلم وصرتُ على متنها، كان أول رجل قابلته هو بيتر بينار العزيز.

كنت محظوظًا جدًّا بذلك. فتح بيتر عينَيه وفغر فمه، وقال: «يا إلهي!» بالهولندية، فأسكتُّه بسرعة.

وقلت: «براندت. كورنيليس براندت. هذا اسمي الآن، ولا تنسَه. مَن القبطان هنا؟ أما زال سلوجت العجوز؟»

قال بيتر وهو يستجمِع نفسه بعد صدمة المفاجأة: «أجل. كان يتحدث عنك أمس.»

كان هذا أفضل وأفضل. أرسلت بيتر إلى الأسفل ليجد لي سلوجت، وسرعان ما أصبحتُ مع ذاك القبطان المهذَّب في مقصورته أُحادِثه والباب موصَد علينا.

قلت له: «يجب أن تُدرِج اسمي في سجلَّات السفينة. اكتب أنني ركبتُ السفينة في موساميدس. واسمي كورنيليس براندت.»

كان سلوجت مُمانعًا في البداية. قال إنَّ هذه جناية. فأخبرته بأنَّ ذلك صحيح بالتأكيد، لكنه يجِب أن يفعلها، لأسبابٍ لا أستطيع الإفصاح عنها، لكنها مُشرِّفة جدًّا لكلِّ الأطراف المشاركة في هذا العمل. ووافق في النهاية، ورأيته يُنفِّذ ذلك بالفعل. كنتُ أحظى بتأثيرٍ على سلوجت العجوز؛ لأنني كنتُ أعرفه منذ أن كان يملك زورقًا قاطرًا مشبوهًا في خليج ديلاجوا.

ثم نزلنا أنا وبيتر إلى الشاطئ، ودخلنا لشبونة مُتبخترَين كما لو كنا مُلَّاك كبرى شركات العالم. حططنا الرِّحال في الفندق الكبير المقابل لمحطة القطار، وكان كل شيءٍ في مظهرنا وتصرفاتنا يوحي بأننا رجلان همجيَّان عائدان من جنوب أفريقيا إلى أرض الوطن لينغمسا في الملذَّات. كان نهارًا مشرقًا صافيًا؛ لذا استأجرتُ سيارةً وقررتُ أن أقودها بنفسي. سألنا عن اسم مكان خلَّاب لنزوره، فأوصَونا ببلدة سينترا، وأرشدونا إلى الطريق إليها. كنت أريد مكانًا هادئًا مناسبًا للحديث؛ إذ كان عندي الكثير لأقوله لبيتر بينار.

أطلقتُ على تلك السيارة «الفزع البرتغالي»، وكانت معجزة أننا نجونا من التحطُّم بداخلها. فنظام التوجيه فيها كان به عُطل أبديٌّ لَعِين. لذا انحرفنا بعرض الطريق عدة مرات، وكِدنا نهلك. لكننا وصلنا إلى وجهتنا في النهاية، وتناولنا الغداء في فندقٍ مقابل لقلعة الموريين. تركنا السيارة هناك، وأخذنا نتجوَّل عبر منحدرات أحد التلال، حيث جلست وسط أيكةٍ شبيهة جدًّا بسهول جنوب أفريقيا، وأخبرت بيتر بالموقف.

لكن يجب أولًا أن أحدِّثكم عن بيتر قليلًا. كان بيتر هو الرجل الذي علَّمني كل ما أعرفه عن مهارات البقاء على قيد الحياة في سهول جنوب أفريقيا، إلى جانب الكثير عن الطبيعة البشرية. كان في الأصل من المستعمرة القديمة — برجرسدورب على ما أظن — لكنه انتقل إلى مقاطعة ترانسفال عندما اكتُشفَت مناجم الذهب في ليدنبرج. كان يمارس التنقيب ونقْل البضائع والصيد بالتناوب، لكنه كان صيادًا في الأساس. لم يكن مواطنًا صالحًا تمامًا في تلك الأيام. فقد كان في سوازيلاند مع بوب ماكناب، وأنتم تعرفون ماذا يعني ذلك. ثم بدأ يُقدِّم عروضًا خادعة لأقطاب كيمبرلي وجوهانسبرج ليستولي على أموالهم بداعي استثمارها في مناجم الذهب، وكان على دراية بكل شيء عن إضافة مكونات مُعينة إلى المناجم لتبدو أثمن من قيمتها الحقيقية. ثم ذهب إلى كالاهاري، حيث كان معروفًا هو وسكوتي سميث. وبدأ بيتر عهدًا من الاحترام نسبيًّا مع نشوب حرب ماتابيلي، عندما نفَّذ بعض مهام الاستكشاف والنقل الشريفة على غير عادته. أراد سيسل رودس أن يولِّيه مزرعةً للماشية على الطريق المؤدي إلى سالزبري في أفريقيا (هراري حاليًّا)، لكنَّ بيتر كان شيطانًا مستقلًّا، ولم يكن يقبل أن يكون له رئيس يُوجِّهه. بدأ يمارس صيد الحيوانات البرية الكبيرة، وكان يحظى بموهبةٍ فطريةٍ من الرب في ذلك؛ لأنه كان يستطيع تعقُّب حيوان الساسابي وسط الشُّجيرات الكثيفة، وكان أدقَّ قناصٍ رأيته في حياتي. كان يأخذ جماعات من الرجال في رحلات صيدٍ إلى سهول بَنجوي، وبروتسلاند، حتى تنجانيقا. ثم صار متخصصًا في الصيد في منطقة نجامي، حيث اصطدتُ معه ذات مرة، وكان معي عندما ذهبت إلى دامارالاند للتنقيب هناك.

عندما اندلعت حرب البوير، انحاز بيتر إلى بريطانيا، مثله مثل العديد من الصيادين العظماء، ونفذ معظم مهماتنا الاستخباراتية في شمال ترانسفال. كان الجنرال بايرز سيُعدمه لو استطاع القبض عليه، ونشبت بين بيتر وبني شعبه كراهية دامت وقتًا طويلًا. وعندما انتهى كل ذلك، وهدأت الأوضاع قليلًا، استقر في مدينة بولاوايو، واعتاد أن يصاحبني في رحلاتي الطويلة الشاقة. ثم ظللتُ عدة أشهر دون أن أراه، إلى أن غادرتُ أفريقيا قبل عامَين، وسمعتُ أنه كان آنذاك في مكانٍ ما في الكونغو يصطاد أفيالًا. دائمًا ما كانت لديه فكرة رائعة مفادها إحداث اضطراباتٍ شديدة جدًّا في أنجولا كي تُضطر حكومة الاتحاد إلى التدخُّل وضمِّها. كان بيتر يحمل أعظم الأفكار في نصف الكرة الجنوبي بعد رودس.

كان طوله نحو خمس أقدام وعشر بوصات، وكان نحيفًا ونشطًا جدًّا، وقويًّا كالثور. كانت له عينان زرقاوان شاحبتان، ووجه وديع كوجهِ فتاة صغيرة، وصوتٌ ناعس رقيق. كان يبدو من هيئته الحالية أنه قد كابَد بعض المشاقِّ مؤخرًا. فقد كانت ثيابه من الطراز الرائج في خليج لوبيتو، وكان نحيلًا للغاية، وبه سُمرة شديدة من أثر الشمس، وكانت لحيته يتخللها كثير من الشُّعيرات الرمادية. كان عمره ستة وخمسين عامًا، وعادةً ما كان الآخرون يظنُّونه في الأربعين من عمره. لكنه في الوقت الحالي يبدو قريبًا من عمره الحقيقي.

سألته في البداية عمَّا كان يفعله منذ نشوب الحرب. فبصَق بطريقة الزنوج الأفارقة كدأبه دائمًا، وقال إنه مرَّ بوقتٍ عصيب جدًّا.

قال: «عَلِقتُ في كافو. عندما سمعتُ من لتسيتلا العزيز أنَّ الرجال البيض كانوا يُقاتلون، تفتَّق ذهني عن فكرةٍ ذكية بأن أدخل جنوب غرب أفريقيا الألمانية من جهة الشمال. فأنا، كما تعلم، كنتُ أعرف أنَّ بوتا لن يستطيع الامتناع طويلًا عن المشاركة في الحرب. حسنًا، دخلت الأراضي الألمانية بنجاح، ثم جاء ضابطٌ وغد، وصادَر كل بغالي، بل وأراد أن يأخُذني أنا أيضًا معها ليُجنِّدني في جيشه الغبي. كان رجلًا قبيحًا جدًّا أصفر الوجه.» ملأ بيتر غليونًا عميقًا بالتبغِ من جراب مصنوع من جلد حيوان الكودو.

سألته: «وهل أخذك وجَنَّدك؟»

«لا. لقد أطلقت عليه النار؛ ليس لأقتُله، وإنما لأُصيبه بجرح بليغ. وكان هذا مبرَّرًا تمامًا؛ لأنه هو مَن أطلق النار عليَّ أولًا. وأصابني في كتفي اليُسرى أيضًا. لكنَّ هذه كانت بداية مأزق سيئ. مشيتُ شرقًا بسرعة وخضتُ رحلةً مُضنِية حتى تجاوزت الحدود وأصبحتُ وسط قبائل الأوفامبو. صحيح أنَّني خضتُ في حياتي رحلاتٍ كثيرة، لكن هذه كانت الأسوأ. بقيتُ أربعة أيامٍ بلا ماء، وستة بلا طعام. ثم قادني حظِّي العاثر إلى مصادفة نكيتلا، إن كنت تذكره؛ ذاك الزعيم القَبَلي المُختلط العِرق. قال إنني أَدين له بأموال نظير الماشية التي اشتريتُها عندما وصلت إلى هناك مع كارواب. كان هذا كذبًا، لكنه أصرَّ عليه، ولم يمنحني أي وسيلة نقلٍ لتُوصلني إلى وجهتي. لذا عبرتُ صحراء كالاهاري على قدميَّ. أف، كان ترحالي بطيئًا كامرأةٍ مجهدة قادمة من قداس كنسيٍّ طويل عائدة إلى منزلها. فقد استغرق أسابيع طِوالًا، وعندما وصلتُ إلى قرية ليكوي، سمعتُ أنَّ القتال قد انتهى، وأنَّ بوتا قهر الألمان. كانت هذه أيضًا كذبة، لكنها انطلت عليَّ، وذهبتُ شمالًا إلى روديسيا، حيث عرفت الحقيقة. لكني بحلول هذا الوقت كنتُ قد ارتأيتُ أنَّ الحرب بلغت مرحلةً يستحيل معها أن أجني أي ربح منها؛ لذا ذهبت إلى أنجولا بحثًا عن لاجئين ألمان. وبحلول هذا الوقت، صارت كراهيتي للألمان أشدَّ من كراهية الجحيم نفسه.»

فسألته: «لكن ما الذي كنتَ تنوي فعله بهم؟»

«خَطَر ببالي أنهم قد يُثيرون متاعب للحكومة في تلك المناطق. صحيح أنني لا أُكِن محبةً خاصة للبرتغاليين الحقراء، لكني أُفضِّلهم على الألمان دائمًا. حسنًا، اندلعتُ متاعب، وقضيتُ وقتًا ممتعًا طَوال شهر أو اثنَين. لكنها تلاشت بمرور الوقت، وارتأيت أن مِن الأفضل لي أن أرحل إلى أوروبا؛ إذ كانت جنوب أفريقيا في طريقِها إلى الاستقرار التام، على حين كانت الحرب الكبرى تزداد إثارةً وتشويقا حقًّا. لذا فأنا هنا، يا كورنيليس، يا صديقي القديم. إذا حلقتُ لحيتي، فهل سيسمحون لي بالانضمام إلى الفيلق الجوي الملكي؟»

نظرت إلى بيتر وهو جالس هناك يُدخِّن؛ كان يبدو رابط الجأش تمامًا كما لو أنه قد عاش كل حياته الماضية يزرع الذرة في ناتال بجنوب أفريقيا، وعاد إلى أرض الوطن ليقضي إجازة شهرًا مع أهله في بيكهام.

قلت له: «أنت قادم معي يا صديقي. سنذهب إلى ألمانيا.»

لم يُبدِ بيتر أي دهشة. واكتفى بقول: «تذكَّر أنني لا أُحب الألمان. صحيح أنني رجل مسيحي هادئ، لكني أصبح شيطانًا حين أغضب.»

ثم أخبرته بقصة مهمتنا. «سنتظاهر بأننا من أفراد كتيبة الضابط ماريتس. سندَّعي أننا ذهبنا إلى أنجولا، وأننا الآن عائدان إلى «ألمانيا الوطن» في رحلةٍ شاقة لننتقِم من الإنجليز الملاعين. سنتظاهر أمامهم بأننا لا نعرف أي كلمةٍ ألمانية. ينبغي أن نختلق تفاصيل محبوكة عن المعارك التي شاركنا فيها؛ معركة «كاكاماس» مثلًا ستكون مُقنعة، وكذلك معركة «مخاضة سخايت». لقد كنتَ صيادًا في نجاميلاند قبل الحرب. لذا لن يكون لديهم ملفٌّ عنك، وبذلك يُمكنك أن تكذب كيفما تشاء. أمَّا أنا، فمن الأفضل أن أتظاهر بأنني أفريقاني مُتعلم، وأحد فتيان بايرز البارعين، وصديق لهيرتزوج المحنَّك. يُمكننا أن نُطلِق العِنان لمخيلتنا في اختلاق تفاصيل هذا الجزء، ولكن علينا أن نلتزم بقصةٍ موحدة في كلامنا عن المعارك التي خضناها».

قال بيتر: «حسنًا يا كورنيليس. (لقد ظلَّ يُناديني بهذا الاسم الجديد طَوال الوقت منذ أول مرة أخبرتُه فيها به. كان رجلًا بارعًا جدًّا في استيعاب تفاصيل أي مهمة.) ولكن ماذا بعدما ندخل ألمانيا؟ البداية لن تكون صعبة للغاية. لكني لا أدرك أي شيءٍ بعدُ عن الخطة التي سنتبِعها حالما نندمج وسط هؤلاء الألمان المُدمِني الجِعَة. هل سيكون علينا أن نكتشف شيئًا يُدبَّر في تركيا؟ عندما كنتُ صبيًّا، عادة ما كان الواعظ يُحدثنا عن تركيا. أتمنَّى لو كنت نلتُ تعليمًا أفضل وأستطيع تذكُّر مكانها على الخريطة.»

قلت: «دَع تلك المسألة لي، سأشرحها لك بالتفصيل قبل وصولنا إلى هناك. ليس لدَينا خيطٌ واضح لنتبعه في بحثنا، لكننا سنستكشف كل الاحتمالات المُمكنة، لعل حظَّنا الجيد يقودنا إلى اكتشاف السر. لقد رأيتك تفعل ذلك كثيرًا جدًّا عندما كنَّا نصطاد حيوانات الكودو في كافو.»

أومأ بيتر بالإيجاب. وسألَني بقلق: «أما زلنا مُضطرَّيْن إلى المكوث في بلدة ألمانية؟ لن أحب ذلك يا كورنيليس.»

قلت: «سنتحرك صوب الشرق رويدًا رويدًا حتى القسطنطينية.»

ابتسم بيتر ابتسامةً عريضة. وقال: «سنطرق الكثير من الأراضي الجديدة. يُمكنك أن تعتمِد عليَّ يا صديقي كورنيليس. فلطالما كنت أتوق لزيارة أوروبا.»

ونهض واقفًا على قدمَيه ومدَّ ذراعَيه الطويلتَين.

«من الأفضل أن نبدأ فورًا. ربَّاه، تُرى ما الذي حدث لصاحبنا سولي ماريتس بوجهِه الذي يُشبه الزجاجة؟ لقد نشبت معركة حامية في المخاضة حين كنتُ غائصًا حتى عنقي في نهر الأورانج متضرعًا للرب أن يحسبَ البريطانيون رأسي حَجرًا فلا يُطلقوا النار عليه.»

هكذا بدأ بيتر يتقمَّص دوره الجديد، وكان يؤدِّيه باحتيالٍ مُتقَن تمامًا، كما فعل بلنكيرون نفسه من قبل. فطَوال طريق العودة إلى لشبونة، ظلَّ ينسج قصصًا خرافية عن ماريتس ومغامراته في جنوب غرب أفريقيا الألمانية حتى كدتُ أصدق أنها حقيقية. اختلق قصة محبوكة جدًّا عمَّا كنَّا نفعله، وسرعان ما حُفرَت في ذاكرتي لأنه ظل يسردها باستمرار. كان هذا دأب بيتر دومًا. كان يقول إنَّ المرء إذا اضطُر إلى أداء دورٍ ما، فيجب أن يتخيَّل نفسه فيه، ويُقنع نفسه بأنه حقيقي، إلى أن يتقمَّصه تمامًا بالفعل، ويشعر بأنه جزء من طبيعته، وليس دورًا يؤدِّيه متظاهرًا. صحيح أننا كنا مُتقمِّصَين أدوارنا بإتقانٍ كافٍ حين خرجنا من باب الفندق في صباح ذاك اليوم، لكننا عُدنا إليه وغدَين حقيقيَّين مُتعطشَين للنَّيل من إنجلترا.

قضينا المساء في تجميع أدلة تؤيد قصتنا المختلَقة. كانت البرتغال قد شهدت بوادرَ قيامِ جمهوريةٍ نوعًا ما، وكان من المعتاد أن تكتظَّ المقاهي بالساسة، لكنَّ الحرب أسكتت كل هذه المشاحنات المحلية، وكان حديث الساعة هو ما يحدُث في فرنسا وروسيا. كان المكان الذي ذهبنا إليه مكانًا مُبهرجًا فسيحًا جيد الإضاءة في شارعٍ رئيسي، وكانت الأرجاء تعجُّ بالكثير من رجالٍ مُتجوِّلين ذوي عيونٍ ثاقبة، وخمَّنتُ أنهم جواسيس ومخبرون تابعون للشرطة. كنت أعرف أنَّ بريطانيا هي الدولة الوحيدة التي لا تهتمُّ بمثل هذه الألاعيب، وأننا لن نتأذَّى إذا أخذنا حُريتنا وتصرَّفنا كما نشاء.

كنت أتحدَّث البرتغالية جيدًا إلى حدٍّ ما، وكان بيتر يتحدثها كمالكِ حانةٍ في لورنسو ماركيز؛ إذ كان يحشوها بالكثير من الكلمات التسونجانية. بدأ يشرب مشروب الكوراساو، واستنتجتُ أنه كان مشروبًا جديدًا عليه، وسرعان ما انطلق لسانُه بكل حرية. وبدأ كثير من الرجال المُجاورين لنا يُصغون باهتمامٍ إلى مُحادثتنا، وسرعان ما باتت طاولتنا مُحاطةً بحشدٍ صغير من روَّاد المقهى.

تحادَثنا عن ماريتس ومغامراتنا. وبدا أنَّ هذا الموضوع لم يلقَ استحسانًا في ذلك المقهى. فقد قال رجل ضخم شديد السواد إنَّ ماريتس خنزير قذِر سيُشنَق قريبًا. وسرعان ما أمسك بيتر معصم الرجل الذي كان يحمل فيه سكينًا، وأمسَك حلقومَه بيده الأخرى، وطالَبه بالاعتذار. وقد نالَه بالفعل. ما زال روَّاد شوارع لشبونة الراقية أُسودًا شجعانًا.

بعدئذٍ تكدَّس حشدٌ صغير من روَّاد المقهى في رُكننا. كان أولئك القريبون منَّا هادئين ومُهذبِين جدًّا، أمَّا البعيدون فكانوا يُبدون بعض التعليقات. قال بيتر إنَّ البرتغال، التي اعترف بأنه يُحبها، إذا ظلَّت مُوالية لإنجلترا، فإنها بذلك تدعم الحصان الخاسر، وعندئذٍ سَرَت همهمة من الاستياء بين الحاضرين. كان بينهم رجل عجوز يبدو محترمًا، وكان مظهره العام يوحي بأنه قبطان سفينة، وقد احمرَّ وجهه البريء الصادق تمامًا حين سمع ذلك، ووقف ناظرًا إلى بيتر مباشرة. وهنا أدركتُ أنَّ كلامنا قد جرح مشاعر رجل إنجليزي، وقلتُ ذلك لبيتر بالهولندية.

مثَّل بيتر دوره بإتقان. فسكتَ فجأة، ثم اختلس النظر حوله، وبدأ يهمس لي بثرثرةٍ خافتة. كان يُجسِّد مثالًا نموذجيًّا لممثلٍ مُحنَّك يؤدي دورَ المتآمِر.

وقف الرجل العجوز يُحدق إلينا. وقال: «لا أفهم هذه اللغة اللعينة، ولكن إذا كنتما أيها الهولنديان القذِران تقولان أي شيءٍ يسيء إلى إنجلترا، فأنا أطلب منكما تكراره. وإذا كررتُماه، فسأتعارك معكما أنتما الاثنين، وأقتلع رأسيكما.»

كان رجلًا ذا قلبٍ مُتعصب لإنجلترا مثلي تمامًا، لكني كنتُ مُضطرًّا إلى الاستمرار في اللعبة. قلتُ بالهولندية لبيتر إننا يجب ألَّا نتشاجر في حانة. قلت له بجديةٍ مُنذِرة: «تذكر الهدف الأكبر.» أومأ بيتر بالإيجاب، وحدَّق الرجل العجوز إلينا قليلًا، ثم بصق بازدراءٍ وخرج.

قلت لحشد الحاضرين: «سيحين الوقت الذي سيسكتُ فيه الإنجليز ويتوارَون عن الأنظار.» اشترَينا مشروباتٍ لبضعة أشخاص هناك على نفقتِنا الخاصة، ثم خرجنا إلى الشارع باختيالٍ وتباهٍ. وعند الباب، وجدتُ يدًا تلمس ذراعي، فنظرت إلى الأسفل لأجد رجُلًا قصيرًا جدًّا يرتدي معطفًا من الفرو.

قال بلهجةٍ هولندية رسمية جدًّا: «هلَّا يتفضل السيدان بالسير معي قليلًا واحتساء كأسٍ من الجِعَة برفقتي؟»

فسألته: «مَن أنت بحقِّ الشيطان؟»

أجاب بالعبارة المشهورة آنذاك بين كارهي دول الحلفاء: «لعنة الرب على إنجلترا!» ثم أعاد طَيَّة صَدر معطفه إلى الوراء، وأرانا شيئًا أشبَهَ بشريطٍ في عروته.

قال بيتر: «حسنًا. فلتتقدَّمنا يا صاح. لا نُمانع ذلك.»

قادنا إلى شارع خلفي، ثم صعد بنا دَرَجَين إلى شقةٍ صغيرة مريحة جدًّا. كانت تعج بالورنيش الأحمر الفاخر، وخمَّنتُ أنَّ التجارة في التُّحف والمشغولات الفنية هي مهنته الصورية. فالبرتغال، منذ أن قامت الجمهورية وفكَّكَت الأديرة، وباعت ممتلكات النبلاء المَلَكيِّين الأثرياء، صارت حافلةً بالصفقات التجارية في مجال بيع التحف والمشغولات المَطلية بالورنيش.

ملأ لنا إبريقَين طويلَين بأفخر أنواع جِعَة ميونخ.

قال وهو يرفع كأسه: «في صحتكما. أنتما من جنوب أفريقيا. فماذا تفعلان في أوروبا؟»

بدا كِلانا مُتجهمًا ومتكتمًا.

أجبتُه قائلًا: «هذا شأن خاص بنا. لا تتوقع أنك ستشتري ثِقتنا بكأسٍ من الجعة.»

فقال: «حقًّا؟ إذن سأطرح سؤالي بصيغة مختلفة. استنتجتُ من كلامكما في المقهى أنكما لا تُحبان الإنجليز.»

قال بيتر شيئًا عن أنه يتمنَّى دهسَ جَداتهم بقدمَيه، وهي عبارة متداولة بين زنوج جنوب أفريقيا بَدَت شنيعةً باللغة الهولندية.

ضحك الرجل. وقال: «هذا كل ما أريد معرفته. هل أنت في صفِّ ألمانيا؟»

قلت: «لم أحسم هذا بعد. إذا أحسنوا مُعاملتي، فسأُقاتل في صفوفهم، أو في صفوف أي أحدٍ يشن حربًا على إنجلترا. فإنجلترا قد سرقت بلدي، وأفسدت شعبي، وجعلتني مَنفيًّا. ونحن الأفريقان لا ننسى. ربما تكون خطواتنا بطيئة، لكننا ننتصِر في النهاية. نحن رجلان ثمينان جدًّا. فألمانيا تحارب إنجلترا في شرق أفريقيا. ونحن نعرف السكان الأصليين هناك كما لا يُمكن لأيِّ رجلٍ إنجليزي أن يعرفهم أبدًا. إنَّ الإنجليز مُرتخون ومتساهلون جدًّا، والزنوج يسخرون منهم. أمَّا نحن، فنستطيع أن نَسُوس السود ليقاتلوا بكل شراسةٍ خوفًا منَّا. أتريد أن تعرف المكافأة نظير خدماتنا أيها الرجل القصير؟ سأُخبرك. سنفعل ذلك بلا أي مكافأة. لا نطلب مكافآت. فنحن نقاتل كرهًا في إنجلترا وحسب.»

نخر بيتر تعبيرًا عن رضاه التام عن كلامي.

وقال مُضيفُنا بلمعةٍ في عينَيه المتقاربتين: «هذا حديث جيد. ألمانيا تُرحِّب بأمثالكما من الرجال. ألتمس منكما أن تُخبراني بوجهتكما الحالية.»

قلت: «نحن ذاهبان إلى هولندا. ثم قد نذهب إلى ألمانيا. لقد تعبنا من الترحال وقد نرتاح قليلًا. فهذه الحرب ستدوم طويلًا، وستحين فرصتنا.»

قال بنبرة ذات مغزًى: «لكنكما قد تفوِّتان فرصتكما. ثمة سفينة ستبحر إلى روتردام غدًا. إذا أردتما نصيحتي، فاذهبا معها.»

كان هذا هو كل ما كنت أريده؛ لأننا لو بقِينا في لشبونة، فقد يأتي جندي حقيقي من أفراد كتيبة ماريتس فجأة في أي وقت ويفضح أمرنا.

كرر قائلًا: «أنصحكما بالإبحار على متن الباخرة ماتشادو. يوجَد في ألمانيا عملٌ لكما، بل الكثير من العمل، ولكن إذا تأخرتُما، فقد تضيع الفرصة. سأُرتِّب رحلتكما. فعملي هو مساعدة حلفاء وطني ألمانيا.»

دوَّن أسماءنا ونُبذةً موجزة عن إنجازاتنا قدَّمها له بيتر، الذي طلب قَدَحَين من الجعة ليساعداه على ذلك. كان بافاريًّا على ما يبدو، وشربنا نخبًا في صحة الأمير روبرخت؛ نفس الوغد الذي كنت أحاول قتلَه في معركة لوس. كانت تلك مفارَقة لم يكن بيتر يُدركها مع الأسف. فلو كان يُدركها، لاستمتع بها.

أوصلَنا الرجلُ القصير إلى فندقنا، وكان معنا في صباح اليوم التالي بعد الفطور، حيث أحضر إلينا تذاكر الباخرة. ركبنا الباخرة قُرابةَ الساعة الثانية بعد الظهر، لكنه لم يُصاحبنا إلى هناك بناء على نصيحتي. قلت له إننا — لمَّا كنا رعايا بريطانيين، بل ومُتمردين أيضًا — لا نريد أن نُعرِّض أنفسنا لأي أخطار على متن الباخرة، تحسُّبًا لأن يلحق بنا طَرَّاد بريطاني ويفتش الباخرة. لكنَّ بيتر أخذ منه عشرين جنيهًا نظير نفقات السفر؛ فمبدؤه كان ألَّا يُفوِّت أي فرصةٍ ليستغل الآخرين ويسلبهم أي منفعة متاحة.

بينما كنا نبحر نحو مصبِّ نهر تاجه، مررنا بسفينة «الملاح هنري» العزيزة.

قال لي بيتر: «لقد قابلتُ سلوجت في الشارع صباح اليوم، وأخبرني بأنَّ رجلًا ألمانيًّا قصيرًا قد استقل قاربًا عند الفجر وذهب إليه ليتفحص قائمة الركاب. كانت فكرتك وجيهة يا كورنيليس. أنا سعيد لأننا سنصبح وسط الألمان. إنهم أناس يقِظون يُسعدني لقاؤهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤