خاتمة

«الكون مكان كبير، ربما يكون الأكبر على الإطلاق.»

كيلجور تراوت (فيليب خوسيه فارمر)، «فينوس على نصف الصدفة»

لقد أخذتنا رحلتنا الرياضية من سطح الأرض إلى أبعد نواحي الكون، ومن بداية الزمن إلى نهاية الكون. بدأت رحلتنا في أعماق ما قبل التاريخ، حين نظر البشر الأوائل إلى سماء الليل وتساءلوا عمَّا يحدث هناك بالأعلى. ولا يبدو أنَّ نهاية هذه الرحلة تلوح في الأفق؛ إذ كلما زادت معرفتنا عن الكون، زاد ما نعجز عن فهمه.

لقد تطورت الرياضيات مع تطوُّر علم الفلك وما يتعلق به من مجالات مثل الفيزياء النووية والفيزياء الفلكية والنظرية الكمومية والنسبية. يطرح العلم الأسئلة، وتحاول الرياضيات الإجابة عنها. وأحيانًا يحدث العكس وتتنبأ الاكتشافات الرياضية بظواهر جديدة. فقد أدت جهود نيوتن لصياغة قوانين الجاذبية والحركة إلى تحفيز نظرية المعادلات التفاضلية ومشكلة الأجسام «ن»؛ مما أدى إلى الإلهام بالحسابات التي تنبأت بوجود نبتون، والاضطراب الفوضوي للقمر «هايبريون».

ونتيجةً لهذا، صارت الرياضيات والعلوم، لا سيما علم الفلك، أكثر تعقيدًا؛ إذ يلهم كلٌّ منهما بأفكار جديدة في الآخر. كانت السجلات البابلية لحركة الكواكب تستلزم علمًا عالي الدقة. وكان نموذج بطليموس للنظام الشمسي يستند إلى هندسة الكرات والدوائر. واستلزمت نسخة كيبلر للنظام الشمسي المقاطع المخروطية التي وضعها علماء الهندسة اليونانيون. حين أعاد نيوتن صياغة الأمر كلِّه في صورة قانون كوني شامل، قدَّمه باستخدام الهندسة المعقدة لكنَّ علم التفاضل والتكامل والمعادلات التفاضلية هي ما شكَّل تفكيره.

لقد اتضح أنَّ نهج المعادلات التفاضلية أكثر ملاءمة لتعقيدات الظواهر الفلكية. وبعد فهم حركة جسمين يوجد بينهما تجاذب متبادل، حاول علماء الفلك والرياضيات الانتقال إلى فهم الظاهرة نفسها في وجود ثلاثة أجسام أو أكثر. تعرقلت هذه المحاولة بفعلِ ما نعرفه الآن باسم الديناميكا الفوضوية، وأطلت الفوضى برأسها للمرة الأولى في مسألة الجسمين ونصف. غير أنَّ التقدم كان لا يزال ممكنًا. فألهمت أفكار بوانكاريه تأسيس مجال جديد تمامًا في الرياضيات هو الطوبولوجيا. وقد كان هو نفسه أحد البارزين في مراحل تطوره الأولى. يمكن وصف الطوبولوجيا بأنه علم الهندسة بمعنًى مرن للغاية.

لقد فتح السؤال البسيط «كيف تشرق الشمس؟» صندوق باندورا حين أدرك البشر أنه لو كانت الشمس تستخدم مصدرًا تقليديًّا من مصادر الطاقة، لكانت احترقت وصارت رمادًا منذ زمن طويل. فاكتشاف الفيزياء النووية يفسِّر الكيفية التي تتمكَّن بها النجوم من إنتاج الحرارة والضوء، مما أدَّى إلى تراكم التنبؤات الدقيقة بوجود وفرة في المجرة من جميع العناصر الكيميائية تقريبًا.

ألهمت ديناميكيات المجرات بأشكالها المميزة، البشر بنماذج ورؤًى جديدة، لكنها طرحت أيضًا معضلة ضخمة: منحنيات الدورات التي لا تتفق مع قانون نيوتن للجاذبية إلا أن تكون غالبية المادة الموجودة في الكون مختلفة تمامًا عن أي شيء لاحظناه قبل ذلك أو شكَّلناه في مسارعات الجسيمات (وذلك على حد زعم علماء الكونيات). أو ربما لا تكمن المشكلة في الرياضيات؛ بل في نموذج رياضي غير ملائم، وهو الاحتمال الذي بدأ بعض الرياضيين في تأمُّله.

حين خلق أينشتاين ثورة في الفيزياء وأراد أن يدخِل الجاذبية فيها أيضًا، ظهر نوع جديد من الهندسة لإنقاذه، وهو نظرية مشاعب ريمان التي انبثقت من النهج الجذري الذي تبنَّاه جاوس في معالجة الانحناء. تفسِّر نظرية النسبية العامة التي نتجت عن ذلك، التقدُّم المداري الشاذ للحضيض الشمسي لدى عطارد، وانحناء الضوء بفعل الشمس. حين طُبِّقَت النظرية على النجوم الضخمة، ظهرت سمات رياضية غريبة للحلول استرعت الانتباه لما نعرفه الآن بالثقوب السوداء. كان الكون يبدأ في أن يبدو غريبًا بالفعل.

وحين طُبِّقَت النسبية العامة على الكون بأكمله، بدا الكون أغرب وأغرب. فقد أدَّى اكتشاف هابِل لظاهرة انزياح المجرات نحو الأحمر، إلى تشكيل لومتر لنظرية البيضة الكونية المنفجرة، والتي تُعرف أيضًا بالانفجار العظيم. كان فهم الانفجار العظيم يستلزم فيزياء جديدة ورياضيات جديدة، وطرقًا حسابية جديدة فعالة. ما بدا للوهلة الأولى إجابة مكتملة، بدأ ينهار مع جمع المزيد من البيانات، واستلزم ثلاث إضافات مختلفة هي التضخم والمادة المظلمة والطاقة المظلمة. يروِّج علماء الكونيات لهذه الإضافات بصفتها اكتشافات عميقة، وهو ما سيكون صحيحًا إذا اجتازت نظرياتهم معيار التدقيق، غير أنَّ كلًّا من هذه الإضافات يأتي بمشكلاته، ولا يُدعَم أيٌّ منها بتأكيد مستقل من الافتراضات الواسعة النطاق اللازمة لنجاحها.

يعمل العلماء باستمرار على تنقيح فهمهم للكون، وكل اكتشاف جديد يطرح أسئلة جديدة. ففي يونيو ٢٠١٦، استخدمت ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية تلسكوب هابل لقياس المسافات إلى النجوم في ١٩ مجرة. وكانت النتائج التي حصل عليها فريق بقيادة آدم ريس، قد استخدمت طرقًا إحصائية عالية الدقة لمراجعة ثابت هابل ليزداد إلى ٧٣٫٢ كيلومترًا في الثانية لكل كيلو فرسخ فلكي.1 معنى هذا أنَّ الكون يتمدد بدرجة أسرع بمقدار ٥–٩٪ عمَّا كان يُعتقد من قبل. وفقًا للنموذج القياسي في علم الكونيات، لا يتفق هذا الرقم مع الملاحظات المستقاة من خلفية الأمواج الميكروية الكونية التي قاسها «مسبار ويلكينسون لتباين الأشعة الميكروية»، و«مسبار بلانك» التابع لوكالة الفضاء الأوروبية. ربما تكون هذه النتيجة غير المتوقعة مفتاحًا جديدًا لطبيعة المادة المظلمة والطاقة المظلمة، أو علامة على عدم وجودهما وأنَّ تصورنا عن الكون يحتاج إلى المراجعة.

تلك هي الطريقة التي تتقدَّم بها العلوم الحقيقية في واقع الأمر. ثلاث خطوات إلى الأمام، وخطوتان إلى الخلف. أما الرياضيون، فهم يتمتعون برفاهية العيش في فقاعة منطقية؛ حيث «يبقى» الشيء صحيحًا، فور أن تثبت صحته. قد تتغير التفسيرات والبراهين، لكنَّ المبرهنات لا تُلغى بعد التوصل إلى اكتشافات أخرى. غير أنها قد تصبح عتيقة أو غير ذات صلة بالاهتمامات الحالية. أما العلم فهو شرطي على الدوام، وتقتصر صلاحيته على صلاحية الأدلة الحالية فحسب. واستجابة لمثل هذه الأدلة، يحتفظ العلماء بالحق في «تغيير آرائهم.»

وحتى حين نظن أننا نفهم شيئًا ما، تظهر بعض المشكلات غير المتوقعة. فمن الناحية النظرية، تُعد جميع التنويعات المحتملة لكوننا على القدر نفسه من المنطقية التي تتسم بها هذه التنويعة. حين بدا أنَّ الحسابات تشير إلى أنَّ معظم الاحتمالات المتنوعة لا تدعم الحياة، ولا حتى وجود الذرات، قام اللغز الفلسفي المتمثل في الضبط الدقيق، بمشهد دخوله الكبير على الساحة. أدت محاولات حله إلى بعض الأفكار الإبداعية وإن كانت تخمينية، التي ابتكرها الفيزيائيون حتى الآن. بالرغم من ذلك، فليس أيٌّ منها بضروري، إذا اتضح أنَّ المشكلة بأكملها تنطوي على مغالطات، مثلما يشير التحليل الدقيق.

يتمثل المحور الأساسي لهذا الكتاب، في التعبير عن ضرورة التفكير الرياضي في علم الفلك والكونيات، وإظهار ما حقَّقه من نجاح مذهل. وحتى حين كنت أنتقد النظريات الشهيرة، بدأت بتفسير وجهة النظر التقليدية وتوضيح السبب في موافقة الكثيرين عليها. بالرغم من ذلك، حين يبدو أنه توجد أسباب منطقية لتأمُّل بدائل جديدة، لا سيما حين لا يكون التعامل مع هذه البدائل بجدية، فأنا أعتقد أنها جديرة بالطرح، حتى وإن كانت خلافية أو مرفوضة وفقًا للعديد من علماء الكونيات. أنا لا أدعوك إلى قبول مزاعم واثقة بحل العديد من ألغاز الكون، بينما يبقى الكثير من المعضلات دون حل. ومن ناحية أخرى، أرغب في شرح الحلول التقليدية أيضًا؛ فهي تطبيقات رائعة للرياضيات، وربما تكون صحيحة، وحتى إذا لم تكن صحيحة، فهي تمهِّد الطريق نحو شيء أفضل.

غالبًا ما تبدو البدائل جذرية: لا وجود للانفجار العظيم، المادة المظلمة محض سراب. بالرغم من ذلك، فقبل بضعة عقود فقط، لم يكن لأي من النظريتين أيُّ مؤيدين على الإطلاق. إنَّ البحث عند الحدود البعيدة للمعرفة دائمًا ما يكون صعبًا، نحن لا نستطيع أن نحضر الكون إلى أحد المختبرات، ونضعه تحت المجهر، ثم نقطره لمعرفةِ ما يتكوَّن منه أو نعرضه للإجهاد لنرى ما ينكسر. ولهذا لا بد لنا من استخدام الاستدلال والخيال. وعلينا استخدام مَلَكاتنا النقدية أيضًا؛ لذا فقد أوليتُ تركيزًا أكثر من المعتاد للأفكار التي لا تعبِّر عن الرأي المعتاد. فتلك أجزاء صالحة من العملية العلمية أيضًا.

لقد أتينا بعشرات النظرات الخاطئة التي كانت تبدو منطقية قبل فترة ليست بالطويلة. الأرض هي مركز الكون. تشكَّلت الكواكب حين انتزع نجم عابر كتلة على شكل سيجار من الشمس. توجد كواكب أقرب من عطارد تدور بالشمس. لكوكب زحل آذان. الشمس هي النجم الوحيد الذي تدور به كواكب. تقبع المجرة في مركز الكون محاطة بفراغ لا نهائي. الكون موجود منذ الأزل وعلى الدوام، لكنَّ موادَّ جديدةً تشكلت في الفراغ بين النجمي. كانت هذه النظريات تحظى بتصديق واسع في زمانها، وكان معظمها يستند إلى أفضل الأدلة الموجودة حينها. الحق أنَّ بعضها كان سخيفًا على أية حال؛ فالعلماء يتبنون أفكارًا سخيفة في بعض الأحيان تعززها فيهم غريزة القطيع وحمية شبيهة بالحمية الدينية، لا الأدلة.

لست أرى سببًا يجعل النظريات الحالية التي نعتز بها أفضل مآلًا. ربما لم يتشكل القمر عن طريق اصطدام الأرض بجسم في حجم المريخ. ربما لم يحدث انفجار عظيم. ربما لا يكون الانزياح نحو الأحمر دليلًا على تمدد الكون. ربما لا يكون للثقوب السوداء وجود. ربما لم يحدث التضخم قط. ربما تكون المادة المظلمة خطأً. ربما تكون الحياة الفضائية مختلفة عن أي شيء صادفناه من قبل، أو ربما حتى عن أي شيء نتخيله.

ربما نعم.

وربما لا.

ستكون المتعة في الاكتشاف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤