الفصل الرابع عشر

نجوم مظلمة

«هولي: حسنًا، إنَّ صفة الثقب الأسود؛ أي سِمته الأساسية المميزة، هي أنه أسود. وصفة الفضاء أو لونه الأساسي، هو الأسود أيضًا. فكيف يُفترض بنا أن نراها؟»

مسلسل «ريد دوارف» (قزم أحمر)، الحلقة ٢: «ماروند»

لطالما كان السفر إلى القمر حلمًا من أحلام البشر. فنجد مجموعة «ترو فيكشينز» (قصص حقيقية)، التي ألَّفها الكاتب الساخر لوقيان السميسياطي، والتي يعود تاريخها إلى عام ١٥٠ قبل الميلاد، تتضمن رحلات تخيلية إلى القمر وكوكب الزهرة. وفي عام ١٦٠٨، كتب كيبلر رواية خيال علمي بعنوان «صومنيوم» (الحلم)، وفيها ترسل الشياطين صبيًّا من آيسلندا إلى القمر. وفي أواخر عشرينيات القرن السابع عشر، كتب فرانسيس جودوين، أسقف هيرفورد، «ذا مان إن ذا مون» (الرجل الموجود على القمر)، يطير فيها بجع عملاق بالبحار دومينيجو جونسيلز إلى القمر.

كانت شياطين كيبلر أفضل من الناحية العلمية من بجع جودوين. فالبجعة مهما بلغت قوَّتها لا تستطيع الطيران إلى القمر؛ لأنَّ الفضاء فراغ. أما الشياطين، فيمكنها أن تدفع إنسانًا مخدَّرًا دفعة قوية تكفي لإخراجه من الكوكب. ما مدى قوة هذه الدفعة؟ تبلغ الطاقة الحركية للصاروخ نصف كتلته مضروبًا في مربع سرعته المتَّجهة، ولا بد أن تتغلب على طاقة وضع أي مجال جذبوي تحاول الإفلات منه. كان كيبلر مدركًا لذلك وإن لم يَصغ الأمر بهذه الكلمات نفسها. لقد قال إنَّ الصاروخ لا بد أن يتخطى مقدارًا حرجًا من «سرعة الإفلات المتجهة». إذا دفعت شيئًا نحو السماء بسرعة أكبر، فلن يعود إليك، أما إذا دفعته بسرعة أقل، فسوف يعود. تبلغ سرعة الإفلات المتجهة للأرض ١١٫٢ كيلومترًا في الثانية. وفي غياب أية أجسام أخرى، مع تجاهل مقاومة الهواء، سنحصل من ذلك على دفعة قوية بما يكفي للإفلات من الأرض إلى الأبد. ستظل «تشعر» بقوة الجاذبية، تذكَّر قانون الجذب «العام»، لكنَّ القوة ستنخفض بسرعة شديدة بما يتيح لك ألا تبطئ تدريجيًّا حتى تتوقف. وفي حالة وجود أجسام أخرى، ينبغي مراعاة تأثيرها الكلي أيضًا. إذا بدأت على الأرض وكنت ترغب في الإفلات من بئر جاذبية الشمس، فإنك تحتاج إلى سرعة متجهة بمقدار ٤٢٫١ كيلومترًا في الثانية.

توجد طرق للتغلب على هذا القيد. إنَّ حبل الفضاء ذا الكرات هو أداة افتراضية تدير مقصورة مثلما تدور إحدى المقصورات على شعاع العجلة الدوارة. إذا ركَّبت العديد منه معًا في شكل شلال، فسوف تتمكن من الركوب لتدور على مجموعة من أشعة العجلة الدوارة. والأفضل من ذلك أن تبني مصعدًا فضائيًّا، وهو في جوهره مجرد حبل يتدلى من قمر في مدار متزامن مع الأرض، وحينها يمكنك تسلُّق الحبل بأي درجة من البطء ترغب فيها. ذلك أنَّ سرعة الإفلات المتجهة لا تمثل أي أهمية في هذه الأساليب. فهي تنطبق على الأجسام الحرة الحركة التي تتلقى دفعة كبيرة ثم تُترك لحالها. وذلك يؤدي إلى نتائج أعمق كثيرًا لسرعة الإفلات المتجهة؛ إذ إنَّ أحد هذه الأجسام هو الفوتون: جسيم الضوء.

•••

حين اكتشف رومر أنَّ للضوء سرعة محددة، أدرك قلة من العلماء ما ينطوي عليه ذلك، وهو أنَّ الضوء لا يستطيع الإفلات من جسم ضخم بما يكفي. وفي عام ١٧٨٣، تخيَّل جون ميشيل أنَّ الكون قد يكون ممتلئًا بأجسام ضخمة، أكبر من النجوم لكنها مظلمة. وفي عام ١٧٩٦، نشر لابلاس الفكرة نفسها في رائعة أعماله «عرض لنظام العالم»:

إنَّ الأشعة الصادرة من نجم لامع كثافته مساوية لكثافة الأرض، ويبلغ قطره ٢٥٠ ضعفًا من قطر الشمس، لن تصلنا بسبب قوة جاذبيته؛ ومن ثمَّ فقد تكون أكبر الأجسام اللامعة في الكون غير مرئية لهذا السبب.

لقد حذف لابلاس هذه الفقرة بدايةً من الإصدار الثالث، وذلك بسبب ما كان ينتابه من شكوك فيها على الأرجح.

وإذا كان الحال كذلك؛ فما كان له أن يقلق حيالها، وإن استغرق الأمر قرنين من الزمان لإثبات وجود ما تنبأ به من «نجوم مظلمة». كانت النسبية قد أطاحت آنذاك بالأساس النيوتوني للحسابات، مما وضع مفهوم النجوم المظلمة تحت ضوء جديد، أو ربما ظلام جديد. ذلك أنَّ حلول معادلات أينشتاين للمجال الخاص بالزمكان المحيط بكتلة كثيفة كبيرة للغاية تتنبأ بشيء أكثر غرابة حتى من نجوم ميشيل ولابلاس المظلمة. فمثل هذه الكتلة لا تحبس جميع الضوء الذي تصدره فحسب؛ بل تختفي من الكون تمامًا، مختبئة خلف تذكرة ذهاب فقط إلى عالم النسيان، تُدعى بأفق الحدث. في عام ١٩٦٤، كتبت الصحافية آن إيوينج، مقالًا عن هذه الفكرة بالعنوان اللافت للنظر، «ثقوب سوداء في الفضاء». استخدم الفيزيائي جون ويلر هذا المصطلح نفسه عام ١٩٦٧، وكثيرًا ما يُنسَب إليه الفضل في اختراعه.

إنَّ الوجود «الرياضي» للثقوب السوداء هو نتيجة مباشرة للنسبية العامة، غير أنَّ بعض العلماء كانوا يتساءلون عمَّا إن كان ذلك يعرِّض النظرية لعدم الاكتمال؛ إذ تفتقر إلى مبدأ فيزيائي إضافي ينفي مثل تلك الظاهرة الغريبة. والطريقة الأفضل لحل هذه المشكلة هي رصد ثقب أسود حقيقي. وقد ثبت أنَّ ذلك ليس بسهل، لا بسبب العبارة البارزة التي صرح بها الكمبيوتر هولي في البرنامج التلفزيوني البريطاني «ريد دوارف» فحسب، والتي اقتبستُها في افتتاحية الفصل. فحتى إذا كان الثقب الأسود غير مرئي، فإنَّ مجال جاذبيته سيؤثِّر في المادة التي تقع خارجه على نحو مميَّز. علاوةً على ذلك، تشير النسبية إلى أنَّ الثقوب السوداء ليست سوداء في الواقع (معذرةً هولي)، وهي ليست ثقوبًا بالضبط أيضًا. فالضوء لا يستطيع الخروج منها، لكنَّ المادة التي تُبتلَع «بداخلها» تنتج تأثيرات يمكن رصدها.

الآن، لم تَعد الثقوب السوداء مادةً للخيال العلمي. فمعظم علماء الفلك يقرون بوجودها. ويبدو بالفعل أنَّ معظم المجرات تحتوي على ثقب أسود فائق الضخامة في مركزها. وربما تكون هذه الثقوب السوداء هي سبب تكوُّن المجرات في المقام الأول.

•••

لقد انبثقت نظرية الثقوب السوداء من اكتشافات رياضية في النسبية العامة؛ حيث تؤدي المادة إلى انحناء الزمكان، والزمكان المنحني يؤثِّر في الكيفية التي تتحرك بها المادة، وكل ذلك بما يتفق مع معادلات أينشتاين للمجال. يمثل أحد حلول المعادلات شكلًا هندسيًّا محتملًا للزمكان، إما في منطقة محددة من الكون أو في الكون بأكمله. من سوء الحظ أنَّ معادلات المجال معقدة، فهي أكثر تعقيدًا من الميكانيكا النيوتونية، والتي هي معقدة بما يكفي. قبل اختراع أجهزة الكمبيوتر السريعة، كانت الطريقة الوحيدة لإيجاد حلول معادلات المجال هي القلم الرصاص والأوراق و«الخلايا الرمادية الصغيرة» على حد قول هركيول بوارو. وفي مثل هذه الظروف، يُعد التناظر من الحيل الرياضية المفيدة. إذا كان الحل المطلوب يتسم بالتناظر الكروي، فإنَّ المتغير الوحيد المهم هو نصف القطر. ومن ثمَّ؛ فبدلًا من تناول الأبعاد الثلاثة المعتادة للفضاء، لا يكون عليك سوى تناول واحد فقط، وذلك أسهل كثيرًا.

في عام ١٩١٥، استغل كارل شفارتزشيلد هذه الفكرة لحل معادلات أينشتاين لمجال جاذبية كرة ضخمة، تمثِّل نموذجًا لنجم كبير. وقد أدى الاختزال إلى متغير مكاني واحد إلى تبسيط المعادلات بالدرجة الكافية لاستنتاج صيغة مباشرة للشكل الهندسي للزمكان حول مثل هذه الكرة. كان شفارتزشيلد في الجيش البروسي في ذلك الوقت يحارب الروس، لكنه تمكَّن من إرسال اكتشافه إلى أينشتاين، طالبًا منه أن يرتِّب لأمر نشره. انبهر أينشتاين بالاكتشاف لكن شفارتزشيلد مات بعد ذلك بستة شهور إثر مرض لا علاج له من أمراض المناعة الذاتية.

من المباهج المنتشرة في الفيزياء الرياضية أنَّ المعادلات تبدو وكأنها تعرف في معظم الأحيان أكثر مما يعرفه مبتكروها. يضع المرء معادلات تستند إلى مبادئ فيزيائية يفهمها جيدًا. يتوصل بعد ذلك إلى حل، ويكتشف ما يشير إليه ذلك الحل، ثم يكتشف بعد ذلك أنه لا يفهم الإجابة. أو على وجه أكثر تحديدًا، يفهم المرء ما «هي» الإجابة، والسبب في أنها تحل المعادلة، لكنه لا يفهم السبب في تصرُّف الإجابة على ذلك النحو الذي تتصرف عليه تمام الفهم.

إنَّ ذلك بالمناسبة هو «الغرض» من المعادلات. لو كنا نستطيع تخمين الإجابات مقدمًا، لما احتجنا إلى المعادلات. لنتناول قانون نيوتن للجاذبية مثالًا. هل تستطيع أن تنظر إلى الصيغة وترى قطعًا ناقصًا؟ أنا شخصيًّا لا أستطيع.

وعلى أية حال، كانت نتائج شفارتزشيلد تتضمن مفاجأة كبيرة، وهي أنَّ حله تصرَّف على نحو غريب عند مسافة حرجة صارت تُعرف الآن باسم نصف قطر شفارتزشيلد. وينطوي الحل على متفردة بالفعل: بعض حدود الصيغة تصبح لا نهائية. فبداخل كرة يبلغ نصف قطرها تلك القيمة الحرجة، لا يخبرنا الحل بأي شيء منطقي عن الزمان أو المكان.

يبلغ نصف قطر شفارتزشيلد في حالة الشمس ثلاثة كيلومترات، بينما لا يبلغ في حالة الأرض سوى سنتيمتر واحد، وكلاهما مدفون على عمق لا يمكن الوصول إليه حيث لا يسبِّبان أية مشاكل، لكنهما غير متاحين للملاحظة أيضًا، مما يجعل من الصعب مقارنة إجابة شفارتزشيلد بالواقع، أو معرفة ما تعنيه. طرح هذا السلوك الغريب سؤالًا جوهريًّا: ماذا سيحدث لنجم شديد الكثافة حتى إنه يقع داخل نصف قطر شفارتزشيلد الخاص به؟

•••

في عام ١٩٢٢، اجتمع أبرز الفيزيائيين والرياضيين معًا لمناقشة ذلك السؤال ولم يتوصلوا إلى استنتاج واضح. كان الرأي العام هو أنَّ نجمًا كهذا سينهار تحت وطأة قوة جاذبيته. وما يحدث بعد ذلك يتوقف على تفاصيل الفيزياء، وكان ذلك في الوقت نفسه تخمينًا بصفة أساسية. بحلول العام ١٩٣٩، كان روبرت أوبنهايمر قد حسب أنَّ النجوم الضخمة بالدرجة الكافية ستخضع بالفعل إلى انهيار جذبوي في مثل هذه الظروف، لكنه اعتقد أنَّ نصف قطر شفارتزشيلد يحد منطقة من الزمكان يتوقف فيها الزمن تمامًا. أدَّى ذلك إلى اختراع مصطلح «النجم المتجمد». غير أنَّ ذلك التفسير كان يستند إلى افتراض خاطئ بشأن نطاق صلاحية حل شفارتزشيلد. والمقصود بذلك أنَّ للمتفردة معنًى فيزيائيًّا حقيقيًّا. فمن وجهة نظر ملاحظ خارجي، يتوقف الزمن بالفعل عند نصف قطر شفارتزشيلد. غير أنَّ ذلك ليس حقيقيًّا لملاحظ يعبر المتفردة. وتمثل ازدواجية وجهة النظر هذه إحدى الدعائم الأساسية في نظرية الثقوب السوداء.

في عام ١٩٢٤، أوضح آرثر إدينجتون أنَّ متفردة شفارتزشيلد هي أداة رياضية لا ظاهرة فيزيائية. فالرياضيون يمثلون الفضاءات المنحنية ومنحنيات الزمكان باستخدام شبكة من المنحنيات أو الأسطح تُمثل بالأعداد، كخطوط الطول والعرض على الأرض. تُعرف هذه الشبكات بأنظمة الإحداثيات. وقد أثبت إدينجتون أنَّ متفردة شفارتزشيلد سمة خاصة من اختياره من الإحداثيات. وبالمثل، تلتقي جميع خطوط الطول عند القطب الشمالي، بينما خطوط العرض دوائر صغيرة للغاية. بالرغم من ذلك، إذا وقفت عند القطب الشمالي، فإنَّ السطح يبدو بالشكل «الهندسي» نفسه الذي يبدو عليه في أي مكان آخر. ثلج وجليد فحسب. أما الشكل الهندسي الذي يبدو غريبًا بالقرب من القطب الشمالي، فيحدث بسبب اختيار إحداثيات تتمثَّل في الطول والعرض. فإذا استخدمت نظامًا إحداثيًّا يتمثَّل في قطب شرقي وآخر غربي على خط الاستواء، فسوف تتخذ هاتان النقطتان شكلًا غريبًا، بينما يتخذ القطبان الشمالي والجنوبي شكلهما المعتاد.

تمثل إحداثيات شفارتزشيلد ما يبدو عليه الثقب الأسود من الخارج، لكنه يختلف عن ذلك تمامًا من الداخل. لقد وجد إدينجتون نظام إحداثيات يؤدي إلى اختفاء متفردة شفارتزشيلد. ومن سوء الحظ أنه لم يواصل العمل على هذا الاكتشاف؛ إذ كان منشغلًا بأسئلة فلكية أخرى؛ لذا لم يحظَ هذا الاكتشاف بالاهتمام بدرجة كبيرة. صار معروفًا على نطاق أكبر عام ١٩٣٣ حين أدرك جورج لومتر بصورة مستقلة أنَّ المتفردة التي ينطوي عليها حل شفارتزشيلد أداة رياضية.

وحتى مع هذا الاكتشاف، ظل الموضوع مهملًا حتى العام ١٩٥٨، حين وجد ديفيد فنكلشتاين نظامًا إحداثيًّا محسنًا؛ حيث يتخذ نصف قطر شفارتزشيلد معنًى فيزيائيًّا، لكنه يختلف عن المعنى المتمثل في تجمُّد الزمن هناك. وقد استخدم إحداثياته لحل معادلات المجال لا لمشاهد خارجي فحسب؛ بل لكامل مستقبل مشاهد داخلي. في هذه الإحداثيات، لا توجد متفردة في نصف قطر شفارتزشيلد. وبدلًا من ذلك، يتشكل «أفق الحدث»، وهو حاجز يسير في اتجاه واحد؛ إذ يمكن لخارجة أن يؤثِّر في داخله، لكنَّ العكس لا يحدث. يوضح هذا الحل أنَّ نجمًا يقع بداخل نصف قطر شفارتزشيلد الخاص به ينهار ليكون منطقة من الزمكان لا تستطيع المادة ولا حتى الفوتونات، الإفلات منها. ومثل هذه المنطقة منفصلة جزئيًّا عن بقية الكون؛ إذ يمكن الدخول إليها، لكنَّ الخروج منها محال. وهذا هو ما يمثله مصطلح الثقب الأسود بمعناه الحالي.

يتوقف شكل الثقب الأسود على الملاحظ. تخيَّل على سبيل المثال مركبة فضائية سيئة الحظ؛ بل الأدق أنَّ طاقمها هو السيئ الحظ، وتسقط هذه المركبة الفضائية في ثقب أسود. يُعد ذلك المثال من دعائم الخيال العلمي، لكنَّه نادرًا ما يُعالج على نحو صحيح ولو من بعيد. عالج فيلم «إنترستلار» (بين النجوم) هذا الأمر على النحو الصحيح بفضل مشورة كيب ثورن، غير أنَّ حبكته تتضمن عيوبًا أخرى. تخبرنا الفيزياء أننا إذا رأينا السفينة الفضائية الساقطة من بعيد، فإنها تبدو وكأنها تتحرك ببطء أكثر؛ لأنَّ جاذبية الثقب الأسود تشد الفوتونات الصادرة من السفينة الفضائية بقوة كبيرة للغاية. تلك الفوتونات القريبة من الثقب الأسود بالدرجة الكافية لا تستطيع الإفلات على الإطلاق، أما الفوتونات التي تقع خارج أفق الحدث حيث تلغي الجاذبية سرعة الضوء تمامًا، فيمكنها الإفلات لكن ببطء شديد للغاية. نرصد السفينة الفضائية بالكشف عن الضوء الذي تصدره؛ ومن ثمَّ نشاهده وهو يزحف إلى أن يتوقف دون أن يبلغ أفق الحدث أبدًا. تخبرنا النسبية العامة أنَّ الجاذبية تبطئ الزمن. وفي نصف قطر شفارتزشيلد، «يتوقف» الزمن، لكنَّ ذلك من وجهة نظر المشاهد الخارجي فحسب. أما الثقب نفسه، فيصبح أكثر احمرارًا بسبب تأثير دوبلر. وذلك هو السبب في أنَّ الثقوب السوداء ليست سوداء بالفعل، بالرغم من ملاحظة هولي الساخرة الشهيرة.

لا يختبر طاقم السفينة أيًّا من هذا. وإنما يندفعون باتجاه الثقب الأسود ويُبتلَعون فيه نحو أفق الحدث، وبعد ذلك …

بعد ذلك يختبرون حل المعادلات مثلما تُرى من «داخل» الثقب الأسود. ربما يحدث ذلك. لا نستطيع أن نعرف على وجه اليقين لأنَّ المعادلات تقول إنَّ كل المادة الموجودة في السفينة الفضائية ستُضغَط إلى نقطة رياضية واحدة ذات كثافة لا نهائية بينما يبلغ حجمها صفرًا. إذا حدث ذلك في واقع الأمر، فإنه سيشكل متفردة فيزيائية حقيقية، وقاتلة بالطبع.

دائمًا ما يبدي علماء الفيزياء الرياضية ترددًا بشأن المتفردات. فحين تظهر متفردة، عادةً ما يعني ذلك أنَّ النموذج الرياضي يفقد اتصاله مع الواقع. وفي هذه الحالة، لا يمكننا إرسال مسبار إلى ثقب أسود ونخرجه مجددًا، أو حتى نستقبل منه إشارات راديوية (إذ إنها تتحرك بسرعة الضوء الذي لا يمكنه الإفلات هو أيضًا)؛ ومن ثمَّ فما من طريقة لمعرفة الواقع. بالرغم من ذلك، فمن المرجح أنَّ أيًّا كان ما سيحدث، سيكون عنيفًا للغاية ولن ينجو طاقم السفينة. إلا أن يكون ذلك في الأفلام. حسنًا، بعض الأطقم في بعض الأفلام.

•••

خفية هي الطبيعة الرياضية للثقوب السوداء، وفي بادئ الأمر، كان النوع الوحيد من الثقوب السوداء الذي يمكن حل معادلات المجال الخاصة به بوضوح هو نوع فنكلشتاين، وهو نوع لا يدور وليس به مجال كهربي. عادةً ما يُسمى هذا النوع بثقب شفارتزشيلد الأسود. كان الفيزيائي الرياضي، مارتن كروسكال قد وجد حلًّا مشابهًا بالفعل، لكنه لم ينشره. بعد ذلك، طوَّر كروسكال وجورج سيكيريس هذا الحل إلى ما يُعرف الآن بإحداثيات كروسكال-سيكيريس، التي تصف باطن الثقب الأسود بقدر أكبر من التفصيل. إنَّ الشكل الهندسي الأساسي بسيط للغاية: أفق حدث كروي توجد نقطة المتفردة في مركزه. وكلُّ ما يسقط في الثقب الأسود يصل إلى المتفردة في فترة نهائية من الزمن.

يُعد هذا النوع من الثقوب السوداء مميزًا؛ لأنَّ معظم الأجرام السماوية تدور حول نفسها. وحين ينهار نجم دوَّار، فإنَّ حفظ الزخم الزاوي يقتضي أن يكون الثقب الأسود الناتج دوَّارًا هو أيضًا. في عام ١٩٦٣، توصَّل روي كير إلى حيلة رياضية بارعة وغير متوقعة من خلال تدوين مقياس زمكاني لثقب أسود دوَّار، وهو ما يُسمى بمقياس كير. ولمَّا كانت معادلات المجال غير خطية، فالصيغة المباشرة لافتة للنظر. فهي توضح أنه بدلًا من وجود أفق حدث كروي واحد، يوجد سطحان حرجان تتغير الخواص الفيزيائية عليهما بصورة درامية. السطح الداخلي هو أفق الحدث، ومثلما هي الحال في الثقب الأسود الساكن، فإنه يمثل حاجزًا لا يمكن للضوء عبوره. أما السطح الخارجي فهو شكل بيضاوي مسطح يلامس أفق الحدث عند القطبين.

figure
أفق الحدث (كرة) والإيرجوسفير (شكل بيضاوي) لثقب أسود دوَّار.

تُسمى المنطقة التي تقع بينهما بحاشية الثقب الأسود أو الإيرجوسفير. وكلمة «إيرجون» هي المقابل اليوناني لمصطلح «العمل»، وقد نشأ المصطلح لأنك تستطيع استخلاص الطاقة من الثقب الأسود باستخدام هذه الحاشية. ذلك أنه إذا سقط جسيمٌ ما داخل هذه المنطقة، يحدث تأثير نسبوي يُسمى بتباطؤ الإطار المرجعي يؤدي إلى دورانه حول محوره مع الثقب الأسود؛ مما يزيد من طاقته. ولما كان الجسيم لا يزال خارج أفق الحدث، فهو يستطيع الإفلات تحت ظروف ملائمة آخِذًا معه تلك الطاقة. وبهذه الطريقة، يستخلص الطاقة، وهو ما لا يمكن تنفيذه مع ثقب أسود ساكن.

إضافةً إلى الدوران الذاتي، يمكن للثقب الأسود أن يمتلك شحنة كهربية. وقد وجد هانز رايسنر وجونار نوردستروم مقياسًا للثقب الأسود المشحون: مقياس رايسنر-نوردستروم. وفي عام ١٩٦٥ اكتشف إزرا نيومان مقياس الثقب الأسود الدوَّار المشحون المتناظر محوريًّا، وهو ما يُعرف بمقياس كير-نيومان. ربما تعتقد أنه توجد أنواع أكثر تعقيدًا من الثقوب السوداء، لكنَّ الفيزيائيين لا يعتقدون ذلك، باستثناء نوع مغناطيسي قد يوجد. فحدسية انعدام الشعر تؤكد على أنَّه فور استقرار الثقب الأسود بعد انهياره المبدئي، ومع تجاهل التأثيرات الكمومية، لن يكون للثقب الأسود سوى ثلاث خواص فيزيائية أساسية: الكتلة والدوران الذاتي والشحنة. يأتي اسم الحدسية من العبارة: «ليس للثقوب السوداء شعر»، والتي وردت عام ١٩٧٣ في الكتاب المرجعي عن الموضوع: «الجاذبية»، من تأليف تشارلز ميزنر وكيب ثورن وجون ويلر. وقد نسب جون ويلر هذه العبارة إلى جيكوب بيكينشتاين.

غالبًا ما يُشار إلى هذه العبارة ﺑ «مبرهنة» انعدام الشعر، لكنها لم تُثبَت حتى الآن، وهو ما تشير إليه هذه التسمية في المعتاد. والحق أنها لم تُدحض بعدُ أيضًا. أثبت ستيفن هوكينج وبراندون كارتر وديفيد روبينسون بعض الحالات الخاصة. وإذا كان من الممكن للثقوب السوداء أن تمتلك خاصية المجال المغناطيسي، فسينبغي تعديل الحدسية لتشمل تلك الاحتمالية أيضًا.

•••

لنتناول جزءًا من الطبيعة الهندسية للثقوب السوداء كي ندرك مدى غرابة هذه البنى.

في عام ١٩٠٧، صمَّم هيرمان مينكوفسكي صورة هندسية بسيطة للزمكان النسبوي. وسوف أستخدم هنا صورة مبسطة تتضمن بُعدًا واحدًا للمكان، إضافةً إلى البُعد المعتاد للزمان، لكن من الممكن تعميم هذه الصورة لتعبر عن الحالة الفيزيائية الواقعية التي تتضمن ثلاثة أبعاد للمكان. في هذه الصورة، تمثِّل «خطوط العالم» المنحنية حركة الجسيمات. ومع تغير إحداثيات الزمن، يمكنك معرفة إحداثيات المكان التي ستنتج عن ذلك، من المنحنى. تمثِّل الخطوط التي تقع على المحاور بزاوية تبلغ ٤٥ درجة، الجسيمات التي تتحرك بسرعة الضوء. ومن ثمَّ؛ فلا يمكن لخطوط العالم أن تقطع أي خط بزاوية تبلغ ٤٥ درجة. ثمَّة نقطة في الزمكان تُسمى بالحدث هي التي تحدِّد هذين الخطين اللذين يكوِّنان معًا، مخروطها الضوئي. يضم هذا المخروط مثلثين يمثلان الماضي والمستقبل. أما الجزء المتبقي من الزمان، فلا يمكن بلوغه بدءًا من تلك النقطة، ولكي تبلغه سيكون عليك أن تتحرك أسرع من الضوء.

figure
تمثيل مينكوفسكي للزمكان النسبوي.
في هندسة إقليدس، نجد أنَّ التحولات الطبيعية حركات جامدة، وهي تحفظ «المسافات» بين النقاط. ويناظرها في النسبية الخاصة تحولات لورنتز، وهي تحفظ كمية تُدعى الفترة البينية. ووفقًا لمبرهنة فيثاغورس، فإنَّ مربع المسافة من المصدر إلى نقطةٍ ما على أحد المستويات يساوي مجموع مربعي الإحداثيين الرأسي والأفقي. ومربع الفترة البينية يساوي مربع إحداثي المكان «ناقص» إحداثي الزمان.1 نجد أنَّ هذا الفرق يساوي صفرًا عند الخطوط التي تقع بزاوية ٤٥ درجة، وهو يتخذ قيمة موجبة داخل المخروط الضوئي. إذن، فالفترة الفاصلة بين حدثين يرتبطان سببيًّا يساوي عددًا حقيقيًّا، مما يعكس استحالة السفر بينهما.

في النسبية العامة، تُضمَّن الجاذبية من خلال السماح لمستوى مينكوفسكي المسطح بالانثناء، مما يحاكي تأثير قوة الجاذبية، مثلما يتضح في الصورة الواردة بعنوان «تأثير الانحناء/الجاذبية على جزيء يمر بنجم أو كوكب».

ومن خلال إعادة صياغة شكل مينكوفسكي الهندسي بإحداثيات كروسكال-سيكيريس، طوَّر روجر بنروز طريقة رائعة البساطة لتصوير الهندسة النسبوية للثقوب السوداء.2 تحدِّد صيغة المقياس هذه الهندسة على نحو ضمني، غير أنك قد تحدِّق في الصيغة إلى أن يضنيك التعب دون أن تصل إلى أي شيء. فلماذا لا نرسم بعض الصور بما أننا نرغب في معرفة النظام الهندسي؟ لا بد أن تكون الصور متسقة مع المقياس، لكنَّ صورة جيدة تساوي ألفًا من الحسابات.

تكشف صور بنروز عن بعض السمات الخفية لفيزياء الثقوب السوداء، مما يتيح عقد المقارنات بين الأنواع المختلفة من الثقوب السوداء. وهي تؤدي أيضًا إلى بعض الاحتمالات المدهشة، غير أنها تخمينية فحسب. مرةً أخرى، يُختزَل المكان إلى بُعد واحد (يُرسم أفقيًّا)، بينما يُرسم الزمن رأسيًّا، وتتحرك أشعة الضوء بزوايا تبلغ ٤٥ درجة لتكون مخاريط ضوئية تفصل بين الماضي والمستقبل؛ ومن ثمَّ فهي مناطق لا يمكن الوصول إليها.

figure
رسم بنروز التخطيطي للثقب الأسود من نوع شفارتزشيلد.

عادةً ما تُرسَم صورة مينكوفسكي على شكل مربع، لكنَّ رسم بنروز يستخدم الشكل الماسي بدلًا منه؛ وذلك للتأكيد على الطبيعة الخاصة للمنحدرات التي تبلغ ٤٥ درجة. يمثل كلا الشكلين طريقتين مختلفتين فحسب لضغط مستوًى لا نهائي في حيز مكاني محدَّد. وبالرغم من أنها نظم إحداثية غير معتادة، فهي مفيدة في حالة الزمكان.

لنبدأ على سبيل التمهيد بالنوع الأبسط، وهو ثقب شفارتزشيلد الأسود. ذلك أنَّ رسم بنروز الذي يمثله بسيط إلى حد كبير. فالشكل الماسي يمثل الكون، وهو يتبع بذلك نموذج مينكوفسكي. ويمثل السهم المنحني خط العالم للمركبة الفضائية التي تسقط في الثقب الأسود؛ إذ تعبر أفق «الحدث» وتصطدم بالمتفردة المركزية (الخط المتعرج). أما الآن، فيوجد أفق ثانٍ يُسمَّى «مضاد الأفق». فما ذلك؟

حين ناقشنا سقوط مركبة فضائية في ثقب أسود، اكتشفنا أنَّ هذه العملية تبدو من داخل المركبة مختلفة للغاية عمَّا تبدو عليه إذا كنت تشاهد من خارج الثقب الأسود. تتبع المركبة الفضائية مسارًا شبيهًا بالسهم المنحني في الصورة، وتنتقل عبر الأفق إلى المتفردة. لكن لأنَّ الضوء يفلت ببطء شديد للغاية مع اقتراب المركبة من الأفق، يرى المشاهد الخارجي مركبة فضائية شديدة الاحمرار، وتتباطأ تدريجيًّا إلى أن تتوقف. يحدث التغير في اللون بسبب الانزياح الأحمر الجذبوي؛ فمجالات الجاذبية تبطئ مرور الوقت مما يغيِّر تردد الموجات الكهرومغناطيسية. بعض الأجسام التي سقطت ستكون مرئية هي أيضًا في كل مرة ينظر فيها أحدهم. وفور أن يتوقف الزمن، تبدو أنها تظل على ذلك الحال.

يمثل الأفق الموضح في رسم بنروز أفق الحدث من منظور الطاقم. أما «مضاد الأفق»، فهو المكان الذي «تبدو» السفينة أنها تتوقف فيه من منظور مشاهد خارجي.

figure
رسم بنروز لزوج يجمع بين ثقب أسود من نوع شفارتزشيلد وثقب أبيض.

الآن تصبح إحدى البنى الرياضية المثيرة للاهتمام ممكنة. فلنفترض أننا سنطرح السؤال التالي: ماذا يوجد على الجانب البعيد من مضاد الأفق؟ وفقًا للإطار المرجعي للطاقم، سيكون ذلك هو الجزء الداخلي للثقب الأسود. بالرغم من ذلك، يوجد امتداد رياضي طبيعي لهندسة شفارتزشيلد، حيث توجد نسخة معكوسة الزمن من ثقب شفارتزشيلد الأسود، وهي مثبتة على النسخة المعتادة. من الناحية الرياضية، نثبت نسختين من المقياس معًا مع عكس الزمن في نسخة منها من خلال تدوير الصورة بمقدار ١٨٠ درجة، لكي نحصل على الصورة الكاملة.

يُعرف الثقب الأسود معكوس الزمن باسم الثقب الأبيض، وهو يتصرف كثقب أسود يدور الزمن فيه عكسيًّا. ففي حالة الثقب الأسود، تسقط المادة (والضوء) بداخله ولا تستطيع الخروج. أما في حالة الثقب الأبيض، فتسقط المادة (والضوء) إلى الخارج، ولا تستطيع الدخول. يصدر «الأفق الموازي» الضوء والمادة، لكنه يصبح غير نفَّاذ إلى أيهما حين يحاول دخول الثقب الأبيض.

عند تدوير صورة كوننا، نجد أنها تصف كونًا أيضًا، لكنه لا يرتبط بكوننا بعلاقة سببية؛ لأنَّ حد سرعة الضوء في النسبية يعني أنك لا تستطيع دخوله باتباع مسار أشد انحدارًا من ٤٥ درجة. من الناحية التخمينية يمكن أن تمثِّل الصورة الثانية كونًا مختلفًا تمامًا. فإذا دخلنا إلى عالم الخيال المحض، يمكن لتقنية متقدمة بالدرجة الكافية للسماح بالسفر بسرعة أكبر من الضوء، أن تعبر بين هذين الكونين مع تفادي المتفردات.

إذا اتصل ثقب أبيض بثقب أسود على نحوٍ يسمح للضوء والمادة والتأثيرات السببية بالعبور، فإننا نحصل على «ثقب دودي»، وهو من الطرق المحبوبة في كتب الخيال العلمي والأفلام للتغلب على حد السرعة الكوني، وإيصال الشخصيات إلى كواكب فضائية قبل أن يموتوا من كِبر السن. فالثقب الدودي هو طريق مختصر كوني بين أكوان مختلفة أو مناطق مختلفة من الكون نفسه. وبما أنَّ كلَّ ما يدخل الثقب الأسود يُحفظ كصورة مجمدة حين يُرى من منظور مشاهد خارجي، فإنَّ ثقبًا دوديًّا يُستخَدم باستمرار، سيبدو محاطًا بصور مجمدة محمرة لجميع المركبات التي دخلت فم ثقبه الأسود. وأنا لم أرَ ذلك في أيٍّ من أفلام الخيال العلمي.

في هذه الحالة، لا يكون الثقب الأسود والثقب الأبيض متصلين بذلك الشكل، لكنهما سيكونان كذلك في النوع التالي من الثقوب السوداء. وذلك هو نوع الثقب الأسود الدوَّار، أو الثقب الأسود من نوع كير، وهو غريب للغاية. سنبدأ بزوج يتمثَّل في ثقب أسود من نوع شفارتزشيلد وثقب أبيض، لكن من دون المتفردتين. بعد ذلك، نمدِّد منطقتي الثقب الأسود والثقب الأبيض ليكوِّنا شكلين ماسيين. بين هذين الشكلين الماسيين، نضع (على اليسار) شكلًا ماسيًّا جديدًا. يضم هذا الشكل الماسي الجديد، متفردة «رأسية» وهي «مثبتة في المكان لكنها توجد على الوقت أيضًا». على أحد جانبي المتفردة (الجانب الأيمن في رسم بنروز)، توجد منطقة «ثقب دودي» تربط بين الثقبين الأسود والأبيض مع تفادي المتفردة. يؤدي اتباع المسار المتعرج عبر الثقب الدودي للانتقال من هذا الكون إلى كون جديد. وعلى الجانب الآخر من المتفردة (الأيسر)، يوجد كون مضاد: كون ممتلئ بمادة مضادة. وبالمثل نضيف شكلًا ماسيًّا آخر على اليمين يمثل ثقبًا دوديًّا موازيًا وكونًا مضادًّا.

figure
رسم بنروز لثقب أسود دوَّار (كير).

ليست تلك سوى البداية فحسب. فالآن عليك أن تصنع كومة لا نهائية مرصوفة بهذه الأشكال الماسية. «يفض» هذا البناء، دوران الثقب الأسود، وينتج سلسلة لا نهائية من الثقوب الدودية التي تربط بين العديد من الأكوان المختلفة على نحوٍ لا نهائي.

من الناحية الهندسية، لا تتمثَّل متفردة ثقب كير الأسود في شكل نقطة؛ بل حلقة دائرية. وبعبور هذه الحلقة، يمكن الانتقال بين كون وكون مضاد. غير أنَّ ذلك لن يكون تصرفًا حكيمًا على الأرجح، نظرًا لما تفعله المادة المضادة في المادة.

يتسم رسم بنروز لثقب أسود مشحون من نوع (رايستر-نوردستروم) بدرجة مماثلة من التعقيد، مع الاختلاف في بعض التأويلات. والرياضيات لا تعني أنَّ جميع هذه الظواهر الغريبة توجد بالفعل أو تحدث. وإنما تشير إلى أنها نتائج طبيعية للبناء الرياضي للثقب الأسود الدوَّار؛ فهي بُنًى زمكانية تتسق منطقيًّا مع الفيزياء المعروفة؛ ومن ثمَّ فهي نتائج منطقية لها.3

•••

ذلك هو الشكل الذي تتخذه الثقوب السوداء هندسيًّا، لكن كيف يمكن أن تظهر في الواقع؟

يبدأ نجم ضخم في الانهيار تحت وطأة جاذبيته حين ينفد وقود التفاعلات النووية التي تؤدي إلى سطوعه. فكيف تتصرف المادة الموجودة بداخل النجم إذا حدث ذلك؟ لقد صارت هذه المشكلة أكثر تعقيدًا في الوقت الحالي بدرجة أكبر كثيرًا مما كانت عليه في وقت ميشل ولابلاس. لم تتغير النجوم، وإنما تغير فهمنا للمادة. فالأمر لا يقتصر على أنه يجدر بنا أخذ الجاذبية في الاعتبار (واستخدام النسبية لا قوانين نيوتن)؛ بل علينا أيضًا أن نتناول ميكانيكا الكم في التفاعلات النووية.

إذا أُرغِم عدد كبير من الذرات بفعل الجاذبية، على الاقتراب الشديد بعضها من بعض، فإنَّ مناطقها الخارجية التي تشغلها الإلكترونات، تحاول الاندماج. وثمَّة حقيقة كمومية نظرية، هي مبدأ باولي للاستبعاد، تشير إلى أنه لا يمكن لاثنين من الإلكترونات أن يشغلا الحالة الكمومية نفسها. ولهذا؛ فمع زيادة الضغط، تنشد الإلكترونات أيَّ حالات شاغرة. وسرعان ما تكتظ معًا جنبًا إلى جنب، وكأنها كومة من البرتقال خارج متجر الخضراوات. حين تخلو الإلكترونات من الأماكن الشاغرة وتصبح الحالات الكمومية كلها مشغولة، تصبح هذه الإلكترونات مادة إلكترونية منحلة.

في عام ١٩٣١، استخدم سابرامانين تشاندراسخار حسابات نسبوية للتنبؤ بأنَّ جسمًا على درجة كافية من الضخامة، ويتكون من مادة إلكترونية منحلة، سينهار ولا بد تحت وطأة مجال جاذبيته ليكون نجمًا نيوترونيًّا؛ أي يتكوَّن بأكمله تقريبًا من النيوترونات. يمكن للنجم النيوتروني المعتاد أن يضغط ضعف كتلة الشمس في كرة يبلغ نصف قطرها ١٢ كيلومترًا. وإذا كانت الكتلة أصغر من ١٫٤٤ من كتلة الشمس، وهو رقم يُعرف بحد تشاندراسخار، يتشكل قزم أبيض لا نجم نيوتروني. وإذا كانت الكتلة أكبر من ذلك، لكنها أصغر من حد تولمان-أوبنهايمر-فولكوف، الذي يساوي ثلاثة أضعاف كتلة الشمس، فإنها تنهار لتشكل نجمًا نيوترونيًّا. في تلك المرحلة، يمنع ضغط التحلل النيوتروني إلى حدٍّ ما، حدوث المزيد من الانهيار الذي يؤدي إلى تشكُّل ثقب أسود، ولا يعرف علماء الفيزياء الفلكية النتيجة على وجه اليقين. بالرغم من ذلك، فإنَّ أي جسم تزيد كتلته عن ١٠ أضعاف كتلة الشمس، سيتغلب على الضغط ويصبح ثقبًا أسود. وأصغر كتلة رُصِدَت في الثقوب السوداء حتى الآن هي خمسة أضعاف كتلة الشمس.

يشير النموذج النسبوي المحض إلى أنَّ الثقب الأسود نفسه لا يصدر إشعاعًا؛ بل المادة المبتلعة وحدها هي التي يمكن أن تفعل ذلك؛ إذ إنها خارج أفق الحدث. بالرغم من ذلك، فقد أدرك هوكينج أنَّ التأثيرات الكمومية يمكن أن تؤدي بالثقب الأسود إلى أن يصدر إشعاعًا من أفق الحدث الخاص به. ذلك أنَّ ميكانيكا الكم تسمح بالتكوين المفاجئ لزوج يتألف من جسيم وجسيم مضاد، ما دام أحدهما سيُلغي الآخر بعد ذلك بفترة قصيرة للغاية. غير أنهما سيفعلان ذلك إلا أن يحدث ذلك خارج أفق الحدث تمامًا؛ إذ تسحب جاذبية الثقب الأسود أحد الجسيمين عبر أفق الحدث، بينما تترك (وفقًا لمبدأ حفظ الزخم) الجسيم الآخر بالخارج حيث يستطيع الإفلات تمامًا. ذلك هو إشعاع هوكينج الذي يؤدي إلى تلاشي الثقوب السوداء الصغيرة بسرعة كبيرة. تتلاشى الثقوب السوداء الكبيرة أيضًا، لكنَّ ذلك يستغرق فترات زمنية ضخمة.

•••

لمعادلات المجال التي وضعها أينشتاين حلول رياضية بالثقوب السوداء، لكنَّ ذلك لا يضمن وجودها في الطبيعة. فربما توجد بعض القوانين الفيزيائية غير المعروفة، والتي تمنع وجود الثقوب السوداء. ولهذا فمن الأفضل أن نجد دليلًا رصديًّا على وجود الثقوب السوداء قبل أن ننجرف للغاية مع الرياضيات والفيزياء الفلكية. وسيكون من المذهل أن نذهب إلى أبعد من ذلك بحثًا عن الثقوب البيضاء والثقوب الدودية والأكوان البديلة، لكنَّ طموح الوصول إلى الثقوب السوداء يكفينا الآن.

ظلت الثقوب السوداء محض تخمين نظري في بادئ الأمر، ويستحيل رصدها مباشرة لأنَّ الإشعاع الوحيد الذي تصدره هو إشعاع هوكينج الضعيف. وإنما يُستدل على وجودها على نحوٍ غير مباشر، وغالبًا ما يحدث ذلك من خلال التفاعلات الجذبوية مع الأجسام الأخرى القريبة. وفي عام ١٩٦٤، كشفت آلة على أحد الصواريخ عن وجود مصدر قوي للغاية للأشعة السينية في كوكبة «سيجنوس»، ويُعرف هذا المصدر باسم «سيجنوس إكس-١». تنتشر كوكبة «سيجنوس»؛ أي الإوزة، على امتداد «الطريق اللبني»، وذلك بارز للغاية لأنَّ «سيجنوس إكس–١» يقع في قلب مجرتنا ولهذا يبدو لنا على أنه يقع بداخل «الطريق اللبني».

في عام ١٩٧٢، قام تشارلز بولتون ولويز ويبستر وبول موردين، بجمع ملاحظات من تلسكوبات بصرية وراديوية لإثبات أنَّ «سيجنوس إكس-١» هو جسم ثنائي.4 يتمثَّل أحد مكونيه في النجم العملاق الفائق الأزرق «إتش دي إي ٢٢٦٨٦٨»، وهو مصدر الضوء المرئي. أما الجسم الآخر فلم يُكشَف عنه إلا من خلال انبعاثاته الراديوية، وهو يبلغ كتلة الشمس نفسها تقريبًا لكنه منضغط للغاية حتى إنه لا يمكن أن يكون نوعًا عاديًّا من النجوم. إنَّ كتلته التقديرية تتجاوز حد «تولمان-أوبنهايمر-فولكولف»؛ ومن ثمَّ فهو ليس بنجم نيوتروني. وقد جعله هذا الدليل أول مرشح قوي ليكون من الثقوب السوداء. غير أنَّ النجم العملاق الفائق الأزرق ضخم للغاية حتى إنه لا يمكن تقدير مكوِّنه المضغوط بدقة. في عام ١٩٧٥، عقد ثورن وهوكينج رهانًا بشأن حالته، قال ثورن إنها ثقب أسود بينما قال هوكينج إنها ليست كذلك. وبعد مزيد من الملاحظات التي أُجريَت عام ١٩٩٠، أقرَّ هوكينج بالهزيمة وسدَّد الرهان بالرغم من أنَّ حالة الجسم لم تكن قد تأكدت على نحو قاطع بعد.
توجد المزيد من ثنائيات الأشعة السينية الواعدة، والتي يكون المكوِّن العادي فيها أقل ضخامة. أفضل الأمثلة على ذلك هو «في ٤٠٤ سيجني» V404 Cygni، الذي اكتُشِف عام ١٩٨٩، ويُعرَف الآن بأنه يقع على بُعد ٧٨٠٠ سنة ضوئية، بينما تبلغ كتلة المكوِّن المنضغط فيه ١٢ ضعفًا من كتلة الشمس؛ أي ما يزيد على حد «تولمان-أوبنهايمر-فولكوف». توجد أدلة داعمة أخرى؛ لذا فثمَّة اتفاق عام على أنه ثقب أسود. يكمل الجسمان دورة كل ستة أيام ونصف. تشوِّه جاذبية الثقب الأسود النجم إلى شكل البيضة؛ إذ تسرق مادته في تيار ثابت. وفي عام ٢٠١٥، بدأ «في ٤٠٤» في إصدار دفقات قصيرة من الضوء وأشعة سينية كثيفة، وهو ما حدث قبل ذلك في الأعوام ١٩٣٨، و١٩٥٦، و١٩٨٩. ويُعتَقد أنَّ السبب في ذلك هو مادة تتراكم حول الثقب الأسود الذي يبتلعها حين تتجاوز كتلتها قيمة حرجة.

جرى الكشف عن ثقوب سوداء أخرى من خلال الأشعة السينية التي تصدرها. فالغاز الساقط يشكِّل قرصًا رقيقًا يُسمى بقرص التراكم، وترتفع حرارة الغاز عندها بفعل الاحتكاك؛ إذ ينتقل الزخم الزاوي عبر القرص إلى الخارج. يمكن أن ترتفع حرارة الغاز بدرجة كبيرة حتى إنه ينتج أشعة سينية عالية النشاط، ويمكن أن يتحول ما يصل إلى ٤٠٪ منها إلى إشعاع. وكثيرًا ما تُنقَل الطاقة إلى قرص التراكم في نفثات ضخمة بزوايا قائمة.

ومن الاكتشافات الحديثة المذهلة أنَّ معظم المجرات الكبيرة بالدرجة الكافية، تحتوي على ثقب أسود مركزي عملاق تتراوح كتلته بين ١٠٠٠٠٠ شمس ومليار شمس. يمكن لهذه الثقوب السوداء الفائقة الضخامة أن تنظم المادة في المجرات. تحتوي مجرتنا على أحدها وهو مصدر الإشارات الراديوية؛ الثقب الأسود «ساجيتاريوس إيه*». في عام ١٩٧١، اقترح دونالد ليندن-بيل، ومارتن ريس، على نحوٍ تنبُّئِي بأنه قد يكون ثقبًا أسود فائق الضخامة. وفي عام ٢٠٠٥، اكتُشِف أنَّ مجرة «أندروميدا (إم ٣١)» تحتوي على ثقب أسود مركزي تتراوح كتلته بين ١١٠ ملايين شمس و٢٣٠ مليون شمس. ثمَّة مجرة أخرى تقع في جوارنا، هي المجرة «إم ٨٧» وتحتوي على ثقب أسود تبلغ كتلته ٦٫٤ مليارات شمس. أما المجرة البيضاوية الراديوية البعيدة «٠٤٠٢ + ٣٧٩»، فتحتوي على ثقبين أسودين فائقَي الضخامة يدور أحدهما بالآخر كنظام نجمي ثنائي عملاق؛ إذ يبعد أحدهما عن الآخر ٢٤ سنة ضوئية. يستغرق الأمر ١٥٠٠٠٠ عام كي يكملا دورة واحدة.

•••

يقبَل معظم علماء الفلك أنَّ هذه الملاحظات توضِّح وجود الثقوب السوداء بالمعنى النسبوي المعتاد، لكن لا يوجد دليل حاسم على صحة هذا التفسير. وإنما هي أدلة ظرفية على أفضل تقدير، وفقًا للنظريات الحالية في الفيزياء الأساسية، حتى وإن كنا نعرف أنَّ النسبية وميكانيكا الكم رفيقتان غير متوافقتين، لا سيما حين نحتاج إلى استدعاء كلتيهما في الوقت نفسه، كما هي الحال في هذا المثال. وقد بدأ بعض الفيزيائيين المارقين يتساءلون عمَّا إذا كان ما نراه هو ثقوب سوداء «فعلًا»، أم أنه شيء آخر شديد الشبه بها. وهم يتساءلون أيضًا عمَّا إذا كان فهمنا النظري للثقوب السوداء يحتاج إلى إعادة التفكير أم لا.

يرى سمير ماثور أنَّ نموذج فيلم «بين النجوم» لا يفلح. لا يمكنك السقوط في ثقب أسود. وقد رأينا هذا؛ فالثقوب السوداء تصدر الإشعاع لأسباب كمومية، على العكس مما كان العلماء يعتقدونه في بادئ الأمر. ذلك إشعاع هوكينج الذي يقول بسقوط أحد جسيمي زوج افتراضي عابر يتألف من جسيم وجسيم مضاد في الثقب الأسود بينما يفلت الآخر. يؤدي هذا التصوُّر إلى مفارقة المعلومات في الثقب الأسود؛ فالمعلومات تُحفَظ كالطاقة؛ ومن ثمَّ فلا يمكنها الاختفاء من الكون. يحل ماثور هذه المفارقة بطرح رؤية مختلفة للثقب الأسود، وهو أن يكون كرة من الوبر يمكن الالتصاق بها لكن لا يمكن اختراقها.

وفقًا لهذه النظرية، فإنك لن تسقط في الثقب الأسود إذا اصطدمت به. ما يحدث بدلًا من ذلك هو أنَّ المعلومات تتوزع في طبقة رقيقة على أفق الحدث، وتتحول أنت إلى صورة ثلاثية الأبعاد (هولوجرام). ليست هذه الفكرة بالجديدة، لكنَّ النسخة الأحدث منها تسمح للصورة الثلاثية الأبعاد بأن تكون نسخة غير تامة من الجسم الساقط. غير أنَّ هذا الطرح مثير للجدل، ويعود ذلك جزئيًّا إلى أنَّ ذلك المنطق نفسه يوضح أنَّ أفق الحدث جدار ناري عالي الطاقة، وأي شيء يصطدم به سوف يحترق. كرة وبرية أم جدار ناري؟ لا يزال هذا السؤال موضع جدل. فربما يكون الخياران من الخدع الناتجة عن نظام إحداثي غير ملائم، كوجهة النظر القائلة بأنَّ أفق الحدث يوقف الزمن، والتي فقدت مصداقيتها. ومن ناحية أخرى، لا يمكننا التمييز بين ما يراه مشاهد خارجي وبين ما يراه مشاهد ساقط، إذا لم يكن لأي جسم أن يسقط.

في عام ٢٠٠٢، تحدَّى إميل موتولا وباول مازور الرأي السائد بشأن النجوم المنهارة. فقد اقترحا أنَّها يمكن ألا تصبح ثقوبًا سوداء؛ بل تتحول إلى نجم جرافاستار، وهو فقاعة افتراضية غريبة تتكوَّن من مادة شديدة الكثافة.5 سيبدو نجم الجرافاستار من الخارج شبيهًا للغاية بالثقب الأسود التقليدي. غير أنَّ الجزء المناظِر لأفق الحدث فيه، هو غلاف بارد كثيف يكون الفضاء مرنًا بداخله. لا يزال هذا الاقتراح خلافيًّا، ولم يُحسم فيه العديد من المسائل الغامضة بعد، مثل الكيفية المحدَّدة التي يتكوَّن بها مثل ذلك الشيء، لكنه مثير للاهتمام.

جاءت النظرية من إعادة فحص التصور النسبوي لثقب أسود في ضوء ميكانيكا الكم. تتجاهل المعالجة المعتادة هذه التأثيرات، لكنَّ ذلك يؤدي إلى أوجه شذوذ غريبة. فمحتوى معلومات ثقب أسود على سبيل المثال، أكبر كثيرًا من محتوى معلومات نجم قد انهار، لكنَّ المعلومات ينبغي أن تُحفَظ. وينبغي أن يكتسب الفوتون الساقط في ثقب أسود مقدارًا لا نهائيًّا من الطاقة حين يلتقي بالمتفردة المركزية.

ولمَّا حيرت هذه المسائل موتولا ومازور، فقد تساءلا عمَّا إذا كان يمكن حلها بالمعالجة الكمومية. حين يقرب نجم منهار من تكوين أفق الحدث، يشكِّل مجالًا جذبويًّا ضخمًا. يؤدي هذا إلى اضطراب التقلبات الكمومية للزمكان، مما يؤدي إلى نوع مختلف من الحالات الكمومية تشبه «ذرة فائقة» عملاقة (المصطلح التقني: تكاثف بوز-أينشتاين). يعبِّر هذا المصطلح عن مجموعة من الذرات المتطابقة التي توجد في الحالة الكمومية نفسها، وفي درجة حرارة تقترب من الصفر المطلق. يصبح أفق الحدث غلافًا رقيقًا من الطاقة الجذبوية، كموجة صدمية في الزمكان. يبذل هذا الغلاف ضغطًا سالبًا (أي إنه في الاتجاه الخارجي)؛ ومن ثمَّ فإنَّ المادة التي تسقط داخله ستستدير وترتفع مرة أخرى لتصطدم بالغلاف. بالرغم من ذلك، سيظل يبتلع المادة الساقطة من الخارج.

إنَّ نجوم الجرافاستار منطقية من الناحية الرياضية؛ فهي حلول ثابتة لمعادلات المجال لأينشتاين. وهي تتفادى مفارقة المعلومات. فمن الناحية الفيزيائية، نجد أنها تختلف اختلافًا ملحوظًا عن الثقوب السوداء، لكنها تشبهها تمامًا من الخارج في الوقت نفسه: مقياس شفارتزشيلد الخارجي. لنفترض أنَّ نجمًا تبلغ كتلته ٥٠ ضعفًا من كتلة الشمس قد انهار. في النظرية التقليدية، سنحصل من ذلك على ثقب أسود يمتد قطره إلى ٣٠٠ كيلومتر سيصدر إشعاع هوكينج. أما في النظرية البديلة، فسوف نحصل على نجم جرافاستار بالحجم نفسه، لكن سمك طبقته الخارجية يساوي ١٠−٣٥ فحسب، وتبلغ درجة حرارته ١٠ أجزاء من المليار درجة كلفن، ولا يصدر أي إشعاع على الإطلاق. (ستسعد هولي بذلك.)

توفِّر نجوم الجرافاستار تفسيرًا محتملًا لظاهرة أخرى محيِّرة أيضًا، وهي انفجارات أشعة جاما. ففي كثير من الأحيان تضيء السماء بوميض من أشعة جاما العالية الطاقة. وتتمثَّل النظرية المعتادة لتفسير هذه الظاهرة في أنَّ هذه الانفجارات نجوم نيوترونية متصادمة أو ثقوب سوداء تكوَّنت خلال مستعر أعظم. ويمثِّل ميلاد نجم جرافاستار أحد الاحتمالات الأخرى. فعلى نحو أكثر تخمينًا، سيكون باطن نجم جرافاستار بحجم كوننا عرضة هو أيضًا للضغط السالب الذي سيؤدي إلى تسارع المادة باتجاه أفق الحدث الخاص به؛ أي بعيدًا عن المركز. تشير الحسابات إلى أنَّ ذلك سيكون بحجم التمدد المتسارع للكون، والذي يُعزى عادةً إلى الطاقة المظلمة. ربما يقع كوننا في حقيقة الأمر داخل نجم جرافاستار ضخم.

من بين تنبؤات أينشتاين قبل ما يزيد على قرن من الزمان، وجود الموجات الثقالية التي تشكِّل في الزمكان تموجات كتلك التي تتشكَّل في البحيرات. إذا كان ثمَّة جسمان ضخمان، كالثقوب السوداء مثلًا، يدوران بسرعةٍ كلٌّ منهما حول الآخر، فإنهما يؤديان إلى اضطراب البحيرة الكونية ويخلقان موجات يمكن الكشف عنها. وفي فبراير عام ٢٠١٦، أعلن «مرصد الأمواج الثقالية بالتداخل الليزري» (ليجو) عن اكتشاف أمواج ثقالية نتجت عن اتحاد اثنين من الثقوب السوداء. تمثل المعدات التي استخدمها هذا المرصد في زوج من الأنابيب التي يبلغ طولها أربعة كيلومترات وتتخذ شكل الحرف L. تتقافز أشعة الليزر ذهابًا وإيابًا في الأنابيب، وتتداخل أنماط أمواجها بعضها مع بعض عند نقطة التقاء الشكل L. إذا مرَّت موجة ثقالية، فإنَّ أطوال الأنابيب تتغير على نحو طفيف مما يؤثِّر في نمط التداخل. يمكن للجهاز أن يكشف عن حركة بحجم جزء واحد على الألف من عرض البروتون.

تتطابق الإشارة التي التقطها مرصد «ليجو» مع التنبؤات النسبوية لتصادم متصاعد بين ثقبين أسودين، تبلغ كتلة أحدهما ٢٩ ضعفًا من كتلة الشمس، بينما تبلغ كتلة الآخر ٣٦ ضعفًا من كتلة الشمس. ويفتح هذا الإنجاز حقبة جديدة في علم الفلك؛ فمرصد «ليجو» هو أول منظار جذبوي؛ أي أنه يرصد الكون باستخدام الجاذبية لا الضوء.

إنَّ هذا الاكتشاف الثقالي البارز لا يقدِّم معلومات عن السمات الكمومية الأكثر إثارة للجدل والتي تميز الثقوب السوداء التقليدية عن البدائل الافتراضية كالكرات الوبرية والجدران النارية ونجوم الجرافاستار. بالرغم من ذلك، سيتمكن خلفاؤه السابحون في الفضاء من اكتشاف تصادمات الثقوب السوداء؛ بل سيتمكنون من اكتشاف ظواهر أقل عنفًا كاتحاد النجوم النيوترونية، وسيساعدنا ذلك على حل هذه الألغاز. وفي هذه الأثناء، كشف «ليجو» عن لغز جديد: انفجار قصير لأشعة جاما يبدو مرتبطًا بالموجة الثقالية. غير أنَّ النظريات السائدة عن الثقوب السوداء لا تتنبأ بذلك.

لقد ألفنا وجود الثقوب السوداء، لكنها تشغل عالمًا تتداخل فيه النسبية مع ميكانيكا الكم ويتصارعان. ونحن لا نعرف في حقيقة الأمر أيُّ النظريات الفيزيائية ينبغي علينا استخدامها؛ لذا يبذل علماء الكون قصارى جهدهم في استخدام المتاح. لم تصدر الكلمة الأخيرة بشأن الثقوب السوداء بعدُ، وما من سبب يدعو للافتراض بأنَّ فهمنا الحالي مكتمل أو صحيح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤