الفصل السادس

حماقات من الرجلين نفسيهما

كنت أقف عاريًا تمامًا صباح اليوم التالي في غرفة النوم القارسة البرودة تلك مُحاولًا الاستحمام بنحو ربع جالون من الماء، حين فوجئتُ بشتوم يدخل عليَّ. سار نحوي بخطواتٍ واسعة وحدَّق بوجهي. كنتُ أقصر منه بنحو نصف رأس، كما أن الرجل لا يشعر بأنه في أقوى حالاته حين يكون بلا ثياب؛ لذا كان متفوقًا عليَّ من كل الجوانب.

قال مزمجرًا: «لديَّ سبب يجعلني أعتقد أنك كاذب.»

شددتُ غطاء السرير ولففتُه حولي لأنني كنت أرتعش من البرد، ولأنَّ المناشف الألمانية كانت صغيرة ورقيقة كمناديل الجيب. أعترف بأنني كنتُ في حالة من الذُّعر.

كرَّر قائلًا: «كاذب! أنت وذاك الخنزير بينار.»

حاولتُ بأقصى جهدي أن أبدو غاضبًا فظًّا، وسألته عمَّا فعلناه ليعتقد ذلك.

قال: «لقد كذبت؛ لأنك قلتَ إنكما لا تعرفان الألمانية. يبدو أنَّ صديقك يعرف منها ما يكفي ليتحدَّث بأشياء تُعَد خيانةً لحكومتنا، ويزدري مقدساتنا.»

أعاد إليَّ ذلك بعضًا من رباطة الجأش.

«قلتُ لك إنني أعرف بضع كلمات. لكني أخبرتك بأنَّ بيتر يستطيع التحدُّث بها قليلًا. أخبرتُك بذلك أمسِ في المحطة.» شعرتُ بالامتنان من أعماق قلبي لحُسن حظي الذي جعلني أقول تلك الملحوظة العابرة.

بدا واضحًا أنه تذكَّر؛ إذ صارت نبرتُه أكثر تأدبًا قليلًا.

قال: «أنتما زوج حقير. وإذا كان أحدُكما وغدًا، فلماذا لا يكون الآخر مثله؟»

قلت: «لستُ مسئولًا عن بيتر.» شعرت بأنني نذل لأنني قلتُ ذلك، لكنَّ هذا كان اتفاقنا منذ البداية. «صحيح أنني أعرفه صيادًا بارعًا ورجلًا شجاعًا منذ سنين. وأعرف أنه قاتَلَ ببسالة ضد الإنجليز. لكني لا أعرف أكثر من ذلك. عليك أن تحكم عليه بنفسك. ماذا فعل؟»

حكى لي شتوم؛ لأنهم أبلغوه بما حدث عبر الهاتف في صباح ذلك اليوم. وبينما كان يحكي لي، تَكرَّم بالسماح لي بأن أرتدي بنطالي.

فعل بيتر ما كنتُ أتوقَّعه بالضبط. فبعدما تركناه وحده في اليوم السابق، شعر بالملل، ثم أتى بتصرُّفات طائشة. ألحَّ على الملازم حتى أقنعه بأن يصحبه لتناول العشاء بالخارج في مطعمٍ كبير في برلين. وهناك، بعدما أثارته الموسيقى والأضواء — التي كانت أشياء جديدة على صيادٍ قروي من جنوب أفريقيا — ولشعوره بالملل الشديد من رفيقه بكلِّ تأكيد، بدأ يثمل. كان ذلك يحدث سابقًا بمعدل مرةٍ كل ثلاث سنوات تقريبًا منذ أن عرفتُ بيتر، ودائمًا ما كان يحدث للسبب نفسه. كان بيتر عندما يشعر بالملل والوحدة في بلدةٍ ما، ينغمس في الشراب حتى يثمل. صحيح أنَّ رأسه كان جامدًا كالصخر، لكنه كان يصل إلى الحالة المنشودة بمزج عشوائي لمجموعة مختلفة من المشروبات. كان سلوكه يظلُّ مُهذبًا جدًّا عندما يثمل، ولا يتحول إلى العنف على الإطلاق، لكنه غالبًا ما كان يُطلِق العِنان للسانِه تمامًا. وهذا ما حدث في مطعم فرنسيسكانا.

بدأ بإهانة الإمبراطور، على ما يبدو. شرب نخبًا في صحته، لكنه قال إنه يُذكِّره بخنزيرٍ وحشي أفريقي، ومن ثم جرح مشاعر الملازم الذي كان معه. ثم اعترض أحد الضباط — الذي كان ذا رُتبة عالية جدًّا، وكان جالسًا إلى طاولة مجاورة — على حديثه بصوتٍ عالٍ جدًّا، فردَّ بيتر ردًّا وقحًا بلغةٍ ألمانية محترمة. بعدئذٍ عمَّت حالة من الفوضى. نشبت مشادَّة أو ما شابه، افترى فيها بيتر بأقذع الألفاظ على الجيش الألماني وكل أمهات أفراده وأمهات أمهاتهم. لا أعرف كيف لم يُطلِق أحدٌ النار عليه أو يطعنه بسكين، إلا أنَّ الملازم أعلن بأعلى صوته أنه رجل بويريٌّ مجنون. على أي حال، كانت الخلاصة أنَّ بيتر اقتيد إلى أحد السجون، وتُركتُ أنا في مأزق حرِج.

كنتُ قد ارتديتُ معظم ثيابي حينئذٍ، وأصبحت أجرأ. فقلت بحزم: «لا أُصدق أي كلمة من ذلك. هذه كلها مؤامرة لوصمِه بالعار وتجنيده وإرساله ليُقاتِل على الجبهة.»

لم يستشط شتوم غضبًا كما كنت أتوقع، بل ابتسم.

قال: «هذا قَدَره منذ البداية، منذ أن رأيتُه. لم يكن لينفعنا إلَّا بأن يكون رجلًا ببندقية على الجبهة. كبشًا نُضحِّي به أمام المَدافع، ليس إلَّا. هل تتصوَّر أيها الأحمق أنَّ هذه الإمبراطورية العظيمة ستشغل بالها، في خضمِّ حربٍ عالمية، بنصبِ أفخاخ لقروي جاهل من جنوب أفريقيا؟»

قلت: «أنا بريء منه. وإذا صحَّ ما تقوله عن حماقته، فلا علاقة لي بها. لكنه كان رفيقي وأتمنَّى له الخير. ماذا تعتزمون أن تفعلوا به؟»

قال بالْتِواءةٍ خبيثة بفمه: «سنُبقيه تحت المُراقبة. فأنا أظن أنه يُخفي أكثر مما يُظهِر. سنتحرَّى عن ماضي السيد بينار. وماضيك أنت أيضًا يا صديقي. فنحن نضعك أنت أيضًا قيد المراقبة.»

تصرفتُ عندئذٍ أفضل تصرُّفٍ ممكن؛ إذ كنت قد فقدتُ صوابي من شدة القلق والاشمئزاز.

صرخت قائلًا: «اسمَعْني أيها السيد، لقد فاض بي الكيل. أتيتُ إلى ألمانيا وأنا أكره الإنجليز وأتحرَّق شوقًا لأُوجِّه إليهم ضربةً من أجلكم. لكنكم لم تُعطوني مبررًا كافيًا لأحبَّكم. فطَوال اليومَين الماضِيَين، لم أرَ منكم سوى الشك والإهانة. والرجل المهذب الوحيد الذي قابلتُه هو السيد جاوديان. ولأنني مؤمِن بأنَّ ألمانيا تعجُّ بالكثير من أمثاله؛ فأنا مُستعد للمُضي قُدمًا في هذه المهمة، وبذل قصارى جهدي فيها. لكني أقسم بالربِّ إنني حتى لن أُحرِّك إصبعي الصغيرة من أجلك.»

حدَّق بي دقيقة بكلِّ ثبات. ثم قال أخيرًا بنبرة مهذبة: «يبدو هذا صادقًا. من الأفضل أن تنزل وتشرب قهوتك.»

أصبحتُ في أمانٍ مؤقتًا، لكن حالتي المعنوية كانت سيئةً جدًّا. فماذا سيحدث لبيتر المسكين؟ لم يكن بوسعي أن أفعل له شيئًا حتى لو أردت، وفوق ذلك، كان واجبي الأول إتمام مهمتي. أوضحتُ له ذلك من البداية في لشبونة، ووافق عليه، لكنها مع ذلك كانت فكرةً وحشية بغيضة. لقد أصبح ذاك الكفء المُخضرم تحت رحمة أبغض شعوب الأرض إلى قلبه. كان عزائي الوحيد أنهم لا يستطيعون أن يُلحِقوا به أذًى جسيمًا. فإذا أرسلوه إلى الجبهة، وهذا أسوأ ما كانوا يستطيعون فعله، فسيهرب؛ لأنني كنتُ مُستعدًّا لأراهن على أنه سيتجاوز أي خطوطٍ قتالية مُهلِكة. كنتُ أنا أيضًا مُستاءً من الأمر. فلم أدرك قيمة رفقته بالنسبة إليَّ إلَّا عندما عرفت أنني سأُحرَم منها. لقد صرتُ وحدي تمامًا، وكنتُ متضايقًا من ذلك. بدا لي أنَّ احتمالية الانضمام إلى بلنكيرون وساندي أصبحت كاحتمالية السفر إلى القمر.

أُمِرتُ بعد الفطور بأن أستعد. وعندما سألت عن الوجهة التي سأذهب إليها، نصحَني شتوم بألَّا أتدخل فيما لا يَعنيني، لكني تذكرتُ أنه تحدَّث في الليلة الماضية عن اصطحابي إلى منزله وإعطائي أوامري. وتساءلت عن مكان منزله ذلك.

ربَّت جاوديان على ظهري عندما كنَّا على وشك الانطلاق، وضغط على يديَّ ليُطمئِنَني. كان رجلًا طيبًا ورائعًا جدًّا، وكنتُ أشعر بالغثيان كلما تذكرتُ أنني أخدعه. ركبنا السيارة الرمادية الكبيرة نفسها، وكان خادم شتوم جالسًا بجوار السائق. كان صباحًا ذا صقيع قارس، وكانت الحقول الجرداء مُغطَّاة بطبقة من الصقيع الأبيض، وكانت أشجار التنوب مكسوةً بمسحوق جليدي ناعم من الحُبَيبات البيضاء ككعكة زفاف مكسوة بطبقةٍ من السكر المسحوق. سلكنا طريقًا مختلفًا عمَّا سلكناه في الليلة السابقة، وبعد مسيرة ستة أميال، وصلنا إلى بلدة صغيرة فيها محطة قطار كبيرة. كانت وصلةً بين عدة سككٍ على خطٍّ رئيسي، وبعد خمس دقائق من الانتظار وجدنا قطارنا. كنَّا وحدَنا في العربة مرةً أخرى. لا بدَّ أنَّ شتوم كان لدَيه نفوذ ضخم يستغله بصورة غير مشروعة؛ لأن القطار كان مزدحمًا.

عشتُ ثلاث ساعاتٍ أخرى من الملل التام. فلم أجرؤ على التدخين، ولم يكن بإمكاني سوى التحديق إلى الخارج من النافذة. سرعان ما وصلنا إلى بلدة ريفية جبلية يكسوها الكثير من الثلج. كنا آنذاك في الثالث والعشرين من ديسمبر، ومع أننا كنَّا في وقتِ حرب، فقد شعرتُ بأجواء عيد الميلاد نوعًا ما. فرأيتُ فتيات يحملنَ أشجارًا دائمة الخضرة، وعندما توقَّفنا في إحدى المحطات، كان مظهر الجنود الحاصلين على إجازةٍ يوحي بأنهم عائدون لقضاء عطلة عيد الميلاد. كان وسط ألمانيا أكثر بهجةً من برلين أو الأجزاء الغربية. أعجبني مظهر الفلاحين العُجُز، والنساء المُكتسيات بأفضل ثيابهن الأنيقة، لكني لاحظتُ أيضًا أنهن كُن شاحبات ونحيفات جدًّا. لم يكن يأتي أي سياح مُحايدِين إلى الريف؛ لذا كانت الأمور هنا متروكةً على طبيعتها دون تدخُّل، على عكس الحال في العاصمة.

حاول شتوم أن يتحدَّث إليَّ أثناء الرحلة. استطعتُ أن أرى غايته. صحيح أنه كان يستجوبني قبل ذلك، لكنه أصبح يريد أن يستدرجني إلى محادثةٍ عادية. لم تكن لدَيه أي فكرة عن كيفية تحقيق ذلك. فقد كان إمَّا متسلطًا ومستفزًّا، كرقيبٍ يُدرِّب مُجندِين جُددًا، وإما دبلوماسيًّا بشكلٍ مفضوح جدًّا إلى حدٍّ يجعل أيَّ أبلهَ يأخذ حِذره تحسُّبًا لأي خداع. هذه هي نقطة ضعف الرجل الألماني. ليست لدَيه موهبة الاندماج مع صنوفٍ مختلفة من الرجال. فهو كائن جامد، حتى إنه لا يستطيع أن يستشعر ما بداخل أمثاله من البشر. ربما يكون ذكيًّا جدًّا، كما كان شتوم، لكنه لا يحمل أي فكرة عن سيكولوجية أيٍّ من مخلوقات الرب. لا يوجَد في ألمانيا من يستطيع الخروج من عباءته والاندماج مع الآخرين إلَّا اليهود؛ ولهذا إذا أمعنت النظر في تلك المسألة، فستجد أنَّ اليهود هم من يقودون معظم المؤسسات الألمانية.

توقفنا بعد منتصف النهار في إحدى المحطات لتناوُل الغداء. تناولنا وجبةً دسمة وشهية جدًّا في المطعم، وعندما كنا على وشك الانتهاء من طعامنا، دخل علينا ضابطان. قام شتوم وأدى التحية العسكرية وانتحى بهما جانبًا ليتحدَّث إليهما. ثم عاد وجعلني أتبعه إلى غرفة انتظار، وأمرني بالبقاء فيها إلى أن يستدعيني. لاحظت أنه نادى حمَّالًا وأوصد الباب حين خرج.

كانت غرفة باردة جدًّا، ولم يكن فيها أي نار للتدفئة، وظللت منتظرًا هناك عشرين دقيقة دون أن أفعل أي شيء. كنتُ حينئذٍ أعيشُ ساعةً بساعة، ولم أشغل بالي بذلك التصرف الغريب. كان يوجَد مجلدٌ لجداول المواعيد على أحد الأرفف، فأخذت أقلِّب في صفحاته بلا هدف حتى صادفتُ خريطة كبيرة لمسارات السكك الحديدية. حينئذٍ خَطَر ببالي أن أحاول معرفة الوجهة التي كنا ذاهِبين إليها. كنتُ قد سمعت شتوم يشتري تذكرتَين لمكانٍ يسمَّى شفاندورف، وعثرت عليه بعد كثير من البحث. كان يقع بعيدًا جنوبًا في بافاريا، وبقدْر ما استطعتُ أن أكتشف، كان يقع على بُعد أقل من خمسين ميلًا من نهر الدانوب. أسعدني ذلك جدًّا. فإذا كان شتوم يعيش هناك، فالأرجح أنه سيتَّخِذ الترتيبات اللازمة لأسافر من هناك عبر خط السكة الحديدية الذي رأيتُه ممتدًّا إلى فيينا، ومنها إلى الشرق. بدا لي أنني قد أصل إلى القسطنطينية في النهاية رغم كل ما حدث. لكني كنت أخشى أن يكون هذا إنجازًا بلا قيمة؛ فماذا بوسعي أن أفعل بعدما أصل إلى هناك؟ لقد كانوا يتعجلون إخراجي من ألمانيا، وما زلت لم أحصل على أي خيط أسترشِد به.

فُتِح الباب ودخل شتوم. بدا أنه قد ازداد ضخامة في تلك الفترة التي تركني فيها، وأصبح أكثر تشامخًا. وكانت عينه تشعُّ فخرًا أيضًا.

قال: «براندت، أنت على وشك أن تنال أعظم شرف تنزَّل على أيِّ أحدٍ من بَني عِرقك على الإطلاق. جلالة الإمبراطور كان مارًّا من هنا، وتوقَّف بضع دقائق. لقد شرَّفني باستقبالي، وحين سمع قصتي، أعرب عن رغبتِه في لقائك. ستتبعني إلى حضرته. لا تخَف. فجلالتُه رءوف كريم. كن رجلًا وأنت تُجيب عن أسئلته.»

تبعتُه بنبضٍ مُتسارع. فها هي ذي مصادفة رائعة لم أحلم بها قادني إليها حُسن حظي. كان يوجَد على الجانب البعيد من المحطة قطارٌ مُتوقف مكوَّن من ثلاث عربات كبيرة مُلونة بلَون الشوكولاتة، مزخرفة باللون الذهبي. وكان على الرصيف المجاور له مجموعةٌ صغيرة من ضباط طِوال القامة في أرديةٍ طويلة باللونَين الأزرق والرمادي. بدا أن مُعظمهم من كبار السن، وخُيِّل لي أنني أتذكَّر منهم وجهًا أو اثنَين من صورٍ فوتوغرافية رأيتُها سابقًا في الصحف المصورة.

وبينما كنَّا نقترب منهم، تفرقوا وتركونا وجهًا لوجهٍ مع رجل واحد. كان ذا قامةٍ أقصر بقليلٍ من المتوسط، وكانت كلها مكسوة بمعطفٍ سميك ذي ياقة من الفرو. كان يعتمرُ خوذة فضية تحمل نسرًا في أعلاها، وكانت يده اليسرى مرتكزة على سيفه. كان أسفلَ الخوذة وجهٌ بلون الورق الرمادي، تلمعُ فيه عينان فضوليتان جادَّتان لا تَكُفَّان عن الحركة، تحتهما هالات داكنة. كنتُ متيقنًا كلَّ التيقُّن من هويته. فهذه الملامح كانت أشهر ملامح في العالَم منذ ملامح نابليون.

وقفتُ منتصبًا جامدًا مثل مكبس المدفع وأديتُ التحية. كنت رابط الجأش تمامًا ومتلهفًا للغاية. فلطالما كنتُ مستعدًّا لمجابهة أي أخطار من أجل لحظةٍ كهذه.

سمعت شتوم يقول: «جلالة الإمبراطور، هذا هو الهولندي الذي تحدثتَ عنه.»

سأله الإمبراطور: «ما اللغة التي يتحدث بها؟»

جاء الرد: «الهولندية، ولكن لأنه جنوب أفريقي؛ فهو يتحدث الإنجليزية أيضًا.»

بدا لي أنَّ الوجه الماثل أمامي قد تشنَّج بإيماءةٍ سريعة من الألَم. ثم خاطبني بالإنجليزية.

«لقد أتيتَ من أرضٍ لم تُصبح حليفةً لنا بعدُ لتعرض علينا المحاربة في صفِّنا؟ أقبلُ الهدية وأرحِّب بها مُعتبرًا إيَّاها فأل خير. كنت سأمنح بَني عِرقك حُريتهم، ولكن كان بينكم حمقى وخونة أساءوا الحُكم عليَّ. لكني سأمنحكم تلك الحرية رغمًا عنكم. هل يوجَد الكثير من أمثالك في بلدك؟»

كذبتُ قائلًا بكلِّ ابتهاج: «الآلاف يا مولاي. أنا واحد من كثيرين يؤمِنون بأنَّ نجاة بني عِرقي مرهونة بانتصاركم. وأرى أنَّ هذا النصر يجب ألَّا يتحقَّق في أوروبا وحدَها. لا توجَد فرصة لتحقيقه في جنوب أفريقيا حاليًّا؛ لذا نتطلَّع إلى أجزاء أخرى من القارة. ستنتصِرون في أوروبا. وقد انتصرتم في الشرق بالفعل، والآن يبقى أن تضربوا الإنجليز حيث لا يمكنهم صدُّ الضربة. إذا أخذنا أوغندا، فستسقط مصر. ومن بعد إذنك، سأذهب إلى هناك لأُثير متاعب لأعدائكم.»

سرى طيفُ ابتسامةٍ خفيفة عبر الوجه المُرهَق. كان وجهه ينمُّ عن أنه ينام قليلًا، وأنَّ أفكاره مُستحوذة عليه ككابوس. قال: «هذا جيد. قال رجل إنجليزي يومًا ما إنه سيستدعي «العالَم الجديد» ليعدل ميزان «القديم». أمَّا نحن الألمان، فسنستدعي الأرض كلها لكبح أفعال إنجلترا الشائنة. اخدمنا كما ينبغي، ولن ننسى أن نكافئك بمكافأة سخيَّة.»

ثم سألني فجأة: «هل قاتلتَ في حرب جنوب أفريقيا الأخيرة؟»

قلت: «نعم يا سيدي. كنتُ تحت إمرة ذلك المدعو سماتس الذي اشترته إنجلترا الآن.»

سألني بلهفة: «ما الخسائر التي لحقت بأبناء بلدك؟»

لم أكن أعرف، لكني جازفتُ بالتخمين. «نحو عشرين ألفًا في الميدان. لكننا فقدْنا أكثر من ذلك بكثيرٍ بسبب المرض، وفي معسكرات الاعتقال اللعينة لدى الإنجليز.»

تشنَّج وجهه بإيماءةِ ألَمٍ مرة أخرى.

قال بصوت مبحوح: «عشرون ألفًا. مجرد حَفنة قليلة. فنحن اليوم نفقد مثل هذا العدد في مناوشة واحدة في المُستنقعات البولندية.»

ثم انفعل بشدة.

قال: «لم أسعَ إلى الحرب … بل فُرضَت عليَّ … بذلتُ جهدًا مضنيًا من أجل السلام … دماء الملايين في رقبة إنجلترا وروسيا، وإنجلترا بالأخص. سيتنزل عليها عقاب الربِّ ولو بعد حين. كُلُّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ. لم أُخرِج سيفي من غِمده إلَّا دفاعًا عن نفسي، وأنا بريء من أي ذنب. هل يعرف قومك هذا؟»

قلت: «العالَم كله يعرفه يا مولاي.»

عندئذٍ أعطى لشتوم يدَه واستدار ليرحل. كان آخرُ ما رأيتُه منه جسدًا يتحرك كالسائرين نيامًا، دون أي حيوية في خطوته، وسط حاشيته الطويلة. شعرتُ آنذاك بأنني أنظر إلى موقفٍ أشدَّ تراجيديةً بكثيرٍ من أي مسرحيةٍ تراجيدية رأيتُها تؤدَّى أمامي من قبل. كنتُ أرى رجلًا فتح أبواب الجحيم، فمسَّته أهوالها. لم يكن رجلًا عاديًّا؛ إذ شعرت في حضرته بانبهار، ولم يكن هذا لمجرد أنني رأيتُ تسلطًا من شخصٍ اعتاد أن يأمر وينهى. فما كان هذا ليُبهرني؛ لأنني لم أقبل سيدًا لي من قبل. بل لأنني رأيت أمامي إنسانًا، على عكس شتوم وبقية أشباهه، يستطيع الاندماج مع الآخرين والشعور بهم. كانت هذه هي المفارقة الكامنة في الموقف. فشتوم لم يكن ليهتم إطلاقًا بكلِّ مذابح التاريخ. لكنَّ هذا الرجل، الذي يتزعم أمَّةً كاملة من أمثال شتوم، كان يدفع أثناء الحرب ثمن الهبات التي جعلته ناجحًا أثناء السلام. كان لدَيه خيال وأعصاب، وكان خياله مُلتهبًا جدًّا وأعصابه مرتعشة. لم أكن لأقبل أن أكون مكانه ولو عُرض عليَّ عرشُ الكون كله …

كان القطار يمضي بنا مُسرعًا نحو الجنوب طَوال فترة ما بعد الظهيرة، وكان يسير أغلب الوقت وسط ريفٍ من التلال والوديان المشجَّرة. كان شتوم، مقارنةً بسلوكياته السابقة، دمثًا جدًّا. لا بد أنَّ سيده الإمبراطور كان رءوفًا به، فقرر أن يمنحني جزءًا من هذه الرأفة. لكنه كان حريصًا على التيقُّن من أنني لم أُسئ الفهم.

إذ قال: «جلالته رحيم، كما قلت لك.»

وافقته الرأي.

قال بأسلوبٍ وعظي: «الرحمة امتياز حصري للملوك، أمَّا لنا نحن الأقل شأنًا، فهي مجرد زينةٍ يُمكننا الاستغناء عنها.»

أومأت بالإيجاب.

واصل قائلًا: «أما أنا فلستُ رحيمًا»، وكأنني لم أكن أعرف ذلك. وأضاف: «إذا وقف أي رجلٍ في طريقي، أدهسه بلا تردد. هذا دأْب الألمان. هذا ما جعلَنا عظماء. نحن لا نخوض حربًا بالقفازات الرقيقة والكلام الناعم، بل بفولاذٍ صُلب وأدمغة صُلبة. نحن الألمان سنعالِج داء الضعف والهشاشة المُصاب به العالَم. الأمم تثور علينا. أفٍ لهم! ليسوا سوى لحمٍ طري، واللحم لا يمكنه أن يُقاوِم الحديد. سيشقُّ نَصلُ المحراث اللامع طريقَه عبر أفدنة من الطين.»

سارعتُ إلى إضافةِ أنَّ آرائي مُتفقة معه في ذلك.

فقال: «ما قيمة آرائك بحقِّ الجحيم؟ لستَ سوى قروي غبي ساذج من سهول جنوب أفريقيا …» وأضاف: «لكنكم أيها الهولنديون البليدون تُصبحون بمنزلة معدنٍ نافعٍ حالما نتولَّى نحن الألمان تشكيله!»

كان المساء الشتوي يُخيِّم علينا، ورأيتُ أننا قد خرجنا من التلال وأصبحنا في ريفٍ مستوٍ. كان يظهر بين الحين والآخر امتدادٌ نهريٌّ واسع، وعندما نظرتُ خارجًا عند إحدى المحطات، رأيتُ كنيسة مُضحِكة تحمل شيئًا شبيهًا بثمرة البصل فوق قمة برجِها. كانت تكاد تبدو وكأنها مسجد، حسبما أذكر من صور المساجد. تمنيتُ لو أعطيت الجغرافيا مزيدًا من الاهتمام في أيام صباي.

توقفنا بعد قليل، وخرجنا من القطار يتقدَّمني شتوم. لا بد أنَّ القطار قد توقف خصوصًا من أجله؛ لأننا توقفنا عند بلدة صغيرة تافهة لم أستطع معرفة اسمها. كان ناظر المحطة في الانتظار، وقد انحنى وأدَّى التحية، وكان بالخارج سيارة ذات مصابيح أمامية كبيرة. في اللحظة التالية كنَّا ننساب بسرعة وسط غابات مُظلِمة حيث كان الثلج أشد كثافة بكثيرٍ مما كان في الشمال. كان الهواء مُحمَّلًا بصقيع خفيف، وكانت الإطارات تنزلق وتتزحلق إلى الأمام وجانبًا عند منعطفات الطرق والنواصي.

لم تكن المسافة إلى وِجهتنا طويلة. صعدنا تلًّا صغيرًا وتوقفنا فوقه عند باب قلعة سوداء كبيرة. كانت القلعة تبدو ضخمة جدًّا في ذاك الليل الشتوي، في ظلِّ عدم انبعاث أي ضوء من أي مكان في واجهتها. فتح البابَ رجلٌ عجوز استغرق وقتًا طويلًا في فتحه، ونال الكثير من اللعنات بسبب بطئِه. كان المكان من الداخل عريقًا وعتيقًا جدًّا. أشعل شتوم الضوء الكهربائي، فوجدنا أنفسنا في ردهة كبيرة تحوي صورًا شخصيةً سوداء باهتة لرجالٍ ونساء يرتدون ثيابًا قديمة الطراز، وقرون غزلان ضخمة على الجدران.

لم يكن بالمكان كثيرٌ من الخَدَم على ما يبدو. قال الرجل العجوز إنَّ الطعام جاهز، فذهبنا دون إضاعة مزيدٍ من الوقت إلى غرفة الطعام، وكانت غرفة أخرى فسيحة ذات جدران حجرية خشنة فوق ألواحٍ من الكسوة الخشبية تُغطي الجزء السفلي منها، ووجدتُ بعضًا من اللحم البارد على المنضدة بجوار جذوةٍ كبيرة من النيران. سرعان ما أحضر الخادم بيضًا مخفوقًا مَقليًّا بلحم الخنزير، وتعشَّينا به مع اللحم البارد. أتذكَّر أنَّ الغرفة لم يكن فيها شيء نشربُه سوى الماء. لم أفهم كيف كان شتوم يُحافظ على حيوية جسده الضخم بكمية الطعام المُعتدلة جدًّا التي كان يأكلها. فقد كان من نوعية الرجال الذين يتوقَّع المرء أنهم يتجرَّعون كمياتٍ كبيرة من الجعة بنهمٍ، ويلتهِمون فطيرة كاملة في جلسةٍ واحدة.

عندما انتهَينا، رنَّ شتوم الجرس واستدعى الرجل العجوز وأخبره بأننا سنجلس في غرفة المكتب بقية المساء. قال له: «يمكنك أن توصِد الأبواب والنوافذ وتخلد إلى النوم متى شئت، ولكن احرص على أن تكون القهوة جاهزة في الساعة السابعة صباحًا بالضبط.»

كنتُ أشعر منذ دخولي ذاك المنزل بعدم الارتياح وكأنني في سجن. كنت هناك وحدي، في هذا المكان الضخم، مع رجلٍ يُمكنه أن يكسر رقبتي إذا شاء، بل وكان مُستعدًّا لذلك بالفعل. عندئذٍ بدت لي برلين، وبقية الأماكن التي كنتُ فيها من قبل، ريفًا مفتوحًا مقارنةً بهذا المنزل؛ ففيها كنتُ أشعر بأنني أستطيع التحرك بحرية، والهروب في أسوأ الأحوال. لكني هنا كنتُ محبوسًا، وكان عليَّ أن أُذكِّر نفسي كل دقيقة بأنني موجود هناك بصِفتي صديقًا وزميلًا. الحقيقة أنني كنتُ خائفًا من شتوم، ولا أُمانع الاعتراف بذلك. كان التعامُل معه تجربةً جديدة في حياتي، ولم تُعجبني. لو أنه فقط قد شرب بعض المُسكِرات وأسرف قليلًا في شربها، لأصبحتُ أكثر ارتياحًا.

صعدنا دَرجًا يؤدي إلى غرفة في نهاية ممرٍّ طويل. أوصد شتوم الباب خلفه ووضع المفتاح على الطاولة. أبهرتني تلك الغرفة؛ إذ لم تكن متوقعة تمامًا. فعلى عكس الطابق السُّفلي الذي كان خاليًا من الزينة والزخارف إلى حدٍّ قابض للنفس، كانت تلك الغرفة تعجُّ بكل مظاهر الفخامة والترف والألوان والضوء الساطع. كانت كبيرة جدًّا، لكن سقفَها منخفض، وجدرانها مليئة بتجاويف صغيرة تحوي تماثيل بداخلها. كانت أرضيتُها مغطاةً بسجادة رمادية سميكة من الوبر المخملي، وكراسيها مُنخفضة ليِّنة مُنجَّدة كأثاثِ مَخادع السيدات الراقيات. كانت المدفأة مُتقدة بنيران مُبهجة، والهواء محمَّلًا بأريجٍ يُشبه رائحة بَخور أو خشب صندل مُحترق. رأيتُ على رفِّ المدفأة ساعة فرنسية، وعرفتُ منها أنَّ الساعة آنذاك كانت الثامنة وعشر دقائق. ووجدتُ في كلِّ مكانٍ على الطاولات الصغيرة وفي الخزانات كميةً وفيرة من الحُلي الصغيرة، ورأيتُ حواجز خشبية مؤطَّرة بتطريزٍ جميل. حتى ليظنُّها المرء للوهلة الأولى غرفة استقبال خاصة بسيدة.

لكنها لم تكن كذلك. فسرعان ما أدركتُ الفارق. فذلك المكان لم يشهد أي لمسةٍ أنثوية قط. بل كانت غرفة رجل شَغوف بالبهارج، ولدَيه مَيل منحرف إلى الأشياء الأنثوية الرقيقة. كان ذلك هو الجزء المُكمِّل لوحشيته الفظة. بدأتُ أرى الجانب الشاذ من شخصية مُضيفي؛ ذاك الجانب الذي طالما قالت الشائعات إنه ليس خفيًّا لدى الجيش الألماني. عندئذٍ بدَت الغرفة لي مكانًا مؤذيًا جدًّا، وصرتُ أشد خوفًا من شتوم من أيِّ وقتٍ مضى.

كانت سجادة المدفأة بساطًا فارسيًّا قديمًا رائعًا، وكانت كلها مكسوة بألوانٍ خضراء ووردية باهتة. وبينما كان واقفًا عليها، بدا شكله الضخم الفظ غير متناسِق تمامًا معها. بدا كأنه يتمرغ بين ثنايا دفئها ونعومتها، وتنشَّق بعُمق كحيوانٍ راضٍ قانع. ثم جلس إلى منضدة للكتابة ذات أدراج، وفتح درجًا موصدًا، وأخرج منه بعض الأوراق.

قال: «الآن سنتفق على تفاصيل مهمتك يا صديقي براندت. ستذهب إلى مصر، وهناك ستتلقَّى أوامرك من شخصٍ ستجد اسمَه وعنوانه في هذا الظرف.» ثم رفع قطعةً مُربعة من ورق مقوًّى رمادي اللون تحمل ختمًا كبيرًا في زاويتها، وعليها بعض الكلمات المُرمَّزة المنقوشة بالرَّوسَم، وقال: «هذه البطاقة ستكون تصريح مرورك. ستُظهِرها للرجل الذي تسعى إلى لقائه. حافظ عليها بعناية تامة. ولا تستخدمها إلَّا بأوامر، أو للضرورة القصوى. إنها شارتك التي تُثبت أنك عميل مُعتمَد لدى الإمبراطور الألماني.»

أخذت البطاقة والظرف ووضعتهما في حافظة جيبي.

وسألته: «إلى أين سأذهب بعد مصر؟»

«هذا لم يتضح بعد. ربما ستتجه إلى النيل الأزرق. رضا — الرجل الذي ستقابله — سيرشدك. فمصر عشٌّ لعملائنا الذين يعملون بسلام تام تحت أعين الاستخبارات البريطانية.»

قلت: «أنا مستعد. ولكن كيف سأصل إلى مصر؟»

«ستسافر عبر هولندا ولندن. ها هو مسارك»، وأخرج ورقةً من جيبه. ثم أضاف: «جوازات سفرك جاهزة وستُسلَّم إليك عند الحدود.»

كانت هذه ورطة مفاجئة. فقد كان من المُقرر أن أُنقَل إلى القاهرة بالبحر، ما كان سيستغرِق أسابيع، والرب وحدَه يعلم كيف سأنتقل من مصر إلى القسطنطينية. رأيتُ كل خططي تتساقط وتتمزق إرْبًا إرْبًا أمام عيني، في الوقت الذي كنتُ أحسبها تسير فيه على ما يُرام.

لا بدَّ أنَّ شتوم فسَّر النظرة التي علَت وجهي عندئذٍ بأنها خوف.

إذ قال: «لا داعي للخوف. لقد أبلغنا الشرطة الإنجليزية بأن يبحثوا عن جنوب أفريقي مَشبوه يُدعى براندت، أحد مُتمردي كتيبة ماريتس. ليس من الصعب إيصالُ مثل هذا التلميح إلى الجهة المُناسبة. لكنَّ الوصف لن يكون منطبقًا عليك. فاسمُك سيكون فان دير ليندن، تاجر مُحترم من جزيرة جاوا عائد إلى دياره ليرعى مزارعه بعد زيارة إلى سواحل بلده الأصلي. من الأفضل أن تحفظ ملف بياناتك الجديدة عن ظهر قلب، لكني أضمَن لك أنْ لا أحد سيطرح أي أسئلة عليك. فنحن نتدبَّر مثل هذه الأمور بعناية في ألمانيا.»

ظللتُ مُحدقًا إلى النار، في حين كان رأسي يتخبَّط بين أمواج تفكير عنيف. كنتُ أعرف أنهم لن يتركوني أغيب عن أنظارهم إلى أن يرَوني في هولندا، وحالَما أصل إلى هناك، فلن توجَد أي إمكانيةٍ للعودة. كنت أعرف أنني حين أغادر هذا المنزل، لن أحظى بأي فرصة للإفلات من مراقبتهم. ولكني كنتُ قد قطعت شوطًا طويلًا في طريقي إلى الشرق؛ إذ كان نهر الدانوب لا يبعُد عنِّي أكثر من خمسين ميلًا بأي حال، وكان هذا الطريق مُمتدًّا إلى القسطنطينية. كنتُ في موقف ميئوس منه تمامًا. ولو حاولت الهرب، فسيمنعني شتوم، ومن المُرجَّح أن ألحق ببيتر في معتقلٍ جحيمي ما.

كانت تلك من أصعب اللحظات التي مررتُ بها في حياتي. كنتُ واقعًا في حيرةٍ تامة مُطلَقة، كفأر في مصيدة. بدا لي أنَّ الخيار المتاح الوحيد هو العودة إلى لندن وإخبار السير والتر بأنَّ اللعبة قد انتهت. وقد كان هذا مريرًا مرارةَ الموت.

رأى وجهي وضحك. قال: «هل تخذلك شجاعتك أيها الهولندي الصغير؟ هل تخاف الإنجليز أيها الجبان؟ سأُخبرك بشيءٍ يطمئنك. لا أحد في العالم يستحقُّ أن تخافه إلَّا أنا. إذا فشلت، فسيكون لديك سبب وجيه لترتعِد خوفًا. وإذا خدعتني، فستندم على أنك وُلدتَ أصلًا.»

كان وجهه المُتهكم القبيح مُحدِّقًا إليَّ من فوقي عن قُرب. ثم مدَّ يدَيه وأحكم قبضتَيه على كتفيَّ كما فعل في عصر أول يوم الْتقيتُه فيه.

لا أتذكَّر ما إذا كنتُ قد ذكرتُ من قبل أنَّ إحدى الإصابات التي لحِقت بي في معركة لوس كانت شظية أصابتني عند موضعٍ مُنخفض من قفاي. صحيح أنَّ الجرح قد الْتأم إلى حدٍّ كبير، لكني كنتُ أشعر بآلام في هذا الموضع في الأيام الباردة. ويبدو أنَّ أصابعه قد وصلت إلى هذا الموضع، فشعرتُ بألمٍ فظيع.

ثمة شعرةٌ رقيقة جدًّا تفصل بين اليأس والغضب العنيف. كنتُ على وشك التخلِّي عن المهمة، لكنَّ الألم المفاجئ الذي شعرتُ به في كتفي أعادني إلى هدفي مُجددًا. لا بدَّ أنه رأى الغضب في عينيَّ؛ إذ صارت عيناه تُشعَّان وحشية.

صاح قائلًا: «الجرذ يريد أن يعض. لكنه وجد سيدَه. قف ثابتًا بلا حراك أيها الجرذ التافِه. ابتسِم، وفرِّج أسارير وجهك، وإلَّا سحقتك. هل تجرؤ على العبوس في وجهي؟»

أطبقتُ أسناني ولم أتفوَّه بكلمةٍ واحدة. كنت أشعر باختناق في حلقومي، وما كنتُ لأستطيع أن أنطق حرفًا واحدًا لو حاولت.

ثم أفلتني وهو يبتسِم ابتسامةً عريضة كقرد.

تراجعتُ خطوة إلى الوراء، ولكمتُه بيسراي بين عينَيه.

ظلَّ لحظةً حتى استوعب ما حدث؛ لأنني لا أظنُّ أنَّ أحدًا قد تجرأ ورفع يدَه عليه منذ أن كان طفلًا. نظر إليَّ وهو يرمش بوداعة. ثم صار وجهه أحمر كنيران مُستعرة.

قال بهدوء: «بحقِّ الربِّ في سماه. لأقتلنَّك»، ورمى نفسه فوقي كالجبل.

كنتُ أتوقَّع هذا التصرُّف منه، وتفاديتُ الهجوم. كنتُ هادئًا تمامًا في تلك اللحظة، لكني كنتُ عاجزًا جدًّا. فالرجل كان له ذراع بطولِ ذراع الغوريلا، وكان أثقل وزنًا منِّي بنحو ٢٨ رطلًا. ولم يكن جسده ليِّنًا أيضًا، بل بدا صُلبًا كالجرانيت. وفوق ذلك، كنتُ خارجًا للتوِّ من المستشفى، وكنت أفتقر إلى التدريب اللازم، ما جعل موقفي سخيفًا. كان سيقتلني بالتأكيد إن استطاع، ولم أرَ شيئًا يمنعه من ذلك.

كانت فرصتي الوحيدة أن أمنعه من إحكام قبضتَيه عليَّ؛ لأنه كان يستطيع أن يعتصر ضلوعي بينهما في ثانيتَين. ارتأيتُ أنني أخفُّ حركةً منه، وكان بصري ثاقبًا. كنتُ قد تعلمتُ قليلًا من فنون القتال من بلاك مونتي في كيمبرلي، ولكن لا يوجد فنٌّ قتالي في الدنيا يُمكن أن يمنع رجلًا ضخمًا من إحكام سيطرته عاجلًا أو آجلًا على رجلٍ أقلَّ حجمًا منه في حيِّزٍ ضيق. وكان هذا هو مكمن الخطر.

ظللنا نتعارك ونتحرك بخطواتٍ مكتومة إلى الخلف والأمام على السجادة الناعمة. لم يكن يعرف كيف يحمي جسده، فسددتُ إليه الكثير من اللكمات الناجحة.

ثم رأيتُ شيئًا غريبًا. فكلما ضربتُه، أغمضَ عينَيه وبدا كأنه يتوقف لحظيًّا. خمَّنتُ سبب ذلك. لقد عاش حياته كلها صاحب اليد العليا، ولم يلقَ مقاومةً من أحد. لم يكن جبانًا إطلاقًا، بل دائمًا ما كان مُستأسدًا معتديًا، ولم يتعرَّض لأي ضربة في حياته. أمَّا في تلك اللحظة، فكان يُضرَب بجديةٍ حقيقية، ولم يُعجبه ذلك. لذا فقدَ تركيزه، وجُنَّ جنونُه تمامًا.

ظللتُ مُنتبهًا إلى الساعة بنصفِ عينٍ. واعتراني الأمل آنذاك، وكنت أتحيَّن الفرصة المناسبة. كان الخطر يكمن في أن أتعب قبله وأُصبح تحت رحمته.

ثم تعلَّمتُ حقيقةً لم أنسها قط. إذا كنتَ تقاتل رجلًا ينوي قتلك، فمن المُرجَّح أن يتغلب عليك ما لم تكن أنت أيضًا عازمًا على قتلِه. لم يكن شتوم يعرف أي قواعد لهذه اللعبة، ونسيتُ أن آخُذ ذلك في حسباني. ففجأة، وبينما كنتُ أراقب عينَيه، سدد لي ركلة قوية في بطني. ولو كانت تلك الركلة قد أصابت هدفها، لانتهت هذه القصة نهايةً مفاجئة. لكني بفضلِ رحمة الرب كنتُ أتحرك جانبًا عندما سددها، ولم يُصِبني منها شيء سوى أنَّ حذاءه الثقيل قد خدش فخذي اليُسرى فقط.

خدشها في الموضع الذي كانت مُعظم الشظايا قد استقرت فيه، وشعرتُ بإعياءٍ لحظيٍّ من شدة الألم وتعثرت. ثم وقفت على قدميَّ مجددًا، ولكن بشعورٍ جديد يسري في دمائي. كان عليَّ أن أسحق شتوم تمامًا، وإلَّا فلن أنعم بالأمان مرةً أخرى أبدًا.

استمددتُ قوةً هائلة من هذا الغضب البارد الجديد الذي انتابني. شعرت بأنني يستحيل أن أتعب، وظللتُ أتراقص حوله بخطواتٍ رشيقة، وأنهالُ على وجهه باللكمات حتى صار الدم يتدفَّق منه. لم يكن من المُجدي لي أن أستهدف صدره الضخم المُغطَّى ببطانة كثيفة من الثياب؛ لذا لم أحاول تسديد لكمات إلى صدره.

بدأ ينخر وتثاقلَت أنفاسه. قلتُ له بلهجة إنجليزية صريحة فصيحة: «أيها النذل اللعين، سأوسعك ضربًا حتى تخور قواك تمامًا»، لكنه لم يفهم ما كنتُ أقوله.

ثم منحني فرصتي أخيرًا. فقد تعثَّر في طاولة صغيرة ففقدَ بعضًا من توازُنه، وبَرَز وجهه إلى الأمام. فلكمتُه في طرف ذقنه بكلِّ قوتي. عندئذٍ انهار وتكوَّم على نفسه وتدحرج، فأسقط مشكاةً واصطدم بجرَّةٍ خزفية كبيرة فانشطرت إلى نصفَين. كان رأسه مطروحًا تحت المكتب ذي الأدراج الذي أخرج منه تصريح مروري، وما زلتُ أتذكر ذلك.

الْتقطتُ المفتاح وفتحت الباب. ثم هذَّبتُ شعري ورتبتُ هندامي أمام إحدى المرايا المُذهَبة. كان غضبي قد تلاشى تمامًا، ولم يعد لديَّ أيُّ ضغينة تجاه شتوم. كان رجلًا ذا صفات لافتة، وكانت هذه الصفات كفيلة بأن توصِله إلى أعلى مكانة في العصر الحجري. أمَّا في العصر الحالي، فقد عفا الزمان عليه وعلى أمثاله.

خرجتُ من الغرفة، وأوصدتُ الباب خلفي، وبدأت الشوط الثاني من رحلاتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤