زينة

ازدحم مدخل العمارة رقم ١١٥ بشارع رمسيس بالمنتظرين أمام أبواب المصاعد، وهو مدخل لا يخلو من ازدحام، كما يجدر بعمارة جميع شققها مؤجَّرة للشركات. وكان بين المنتظرين ثلاثة أشخاص جاءوا في وقت واحد على وجهِ التقريب، رجلان وفتاة، وكأكثر الحاضرين لم يكن يعرف أحدهم الآخر. وبطبيعة الحال لم ينتبهْ أحد إلى الرجلين، على حين تسللت نظرات الاهتمام إلى الفتاة لشبابها وجمالها وأناقتها. وبينا بدا أحد الرجلين كمن يناقش نفسه مناقشةً حادة حتى جعل يقضم ظفره من حين لآخر، لاحت في عينَي الآخر نظرة حالمة وحزينة، وعندما صادفت عيناه الفتاة دبَّت فيهما حياة متألقة كالزهرة.

قصد أول الثلاثة الشقة رقم ١٨ بالدور الثالث، فمضى إلى السكرتارية وحيَّا السكرتيرة اللطيفة هناك، وقال برقة ممزوجة بالثقة: محمد بدران.

ولم تكد الفتاة تغيب وراء باب المدير، حتى عادت وهي تقول: تفضل.

دخل محمد بدران حجرة المدير، فمد له هذا يده من وراء مكتبه وهو منهمك في مكالمة تليفونية، ثم أشار إليه بالجلوس، فغاص في مقعد جلدي كبير أمام المكتب. وبسرعة سحريَّة سرَى في جلده وأعصابه الهواء المُكيف فأنعشه وهدْهَده، وأخذ يُجفف عرقه ويُرطب لهيبَ الحر الذي عاناه في الطريق واختنق به في المصعد. وسرعان ما وعد نفسه بتركيب جهاز تكييف في حجرة مكتبه حالَما تتحسن الأحوال عما قريب إن شاء الله، ولو يشاركه فيها الأبناء في بعض أوقات المذاكرة، بل ولا بأس من أن يتحول جزءٌ منها إلى مكان لجلوس الزوجة في أشهر القيظ. وكالعادة انثالت على ذهنه أحلام الثراء بلا تحفُّظ، فأكملت ما ينقص حياته من الرفاهية. شقة جديدة في حي راقٍ بعيدًا عن روض الفرج طبعًا، أثاث فاخر، مطبخ أمريكاني، بار أمريكاني أيضًا، سخان، فريجيدير كبير، سيارة، شقة دائمة بالإسكندرية للتصييف في الصيف ولعطلات المواسم في بقية الفصول. ولسببٍ ما خطرتْ بباله الفتاة الجميلة التي رآها في مدخل العمارة أمام المصعد. ما أجمل أن «يملك» الإنسان صديقة مثلها! فائقة الجمال حقًّا، ولجمالها أثر بهيج مُثير لأحلام الشباب في الحب والنشوة السامية. تُرى أما زال يذكر عهد الشباب الأول بأحلامه ومثاليَّاته؟! وإذا به يستيقظ على صوت المدير وهو يقول: كيف حالك يا أستاذ محمد؟

فخرج من أحلامه قائلًا: بخير ما دمت بخير يا سعادة المدير.

وضحكا معًا بلا مناسبة ظاهرة، وإن أحنقه صوتُه الجهوري ذو النبرة الشديدة والجلجلة، ثم رفع إليه عينيه، كأنما يقول «في خدمتك يا أفندم»، فقال المدير الذي اعتمد مكتبه بمرفقيه: كيف الأحوال؟

– ماشية! ليس في الرأس إلا مشروعات.

– كلُّ شيء بأوانه، أُراهن على أنك ستحقق مشروعاتك، أنا خبير بالرجال.

فابتسم قائلًا: لنا زميل لعلك تعرفه، كنا نعمل منذ ثلاثة أعوام في جريدة واحدة بثلاثين جنيهًا، هل تصدق أنه يعمل اليوم بثلاثمائة جنيه؟

– ستجيء فرصتك أيضًا (ثم وهو يضحك) وأنا ماذا كنت منذ خمسة أعوام؟

– لكنك رجل أعمال!

وضحكا مرة أخرى. وإذا بوجه المدير يسترد هيئتَه الجادة ويقول داخلًا في موضوعه: أنا ارتأيت طريقة ستوفر عليك تعبًا كثيرًا.

ورمقه محمد بقلق كأنه خاف أن يعقُبَ التوفيرَ في التعب توفيرٌ في الأجر، ثم قال بعجَلة: أنا لا يهمني التعب، إليَّ بنقط الموضوع، وسوف تقرأ مقالًا لن يشك قارئه في أنه بقلم أخصائي من العلماء!

فلم يبدُ على المدير أنه اكترث لاعتراضه، وأخرج من درج مكتبه مقالةً مسطورةً على فرخين من الورق، فتساءل محمد في شبه انزعاج: كتبتها كلها؟

– لا ينقصها إلا إمضاؤك!

فتناولها الآخر في فتور، وهو يغمغم: لكن …

فقاطعه قائلًا بلهجة مرحة: اقرأ ولا تخَفْ، متى وجدتَني بخيلًا يا جاحد؟!

فاسترد شيئًا من طمأنينته، وهو يقول كالمحتج: ولكنك ستعَوِّدُني على الكسل!

وراح يقرأ: «عزيزي القارئ، ماذا تعرف عن العقار الجديد «س. أ. ب»؟ لعلك تسمع عنه لأول مرة. ولم تسمع بطبيعة الحال عن الثورة العلمية التي أحدثها في أمم الشمال بصفة خاصة، وفي القارة الأوروبية بصفة عامة؟ في الأسطر القادمة ستعرف كل شيء عنه، مؤيدًا بأقوال جمهرة من كبار العلماء. ولما كانت مجلتنا علمية قبل كل شيء؛ فإنا نرجو ألا يطوح الخيال بأحد قُرَّائها، فإن اعتقادنا ألا قوة تستطيع أن تُعيد الشباب إذا ولى، ولكن عقارًا يؤخر الشيخوخة عشرة أو خمسة عشر عامًا ليس مما يُستهان به …»

واستمر في قراءة المقال، والمدير يُتابعه في اهتمام لا يخلو من سخرية، حتى أتمه، وتبادلا النظر في صمت مليًّا، ثم سأله المدير: ما رأيك؟

– مدهش، ثمة أخطاء في اللغة أو النحو ستُصحح بطبيعة الحال، ولكنه مقال هام ومثير.

– يجب نشره في صفحة مهمة.

فقال محمد بدران بشيء من المكر: أنت تعرفني من قديم، ولكن هناك معلومات قد تحتاج إلى تحقيق علمي، أو إلى تعديل على الأقل، إن مجلتنا ذات صفة علمية مُعترف بها!

فقال المدير ببرود: لن أزيد مليمًا على المبلغ المتَّفَق عليه!

– لا أقصد هذا.

– بل تقصده! لا تكن طمَّاعًا، ستأخذ المجلة أجرة إعلان ممتاز جدًّا، وستأخذ أنت مكافأتك كما اتفقنا، فلا داعي للمشاغبة!

فدارى محمد هزيمته الخفيفة بضحكة، وقال بحرارة زائفة: أخاف أن يؤدي الإفراط في تناول العقار إلى …

– ما أجمل تلاوتك للآيات الإنسانية! لكنني أزعم أنني إنساني أكثر منك، هذا العقار إذا لم يُفِدْ فلن يضر، وهو مفيد قطعًا، والإنسان يعيش على الأوهام ويسعد بها.

وتناول من جيبه مظروفًا صغيرًا، ووضعه على المكتب أمام الأستاذ محمد، وكان هذا يعرفه كما يعرف وجه طفله، فأخذه وهو يبتسم قائلًا: ألف شكر يا إكسلانس، ربنا ما يحرمني منك.

– ولا منك يا أستاذ محمد!

وقاما في وقت واحد فتصافحا، ثم ذهب. وشملته حركة سريعة، أشبه بالاندفاع، هي طابعه في السير، وكان عليه أن يذهب إلى المجلة دون إبطاء. ولم يكن في ذهنه إلا المشكلات الخاصة بالمجلة التي عليه أن يحلها قبل هبوط الليل. في زمن بعيد نسبيًّا كان يفكر طويلًا بعد تناول مثل هذا المظروف. على الأقل كان يُقارن بدهشة بين حاله حين تخرجه في الجامعة والتحاقه بالعمل مخمورًا بأسمى الآمال، وبين حاله التي صار إليها حين لم يعُد لشيء قيمة إلا السيارة وجهاز التكييف، وتعليم الأولاد في الكلية الأمريكية.

•••

وقصدت الفتاة الشقة رقم ٣٣ بالدور الخامس. سارت بقامتها الرشيقة، ووجهها الجميل، وعينيها اللوزيتين اللتين تشعان حيوية، حتى انتهت إلى مكتب السكرتير، فقام بحماس وصافحها بحرارة، ثم أشار إليها بالجلوس وهو يقول: المدير مشغول، خمس دقائق، كيف حالك؟

جلست وهي تبتسم في تحفُّظ ماكر، وتشاغلت عن الشاب المحدق فيها بالنظر إلى الحجرة البديعة المعدَّة لاستقبال أهل الأهمية والمال. وعلِق بصرُها بلوحة من الفن الحديث لم تميِّز بوضوح من أشيائها إلا تفَّاحة استقرت في مكان غمازتها عينٌ بشرية هالعة، على حين اكتنفتها خطوط وألوان فاقعة وأجزاء متناثرة من أعضاء الجسم الإنساني، وبصفة عامة خُيِّل إليها أنها ترى ركن حجرة —كانت مأهولةً بالبشر — أثر زلزال عنيف مدمر. استردت عينيها وهي ترفع حاجبيها المقرونين في شبه احتجاج ساخر، فرأت الشاب وهو يشير إلى الكرسي الجالس عليه، ويقول باسمًا: ستجلسين هنا بعد أيام.

– متى تسافر إلى ألمانيا؟

– في نهاية الأسبوع على الأكثر، ولكن متى أراك ثانية؟

ودق جرس التليفون الخاص بالمدير، فرفع الشاب السماعة لحظة، ثم أعادها ومضى إلى الحجرة، وما لبث أن خرج مصحوبًا بخواجا طاعن في السن، فأوصله حتى الباب. وعاد إلى الفتاة وهو يقول: تفضلي يا آنسة زينب!

وهي تمر أمامه في طريقها إلى الحجرة، همس في أذنها: أظن من الممكن أن نتقابل الليلة؟

فظلت تنظر فيما أمامها، وإن وشى عارضها بابتسامة، حتى غيَّبها باب الحجرة. تقدم المدير ليلاقيها في المنتصف، بقامته المترهلة، وصَلعته الوضيئة، وانحنى نحوها بوجهه المجدور، يتقدمه أنف كالكف المبسوطة بين هالتين من سوالف بيضاء، فتناول يدها، وضغط عليها بحنان مريب، ومضى بها حتى أجلسها على المقعد الوثير أمام المكتب، ثم جلس على كرسيه، وعيناه لا تتحولان عن وجهها: خطوة عزيزة يا زوزو، كيف حال والدتك وأخواتك؟

– عال. متشكرة جدًّا يا فندم!

وكانت رغم مطاوعة الأمور تجد قلقًا، وإحساسًا كأنه التقزز، لكنها ابتسمت إلى عينيه المكللتين بحاجبين أشيبين، عينيه الحادتين رغم الكبر، وقاومت النفور المستقر في شعورها، والذي جاء معها من الطريق، بل من البيت، رغم محاولاتها القوية في مغالبته بالأحلام الخيالية المتألقة كالماس.

– ستشرفين السكرتارية في نهاية الأسبوع.

اتسعت الابتسامة المغتصبة من شفتيها، فتحركت قسمات الرجل في نشوة كالطرب، وقال بحرارة: أنت ضوء الحياة يتسلل إلى قلبي المظلم من جديد، وسوف ينعكس على حياتك بالسعادة.

ذكَّرها هذا بما رددته جدران بيتها الصمَّاء في غير حياء، وبأمها التي تبدو أحيانًا كنمرة متوثبة، وإن تكن تنقلب قطة مستكينة عندما تندَى جفونها بدمعة ما. وغمغمت في حرج: أرجو أن تجدني عند حسن ظنك!

فابتسم ابتسامةً اقشعر لها بدنها، فندمت على ما فرَط منها دون تدبر. وإذا به يتساءل: وقريبك؟

فقالت بامتعاض خفي: انتهى الأمر، فسخت الخطبة.

– ماذا قلتم؟

– لم تُعْوِزنا المبررات الوجيهة.

فقال بنبرة مبتهجة: لن تندمي على ما فات، أمك حكيمة، وأنت كذلك، إن متاعب الحياة لا تفض كما يزعم الحمقى في الصحف، ولكنها تفض بالإرادة الحية، إرادة شخص ذكي مثلك.

ما أبشع خجلها، أو ما أبشعه في بعض الأحيان على الأقل! لكنها لم تندم على فسخ الخطبة .. لم تعدها بحياة تستحق هذا الاسم، وتوعدت أسرتها بمتاعب جديدة، وهي لم تكن تحب قريبها. الآن لن يفصل بينها وبين من تحب شيء. حتى لو علم بحقيقة ما تمضي إليه؛ إذ من حسن الحظ أن الطيور على أشكالها تقع. وسألَتْه باستهانة: ماذا يزعم الحمقى في الصحف؟

– أحاديث كألف ليلة وليلة عن إصلاح المجتمع والكون، ماذا تفيدين من ذلك أنت؟!

فرفعت كتفيها في استهزاء، فعاد يقول: لولا الدين لتزوجت منك بلا تردد!

فغضَّت البصر حتى شعر بأنه ينبغي أن يبرر موقفه، فقال: إن تغيير الدين كفيل بالقضاء على مركزي، وبالتالي على الوسائل التي يمكن أن أسعدك بها.

فقالت بارتياحٍ خفي: هذا مفهوم وواضح.

فقال بحماس: ولو هيأت لك فيلَّا كاملة لأحرجتك، لكنك ستكونين السكرتيرة، شيء عادي وطبيعي، وستكون مُتع الدنيا بين يديك: صدقيني إن المال هو سر بهجة الحياة، وإني مصمم على جعلك أسعد مخلوقة في هذا الوجود.

– متشكرة جدًّا!

– فهز رأسه بارتياح وقال: سأرسلك إلى حمدي رجب مدير الإدارة ليمتحنك، مجرد إجراء شكلي؛ كي تسير الأمور في مجراها الطبيعي.

– متشكرة جدًّا.

– وخبِّري والدتك بأن تستعد للانتقال إلى مصر الجديدة.

– سيجيء هذا في وقته!

وندمت مرة أخرى على ما أفلت منها مِن قول. باتت سريعة الغضب حقًّا، وإن ظل وجهها باسمًا هادئًا. وأوشكت أن تغضب على طموحها المجنون نفسه.

وقامت وهي تقول: سأذهب إلى مدير الإدارة.

فقام أيضًا ومضى حول مكتبه، وسارت نحو الباب فتبعها، وهو يرنو إلى رسم ظهرها البديع، حتى وقفا وجهًا لوجهٍ وراء الباب. تناول يدها وانحنى كأنما ليقبلها، ولكنه مد وجهه عند منتصف المسافة إلى خدها فلثمه. ولبث دانيَ الوجه من وجهها، وأنفاسه تُرعش الأهداب الحريرية المسدلة من كُلفة الفستان أعلى الصدر، ثم تساءل برغبة محمومة: أما مِن قُبلة؟

فأومأت إلى الأحمر في شفتيها وتساءلت: و … هذا؟

– ولو!

فلثمت جانبَ فِيه، ثم استدارت نحو الباب.

•••

وقصد ثالث الثلاثة الشقة رقم ٥٠ بالدور الثامن. كانت صورة الفتاة الجميلة ما تزال تُعايش خياله معايشةً لطيفةً، مخالطة أفكاره ومشاعره وأنفاسه، وكان يتصور في نشاط حارٍّ خلاق الحياةَ العريضة التي يمكن أن يصنعها ذلك المثال من الجمال الحي. لكنها انطوت في ركن مجهول أمام السكرتيرة الدميمة الذكية التي ابتسمت لاستقباله. حيَّاها برقة وهزَّ رأسه هزة المتسائل، وهو ينظر نحو باب المدير، فقالت على الفور: إنه ينتظرك يا أستاذ.

ودخل فقام المدير باسمَ الوجه وهو يقول: أهلًا أستاذ وديع، جئت في وقتك!

وتصافحا، ثم جلس وديع. أما المدير فمال نحو صوان قريب، فمد يده داخله مليًّا، ثم قدم إلى الأستاذ لفافة ماسية أدرك هذا لأول وهلة أنها «قرش»، ثم قال: هدية لك! لم أعرف إلا مصادفة أنك من أهل الكيف!

وابتسم وديع في شيء من الارتباك، وهو يدسها في جيبه، وجلس المدير وهو يقول: قرأت القصة، جميلة، نعم جميلة، لي عليها بعض الملحوظات سأحدثك عنها عندما يبدأ الاجتماع (ونظر في الساعة) .. وإذا كان لدى الآخرين ملحوظات أخرى، فرجائي أن تفرغ من إعادة كتابتها قبل نهاية الشهر، حتى يجد كاتب السيناريو مُهلة لكتابته، وحتى ندخل الاستديو في الميعاد المتفق عليه.

القصة تتغير، ولكن قصة القصة وقصة جميع القصص، واحدة. هذه هي المسألة التي يتكرر وقوعها عند مناقشة أي من قصصه. قصتك جميلة يا أستاذ .. ولكن! هي جميلة ولكن يجب أن تؤلفها من جديد. وتساءل من خلال تنهدة لم تُسمع عن ذلك الركن من الدنيا الذي تجري فيه الأمور على طبيعتها وتنطلق الطيور مغردةً، بلا خوف ولا جهل ولا طغيان، ولم يداخله شكٌّ في أنه سيجد هنالك الفتاة الجميلة التي عايشت خياله حتى أثملته. وتحرك حركةً لا معنى لها، وقال على سبيل الدفاع عن النفس: يا أستاذ مجدي، أنت سألتني إن كان عندي قصة فقدمتها، ثم أخبرتني أنك قبلتها، أليس كذلك؟

– طبعًا، لكن القصة ليست إلا مشروعًا، وعلينا أن نبدأ من أساس متين حتى نضمن إنتاج فيلم نظيف، شركتي عنوان الإنتاج النظيف، ألا تعلم أنهم يُطلقون عليَّ اسم المنتج المجنون لهذا السبب؟!

كان يتابع صوته بغيظ مكتوم، وينظر بغرابة إلى وجهه المُطل عليه من وراء مكتبه، متضمنًا جميع آيات الصحة والعافية والتحدي. كانت ملامحه جميعًا تنطق بالتحدي، عيناه الجاحظتان، أنفه المدبب، فكَّاه العريضان القويان، وكانت عنايته بالأناقة فائقة الحد، ورائحة المسك تفوح منه رغم علم جميع المقربين إليه من أنه يتدهَّن بها لرأيٍ قرأه عن إثارتها في أحد الكتب الجنسية. هذا المدير الكبير الذي قضى زهرة العمر مندوبًا لشركة تأمين، وما زال يُباهي بطلاقته في الفرنسية، ويستعمل منها الألفاظ والعبارات لمناسبة ولغير مناسبة، إلى درايته بأشياء كثيرة في الحياة العملية، وإن يكُنِ الشيء الوحيد الذي لم يفقهْ فيه حرفًا هو الفن بصفة عامة، والقصة بصفة خاصة. وتساءل وديع عن اللعنة الغريبة التي قضت عليه طوال حياته الفنية بأن يقف موقف المستأذن بفنه أمام أناس لا يربطهم سبب واحد بهذا الفن. وتنهد من الأعماق تنهيدة خفيةً حارة كمعركة في أعماق المحيط.

وفي تمام السادسة مساءً جاء المخرج الأستاذ محمد طنطاوي، وتبعه بعد قليل الموزع مسيو دزرائيلي، ثم قامت الحجرة لاستقبال النجمة عواطف زهدي. وهلَّت المرطبات ألوانًا وضج المكان بالأحاديث والنكات والتعليقات، على حين انكمش الأستاذ وديع في كرسيِّه ينتظر أن تبدأ محكمة التفتيش عملها. وجعل يسترق إلى وجوههم النظرات.

وتساءل متى تتقوض سيطرة الطغاة. متى يمكن أن يفكر محمد طنطاوي كإنسان؟ متى يحل في رأس مسيو دزرائيلي شيء غير الأرقام والنقود؟ متى تُقلع عواطف زهدي عن العادات المتأصلة التي اكتسبتها في بيت الهوى التي انتُشلت منه إلى عالم الفن؟ متى يكف مجدي السيد عن إنتاج أفلام كعربون لعشق جديد؟ متى تقف هذه العوامل كلها عن التدخل في فبركة القصص؟ .. ووجد نفسه تستعيد صورة الفتاة الجميلة التي عايشَتْه منذ قليل، وحلم مرة أخرى بالحياة العريضة التي يمكن أن يصنعها جمالها الحي.

وارتفع صوت المدير وهو يقول: هه، لندخل في الموضوع، الأستاذ وديع عبد الرازق هنا ليسمع آراءكم في قصته، فيجب أن ننتهي الليلة من المناقشة حتى يشرع فورًا في تعديل القصة.

واتجهت الأنظار نحو مسيو دزرائيلي باعتباره رأس المال، وكان ضائعًا في المقعد الضخم لقصر قامته وضآلة جسمه فتزحزح إلى الأمام حتى استوى على طرف المقعد، وقال باهتمام: القصة تبدأ ساخنةً ولكنها تنتهي باردةً، هذا شيء خطير جدًّا.

تركزت عليه الأبصار في انتباه واحترام، وتجلَّت مقدمات الموافقة دون كلام، ولما هم المُخرج بفتح فيه قاطعه الخواجا قائلًا: لا مؤاخذة يا محمد، أنا عندي موعد، ولا بد أن أذهب حالًا، فاتركني حتى أتم كلامي، قلت ساخنة وباردة، وشخصية البطل غير محبوبة؛ لأنه غني، والمتفرجون في بولاق والسيدة زينب لا يحبون الأبطال الأغنياء، ولا مجال في القصة للضحك، الجمهور يُحب الضحك، وجو الضحك فرصة لخلق رقصة أو أغنية، ابحثوا هذه النقط، وإذا تعذر تعديل القصة؛ فعندي لكم سيناريو جاهز قابل للتصوير فورًا.

وتساءل وديع بحدة: سيناريو؟!

فابتسم إليه ملاطفًا وقال: أنا وكيل توزيع أفلام أجنبية، وعادة أستحضر جميع السيناريوهات؛ لأختار على أساسها الأفلام التي أوزعها، وأشتري ما أشاء من الأفلام، ولكني أستبقي سيناريوهات الأفلام الأخرى حتى تسعفني في مثل هذه الزنقة، ولن يضيع حقك كمؤلف، فسيكتب اسمك على القصة الجديدة، ولن تُتهم بالسرقة لأن الفيلم المصور عن هذا السيناريو لن يرِدَ إلى الشرق الأوسط، فكروا فيما قلت، وسأتصل تليفونيًّا بك يا مجدي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل؛ لأعرف النتيجة.

ووقف رافعًا يده بالتحية فوقفت الحجرة، ثم ذهب.

وتغيرت تعبيرات الوجوه بعد ذهابه وانطلقت على سجيتها مما دلَّ على أنه كان ثمة توتر غير ملموس ثم زال، وقلَّب مجدي ناظرَيْه في الوجوه، وهو يقول بنبرة ملؤها التشجيع.

– لا تهتموا بما قال، أنا عارفه، كلامه كثير لكنه يقتنع في النهاية برأيي، والحق أن هذه القصة صالحة تمامًا لعواطف.

فقالت عواطف: السيناريو الذي أشار إليه لخَّصه لي بالتليفون، وهو غير مناسب لي على أي حال، أنا لا أصلح لتمثيل الزوجة الخائنة، وسيُغضب هذا غالبية جمهوري.

فقال محمد طنطاوي وهو يشعل سيجارة: فلنتكلم في قصة الأستاذ وديع.

– خبرني عن رأيك فيها؟

– أنا أوافق دزرائيلي على أنها تنقصها الفكاهة.

فقال وديع بحرارة: الموضوع جادٌّ، إذا أردت اللمسات الفكاهية هنا أو هناك، فهذه أمرها غير عسير، وهو يجيء في العلاج دون إفساد الفكرة الأصلية.

– لا أقصد هذا، أنا أريد خلق شخصية مُضحكة؛ لتلعب دورها في الفيلم كله، كتابع أو صديق للبطل.

فاستمات وديع في الدفاع قائلًا: لكنها تبدو شخصيةً ملزوقة، وقد تكررت في أفلامنا حتى باخت.

فقالت عواطف: بالعكس هذه الشخصية تنجح دائمًا، ودورها مناسب لحمودة!

ولم يكن حمودة إلا أخاها؛ ولذلك لم يجد وديع في المعارضة جدوى، فعدل عنها قائلًا: سأجد لها مكانًا في القصة.

فعاد المخرج يقول: وسخِّن النهاية أكثر، إنها ليست باردةً كما يقول دزرائيلي، ولكن تسخينها لا بأس به، اختمها بمعركة بين البطل وغريمه.

– لا .. لا، هذه نهاية لا تناسب موضوعًا نفسيًّا، ولا تناسب موضوعنا بحال، فكِّر في هذا من فضلك، إنها نهاية مناسبة لفيلم رُعاة بقر أو ما يشابهه.

– المعركة لعبة ناجحة، وأنا متخصص في المعارك.

فقال مجدي ضاحكًا: يا أستاذ وديع، لا تظلمْ مُخرجنا، كيف تحرمه في فيلم طويل، ولو من معركة واحدة؟ أتريده أن يضرب المتفرجين أو يضرب المنتج!

وضجت الحجرة بالضحك عدا وديع الذي مضى يجتر غمه صامتًا، وإذا بعواطف تقول: ودوري مناسب بلا شك، ولكنه في النصف الأول من الفيلم سلبي.

فقال وديع اليائس من تتابع الضربات: دورك في الأول هو دور امرأة عادية، نموذج متكرر من نسائنا في البيت، ولكن دورك الحقيقي يبدأ بزواجك من البطل.

– ليس هذا بدَوْر بطلة فيلم!

– ولكن هكذا القصة تسير.

– ولو!

وتساءل تُرى ألا يمكن أن يجد عملًا آخر غير التأليف؟ وتأوَّه دون صوت. وعند ذاك قال مجدي: هذه ملاحظات بسيطة لن تُغير جوهر القصة، وطبعًا أنت موافق يا أستاذ وديع؟!

– الحق أني غير موافق.

فضحك ضحكة مترعة بصحة وعافية، وقال: هكذا يكون موقفك كل مرة، وتستمر المناقشات حتى منتصف الليل، ثم تجبر بخاطرنا.

وقال المخرج: الأستاذ وديع عنيد ولكنه يُسايرنا في النهاية، وفنان السينما يجب أن تذوب شخصيته في المجموع!

وندت عن مجدي آهة كأنما تذكر فجأةً شيئًا ذا بال، واستخرج من درج مكتبه شيكًا وهو يقول: القسط الثاني حل منذ أسبوعين، لعن الله المشاغل!

ومدَّ له يده به، فتناوله وهو يستشعر أول نسمة باردة في هذه الجلسة الجهنمية. وبدا منه أنه يستعد لمواصلة المرافعة، ولكن مجدي قال: ممكن أن نلخِّص ما تم الاتفاق عليه بما يأتي: خلق شخصية مضحكة لحمودة، تسخين النهاية بمعركة، خلق حوادث مهمة لعواطف قبل الزواج من البطل.

ثم ضحك ضحكة عالية وهو يقول: ولكن لا نريد حوادث قبل زواجها من المنتج.

وضجوا جميعًا بالضحك، واستأذن المخرج ووديع فذهبا معًا، ودعاه المخرج إلى سيارته الكبيرة ليوصله إلى محطة التروللي باس، فانسابت بهما السيارة كالعروس. وقال المخرج: مطلوب مني قصة لشركة أبو الهول سأخرجها بعد هذا الفيلم مباشرة، فهل عندك فكرة؟

عذاب جديد في سبيل رزق جديد. كم يسره هذا الطلب وكم يحزنه! وفكر مليًّا، ثم قال متسائلًا: ما رأيك في موضوع عن المال؟

– قصة بوليسية؟

– كلا، إني أود أن أكتب عن المال باعتباره غولًا مُخيفًا يلتهم القيم الجميلة بلا رحمة كالخُلق والجمال والروح.

ففرقع محمد طنطاوي بأصبعيه فرحًا، وقال بحماس: اشرع في كتابتها وقابلني يوم الجمعة لكتابة العقد، فكرة عظيمة، وهادفة، وصالحة جدًّا للاشتراك في جائزة وزارة الثقافة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤