الجامع في الدَّرب

حان موعد درس العصر، ولكن لم يوجد بالجامع إلا مستمع واحد. ولم يكن هذا بالأمر الجديد على الشيخ عبد ربه الإمام، فمنذ التحاقه بخدمة الجامع، وهو لا يجد مستمعًا لدرسه إلا عم حسنين بياع عصير القصب؛ ولذلك دأب المؤذن والخادم على الانضمام إلى الرجل؛ احترامًا للدرس ومجاملةً للإمام. وحقَّ للشيخ عبد ربه أن يستاء لذلك، لكنه كان اعتاده مع الزمن، ولعله كان يتوقع ما هو أفظع يوم تقرر نقله إلى هذا الجامع الرابض على باب حي الفساد. يومذاك غضِب، وسعى إلى إلغاء النقل أو تعديله، لكنه اضطر إلى تنفيذه على رغمه، ولاقى بسبب ذلك ما لاقى من تهكُّم الخصوم ومزاح الأصدقاء. أين يمكن أن يجد مُستمعًا لدرسه؟! الجامع يقوم عند مُلتقى دربَيْن، درب الفساد الشهير، ودرب آخر بمثابة مباءة للقوادين والبرمجية وموزعي المخدرات. ويبدو أنه لا يوجد رجل صالح أو حتى رجل عادي في الحي كله إلا عم حسنين بيَّاع العصير. ولبث دهرًا يفزع كلما امتد بصره إلى داخل هذا الدرب أو ذاك، وكأنما كان يخشى إذا تنفس أن تتسرب إلى صدره جراثيمُ الدعارة والجريمة. على ذلك كله واظب على إلقاء درسه مواظبة عم حسنين على الحضور، حتى قال للرجل يومًا بلهجة التشجيع: بهذا الاجتهاد ستصير عما قريب إمامًا يُرجع إليه!

فابتسم العجوز في حياء وقال: عِلْم الله لا حدود له!

وكان درس اليوم عن نقاء السريرة بصفته عمادَ الإخلاص وأُسَّ المعاملة الشريفة بين المرء ونفسه وبينه وبين الناس إلى أنه خير ما يَستقبل به الإنسان يومه. وأصغى عم حسنين بانتباه كعادته، وكان قليل السؤال إلا أن يكون ذلك عن معنى آية أو استيضاح لشأن من شئون الفرائض. وفي ذلك الوقت من اليوم (العصر) يستهل الدرب حياته. كان الدرب يُرى بكامله من نافذة الجامع القبلية، ضيِّقًا مُتعرجًا في بعض أجزائه طويلًا، تقوم على جانبيه أبواب البيوت البالية والمقاهي، لمنظره وقع غريب مثير للغرائز. في العصر تدب في الدرب حركة استعداد كأنه يتمطى مستيقظًا من سبات، الأرض تُرَش بالجرادل، الأبواب تُفتح وتطرق طرقات غريبة. المقاعد تنتظم في القهوات. نسوة في النوافذ يتزينَّ ويتبادلن الأحاديث. ضحكات متهتكة تلعلع في الجو، البخور يحترق في الدهاليز. ولم يخلُ الأمر من امرأة تبكي فتحثها المعلمة على التعزي؛ كيلا يضيع الرزق كما ضاع الفقيد. وأخرى تضحك ضحكة هستيرية؛ لأنها لم تنسَ بعد مصرع زميلتها وهي قاعدة إلى جانبها. وقال صوت غليظ مستنكرًا: حتى الخواجات! حتى الخواجات يا هُوه! خواجا يضحك على فردوس! يبتزُّ منها مائة جنيه ويهجرها؟!

وثمة أصوات تتمرن على أداء أغنيات مبتذلة فاحشة. وفي نهاية الدرب بدأت معركة بالكلام وانتهت بالكراسي. ثم خرجت لبلبة؛ لتجلس أمام باب أول بيت، وأُشعل أول فانوس، وشعر كلٌّ بأن الدرب عما قليل سيستقبل الحياة.

وذات يوم دُعي الشيخ عبد ربه بإشارة تليفونية إلى مقابلة المراقب العام للشئون الدينية. وقيل له إنها دعوى عامة للأئمة. ولم يكن ذلك بالأمر غير المألوف وخاصة للظروف التي سبقت الدعوة. ومع ذلك تساءل الرجل عما وراء الدعوة بشيءٍ من القلق. كيف لا والمراقب شخصية خطيرة، تستمد خطورتها من قرابة لموظف كبير ملعون الاسم على كل لسان؟ موظف يجيء بالوزراء ويذهب بهم، ويعبث بكافة المُقدسات الشعبية. سيكونون بين يديه خير ممثلين للضياع، وستذروهم رياح الغضب لأقل هفوة. وبَسْمَل الشيخ، وتأهب للاجتماع بخير ما لديه، فارتدى جبة سوداء وقفطانًا شبهَ جديد، وقلوظ العمامة، ثم ذهب متوكلًا على الله. وجد الطرقة أمام مكتب المراقب شديدة الزحام، كأنها على حد تعبيره يوم الحشر. وجعل الأئمة يتبادلون الخواطر، ويتساءلون عما وراء الاجتماع من أمور. ففُتح الباب الكبير، وأُذن لهم بالدخول فدخلوا تباعًا إلى الحجرة الواسعة حتى اكتظَّت بهم. واستقبلهم المراقب بوجهٍ وقور يشع رهبة. استمع كالكاره إلى مقطوعات المديح التي انهالت عليه وهو يُداري ابتسامة غامضة. ثم ساد الصمت واشتدَّ التطلع على حين أخذ هو يقلب عينيه في الوجوه، وحيَّاهم تحيةً مقتضبةً. وأعلن ثقته في أنهم سيكونون عند حسن الظن بهم. وأشار إلى الصورة المُعلقة فوق رأسه وقال: واجبنا نحوه ونحو أسرته العلية هو ما دعا إلى هذا الاجتماع.

انقبضت صدور كثيرة دون أن يُزايل البشر وجوهَ أصحابها. وقال المراقب: إن العلاقة الوطيدة التي تربطكم به فوق الكلام، إنها مودة تاريخية متبادلة.

أشرقت الوجوه بالتأييد؛ لتداري توعك القلوب، وواصل الرجل الحديث قائلًا: وحيال الأزمة التي تجتاح البلاد يُطالبكم الإخلاص بالعمل.

اشتد اضطراب القلوب في مسرحها الخفي: بصروا الشعب بالحقائق! اهتكوا أستار الدجالين ومُثيري الشغب، كي يستقرَّ الأمر لصاحب الأمر.

وصال المراقب وجال مستنفدًا هذه المعاني، ثم تساءل وهو يتفحص الوجوه إن كان ثمة ملاحظات يُراد أن تُقال! غشي المكان الصمت حتى انبرى إمام جريء، فأكد أن المراقب أفصحَ عن مكنون القلوب، وأنه لولا الخوف من خرق التعليمات لسارعوا من أنفسهم إلى ما دعاهم إليه من واجب! وانجابَ القلق عن الشيخ عبد ربه مُذ بدأ المُراقب حديثه. أدرك لتوِّه أنهم لم يُدعوا لأي نوع من المُحاسبة أو التحقيق، بل أن السلطة تسعى إليهم هذه المرة باسطةً يدها. ومن يدري؟ فلعله يعقب ذلك إجراء جِدِّي لتحسين حالهم فيما يتعلق بالمرتبات والمعاشات، غير أنه سرعان ما ارتدَّ إلى القلق كما ترتدُّ الموجة المنبسطة على الساحل الرملي الصافي إلى الزبد. أدرك بوضوح ما يُراد بهم، وما سوف يجد نفسه مضطرًّا إلى قوله في خطبة الجمعة مما يأباه ضميره ويمقته الناس. ولم يشك في أن الكثيرين يشاركونه مشاعره ويعانون أزمته، ولكن السبيل فيما يبدو مسدودٌ في وجوه الجميع. وعاد إلى الجامع وهو يُعمل فكره في همومه الجديدة.

وكان شلضم البرمجي المعروف بالحي مجتمعًا بأعوانه في خمارة «أهلًا وسهلًا» على مبعدة أمتار من الجامع. بدا غاضبًا كالنار، وكلما شرب قدحًا من النبيذ الأسود ازدادت النار اشتعالًا. وقال بصوت كالخوار: البنت نبوية المجنونة تُحب الولد الرقيع حسان، لا شك عندي في ذلك.

فقال له صاحب يبغي تهدئته: لعله زبون، مجرد زبون لا أكثر ولا أقل.

فدق شلضم الترابيزة بقبضة من حديد تناثر لها الترمس والفول السوداني، وقال بوحشية: لا، إنه يأخذ ولا يعطي، أعرف ذلك كما أعرف أن طعنة خنجري قاتلة، وهو لا يدفع مليمًا واحدًا، بينما يتلقى الهدايا أشكالًا وأنواعًا!

فأعلنت الوجوه التقزز والازدراء، وأفصحت الأعين المخمورة عن التأهب والامتثال فقال: الرقيع يجيءُ عادة حينما ترقص الأفعى، انتظروا مجيئه، ثم اشتبكوا في معركة، وعليَّ الباقي.

وجرعوا الأقداح وأعينهم تعكس شرَّ النوايا.

وعقب صلاة العشاء زارَ الشيخَ عبد ربه إمامان من زملاء الدراسة، يُدعى أحدهما خالد والآخر مبارك. جلسا إلى جانبه متجهِّمينِ، وأخبراه بأن بعض الأئمة قد فُصلوا من وظائفهم لامتناعهم عن الاشتراك في الحملة المدبَّرة. وقال خالد متذمرًا: لم تُخلق دور العبادة للمهاترات السياسية وتأييد الطغاة!

فشعر عبد ربه بأن حديث صاحبه ينكأ جرحه، وتساءل: أتريد أن تتضور جوعًا؟

فساد صمت ثقيل. وأبى الشيخ أن يُعلن هزيمته، فتظاهر بأنه سيعمل عن اقتناع؛ ليحافظ على كرامته أمامهما، فقال: ما يظنه البعض مهاترات قد يكون هو الحق بعينه …

ودهش خالد لانقلاب الشيخ فزهد في المناقشة، أما مبارك فقال باندفاع مأثور عنه: سنقتل مبدأ إسلاميًّا، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر.

فغضب عبد ربه عليه كما يغضب ضميره الذي يعذِّبه، وقال: بل سنحيي مبدأ إسلاميًّا هو الدعوة إلى طاعة الله ورسوله وأولي الأمر.

فتساءل مبارك في استنكار شديد: أهؤلاء من تعدُّهم أولي الأمر؟!

فتحداه عبد ربه متسائلًا: خبرني هل تمتنع عن إلقاء الخطبة؟

قام مبارك متسخطًا ثم غادر المكان، وما لبث أن غادره خالد. ولعنهما الشيخ كما يلعن نفسه الثائرة.

وقبيل منتصف الليل امتلأ حوش البيت السابع إلى اليمين بالسكارى. جلسوا على مقاعد خشبية متحلقين دائرة من الأرض الرملية، سلط عليها ضوء كلوب، وانسابت في جنباتها نبوية وهي ترقص في قميص نوم وَرْدي، وتُلعِّب في يمناها نبُّوتًا مكتسيًا بخيط حلزوني مُرصَّع بالورد. وصفقت الأكف على الواحدة. وتصاعدت من الأفواه المخمورة تأوهات بهيمية. واندس البرمجية في الأركان يتربصون، على حين لَبَد شلضم في بئر السلم مركَّز العينين على مدخل البيت .. وإذا بحسان يدخل مصفَّف الشعر متألق الثغر، فالتهمته نظرات شلضم النارية. وقف حسان ينظر إلى نبوية، حتى انتبهت إليه فحيَّته بابتسامة عريضة، وحركة لعوب من بطنها الراقص وغمزة عين.

عند ذاك تسلطن حسان، فمضى إلى مقعد خالٍ وجلس. وغلى الدم في عروق شلضم حتى تقلصت أطرافه، ثم أطلق صفيرًا خفيفًا. وفي الحال اشتبك اثنان من أعوانه في معركة مفتَعَلة. وتداخل الآخرون فاشتدت المعركة وترامت، حتى قام السكارى مذهولين، وأخذوا يتدافعون نحو الباب. وطار مقعد نحو الفانوس فهشَّمه، فانقضَّ الظلام على المكان كالكابوس، واختلط الصراخ بوقع الأقدام، وارتفع الصوات. وفي غمار الزوبعة الدائرة في الظلمة شق الضجيج صراخُ امرأة، وما لبث أن أعقبتها على الأثر تأوهات رجل من الأعماق، وسرعان ما خلا الحوش الراكد تحت مثار الغبار إلا من جثتين مطروحتين في الظلمة الصامتة.

وكان اليوم التالي هو الجمعة. ولما حان وقت الصلاة ازدحم الجامع بالمصلين على غير المألوف كل يوم؛ إذ إن صلاة الجمعة تجذب إليه أناسًا من الأطراف البعيدة كالخازندار والعتبة. وتُلِي القرآن ثم وقف الشيخ عبد ربه لإلقاء الخطبة. وبدا أن المصلين فوجئوا بالخطبة السياسية مفاجأةً لم تخطر على بال. تلقت آذانهم متململةً الجُمل المسجوعة عن الطاعة وواجب الولاء بارتيابٍ وضيق. وما إن حملت الخطبة على الذين يغرِّرون بالشعب ويدعونه إلى التمرد خدمة لمصالحهم الشخصية، حتى سرت في المسجد همهمة، وأصوات احتجاج وسخط، واعترض البعض بأصوات مرتفعة، وسبَّ آخرون الإمام! عند ذاك انقضَّ المخبرون المندسون بين المصلين على غلاة المعارضين، وساقوهم إلى الخارج وسط ضجة هائلة من الاحتجاجات والغضب.

وغادر المسجدَ كثيرون. ولكن الإمام دعا الباقين إلى الصلاة، وكانت صلاةً حزينةً تعلوها الكآبة.

في أثناء ذلك كانت حجرة بالبيت الثاني على اليسار من الدرب تضم سمارة وزبونًا جديدًا. جلست سمارة على حافة السرير نصفَ عارية، وتناولت خيارة من قدح مملوء إلى نصفه بالماء وراحت تأكلها. وعلى كرسي أمام الفراش جلس الزبون خالعًا جاكتته، وهو يجرع الكونياك من الزجاجة. جالت عيناه في الحجرة العارية بنظرة غائبة حتى استقرت على سمارة، فأدنى الزجاجة من فيها فتناولت شربةً ثم أعادها. وقرعت التلاوة الآتية من الجامع أذنيه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة لا تكاد تُرى، ونظر إلى الأرض. وتمتم في امتعاض: لماذا يبنون جامعًا في هذا المكان؟ .. هل ضاقت بهم الدنيا!

فقالت سمارة دون أن تتوقف عن قَضْم الخيارة: هذا المكان من الدنيا مثل بقية الأماكن.

فجرع مقدار كأسينِ، وأحدَّ بصره وهو يتفحص وجهها، وقال: ألا تخافين الله؟

فقالت بشيء من الضجر: ربنا يتوب علينا.

فضحك ضحكةً مسترخيةً، وتناول خيارة فدسَّها في فيه. وفي تلك اللحظة كان عبد ربه يُلقي خطبته، فمضى يتابعه برأس متأرجح، ثم ابتسم ساخرًا وهو يقول: المنافق! .. اسمعي ما يقول المنافق!

وجالت عيناه في الحجرة، حتى استقرَّتا على صورة لسعد زغلول قد بهتَتْ من القِدم، فتساءل وهو يشير إليها: هل تعرفين هذا؟

– ومن لا يعرفه؟!

فأفرغ بقية الزجاجة في جوفه، وقال بلسان ثقيل: سمارة وطنيَّة، وشيخ منافق!

فقالت متنهدةً: يا بخته! بكلمتين يربح الذهب، ونحن لا نستحقُّ قرشًا إلا بعرق جسمنا كله!

فقال ممعنًا في السخرية: ثمة رجال محترمون لا يختلفون عنك في شيء، ولكن مَن يجد الشجاعة ليقول ذلك؟

– وقاتل نبوية معروف للجميع، ولكن من يجد الشجاعة ليشهد بذلك؟

فهز رأسه أسفًا وقال: نبوية! .. المسكينة! .. من قاتلها؟

– شلضم الله يجحمه!

– يا ساتر يا رب، الشاهد عليه شهيد، من حسن الحظ أننا لسنا المذنبين وحدنا في هذا البلد.

فقالت بضجَر حادٍّ: لكنك تضيع الوقت في الكلام!

وصمم الشيخ عبد ربه على استغلال ما وقع له في الجامع لصالحه، فحرر شكوى إلى الوزارة ضمنها ما وُجِّه من اعتداء عليه بسبب خطبته «الوطنية»، وسعى إلى نشر الحادث في بعض الصحف بصورة مبالغٍ فيها، وبخاصة تدخُّل رجال البوليس للدفاع عنه، والقبض على المعتدين. وبات عظيم الأمل في أن تنظر الوزارة إلى تحسين حالته بعين الاهتمام. غير أنه عندما حان وقت درس العصر لم يجد مُستمعًا على الإطلاق. ورمى ببصره من الباب إلى دكان العصير، فرأى الرجل منهمكًا في عمله، فظن أنه نسِيَ الدرس، فاقترب من الباب، ونادى بصوت باسمٍ: الدرس يا عم حسنين!

والتفت الرجل على الصوت بلا إرادة، لكنه سرعان ما أبعد رأسه في تصميم، وبحركة نَبْذ حاسمة. وخجل عبد ربه، وندِم على ما بدر منه من نداء، وتراجع وهو يلعنه ألف لعنة.

وحين الفجر صعد المؤذن إلى أعلى المئذنة في ليل ساجٍ رطيب، وبَدْر ساطع، وسكون مؤثر. وأذَّن هاتفًا «الله أكبر». وفي لحظات الاستعداد لمواصلة الأذان انطلقت صفارة الإنذار في عوائها المتقطع الرهيب، فدقَّ قلبه دقةً عنيفةً لوقع المفاجأة. واستعاذ بالله وهو يتمالك أعصابه، واستعد من جديد لمواصلة الأذان حالمًا تتوقف الصفارة عن العواء؛ إذ إن الإنذار بغارةٍ بات عادةً ليليةً تمر بسلام مُذ أعلنت إيطاليا الحرب على الحلفاء. وهتف من الأعماق «لا إله إلا الله»، وغنَّاها بصوت لا بأس به. وإذا بانفجار يدوي مُرعدًا ارتجَّت له الأرض فغاص صوته في أعماقه، وتجمد في موقفه وأطرافه ترتعش، وعيناه تحملقان في الأفق البعيد حيث لاح لهيب أحمر. وتراجع إلى الباب مقتلعًا قدميه من الأرض، ومضى يهبط السلم بركبتين مخلخلتين. وبلغ أرض الجامع في ظلام دامس، فاتجه نحو الأمام والخادم مستدلًّا عليهما بتهامسهما، ثم قال بصوت متهدج: غارة جدية يا جماعة .. كيف العمل؟

فقال الإمام بنبرة مبحوحة: المخبأ بعيد، ولعله اكتظَّ بكل من هبَّ ودب، والجامع متين البنيان وهو خيرُ ملجأ.

وجلسوا في ركن، وسرعان ما انطلقت أفواههم بالتلاوة. وترامت من الخارج أصوات شتى .. وقع أقدام مسرعة، نداءات، تعليقات مضطربة، صرير أبواب وهي تُفتح أو تُغلَق. ومرة أخرى انصبت على الأرض قذائف متلاحقة، فزلزلت الأعصاب وخرست القلوب. وصاح خادم المسجد: الأولاد في البيت، بيت قديم يا سيدنا!

فقال الإمام بصوت متحشرج: ربنا موجود .. لا تتحرك من مكانك!

واندفعت مجموعة من الناس إلى داخل الجامع، وبعضهم يقول: هُنا آمَن مكان.

فقال صوت غليظ: إنه ضرب حقيقي، لا كالليالي الماضية.

فانقبض قلب الإمام لدى سماعه الصوت. هذا الوحش الآدمي، أليس وجوده بنذيرِ شر؟ وجاءت جماعة جديدة أكثف من الأولى، وندَّت عنها أصوات نسائية غير غريبة عن الشيخ. وهتف صوت قائلًا: طارت الخمر من رأسي.

وأفلت من الإمام زمامه، فهبَّ واقفًا وهو يصيح بعصبية: اذهبوا إلى المخبأ، احترموا بيوت الله، اذهبوا جميعًا.

فصاح به رجل: اسكت يا سيدنا.

وارتفعت ضحكة ساخرة، غير أن انفجارًا شديدًا دوَّى حتى صكَّ الآذان، فضج الجامع بالصراخ، وامتلأ الإمام رعبًا، فصاح بجنون كأنما يُخاطب القنابل نفسها: اذهبوا .. لا تدنسوا بيوت الله!

فهتفت امرأة: يا عيب الشوم!

فصرخ الإمام: اذهبوا، عليكم لعنة الله!

فاحتدت المرأة قائلة: إنه بيت الله لا بيت أبيك!

وصاح الصوت الغليظ: اسكت يا سيدنا، وإلا كتمت أنفاسك!

وانتشرت التعليقات الحادة والسخريات اللاذعة، حتى همس المؤذن في أذن الإمام: أستحلفك بالله أن تسكت!

فقال عبد ربه بتعثر مَن يجِد مشقةً في النطق: أترضى أن يكون الجامع مأوَى لهؤلاء؟!

فقال المؤذن بتوسل: ليس لديهم غيره، أنسيت أنه حيٌّ قديم قد يتهاوى باللكمات لا بالقنابل؟!

فضرب الإمام راحته بقبضته، وقال: هيهات أن يرتاح قلبي لاجتماع كُل هؤلاء الأشرار في مكان واحد، إن الله لا يجمعهم في مكان واحد إلا لأمر!

وانفجرت قنبلة، فخُيل إلى حواسهم المُلتهبة أنها انفجرت في ميدان الخازندار، والتمع لها بريق خاطف في فراغ الجامع كشف عن أشباح مرتعدة لحظةً، قبل أن تبتلعها الظلمة العمياء مرة أخرى، فأطلقت الحناجر عواءً مزعجًا، وصوتت النساء، والشيخ عبد ربه نفسه صرخ وهو لا يدري. وتطايرت أعصابه فاندفع يهرول نحو باب الجامع. وجرى خادم المسجد خلفه يحاول منعه، لكنه دفعه بقوة متشنجة، وهو يصيح: اتبعاني قبل أن تهلكا!

ومرق من الباب، وهو يقول مرتعدًا: لم يجمعهم الله في مكان واحد إلا لأمر!

ومضى مُهرولًا يخوض ظلامًا دامسًا. واستمرت الغارة بعد ذلك عشر دقائق، تساقطت في أثنائها أربع قنابل. وشمل الصمت المدينة مقدار ربع ساعة أخرى، ثم انطلقت صفارة الأمان!

ومضت الظلمة ترقُّ أمام البكرة الوانية. ثم تبدت طلائع الصباح في مثل حلاوة النجاة.

لكن الشيخ عبد ربه لم يُعثر على جثته إلا عند الشروق!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤