مَوعد

أسعد ما في اليوم هو هذا الوقت من الليل. انتهت متاعب الواجبات، استقر كل شيء في موضعه على أحسن حال، حتى المطبخ بات أنيقًا نظيفًا كأنه معروض للبيع، الخادم آوتْ إلى غرفتها لتنام، لم يبقَ إلا جلسة مريحة طويلة يبهجها الحب العائلي حول الراديو المردِّد لشتى المسرات. ولولو الصغيرة لا تنام، لا تود أن تنام، ولا أن تكف عن اللعب والشقاوة، ولكن هذا السيد، هذا الزوج السعيد، ما باله؟! لولو العزيزة لا تدع لها فرصة للتفكير. إنها ترمي بنفسها عليها بلا نذير، فترتطم الرأس بالرأس، أو تنشب الأظافر الصغيرة بالخد أو الرقبة، وكافة المساحيق لا تنجح في إخفاء آثار هذه الأظافر الصغيرة. بنت لم تجاوز الثالثة، ولكنها عفريتة بكل معنى الكلمة، وكانت هي جديرة بأن تكون أسعد الناس بها لولا ما يبدو على الأب من تغير حقيقي. وها هي تختلس النظرات إليه رغم موقفها الدفاعي الدائم من لولو. وها هو غارق في المقعد الكبير مطروح الرأس إلى الوراء، ينظر إلى السقف تارةً، وتارة إلى الراديو من فوق الزجاجة الذهبية السائل القائمة على ترابيزة أمامه. معهم لكنه ليس معهم. في بعض رحلاته التجارية كان أقرب إليهم مما هو الآن. ماذا غَيَّرَه؟ .. ماذا طرأ عليه؟! وقلبها يحس بالمخاوف وهي بعيدة؛ ولذلك فهو لم يذُقِ الراحة منذ … منذ كم من الوقت؟! يا إلهي شدَّ ما يبدو الوقت قصيرًا أحيانًا إذا قيس بالأرقام، على حين تتمزق الأعصاب من طوله تمزقًا. وما هذه العادة الوحشية الجديدة!؟ إنه يجلس هذه الجلسة لا ليحادثها ولا ليلاعب لولو، ولكن ليشرب الخمر. ويمعن في الشراب ليلة بعد أخرى، ويفرط في التدخين؛ فدائمًا تتلوى حول رأسه سحاباته الشاحبة. ألا ما أفظع هذا كُله! ويضاعف من الحسرة أنه مثال تغبط عليه في حسن المعاشرة والنجاح في الحياة. كهربائي محترم وصاحب دكَّان لبيع الأدوات الكهربائية وإصلاحها. ولم يكن يضايقها أن يذهب إلى القهوة الخديوية كل مساء؛ ليلعب الطاولة ساعة أو ساعتين، ثم يعود إلى بيته حاملًا ما لذَّ وطاب من حلوى أو فاكهة. يعود إليها، وإلى لولو، فيُحْيي جلسةً عائليةً دافئةً بالمحبة والمسرة. هكذا مضت حياتها الزوجية القصيرة السعيدة، إلى ما رصَّعت به لياليها من سهرات لطيفة في بيوت الأسرة، أو في السينما وما يستتبع ذلك عادة من تعليقات أو مناقشات تزيد الحياة بهجةً وحيوية. وأما الخلافات التي كانت تتسرَّب بعض الأحيان إلى حياتهما فلم تبلغ درجةً خطيرة قط، ولم يحدث أن تركت أثرًا حتى الصباح. ترى هل ينطوي ذلك كله في ذمة التاريخ؟ .. هل؟ .. يا لهذه الطفلة الصغيرة التي لا تتعب من الشقاوة أبدًا! .. إنها تحمل على أبيها، لكنها سرعان ما تصد عنه لفتور استجابته واستسلامه دون دفاع مثير، حتى الكأس التي أراقتها عند تعلقها بالترابيزة لم تُغضبه.

– يا عزيزي، لماذا تشرب هكذا؟

ليته ينفعل، أو حتى يغضب في سبيل أن يبوح بمكنونه: لا ضرر في ذلك!

– لكنه ضار بلا شك!

– لا تصدقي ما يُقال!

ولم يمهلها لتتكلم فقال باسمًا: مللت التسكع في الخارج، وأنا سعيد، هكذا بين زوجتي وابنتي!

– لكنك تبقى معنا لتشرب!

– بل أستكمل هنائي بشيء من الشراب؛ ليبعث الراحة في القلب!

يحاول أن يبدو طبيعيًّا، ولكنها تراه بقلبها لا بعينيها، وقلبها كرماد في مهب الريح.

– وماذا يُتعب قلبك؟

– لعلها متاعب العمل، وأنا لا أسمح لها بأن تُفسد جلستنا الطيبة!

هكذا الأسئلة والأجوبة كل مرة. ويبقى لها العذاب الصامت الذي يجدُّ عبثًا في البحث عن مبرر لوجوده. وتلوح في عينيه نظرة غريبة يرمق بها لولو. نظرة تذوب حنانًا ورقة، نظرة تقبل وتعانق وتسفح الدمع. فكيف لا ترتعد رعبًا؟!

– ألا يحسن بك أن تنام في الوقت الذي اعتَدْت أن تنام فيه؟

– لماذا ننام؟

ضحكت ضحكةً فاترة، وحدجته بنظرة ارتياب: أنت ولا شك تسخر مني.

– معاذ الله!

– الحق أنك تعذبني.

– لا سامحني الله إن فعلت!

وربَّتت خده برقة: كل شيء على ما يرام؟

– نعم.

– لا شيء يُضايقك؟!

– مطلقًا.

ثم قال برجاء: لا تُقلقي نفسك بلا سبب، أؤكد لك أنه لا يوجد في حياتنا ما يدعو إلى القلق، ها أنا أجلس سعيدًا في أسرتي الصغيرة، أشرب أحيانًا، وأحيانًا أقرأ، ماذا يُقلق في ذلك؟!

لم تكن القراءة هوايةً له. كان يُلقي نظرةً عجلى على الجريدة، وتقرأ هي صفحة، ثم تتركها فتتلقاها لولو، ثم لا تتركها إلا كُومة من مِزق. لكنه يقرأ الآن كتبًا، وأي كتب؟ على حافة العالم. الحاسة السادسة. عالم الأرواح.

– أتحلم بأن تكون شيخَ طريقة؟!

– هل عندك فكرة عن هذه الأشياء؟

– حسب ما وجدته في الدين.

– هذا صحيح.

– فلماذا تقرأ هذا كله؟

– حُب استطلاع وتسلية.

حاولتْ كثيرًا أن تُقنع نفسها بأن كل شيء طبيعي، وأن أوهامها هي غير الطبيعية، لكنها كانت كمن يتجاهل إنذارات دمل خفي.

– خبرني كيف حال صحتك؟

– عال!

– والعمل؟! لا تُخْفِ عني شيئًا؛ فأنا شريكة حياتك.

– ليس في الإمكان خير مما كان!

– كيف أعرف سرَّك؟!

وربَّت على خدها وقبَّلها، كما كان يفعل في الليالي السعيدة الخالية. ما أشد الفرق بين الحالينِ. إنه يمثل ولكنه لا يستطيع أن يُخفي أنه يُمثل.

– لا جديد طرأ عليك؟

– عدا شيء من الارهاق!

– ما رأيك في السفر، ولو لأسبوع؟

– فكرة وجيهة ولكن لا داعي للعجَلة كما تتوهمين.

وحانتْ منها التفاتة إلى المرآة، فلمحته وهو يهم بالكلام بحالٍ تدل على أنه استسلم للاعتراف. استصرخَتْه في الأعماق أن يفعل، دعت ربها أن يأمره بالكلام، لكنه استرخى دفعةً واحدةً بسرعة تثير الحنق، وراح يقرأ.

– عدتَ كما كنت أعزب!

– أنا؟

– كأن لا شريك لك، عِشْ وحدك، سأحزن حتى الموت!

– ألا يتعب الإنسان أحيانًا؟

– ماذا عن رجل يشرب الخمر، ويقرأ كتب الأرواح؟

– الخمر أيضًا مشروب روحي، هكذا يسمونها!

– نضب معيني من الضحك!

– سوف تضحكين من نفسك، عندما تتأكدين من ضلال أوهامك!

– قلبي لا يكذبني قط.

وقال لنفسه: ما أصدق قلبها. إنها تنطق عن قلب صادق وا أسفاه. قلب ملؤُه خوف حقيقي، قلب يُكابد إرهاصات أحزانه ووحدته الآتية. وهو يتعذَّب أيضًا عذابًا مُضاعفًا لنفسه ولها. وقلبه ينصهر ويتطاير شررًا، وسيتلاشى في الفراغ. وأفكاره تحوم بجنون حول انحلال المادَّة وتشعشع الضوء وانتشار الرماد وتبدد الهواء. لعله كان من الأرحم أن يجد مهربًا بعيدًا عن بيته، أن يشرب في حانة من الحانات، بعيدًا عن الجلسة السعيدة التي يتشكل فيها جسده في ثلاثة أجساد حارَّة محبوبة. ولكن حنينه القاسي وأشواقه الملتهبة ويأسه العميق منعَتْه من الهرب وشدته إلى مأواه الحنون. بل يود أحيانًا لو يغلق دكانه ليجلس طوال وقته مع زوجته وطفلته، عصمت ولولو، وأن يقبِّلهما حتى يكِلَّ فوه، أن يضمهما إلى صدره حتى يخذُلَه ساعداه، أن يغرقهما بدموعه، وأن يستحم بدموعهما. وكان بوده أن يمثل دوره بمهارة يخدع بها امرأته، ولكن كان ذلك فوق طاقته. فهو يقرأ ويشرب ويختلس إليها النظر، يتحمَّل نظراتها المعذَّبة بصبر، حابسًا دمعه، شادًّا على إرادته. ويصر على ذلك، وهو يشعر بأن كل شيء يخصُّه هباء. الأبوة هباء، الحب هباء، الزوجية هباء. ويرى كل معنًى وهو يتلاشى في النسيان والضياع. وهو في الحقيقة لا شيء يبكي لا شيئًا، البكاء نفسه لا حقيقي كالقراءة، كالخمر، كهذه الأنغام الصادرة عن الراديو تنعَى الحياة كلها. لمَ لا يجذبها إليه ويفضي إليها بكل سره؟ ولكن أي فائدةٍ تُرجى من ذلك إلا أن تزيد من تعقيد الأمور واختلاطها وقسوتها ووحشتها؟ ولمَ يحوِّل جلسة المساء إلى مأتم والغناء إلى حداد؟ لن يؤخر ذلك ولن يقدم، ولكنه سيهدم الأسرة هدمًا. أجل، إن وحدته تزداد عمقًا ويأسًا، لكنه لن يذعن للجبن والأنانية، فعلى الأقل عصمت لن تفقد الأمل، وها هي لولو تلعب وتغني وتنطح وتخربش. إنها الوحيدة التي تبدو جديرة بالحياة. تحياها ببساطة وبلا معنًى ولا تفكير. وهي الوحيدة أيضًا التي لا تعرف الموت ولا اليأس، ويبدر كل شيء لعينيها العسليتين خالدًا سعيدًا خاضعًا. حتى المنغِّصات البسيطة التي تطرأ على بحبوحتها لا تبقى إلا لحظات. قد تتوارى وراء باب صارخةً باكية، ثم سرعان ما تظهر باسمة الثغر، ولما تجف دموعها وفي عينيها نُذُر مشروعات جديدة للشقاوة والعفرتة. وعصمت لا تدري شيئًا عن لياليه، فهي تُجالسه حتى يحين موعد النوم، ولما تظن أنه استسلم للنوم تطوي جفونها على أحزانها، لكنه في الحقيقة لا يَغمض له جفن، ويظل محملقًا في الظلام وخلايا رأسه تحترق بالأفكار المحمومة. وهيهات أن يدري أحد شيئًا عن أحاديث الظلام، عن رُعب الظلام .. عن التفكير في الهاوية التي ليس لها قرار. في الظلام تُطمس معالم كل شيء إلا الموت. الموت وحده يُرى بلا ضوء، وهو كالظلام لا شيء يؤخره عن ميعاده. وإذا جال بالخاطر فَقَدَ كل شيء معناه وقيمته وحقيقته. ويتساءل وهو يكاد يحس تردد أنفاس زوجته ما العمل؟ ماذا يطلب من الحياة في الأيام الباقية؟ ويجيء الجواب: كل شيء، ويجيء الجواب: لا شيء، وهنا يستوي كل شيء ولا شيء. ولكن النفس تأبى التسليم وتخشى الفراغ، فتتعلق بالأحلام. يرى أنه لم يعُد زوجًا ولا أبًا. إنه طليق يجوب الآفاق. فوق طيارة تحلق في الفضاء، في سفينة تمخر عُباب المحيطات، على مركبات لا حصر لها ولا عدد. ينطلق من غابة إلى بحيرة، ومن جبل إلى سهل، يخوض الرياض والرمال والمدن، يجوب مناطق حارة ينصهر بها الحديد، وبقاعًا متجمدة تتجمد فيها النيران، ويرى من الناس أشكالًا وألوانًا. إن ذلك كله لا يطرد شبح الموت ولا يؤخِّره، ولكنه يحوِّل الأيام الباقية إلى رحلة شائقة ومشاهد عجيبة وتسلية ساحرة. أو يرى نفسه جاريًا وراء نوازعه، يتقلَّب بين أمواج الشهوات العاتية، وينعم بكل طيب، وينتشي بكل مذهل، ويمتع غرائزه بالمغامرة والإثارة والعربدة، بل وبالانفعالات الرهيبة والعدوان العنيف. لكنها تظل أحلامًا؛ لأن الموت نفسه لم يستطع أن ينسيه أنه زوج وأنه أب وأنه بالتالي إنسان؛ لذلك تتبدد الأحلام ويبقى له السُّهاد، بل ويواصل عمله في الدكان، ويثوب مشتاقًا إلى جلسته العائلية المحبوبة، ولكن لم يجد مفرًّا من الشراب، ومن مطالعة كتب الأرواح؛ سعيًا وراء طمأنينة ولو تكن وهميةً، وسلام ولو على غير أساس. حتى إيمانه الراسخ انهزم أمام الموت. ليس للشعر كثافة الموت وثقله. وهو يكاد يراه ويلمسه، وفظاعة التجربة حملته على دفن السر في أعماقه، على الانفراد به وحده، وعلى كتمانه عن امرأته تعيسة الحظ، فلتبْقَ في قلقٍ هو على أي حال أهون من اليأس، ولتمرح لولو في جو خالٍ من الحقيقة الرهيبة.

وذهب إلى قهوة ماتاتيا على غير عادة. كان اليوم عطلة الأحد، والوقت عصرًا، والفصل خريفًا، فاتخذ مجلسًا عند رأس المنعطف تحت البواكي. وقلب عينيه في تطلع المنتظر حتى رأى رجلًا ريفيًّا معممًا يُقبل نحوه في عباءة سوداء. كان يشبهه إلى حد كبير فتعانقا، ثم جلسا حول المائدة والقادم يقول: كيف حالك يا جمعة؟ وما الحكاية؟ لمَ بالله ضربت لي موعدًا في القهوة؟!

فقال جمعة وهو يبتسم في ارتباك: أتعبتك يا أخي، أنا آسف جدًّا.

– ليس المجيء من القناطر بالأمر الشاق، ولكن ماذا تعني مقابلتنا في القهوة؟

وفكر جمعة قليلًا فيما ينبغي أن يقول، وكان الآخر يتفحصه بعناية، فلم يمهله حتى يتكلم وقال: خلاف عائلي! يقطعني ربنا إن لم يكن الأمر كذلك، ماذا عن امرأتك؟

فقال جمعة بصوت شاحب: عصمت بخير، لا خلاف بيننا على الإطلاق!

– غريبة! ولماذا لم تدْعُني إلى بيتك؟

– أريد أن أنفرد بك.

– بعيدًا عن بيتك!

– بعيدًا عن كل شيء!

وعاد يتفحصه مليًّا، ثم قال بقلق: جمعة .. أنت لست على ما يُرام!

فصمت جمعة، فعاد الأخ يقول بجزع: خبِّرْ أخاك عما بك!

رفع إليه عينيه الذابلتين، وقال: أخي، أنا في مسيس الحاجة إليك، سأعترف لك بكل شيء، ويجب أن تصدقني، الحق أني سأموت في خلال أشهر قلائل!

تجمدت قسمات الشيخ، وعكست عيناه جميع صيغ الدهشة، ثم غمغم: ماذا قلت؟! مريض؟ كيف عرفت هذا؟ هل ذهبت إلى طبيب؟

قال جمعة بهدوء نسبيٍّ بعد أن أزاح الاعتراف عن صدره همًّا ثقيلًا: شرعت في التأمين على حياتي.

– وبعد؟

– رُفض الطلب، ذهبت إلى عدد وفير من الأطباء، وإني على يقين الآن من خطورة الحال.

فندت عن الأخ ضحكة هازئة، وقال: لا أحد يمكن أن يكون على يقين من ذلك إلا الله!

فقال جمعة بفتور: طبعًا .. طبعًا، إنه فوق كل شيء، ولكني على يقين من حالي.

– كلام فارغ، أستطيع أن أحكي لك ألف حكاية تثبت أن كلام الأطباء ما هو إلا هراء.

فقال متنهدًا: وأستطيع أن أحكي لك ألفًا أخر تؤكد العكس.

واستقر صمت ثقيل. وجاء ماسح أحذية يدقُّ صندوقه، ولكن سرعان ما صرف، وهبت نسمة رطيبة تحت البواكي على حين بدت العتبة كأنها تدور إلى الأبد مع المركبات والناس. ثم قال الأخ بصوت عميق: يجب أن تقتلع من رأسك هذه الأفكار السود، هي مرضك الوحيد، وإذا أردت أن تطمئن حقًّا على نفسك فسافر معي إلى القناطر؛ لتزور شيخًا عجيبًا يقصده الأطباء أنفسهم في الشدائد!

فقال جمعة في بلاهة: نعم.

– أراك تشك فيما قلتُ!

فاعتدل جمعة في جلسته وقال: فلنؤجل هذا إلى حين، إنما دعوتك لأمور هامة وعاجلة.

– لكني لا أحب لك أن تعايش أفكارك المدمرة.

– لندع هذا الحديث جانبًا، الآن خذني على قد عقلي، وأصغِ إليَّ.

فتمتم الأخ بمرارة: نعم!

فقال جمعة بإشفاق ووجوم: عصمت ولولو.

– عارف، عارف أنك ستتحدث عنهما.

وهم بالاعتراض، ولكن جمعة أشار إليه بالسكوت، وقال: لي شريك في الدكان، وهو رجل طيب مثلك، ولكن العمل سيتطلب منك رعاية، ولا بد لي من الاطمئنان على مستقبل أسرتي، أنا آسف أن أحملك مسئوليات جديدة في الحياة، ولكن لا حيلة لي، ثم إن لي نقودًا في البنك فلن أتركهما.

– تتركهما؟!

– خذني على قد عقلي من فضلك، لن يحتاجا إلى نقود، ولكنهما ستكونان دائمًا في حاجة إلى رعايتك.

ندت عن الأخ ضحكة أعرب بها عن استهانته، أو عن تظاهره بذلك. وشرع في الكلام ولكن أوقفه عنه خروج سنجة الترام من السلك الكهربائي، مُحْدِثة أزيزًا حادًا وتوهجًا خاطفًا، فأخذ لحظة ثم قال: ها أنا أجاريك في أوهامك ما دمت تُريد أن آخذك على قد عقلك، أتحسب أنني في حاجة إلى هذه الوصية؟! يا لك من طفل! أنت أعلم الناس بمكانتك عندي، فاطمئن إليَّ كل الاطمئنان، والآن وقد صارحتك فأرحني بدورك، لا بد من سفرك إلى البلد ولو لأسبوع!

– بكل سرور، في بحر أسبوع على الأكثر، ستجدني عندك إن شاء الله، والآن هيا بنا إلى البيت.

ولكن الأخ كان يعاني من الحديث اضطرابًا باطنيًّا، فانصدت نفسه عن كل شيء، وأبى إلا أن يعود من فوره إلى المحطة، وأصر على ذلك. وأراد أن يوصله ولكن الآخر قرَّر أن ينتهز فرصة وجوده في القاهرة؛ ليقوم ببعض زيارات هامة قبل السفر فتوادعا أمام القهوة، ومضى الشيخ إلى الناحية الأخرى من العتبة. واتجه جمعة رأسًا إلى محطة الأوتوبيس. واستقلَّ سيارة فدارت به دورتها ولكنها اضطرَّت إلى التوقف عند الأزبكية أمام زحام اعترض الطريق .. ونظر جمعة فرأى جمعًا حاشدًا — وآخذا في التزايد أكثر فأكثر — حول سيارة متوقفة. أدرك لتوه أن حادثة وقعت. وأجال عينيه في الجمع المحتشد، لكنه جفل من إمعان النظر، فحول رأسه بعيدًا. وما لبث الأوتوبيس أن تفادى من الزحام، فشق سبيله إلى ميدان الأوبرا.

وكان في الجمع المحتشد حول الحادثة مساح أحذية، وكان ينظر إلى الجثة الممددة أمام السيارة بتفحص ودهشة، ثم قال بصوت مرتفع لمن حوله: أنا رأيت هذا الشيخ منذ نصف ساعة فقط، كان يجلس في قهوة ماتاتيا مع واحد أفندي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤