كلمة في الليل

أخيرًا انزاح، وأصبحت إحالته على المعاش حقيقةً واقعة. وانتشر الخبر في المراقبة مُشيعًا الارتياح العميق في كل إدارة. وكان ثمة تهامس كالأنين بأن في النية مد خدمته عامين جديدين. وبسبب ذلك نجح سكرتيره الخاص في جمع التبرعات لإقامة حفل تكريم له، ثم جاء الخبر اليقين كالشفاء بعد المرض. وتبادل الموظفون التهاني بلا حرج، وفرح حتى أتعسهم كادرًا، وحق لمحمد الفل رئيس المحفوظات أن ينقر على مكتبه الكالح جذلًا ويقول: ألم يكفنا أننا تحملناه أربعين عامًا؟! اللهم إن لنا الجنة بغير حساب!

وروح يسري طاهر كاتب القيودات العجوز بدفتر القيد على وجهه، وقال: في ألف داهية يا حسين يا ضاوي!

ولم يكن في سيرة الرجل المُحال على المعاش شيء يخفى، ولكنهم أقبلوا عليها كأنما تؤرخ لأول مرة. وأبرز يسري طاهر القابع تحت رفوف المحفوظات المكدسة رأسه — من بين صفين عاليين من الملفات فوق مكتبه — كرأس السلحفاة وقال: دخلنا الخدمة في يوم واحد، قرار تعيين واحد شمل يسري طاهر وحسين الضاوي وعلي الكفراوي وعبد السلام زهدي ورغيب إسكندر (وكان يشير بأصبعه إلى الثلاثة الآخرين) ثم أعطاه ربنا، أو أعطاه الشيطان وهو الأصدق، حتى تقلد منصب المراقب العام في سرعة مُذهلة، ماذا فعل لنا؟ كان يمر بنا وكأنه لم يعرفنا، لم يمد لأحد يدًا، داسنا كأننا حشرات حتى اكتظَّت ملفات خدمتنا بالعقوبات، ومضى يترقى حتى بلغ القمة ونحن ما زلنا في القاع، عليه اللعنة!

فطوى رغيب إسكندر وكيل الصادر الجريدة التي كان يتفحصها، وتزحزح إلى الوراء قليلًا؛ ليتفادى من شعاع الشمس المنعكس على ضلفة النافذة الزجاجية، وضحك ضحكةً مقتضبة كالنذير، ثم قال بنبرة ممطوطة تناسب الجَرْي وراء الذكريات البعيدة: الله يسامحك يا حسين يا ضاوي، كنا جميعًا من ساقطي الابتدائية، وعملنا معًا عُمالًا في المطبعة، وكان سعادته يجيء أحيانًا بالجلباب والقبقاب ألا تذكرون؟ ليس الفقر عيبًا طبعًا، ولكن العيب في الطرق الملتوية الشاذة المُهينة التي يرتفع بها بعض الناس بغير الحق، ويومًا انتقل عامل المطبعة كاتبًا بسكرتارية المدير! كيف ولمَ؟ وبعد سنة عُين سكرتيرًا للمدير، ثم مديرًا لمكتبه، ثم زوجًا لابنته، ثم انطلق كالصاروخ الذي نسمع عنه في هذه الأيام! يا خبر أبيض يا حسين يا ضاوي! ولا الأحلام!

فقال محمد الفل رئيس المحفوظات مكايدًا: كانت الفرصة أمامكم فلمَ خِبتم؟!

وتجاوبت ضحكاتهم الملتوية المائعة كأنما تحكي فضيحةً، وقال يسري طاهر: لا يتيسر الوثوب الخاطف إلا لمن حاز مؤهلات خاصة!

وتساءل محمد جاد، وهو كاتب حديث الخدمة: ألم يكن المراقب من حملة الليسانس؟

فقال رغيب إسكندر بتسليم: حصل على الابتدائية والكفاءة والبكالوريا، وليسانس الحقوق من منازلهم!

فارتسمت الدهشة في وجه الشاب، حتى قال علي الكفراوي مدير الدفترخانة: لا تدهش، كان قوة نشاط عجيبة، لكنه لم يرتفع بفضل شهاداته، بل إنه لم يحصل عليها إلا حين وجد نفسه في مركز لا يليق أن يستمر فيه دون شهادة عالية، كان قذرًا بكل معنى الكلمة، ولكنه في القدرة على العمل فاق إبليس نفسه!

فعاد محمد الفل يقول، وهو يكور راحته على السبحة: العمل؟! ذكرتني يا سي علي، كانت حياته عملًا خالصًا، عمل .. عمل .. عمل، أيمكن أن يعد ذلك فضيلة؟! ما قيمة العمل إذا لم يُختم يوم الإنسان بساعة صفاء ومحبة تجعل للحياة طعمًا؟ هه؟ أما مديرنا العام — السابق والحمد لله — فلم يتمتع بحياة على الإطلاق، دوسيهات .. ملفات .. مذكرات .. تلك كانت حياته، حتى يوم الجمعة كان يواصل العمل في بيته، وكان يعمل كل يوم حتى ساعة متأخرة من الليل، وحتى في الأعياد والمواسم الرسمية، ولم يقم في إجازة اعتيادية في حياته كلها مرة واحدة، عمل .. عمل .. عمل، وكان هدفه من العمل خدمة وكيل الوزارة أو الوزير؛ ليتقاضى في النهاية علاوة أو درجة، حياة كاملة مضتْ على وتيرة واحدة بين مسكنه في الحدائق وميدان لاظوغلي .. أعوذ بالله!

فقال عبد السلام زهدي وكيل الوارد ووجهه يتقلص اشمئزازًا: حتى الطعام كان يتناوله شطائر في مكتبه بسرعة ولَهْوجة، وانقطعت أسبابه بأسرته أو كادت، حتى بناته المتزوجات لا يراهن إلا خطفًا، وامرأته قضت حياتها في شبه فراغ مُخيف، إنه مجرم ولكنه قضى على نفسه بالعقوبة التي يستحقها، ذلك الرجل البغيض الذي لم يعرف من الدنيا إلا الملفات والمذكرات والتعاليم المالية.

وهز رغيب إسكندر رأسه في أسًى وقال: لكنه لم يكن عدوَّ نفسه فقط، كان أيضًا عدو الآخرين.

وسرعان ما سال الامتعاض من زوايا الأعين، وقال محمد الفل بنبرة مغيظة محنقة: لم أرَ موظفًا كذلك، الرجل استغل جهود جميع مرءوسيه ليفيد هو منها وحده، ويمنع الخير عن الآخرين، كما لو كان سيؤخذ من لحمه ودمه!

فأردف عبد السلام زهدي قائلًا: وحتى هذا شر سلبي، أما مقالبه وغدره ونميمته ووقيعته؛ كل أولئك فشر إجرامي، كم أحرق قلوبًا هذا الرجل!

– قل كم خرب بيوتًا!

– الله يرحمه فريد قناوي مات، وهو يدعو عليه على فراش موته!

– وحسني غنيم مدير الحسابات السابق شُل بسببه!

فقال يسرى طاهر كاتب القيودات: لا حصر لضحاياه، لكنه لم يفكر إلا في شيء واحد هو مصلحته، وترك الوزارة بلا صديق، أؤكد لكم أنه لا صديق له في الدنيا.

وحوالي الساعة السادسة من مساء الخميس، وقف تاكسي أمام نادي «فينكس»، فنزل منه حسين الضاوي. جاء ليشهد الحفل الذي يُقام لتكريمه فوق حديقة السطح لمناسبة إحالته على المعاش.

كان قضى في المعاش يومًا واحدًا، يوم الأربعاء، يوم لن يُنسى في الأيام. أقل ما يُقال فيه إنه جعله يتساءل فيما يشبه الرعب: هل حقًّا يستطيع أن يتحمل يومًا آخر كذلك اليوم؟! وحيرته في مسكنه صباحًا تحت أعين امرأته المشفقة هم آخر لا يُنسى. والراديو تسلية لم تُخلق له، لا يكاد يعرفه، ولم يجدِ الفرصة ليتعرف به. والكون كله بدا أنه كُفَّ عن الحركة. وارتدى بدلته التي لم يعُد لها معنًى كأنها بدلة عسكرية لضابط مُتقاعد، وغادر البيت غارقًا في الكرب، ومشى حتى أدركه الإعياء سريعًا، فاستقل عربة إلى وسط المدينة. أزعجه الازدحام كأنما سد مسالك تنفسه. وتريث قليلًا أمام معارض المحال التجارية، ولكن عينيه لم ترغبا في رؤية شيء ولم يكترثا لشيء، وخشي أن تقع عليه في تخبطه عين أحد من معارفه، أي من الأعداء، فلاذ بأول مقهًى صادفه، ومضى إلى آخر ركن فيه. لم يكن ارتاد مقهًى منذ أربعين عامًا، مذ كان يجالس يسري طاهر وعلي الكفراوي ورغيب إسكندر وعبد السلام زهدي في مقهى المالية في الزمان الأول. وقال لنفسه إنه يأوي أخيرًا إلى ملجأ الكسالى والعجَزة، فعصرته حسرة.

وتصفح جريدة، ولكن ماذا يقرأ؟ لم يهمه في الجريدة فيما مضى إلا أخبار الوفيات والدواوين. وسرعان ما تململ في مجلسه فكرهه وكرِهَ مَن فيه، وطوَّقته الوحدة كالقبر، وشعر في انفصاله عن الوزير والوكيل والمذكرات بضياعٍ أبدِيٍّ. غادرة القهوة ليسير بلا هدف على ما في ذلك من جهد لم يعتده، ووجد نفسه يمر بسينما فدخل. والسينما كذلك مكان لم يطرقه طوال الأربعين عامًا إلا مرات معدودات في مناسبات الاحتفالات التقليدية بخطبة بناته، ولم يلبث فيها إلا نصف ساعة، ثم غادرها وهو يزفر مللًا ويأسًا، وعاد إلى البيت ذليلًا. وجد ابنتيه المقيمتين في القاهرة في زيارته، فجالسهما طويلًا لأول مرة منذ عهد لا يذكره، واستقر بنفسه أول إحساس بالارتياح في يومه الجهنَّمي. ثم وجد نفسه منفردًا بزوجته في جلسة مرهقة، والراديو يواصل ضجيجه لا يهمه منه شيء ولا يهزه شيء. وساءل نفسه: ألا يعد امرأته في معسكر أعدائه المزدحم؟ هي لم ترضَ يومًا عن أسلوب حياته، واحتجت المرة بعد المرة على إهمالها وفراغها وجفاف حياتها، ولولا أن وجدت ملاذًا في بيتَي ابنتيها لحطمت حياتها بيديها. ترى هل ارتاحت إلى هذه النهاية الخانقة؟! .. هل تحلم بشيء من الأنس تجده في وحشته المنكسرة؟! وحين استلقى في فراشه تساءل في رعب: كيف يتحمل يومًا آخر كهذا اليوم؟!

أما حفل التكريم هذا؛ فهو آخر ما يربطه بالماضي، بالناس. وهو حدث له أهميته، على الأقل لتعلم الوزارة خطورة الرجل الذي تقاعست عن مد مدة خدمته، وليعلم أعداؤه من كبار الموظفين وصغارهم أي رجل هو! سوف يقف أمامهم مهيبًا جبارًا مستهينًا باسمًا، ولن يدري أحد بالذل الذي كابده أمس. إنهم يمقتونه مقتًا ولكن خطباءهم سيستبقون إلى الإقرار بمزاياه التي لا يمكن إنكارها، وسيرد على تحياتهم بتحية بارعة يؤكد بها تلك المزايا بطريقته الخاصة، وسيجد فرصًا للتهكم من كبار أعدائه بلياقة شيطانية. إنها آخر حلبة ملاكمة يخوضها، ملاكمة بقفازات حريرية لكنها مبطنة بالحديد، وليخرجنَّ منها ظافرًا. استقل المصعد إلى سطح النادي، ومضى نحو مدخل الحديقة في مشيته التقليدية التي كانت تُفسح له الطريق في أروقة الوزارة كأنه قاطرة. وامتد بصره إلى الداخل فرأى الموائد على هيئة صدر وجناحين، ولكن المقاعد كانت خالية، أو شبه خالية! وعلى وجه الدقة لم يرَ إلا السادة: صلاح الدين كامل مدير المستخدمين، وإبراهيم شافعي مدير الحسابات، وأمين هنداوي مدير المخازن، وزيادة عبيد المراقب العام الذي حل محله، أربعة من أعدى أعدائه، وبخاصة الرجل الأخير. ثقلت قدماه وطاف به ما يشبه الدوار. حلوى وورود ولكن أين الآدميون؟! كادت تخذله إرادته لولا الاستماتة في مدافعة الشماتة بأي ثمن. الأوغاد الجبناء قاطعوا الحفل. تُرى أهي مكيدة مدبرة؟ ومن المدبِّر؟ لكنه ابتسم. أجل ابتسم حسين الضاوي كما كان يبتسم في فترات الهزائم الوقتية التي تعقب استقالة وزير صديق، وتقدم نحو أعدائه يُصافحهم واحدًا واحدًا، ثم ألقى نظرة على المقاعد الخالية، وقال وهو ما يزال يبتسم: فيكم الكفاية، تفضلوا بالجلوس.

جلسوا. وجاء الخدم ليؤدوا الخدمات المألوفة، وانتظر الرجل حتى ابتعد الخدم، ثم أطلق ضحكة ميتة، وقال مداريًا حرجه: يبدو أن الختام ليس مسكًا ولا كالمسك!

فقال مدير المخازن في دهشة بلهاء: لعله وقع خطأ ليس في الحسبان.

فقال مدير الحسابات: ننتظر على أي حال.

ولكن حسين الضاوي قال باستهانة: الانتظار لن يجدي.

فقال صلاح الدين كامل، وكان أقربهم جميعًا إلى روح المهادنة، قال وهو ينظر إلى المقاعد الخالية: لم أرَ في حياتي قلة ذوق كهذه!

فحسا الضاوي حسوة شاي باللبن، ثم قال والغضب يشتعل تحت قبضة إرادته: لا أدري شيئًا عما وقع، ولا يهمني كثيرًا أمره، وسأصارحكم برأيي كما عودتكم. هنالك طراز واحد من الرجال أحترمه؛ طراز الرجل القوي، وهو غير المحبوب بطبيعة الحال، ولو كنت ممن يلتمسون الحب ما أعجزني!

وعكست عينا زيادة عبيد المستديرتان الصغيرتان الحادتان نظرةً ساخرة، سرعان ما فجرت الغضب الكامن في عروق الضاوي، فقال وهو يحدج خصمه في حنَق: أنا لا يهمني شيء، لم يوجد رأس لم ينحنِ لي طويلًا.

فتظاهر زيادة بالدهشة لغضب الرجل، وقال ببرود كالموت: طول عمرك مناضل ملاكم، ولكنني لا أذكر أني رأيتك غاضبًا مرة واحدة!

فقال الضاوي بصوت ملتهب: لم يحدث أني وجدت أمامي من يستحق أن يُثير غضبي!

فتساءل صلاح الدين كامل برجاء: ألا يمكن أن تمر الجلسة بسلام؟!

فأشار الضاوي إلى المقاعد الخالية، وهتف بصوت متهدج: مؤامرة دنيئة!

فرمقه زيادة عبيد بهدوء ساخر، وقال ببروده المعتاد: أنت مخطئ، لم نعمل على منع أحد من الموظفين من الحضور، وما جئنا إلا لظننا بأنهم موجودون في الحفل؛ حتى نحافظ أمامهم على كرامتنا كموظفين كبار!

ثم بهدوء مركَّز كالسم: وإلا ما كان هناك باعث واحد يدعونا إلى المجيء!

امتُقع لون الضاوي وتحركت شفتاه حركةً عصبيةً كحركة ذيل البرص المقطوع، وركز في خصمه عينيه، وعشرات الاحتمالات الجنونية تتلاطم في رأسه، لكنه كظَم الطوفان في اللحظة المناسبة، وقال بحقد وتحدٍّ: أنا غير نادم على أنني عاملت كل شخص بما يستحقه!

فتساءل زيادة بسخرية: ماذا جنَيْت من حياتك؟! الدرجة ها أنت تتركها في مكانها، الدرجة التي نبذتَ كل شيء في سبيلها، وعقابك الحقيقي أنك ستجد أن الحياة قد نبذتك أيضًا.

وعاد صلاح الدين كامل يقول برجاء: سيسمعنا الخدم!

فوقف الضاوي وهو يقول دون مبالاة: لا يهمني، المراقب العام لا يهمني بتاتًا، كذلك الخدم، كل شيء يبدو حقيرًا لا يستحق الأسف! .. السلام عليكم.

ومضى دون أن يُصافح أحدًا. وما لبث أن سافر إلى المنصورة ليمضي أيامًا عند كبرى بناته .. قضى أسبوعًا في صحة أقرب إلى الاعتلال، ولكنه رجع إلى الحدائق على حال لا بأس بها. وخُيل إليه أنه نسي حفل التكريم وآلام الهزيمة ولكن الحزن لم يُفارقه، ولا الخوف من المستقبل، من الملل والفراغ. وكان أعجب ما وقع له أنه اكتشف عند صلاة الصبح أنه لم يكن يفقه معنًى للفاتحة. حقًّا لم ينقطع يومًا عن الصلاة، ولكنه كان يؤديها كما يحلق ذقنه، وكما يعقد رباط رقبته بفكرٍ مشغول بأمر أو بآخر، بمذكرة يعدها، ببند من التعاليم المالية، بمعركة يتوثَّب لها، بأي شيء إلا الصلاة.

ولأول مرة وجد نفسه أمام هذه العبارة «باسم الله» بلا شاغل يشغل قلبه عنها، فاكتشفها لأول مرة في حياته. وشعر بدُوار وغرابة، وتساءل كيف مر ذلك العمر الطويل؟! ومن شدة انفعاله غادر مسكنه إلى الطريق، وسار فيه إلى الداخل لا إلى الشارع العمومي كما ألِف أن يفعل كل يوم في عشرات الأعوام الماضية. لم يتفق له أن يسير في هذا الاتجاه أبدًا منذ زمن بعيد جدًّا، وبخاصة فيما وراء المنعطف، ولا كان ثمة ما يدعوه إلى ذلك، فظل يحتفظ له بصورته القديمة إذ كان طريقًا مقفرًا تحدق به الحقول من الجانبين. باسم الله، بها تبدأ كل سورة، والحق يجب أن يبدأ بها كل شيء، ولعل هذا هو المراد حقًّا. وكلما أوغل في الطريق بدت له كائنات جديدة لم تكن لتخطر له على بال. امتدَّت على الجانبين الفيلات بحدائق مخضرَّة منسقة، وتراءت وراءها الحقول. وقامت على الطوارين الأشجار بجمالها الرزين، كأنها في صمتها تتناجى بلغة تنتظر من يكشف عن سرِّها كما كشف هو عن سر آخر. وبدا الطريق ممتدًّا إلى غير نهاية، فعجب غاية العجب، وتساءل متي خُلق هذا العمران كله؟! وخُيل إليه أنه سيخجل كثيرًا عند البوح بكشفه لأحد من الناس. ولكن أي أحد من الناس يعرفه ليبوح له بكشفه؟ إن العمران لم يدخل بعدُ قلبه؛ قلبه المقفر من كل شيء. «وعقابك الحقيقي أنك ستجد أن الحياة قد نبذتك أيضًا»، كما وجدها يوم الأربعاء أول أيام المعاش، ماذا جنى من حياته الماضية؟ ماذا جنى غير الفراغ والدوار؟ قدمت من الجهد فوق ما يطيق البشر، ولكنه جهد مضى باسم الطموح الجنوني، باسم الجشع، باسم الأنانية، باسم الكراهية، باسم الحقد، باسم العراك، ولا عمل واحد باسم الله. وتأوَّه في موقف اختاره تحت ظل شجرة غير مبالٍ بأنظار المارة. ترى هل فات الأوان وضاعت الفرصة؟ وامتد بصره مع الطريق، فتراءت أشجاره المتباعدة كأنها سياج شبه متصل من الخضرة اليانعة، تتخللها رءوس المصابيح الكهربائية البيضاء. كل هذا العمران والجمال قائم في الطريق الذي يعيش فيه من قديم، وهو لا يدري به! ماذا يعرف من هذه الدنيا العجيبة؟! وماذا يفعل ماضيه المُثقل؟ وتنهد في حزن كأنه بنيان يتقوض. ورجع إلى مسكنه وهو يلهث من الانفعال فوجد امرأته جالسة تتشمس فجلس إلى جانبها، وهو يقول: لم أكن أتصور أن شارعنا على هذا القدر من الجمال!

فتساءلت: ماذا حدث له؟

– شارع جديد، ممهد ونظيف، والفيلَّا والأشجار!

فقالت بدهشة: هو كذلك طول عمره.

– لكنني لم أرَه إلا اليوم!

فرمقته بنظرة فاترة، لكنها ناطقة بأمر انتقاد وتأنيب فتقبلها خاضعًا، وتساءل في لهفة: تُرى هل في العمر بقية لإصلاح الماضي الفاسد؟ للاعتذار عن كل هفوة، والتكفير عن كل جريمة، وتحويل الأعداء والضحايا إلى أصدقاء؟! وفكر مليًّا، ثم قال بحماسٍ طفليٍّ: ألا يمكن أن يبدأ الإنسان حياة جديدة، ولو في مثل عمري؟

– أي حياة؟!

– جديدة بكل معنى الكلمة، أرجو أن تجيبي بأن هذا ممكن.

فساورها حب استطلاع مشوب بقلق، وقالت: لا أفهم، ماذا تعني؟

– سوف تفهمين.

جديدة بكل معنى الكلمة. وإلا فكيف يحتمل العمر الباقي؟ .. هل ينسى يوم الأربعاء؟ وأغمض عينيه كمن يتذكر أشياء مستعصية. وكانت تتابعه بعينين قلقتين، فما لبثت أن ساءلت نفسها: ترى لمَ يبتسم هكذا؟

وكان حقًّا يبتسم، ابتسامة جديدة، لا نفاقًا ولا تشفيًا ولا استفزازًا ولا سخريةً ولا مكرًا ولا تحريضًا ولا ولا.

ابتسامة صافية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤