صلح

أشرقت الشمس أو كادت، وبدت ذيتيس تتهادى في الأفق الغربي فوق الثَّبَج، وهرعت عرائس الماء وعذارى البحر تُحيِّيها وتُنشد لها ألحان الفجر طلَّها الندى.

وكانت تتأوَّد تحت حِمْلها الثقيل فما إن بلغت سفينة أخيل ألقت بالدرع المسرودة؛ وحتى هبَّ ولدُها يُحيِّيها بعين شَكْرى ومُهجة حرَّى وقلبٍ مُوجَع حزين.

وكان لا يزال جالسًا أمام جثة بتروكلس يبكيها، ويكلِّم فيها الإخاء والوفاء، ويناجي في لفائفها الوُدَّ والولاء، وكان ما يزداد إلا لوعةً، وكان ما يزداد إلا أنينًا!

وحنتْ عليه أمُّه تُواسيه؛ ثم لفَتَتْه‎ إلى الدرع والخوذة، فحَدَجهما بنظرة قاتمة، وشكر لها هدية فلكان، ثم أوصاها بالجثة خير ما يُوصَى به الصديق، «ذودي الذباب فلا يمسَّها يا أمَّاه وادفعي عنها أذى أسرابه، واسقيها من المعتقة الصفراء حتى تأذن الآلهة فأعود إلى بتروكلس بثأره.»

وانطلق في غبشة الصبح يطوف بمعسكر الهيلانيين داعيًا إلى مجلس حربي.

وكان يهتف بالجند النائم هُتافًا عاليًا فينتفض المقاتلون وقد خفقت قلوبهم واهتزَّت جوانحهم وفاضت عَبَراتُهم من الفرح للقاء أخيل!

وكان أجمل ذلك جميعًا أن ينهض أوليسيز متهالكًا على نفسه، وديوميد مترنِّحًا في عِطفه ونسطور مرتجفًا كأنه في يوم حشر، و… أجاممنون كأن الحياء والخجل يصبغانه بحمرة الجحيم!

لقد كانت جروح القادة أنطق برهان على ما جرت تلك الخصومة الوضيعة بين أجاممنون وأخيل من هزيمة للجيش، وضياع للجهود، وعبث بآمال أمة ترقب أبناءها من وراء البحار!

وانتظم عقد القادة ووقف أخيل يتكلَّم؛ فأرهفت الآذان، وصغت القلوب، وتحرَّكت الألسن تبحث عن بلل من الريق تبتلعه: «ابن أتريوس العظيم!

أخي في الوطن!

يا أمير هذه الجيوش الغازية!

أرأيت؟! أي جدوى عادت عليَّ أو عليك من هذه القطيعة التي أجَّجت نارها، واندلع بيني وبينك أوارها، وأي غُنم أفدت من شحناء لم تكن تخلق بعظيم بن عظيم، بل سليل آلهة عظماء؟!

ألا ليتها أودت تلك الفتاة التي أثارت كلَّ تلك العداوة، وأغرت جميع تلك البغضاء بيننا! إي وأرباب الأولمب؛ ليتَها أودت يوم غَنِمناها من مدينة ليرناسوس حتى لا تفرح طروادة بما تمَّ لها من نصر، وما حاق بجحافلنا من خذلان، لم يكن شيء منه يقع لولا ما أثارته بريسيز بيننا!

ولكن لا! فالفتاة نقية وطاهرة وبريئة لأنها لا تزر وازرة وزر أخرى! ولكننا معشر الهيلانيين ينبغي أن نذكر أبدًا أن لنا ثأرًا عند هؤلاء الطرواديين لا محيص لهم من أن نأخذهم به وأن نطلبه عندهم، فلا نرتدَّ عنهم حتى يُدَال لنا منهم وتكون لنا الكَرَّة عليهم حين يظفرنا اتحادنا بهم.

لنكبح جماح أنفسنا إذن! وليُطفئ كلٌّ منا غيظَه في سبيل هيلاس؛ ولتندمل تلك الجراح التي تفثأ قلوبنا فتكاد تقضي على آمال أمة وتطيح بأماني وطن!

أجاممنون بن أتريوس العظيم!

تلك يدي أضعُها في يدك عهدًا مخفورًا وذمَّةً وفيةً ألَّا ندع أهواءنا تهدم ما صبَتْ إليه نفوسُنا من قبل، وأن نكون من الساعة يدًا على عدونا، وإلْبًا واحدًا.

والويل بعدها لمن يجرؤ من جند طروادة أن يتصدَّى لنا، أو يجازف بنفسه أمامنا … هذا رمحي! وتلك قناتي! ويا طالما قد ظمئت إلى الدماء.»

وتدفَّقت الدماء في عروق القادة، وشعروا كأن السماء ترفعهم إليها فتُطهِّرهم وتُزكِّيهم وتعود بهم لترى قومًا آخرين!

ونهض أجاممنون من مكانه ولم يستطع أن يتقدم إلى مكان الخطابة، فقال: «أيها الأصدقاء! يا أبطال هيلاس! يا وزراء مارس!

لستُ أدري ما أقول ردًّا على أخيل العظيم، بيْد أنني سأفتح له قلبي وأكشف لكم أمامه عن سريرتي وسيد الأولمب على ما أقول وكيل!

أبدًا والله ما كنت سبب هذه المأساة التي أغرت بيننا العداوة، وأججت نيران هذه البغضاء! وأبدًا والله ما آثرت أن يكون بيننا — ونحن في هذا الأمر ما نحن — شيء من تلك القطيعة التي دفعنا ثمنها غاليًا: أرواحًا مطهرةً ودمًا زكيًّا وشبابًا أنضر الشباب!

أبدًا والله ما آثرت من ذلك شيئًا قط؛ ولكنها المقادير ومشيئة سيد الأولمب، وهذه الربات الغالبات «أرينيس»١ اللائي تحالفن عليَّ فغشَّين بصيرتي، وأذهلنني عن نفسي، فأتيت ما أتيت على غير وعْيٍ مني ولا هدًى ولا برهان مبين!

ولقد ثاب إليَّ رشدي وارتفع الحجاب عن بصيرتي ساعةَ إذ أبصرت هكتور يأخذ جموعنا فيحصرهم بينه وبين البحر، كأشد ما يكون حصار بين موتين! عندها ذكرت أخيل! وذكرت أنني آثمٌ في حق أخيل، وأن أخيل لو كان في هذه الحلبة لما ملك هكتور رشاده، وما ملكت رِجلاه أن تحملاه! فزاغت عيناي واستبنت ضلالتي واستغفرت الآلهة من أجل آثامي!

أخيل!

ما أعظمك حين نسيت غضبتك، وسعيت إلى خصمك، ومددت إليه يمينك من أجل الوطن! مرحبًا بك يا أخي! ومرحبًا بصلح يغسل الضِّغْن، ويذهب بالجفوة ويرأب ما انصدع من شملنا جميعًا!

على أني أرى أن أمهر صلحي وأؤكد محبتي باللُّهَى الغالية، والهدايا العالية، وبكل مذخور ثمين؛ فهلمَّ يا ابن بليوس، هلمَّ؛ هيِّئ‎ الصفوف وجيِّش الفِرَق حتى أعود إليك بتذكاراتي.»

وأبى أخيل أن يلهو أحدٌ في تلك الساعة أو يشتغل إلا بالحرب والاستعداد ليوم الفصل، فشكر أجاممون؛ ورجاه أن يلبث معه حتى يأخذ كلٌّ عُدَّتَه؛ ولكن أوليسيز الجريح يتدخل، ويرجو أن ينطلق أجاممنون فيأتي بالعطايا واللُّهَى، وبالغادة المفتان، بريسيز، فتنة الفتن، ونادرة الجمال، نقيَّةً كما هي، أخيليةً كما فصَلت من خِدْر مولاها يوم الخصام الأكبر، «وأنا أقسم لأخي على ذلك ويقسم عليه ويؤكده أجاممنون».

ويُقسم عليه ويؤكِّده أجاممنون، ويغسل إقسامَه بالدمع السخين؛ ثم يأمر خادمه «تلثبيوس»، فينطلق إلى حيث يأتي بخنزير سمين يذبحه ويُطعم القادة منه، ويحلف أخيل لا يذوقَنَّ من طعام حتى يعود بثأر صديقه وأعز الناس عليه: «بتروكلوس»!

ويُلحُّ عليه أوليسيز في أن يأكل: «لأن الحرب شاقة، ويومها دهر بأكمله، ومقارعة الأقران مُجهِدة للأبدان …» وما يزيد أخيل إلا إباءً!

وعاد أجاممنون.

وكان أوليسيز نفسه يتقدَّم الركب الذي أقبل من سفينة القائد العام يحمل هداياه لأخيل، ونهض أجاممنون فأشهد الآلهة على نقاء القلب وصفاء النفس ورضاء الضمير، ثم قدَّم الهدايا إلى ابن بليوس الذي كان يشهدها ويبكي!

وفي الحق؛ لقد كانت لُهًى أحسن اللُّهى وهدايا على قدر مُهديها!

فهذه صناديق سبعة مقفلة مُلِئت بالدُّرِّ واليواقيت والزبرجد وبكل ما غلَتْ قيمتُه من كتَّان مصر وخزِّ الهند وحَبْر الشام …

وهذه اثنا عشر من صافنات الجياد كأنما وُلدت في ليلة واحدة، ولوَّنتها الآلهة بألوان واحدة، وأضفَتْ عليها عرائسُ الفنون من سِحْرها، فكانت كخيل أورورا!

وهذه عشرون دَسْتًا من النحاس المزركَش، حُلِّيَت سطوحُها بالمِيناء والفُسَيفِساء، وتبارت في حفْرها كلُّ يدِ صَنَاعٍ‎ وفكر عتيد، وفيها من أصناف الجوهر ما يَبهَرُ اللُّبَّ ويَشدَهُ القلبَ ويَذهبُ سَنَا برقِه بالأبصار!

وهذه بِدَرٌ عشرٌ من الذهب الخالص يحملُها أوليسيز ويتقدَّم بها أبكارًا سبعةً من جملة اللُّهَى؛ كلٌّ منهن كأنها فينوس حقيقية تَميسُ كأنها بانَةٌ وتَبسِمُ كأنها أُقحوانة وتُبدي عن الدُّرِّ النضيد!

ثم …

هذه بريسيز! بريسيز الهيفاء وأصل هذا البلاء؛ الدُّمْية التي أُتْرِعَت بالمفاتن، وفاضتْ عيناها بسحر الهوى!

هذه بريسيز تَبرُزُ فتخطف الأبصار وتتقدَّم فتَثِب القلوبُ، تودُّ لو تغمرها لمحةٌ من جمالها النضر وشبابها الفينان!

فهل رأيتَ إلى العاصفة تقتلع الدَّوح وتُطيح بالأَيك، وتَهُبُّ على اليَمِّ النائم فيصطخب، والبحر الوادع فيضطرب … و… على الغدير ذي الخرير فيرقص من رعشة كأن به مسًّا من الخدر!

تلك هي بريسيز حين تبدَّت للقوم!

لقد هتف أوليسيز هتفةً ضاعت في انذهال الملأ بما يرى على ما تعرف من جبروت أوليسيز وشدة أيْده … ثم هتف فتلفَّت الناس، وراح الرجلُ يُكرِّر ما قيل من نقاء بريسيز وتمامِ طُهْرها؛ وأخيل مُطرِق ساهم، لا يكاد يَعي مما يُقال شيئًا!

واستلَّ أتريديس خنجرَه، وأهوى به على عنق الخنزير يذبحه، وهو في ذلك كلِّه يُصلي لأربابه، ويسبح بحمد السماء، ويشكر سيد الأولمب ما أتم من صلح شريف بين سليلي الآلهة.

ونهض أجاممنون فقدم بريسيز إلى سيدها، وعقَّب بكلمة طيبة، ثم أشار أخيل إلى الميرميدون؛ فحملوا الهدايا وانطلقوا بها إلى أسطولهم، ومعهم فتاة مولاهم في صفوف موسيقية، وفي موكب رهيب!

•••

وانصرف القادة إلى زادهم والجنود إلى مِيرتِهم، ولا حديثَ لهم إلا أخيل وفتاة أخيل، والصلح الذي باركته السماء، وكسبوا منه أن يكون فيهم أخيل!

أما بريسيز فقد وصلت إلى سفينة مولاها؛ فشَدَهَها أن ترى جثة بتروكلوس في لفائفها وأكفانها، وإلى هذه الأم البارة، ذيتيس؛ جالسةً عندها تبكي، وتدفع أسراب الذباب، وتسقي القتيل خمرًا!

لقد كانت بريسيز تعجب بالبطل منذ قريب، ولقد تركتْه ممتلئًا صحةً، موفورًا شبابًا؛ نضر الصبى، ريَّان الإهاب، ثم عادت فكان أشقُّ شيء عليها أن تراه مُسَجًّى هكذا! لا نأمة ولا حركة ولا نفَس! قتيلًا كأدنى من كان يُقتَل كل يوم روع، طعينًا كأقل من كان يُطعَن كل يوم نزال!

ودارت الدنيا بالفتاة فراحت تملؤها ندبةً وبكاءً! واجتمع لديها الفتياتُ الأخريات يندبْن ويبكين.

فما كان أروعه منظرًا وما كان أشجاه إخلاصًا!

•••

وأقبل فونيكس على أخيل يواسيه.

ولكن أخيل ما يرقأ له دمعٌ وما ينقطع له نحيبٌ.

واطَّلعت أرباب الأولمب فشهدت ما يأخذ البطل من رُحَضاء الحزن، وبُرَحاء الأسى، فأشار زيوس إلى مينرفا، فهبَّت إلى أخيل ترعاه، وتُخفف عنه من بلواه. فلما كانت قاب قوسين من ابن بليوس، هالها أن ترى إليه يعصف به الحزن ويُوهنه الجزع، والجند مع ذاك قد بُوِّئوا مواقف للقتال، فما هي إلا أن أمرت فونيكس بأن يصبَّ الخمر المعتقة على صدر صديقه لينقذه من ضيقه وليخفف عنه من وطأة الجوع. ويصدع فونيكس؛ فيتقدم إلى أخيل كاشفًا عن صدره، ويصب السُّلافة الأولمبية فيشربها الجسم الضاوي، ويسترجع بها ما فقد من قوة، وما يفتأ فونيكس يصب الخمر، وما يفتأ أخيل ينظر إليه مشدوهًا، حتى يكون في كل قوته من أثر المُدامة، فيصيح صيحة الحرب التي تهتزُّ لها أبراج طروادة!

فانظر إليه مُقنَّعًا في حديد فلكان، وانظر إليه تحت تلك الخوذة التي لم تصنع مثلها يد الإله الحداد، وانظر إليه يداعب حربة شيرون أستاذه السنتور العظيم، ثم انظر إليه كالبركان المضطرب يقذف النار من عينيه المغضبتَين ومن حوله الميرميدون يملئون الرحب ويسدُّون الشعاب.

ويل لك يا هكتور!

١  ربات ثلاث من زبانية بلوتو — رب الدار الآخرة «هيدز» — في هيئة السعلاة، ولهن مكان الشعر ثعابين تتلوى فوق رءوسهن يمزقن أجسام المجرمين من الموتى ويذقنهم سوء العذاب (الشرح من الأستاذ جرير ص١٣٩).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤