الفصل السادس عشر

البيضة الكونية

«في البدء، كان هناك العدم، وانفجر.»

تيري براتشيت، «اللوردات والسيدات»
عند النظر من كوكبنا المريح الصالح للسكن، والحافل بالحياة، والثري بالجمال الطبيعي، فإنَّ باقي أجزاء الكون تبدو عدائية وبعيدة وكالحة، وغير مهمة نسبيًّا. بالرغم من ذلك، فعند النظر إلى كوكبنا من العوالم البعيدة في النظام الشمسي، فإنَّ كوكبنا يتضاءل إلى وحدة بيكسل1 زرقاء واحدة على صورة فوتوغرافية، تلك النقطة الزرقاء الباهتة الشهيرة، الصورة النهائية التي التقطها مسبار «فوياجر» عام ١٩٩٠. لم تكن تلك النقطة جزءًا من البرنامج العلمي، لكنَّ عالم الفلك ذا البصيرة الثاقبة، كارل ساجان، رأى أنها ستكون فكرة جيدة. وقد أصبحت رمزًا اجتماعيًّا ونفسيًّا. كان المسبار على بُعد بلوتو تقريبًا؛ أي أنه كان لا يزال في الفناء الخلفي للأرض بالنسبة إلى السياق الكوني. ومع هذا، تضاءل كوننا الجميل إلى شذرة ضئيلة للغاية. ومن أقرب نجم إلينا، فإنَّ كاميرا أفضل حتى من أي شيء نمتلكه الآن ستجد صعوبة في رؤية عالمنا أصلًا. ومن نجوم أبعد، يمكن القول إننا لم نوجَد على الإطلاق، بالرغم من الفرق الذي سيحققه وجودنا، وينطبق الأمر نفسه على الأرض والشمس أيضًا. وحين يتعلق الأمر بالمجرات الأخرى، فإنَّ مجرتنا الأم تصبح ضئيلة في السياق الكوني.

إنها فكرة تبعث على التواضع، وهي توضِّح مدى هشاشة كوكبنا في حقيقة الأمر. وهي تجعلنا نتعجب في الوقت نفسه من ضخامة الكون. وعلى نحو بنَّاء بدرجة أكبر، تجعلنا نتساءل عمَّا يوجد أيضًا في الكون، وعن منشأ كل هذا.

لا شك أنَّ مثل هذه الأسئلة قد وردت أيضًا على ذهن البشر في مرحلة ما قبل التاريخ. والمؤكد أنها خطرت بالفعل قبل ٤٠٠٠ عام في حضارات كالصين وبلاد الرافدين ومصر، والتي تركت سجلات مكتوبة. وقد كانت إجاباتها تخيلية، هذا إذا كنت تعتقد أنَّ عزو السبب في كل شيء لا تفهمه إلى آلهة غير مرئية لها أنماط حياتية وأجسام غريبة؛ نوعٌ من ممارسة الخيال، لكنها لم تكن مجدية في نهاية المطاف.

على مدار القرون، جاء العلم بنظرياته الخاصة عن أصل الكون. وقد كانت في مجملها أقل إثارة للاهتمام من السلاحف التي تحمل العالم، والمعارك بين الثعبان الإله والقطة السحرية ذات السيف، أو الآلهة التي تُقطَّع إربًا إلى عشرات الأجزاء ثم تعود ثانية إلى الحياة حين تُجمَّع من جديد. وقد يتضح أيضًا أنها ليست أقرب إلى الحقيقة؛ لأنَّ الإجابات العلمية دائمًا ما تكون شرطية على أن يتم التخلي عنها إذا ظهرت أدلة مناقضة لها. أحد أشهر النظريات على مدار عصر العلم مملة للغاية لأنها تقول بعدم حدوث شيء على الإطلاق؛ فالكون ليس له أصل لأنه كان موجودًا على الدوام. لقد كنت أشعر دائمًا بأنَّ هذا لا يخلصنا من المشكلة؛ لأننا نحتاج إلى تفسير «السبب» في أنه كان موجودًا على الدوام. إنَّ الإجابة المتمثلة في أنه «وُجِد فحسب» أقل إقناعًا حتى من استدعاء ثعبان إله. غير أنَّ الكثيرين لا يعتقدون ذلك.

•••

اليوم يعتقد معظم علماء الكونيات أنَّ الكون بأكمله من مكان وزمان ومادة، قد ظهر إلى الوجود قبل ما يقرب من ١٣٫٨ مليار عام.2 ظهرت ذرة من الزمكان من العدم وتمدَّدت بسرعة هائلة. وبعد جزء على المليار من الثانية، تضاءل العنف المبدئي بالدرجة الكافية للسماح بظهور الجسيمات الأساسية مثل الكواركات والجلونات إلى الوجود، وبعد جزء آخر على المليون من الثانية، تجمَّعت هذه الجسيمات لتكوين البروتونات والنيوترونات التي نألفها بدرجة أكبر. مرت بضع دقائق قبل أن تتحد تلك الجسيمات معًا وتكوِّن أنوية ذرية بسيطة. إنَّ الذرات هي أنوية زائد إلكترونات، واستغرق الأمر ٣٨٠٠٠٠ من الأعوام كي تظهر الإلكترونات في هذا المزيج، وتتكوَّن ذرات العناصر الأكثر بساطة، وهي الهيدروجين والهيليوم والديوتيريوم. حينذاك فقط أمكن للمادة أن تتكتل معًا تحت تأثير الجاذبية، وظهرت النجوم والكواكب والمجرات في نهاية المطاف. لقد حسب علماء الكونيات الجدول الزمني بدقة بالغة وتفصيل كبير.

يمثل هذا الوصف الذي ذكرت، التصور الشهير الذي يُعرَف باسم «الانفجار العظيم»، وهو اسم ابتكره هويل بسخرية إلى حدٍّ ما. كان هويل مناصرًا قويًّا للنظرية الأساسية المنافسة في ذلك الوقت، وهي نظرية الحالة الثابتة للكون، التي يفسرها اسمها بوضوح إلى حد كبير. غير أنه بالرغم من ذلك الاسم، فلم يكن الحال أنَّ هذا الكون لا يحدث فيه شيء على الإطلاق. كلُّ ما في الأمر أنَّ ما حدث لم يؤدِّ إلى أية تغييرات جوهرية. كان هويل يرى أنَّ الكون يتمدد تدريجيًّا، ويكتسب المزيد من المكان بينما تظهر جسيمات جديدة ببطء من العدم في الفراغات بين المجرات.

إنَّ علماء الكونيات لم يختلقوا نظرية الانفجار العظيم من العدم. وإنما لاحظ هابل نمطًا رياضيًّا بسيطًا في عمليات الرصد الفلكية، مما جعل الأمر يبدو حتميًّا تقريبًا. لقد كان هذا الاكتشاف ناتجًا ثانويًّا غير متوقع لعمله على المسافات المجرية، لكنَّ تاريخ الفكرة يعود إلى لومتر قبل ذلك ببضع سنوات. ففي بداية القرن العشرين، كان الرأي السائد في علم الكونيات بسيطًا للغاية. تتضمن مجرتنا مادة الكون بأكملها، وما خارجها فراغ لا نهائي. لم تنهَر المجرة بفعل جاذبيتها لأنها تدور حول محورها؛ ومن ثمَّ كان الترتيب بأكمله مستقرًّا. بعد أن نشر أينشتاين النسبية العامة عام ١٩١٥، أدرك بسرعة أنَّ هذا النموذج لوصف الكون لم يَعد مستقرًّا. ذلك أنَّ الجاذبية ستتسبب في انهيار الكون الثابت، سواء أكان يقوم بالدوران أم لا. كانت حساباته تفترض كونًا كرويًّا متناظرًا، لكنَّ البديهة تشير إلى أنَّ المشكلة نفسها ستصيب أي كون نسبوي ثابت.

بحث أينشتاين عن حل لتلك المشكلة ونشره عام ١٩١٧. لقد أضاف حدًّا رياضيًّا لمعادلات المجال التي وضعها، يتمثَّل في المترية مضروبًا في ثابت Λ (الحرف اليوناني لامدا في صورته الكبيرة)، والذي سُميَ بعد ذلك بالثابت الكوني. يتسبَّب هذا الثابت في تمدد المترية، ومن خلال التعديل الدقيق لقيمة Λ يلغي التمدد الانهيار الجذبوي بالضبط.

في عام ١٩٢٧، بدأ لومتر في مشروع طموح: استخدام معادلات أينشتاين لاستنتاج هندسة الكون بأكمله. وباستخدام الافتراض التبسيطي نفسه، وهو أنَّ الزمكان يتسم بالتناظر الكروي، استنتج صيغة مباشرة لهندسة الزمكان الافتراضي هذا. وحين أوَّل لومتر معنى الصيغة، اكتشف أنها تتنبأ بشيء لافت للنظر.

إنَّ الكون يتمدَّد.

في عام ١٩٢٧، كان الرأي الافتراضي أنَّ الكون كان موجودًا على الدوام على الشكل الحالي نفسه تقريبًا. كان «موجودًا» فحسب، لم «يفعل» أي شيء. مثل كون أينشتاين الثابت تمامًا. أما الآن، فقد كان لومتر يجادل على أساس نظرية فيزيائية كان الكثيرون لا يزالون يعتقدون أنها تخمينية إلى حد كبير؛ أنَّه «ينمو». والواقع أنه ينمو بمعدل ثابت؛ فقطره يزيد بالتناسب مع مرور الوقت. حاول لومتر تقدير معدل التمدد من عمليات الرصد الفلكية، لكنها كانت بدائية للغاية في ذلك الوقت بدرجة لا تسمح بأن تكون مقنعة.

كان مفهوم الكون المتمدد صعبًا في التقبل، إذا كنت تعتقد أنَّ الكون أبدي وثابت. فعلى نحوٍ ما، كان لا بد لكلِّ ما هو موجود أن يصبح أكثر على نحوٍ متزايد. فمن أين أتت كل هذه الأشياء الجديدة؟ لم يكن الأمر منطقيًّا. لم يكن منطقيًّا حتى لأينشتاين نفسه، الذي قال وفقًا للومتر، شيئًا من قبيل: «حساباتك صحيحة، لكنَّ فيزياءك شنيعة.» وربما لم يكن من المشجِّع أيضًا. أنَّ لومتر أطلق على نظريته اسم «البيضة الكونية المنفجرة في لحظة الخلق»، لا سيما وأنه كان كاهنًا يسوعيًّا. لقد بدا الأمر كله إنجيليًّا للغاية بعض الشيء. بالرغم من ذلك، لم يرفض أينشتاين الفكرة تمامًا، واقترح أنَّ على لومتر التفكير في زمكانات متمددة أكثر عمومية دون الافتراض القوي بوجود التناظر الكروي.

•••

وفي غضون بضع سنوات، ظهر الدليل مؤيدًا لومتر. لقد رأينا في الفصل الحادي عشر، كيف أنَّ ليفيت — «كمبيوتر» مرصد هابل — حين قامت بتصنيف سطوع آلاف النجوم لاحظت نمطًا رياضيًّا في نوع واحد محدَّد من النجوم يُسمى بالمتغير القيفاوي. يتمثَّل هذا النمط الرياضي في أنَّ السطوع الجوهري أو اللمعان، يرتبط على نحوٍ رياضي محدَّد، بالفترة التي يتكرر خلالها السطوع. وهذا يتيح لعلماء الفلك استخدام النجوم القيفاوية بصفتها شموعًا معيارية، يمكن مقارنة سطوعها الظاهري بسطوعها الفعلي، مما يخبرنا بمدى بُعدها عنا.

في بادئ الأمر، كانت هذه الطريقة تقتصر على النجوم الموجودة في مجرتنا؛ لأنَّ التلسكوبات لم تكن قادرة على تحديد نجوم فردية في المجرات الأخرى، فضلًا عن رصد طيوفها لرؤيةِ ما إذا كانت نجومًا قيفاوية أم لا. لكن مع تقدُّم التلسكوبات، وجَّه هابِل ناظرَيه نحو سؤال أكبر: ما المسافة التي تبعدها المجرات عنا؟ ومثلما ذكرنا في الفصل الثاني عشر، فقد استخدم عام ١٩٢٤ علاقة ليفيت بين المسافة واللمعان لتقدير المسافة إلى مجرة «أندروميدا (إم ٣١)». كانت إجابته أنَّ المسافة تساوي مليون سنة ضوئية، لكنَّ التقدير الحالي ٢٫٥ مليون سنة ضوئية.

لقد خطت لفيت خطوة صغيرة بالنسبة لسيدة، لكنها قفزة ضخمة على سلم المسافة الكونية. ذلك أنَّ فهم النجوم المتغيرة ربط طريقة اختلاف المنظر الهندسية بملاحظات السطوع الظاهري. وحينذاك تمكَّن هابل من أن يقفز قفزة أكبر، وفتح بذلك إمكانية وضع خريطة لأي مسافة كونية مهما بلغت ضخامتها.

نبعت الاحتمالية من اكتشاف غير متوقَّع توصَّل إليه فيستو سليفر وميلتون هوماسون، وهو أنَّ أطياف العديد من المجرات تنزاح باتجاه الطرف الأحمر من الطيف. بدا من المرجح أنَّ ذلك يحدث بسبب تأثير دوبلر؛ ومن ثمَّ فلا بد أنَّ المجرات تتحرك مبتعدةً عنا. تناول هابل ٤٦ مجرة تُعرف باحتوائها على نجوم قيفاوية، مما يجعل استنتاج مسافاتها أمرًا ممكنًا، ورسم مخططًا للنتائج مقابل مقدار الانزياح الأحمر. كان ما حصل عليه خطًّا مستقيمًا، مما يشير إلى أنَّ المجرة تتراجع بسرعة تتناسب طرديًّا مع مسافتها. وفي عام ١٩٢٩، ذكر هذه العلاقة في صيغة رياضية تُعرَف الآن بقانون هابِل. ويُعرف ثابت التناسب بثابت هابل، وهو يبلغ ٧٠ كيلومترًا/الثانية لكل كيلو فرسخ فلكي. غير أنَّ التقدير الأولي لهابل كان يبلغ سبعة أضعاف هذه القيمة.

الواقع أنَّ عالِم الفلك السويدي كنوت لوندمارك تناول الفكرة نفسها عام ١٩٢٤؛ أي قبل هابل بخمس سنوات. واستخدم الأحجام الظاهرية للمجرات لاستنتاج مدى المسافة التي تبعدها، وكانت القيمة التي توصَّل إليها لثابت «هابل» تختلف عن القيمة التي نعرفها اليوم بمقدار ١٪، وذلك أفضل كثيرًا من القيمة التي توصَّل إليها هابل. بالرغم من ذلك، فقد أُهمِل عمله لأنه لم يخضع للمراجعة باستخدام قياسات مستقلة.

والآن، صار بإمكان علماء الفلك تقدير المسافة التي يبعدها أيُّ جسم من خلال طيفه، إذا تمكَّنوا من تحديدِ ما يكفي من الخطوط الطيفية للاستدلال على الانزياح نحو الأحمر. تبدو ظاهرة الانزياح الأحمر في جميع المجرات بالفعل؛ ولهذا نستطيع حساب المسافة التي تبعدها عنا. وجميعها يتحرك مبتعدًا عنَّا. وبهذا؛ فإما أن تكون الأرض موجودة في مركز منطقة ضخمة تتمدد، مما ينافي مبدأ كوبرنيكوس القائل بعدم تميزنا، وإما أنَّ الكون بأكمله يتمدد، وحتى الكائنات الفضائية في مجرة أخرى سيلاحظون السلوك نفسه.

كان اكتشاف هابل دليلًا على بيضة لومتر الكونية. ذلك أننا إذا عدنا بكون متمدد في الزمن إلى الوراء، فسوف يتكثف بأكمله في نقطة واحدة. إنَّ إعادة الزمن إلى اتجاهه المعتاد، تخبرنا بأنَّ الكون قد بدأ ولا بد في صورة نقطة واحدة. لم ينبثق الكون من بيضة؛ بل «هو» نفسه بيضة. تظهر البيضة من العدم وتنمو. وظهر كلٌّ من المكان و«الزمان» إلى الوجود من العدم، وفور ظهورهما، يتطور الكون الذي نحيا فيه اليوم.

حين أدَّت ملاحظات هابل إلى اقتناع أينشتاين بأنَّ لومتر كان محقًّا تمامًا، أدرك أنه كان يمكن أن «يتنبأ» بالتمدد الكوني. فقد كان من الممكن تعديل حله الثابت إلى آخر متمدد، وكان التمدد سيمنع الانهيار الجذبوي. وكان ذلك الثابت الكوني المزعج Λ غير ضروري؛ فقد كان دوره أن يدعم نظرية غير صحيحة. حذف أينشتاين Λ من نظريته، وقال لاحقًا إنَّ تضمينه كان خطأه الأكبر.

نتج عن هذا العمل كله نموذج قياسي لهندسة الزمكان في الكون، وهي مترية «فريدمان-لومتر-روبرتسون-ووكر»، التي وُضِعَت معًا في ثلاثينيات القرن العشرين. وهي في حقيقة الأمر عائلة من الحلول يقدِّم كلٌّ منها هندسة محتملة. تتضمن المترية معاملًا يحدِّد الانحناء، وقد يكون صفرًا أو موجبًا أو سالبًا. جميع الأكوان في هذه العائلة متجانسة (تتطابق في جميع النقاط) ومتناحية (تتطابق في جميع الاتجاهات)، وتلك هي الظروف الأساسية التي افتُرِضَت لاشتقاق الصيغة. يمكن للزمكان أن يكون متمددًا أو متقلصًا، ويمكن أن تكون طوبولوجيته بسيطة أو معقدة. إضافةً إلى ذلك، تتضمن المترية أيضًا ثابتًا كونيًّا اختياريًّا.

•••

لأنَّ الزمن يأتي إلى الوجود مع الانفجار العظيم، فما من حاجة منطقية لقولِ ما حدث من «قبل». فلم «يكن» ثمَّة قبلُ. كانت الفيزياء مستعدة لهذه النظرية الجذرية؛ إذ توضح ميكانيكا الكم أنَّ الجسيمات قد تظهر فجأة من العدم. إذا كان لجسيم أن يفعل هذا، فلماذا لا يفعله كون؟ إذا كان للمكان أن يفعلها، فلماذا لا يفعلها الزمان؟ يعتقد علماء الكونيات الآن أنَّ هذا الرأي صحيح في جوهره، لكنهم بدءوا يتساءلون عمَّا إذا كان من الممكن نبذ «قبل» بتلك السهولة. تسمح الحسابات الفيزيائية المفصلة ببناء جدول زمني معقَّد دقيق للغاية، يشير إلى ظهور الكون للوجود قبل ١٣٫٨ مليار عام في صورة نقطة واحدة، وهو يتمدد منذ ذلك الوقت.

من السمات المثيرة للاهتمام في الانفجار العظيم أنَّ المجرات المنفردة، وحتى عناقيدها المقيَّدة بالجاذبية، «لا» تتمدد. ذلك أننا نستطيع تقدير أحجام المجرات البعيدة، والتوزيع الإحصائي للأحجام يكاد يكون مطابقًا لما هو عليه في المجرات القريبة. وما يحدث أغرب كثيرًا. فمقياس مسافة «المكان» يتغير. تبتعد المجرات بعضها عن بعض بسبب ظهور المزيد من المكان فيما بينها، لا لأنها تتحرك في الاتجاه المعاكس على مقدار ثابت من المكان.

يؤدي ذلك إلى نتائج تنطوي على بعض المفارقات. فالمجرات التي تبعد عنا بما يزيد عن ١٤٫٧ مليار سنة ضوئية تتحرك بسرعة كبيرة للغاية حتى إنها تتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء بالنسبة إلينا. بالرغم من ذلك، لا يزال بإمكاننا أن نراها.

ثمَّة أمور ثلاثة تبدو خاطئة في هذه المزاعم. إذا كان عمر الكون ١٣٫٨ مليار عام فحسب، وكان في الموقع نفسه في بادئ الأمر، فكيف لأي شيء أن يقع على مسافة ١٤٫٧ مليار سنة ضوئية؟ لا بد أن يتحرك بسرعة أكبر من الضوء، وهو ما تمنعه النسبية. ولهذا السبب نفسه، لا يمكن للمجرات أن تتحرك الآن بسرعة تتجاوز سرعة الضوء. وأخيرًا، لو أنها تفعل ذلك، لما استطعنا أن نراها.

ولكي نفهم السبب في منطقية هذه المزاعم، لا بد أن نفهم عن النسبية ما هو أكثر قليلًا. فبالرغم من أنها تمنع تحرك المادة بسرعة أكبر من الضوء، فإنَّ ذلك الحد ينطبق بالنسبة إلى المكان المحيط. فالنسبية لا تمنع «تحرك» المكان بسرعة أكبر من الضوء. وبهذا؛ يمكن لمنطقة من المكان أن تتجاوز سرعة الضوء، بينما تبقى المادة الموجودة بداخلها أقل من سرعة الضوء بالنسبة إلى المكان الذي يضمها.3 وقد تكون المادة ساكنة في حقيقة الأمر بالنسبة إلى مكانها المحيط، بينما يسرع المكان بسرعة تبلغ ١٠ أضعاف سرعة الضوء. إنَّ ذلك مشابه تمامًا لما يحدث حين نجلس في سلام وراحة نشرب القهوة ونقرأ جريدة داخل طائرة ركاب نفاثة تتحرك بسرعة ٧٠٠ كيلومتر في الساعة.

تلك أيضًا هي الكيفية التي أصبحت بها تلك المجرات على مسافة ١٤٫٧ مليار عام. فهي لم تتحرك تلك المسافة بأكملها. وإنما زاد مقدار المكان بيننا وبينها.

وأخيرًا، علينا أن ندرك أيضًا أنَّ الضوء الذي نرصد به هذه المجرات البعيدة، ليس بالضوء الذي ينبعث منها في الوقت الحالي.4 إنه الضوء الذي انبعث منها في الماضي، حين كانت أقرب إلينا. وهذا هو السبب في أنَّ الكون القابل للرصد أكبر مما قد نتوقع.

ربما ترغب في تناول القهوة وقراءة جريدة بينما تفكر في هذا.

ثمَّة نتيجة أخرى أيضًا مثيرة للاهتمام.

وفقًا لقانون هابل، تكون درجة الانزياح نحو الأحمر أكبر في المجرات البعيدة؛ ومن ثمَّ فلا بد أنها تتحرك بسرعة أكبر. للوهلة الأولى، يبدو ذلك غير متسق مع مترية «فريدمان-لومتر-روبرتسون- ووكر»، التي تتنبأ بأنَّ معدل التمدد ينبغي أن يتباطأ بمرور الوقت. بالرغم من ذلك، علينا أن نفكِّر في سياق نظرية النسبية. كلما زادت المسافة التي تبعدها إحدى المجرات عنا، استغرق ضوءُها فترة أطول في الوصول إلينا. ولهذا، فإنَّ انزياحه الأحمر في الوقت «الحالي»، يشير إلى سرعته المتجهة في «الماضي». وبهذا، يشير قانون هابل إلى أننا كلما نظرنا إلى وقتٍ أبعد في الماضي، زادت السرعة التي يتمدد بها الفضاء. معنى هذا أنَّ التمدد كان سريعًا في البداية، ثم تباطأ بما يتوافق مع مترية «فريدمان-لومتر-روبرتسون- ووكر».

يصبح ذلك منطقيًّا تمامًا إذا كان التمدد منقولًا في الانفجار العظيم الأولي. فحين بدأ الكون في النمو، بدأت جاذبيته في تقليصه مجددًا. تشير الملاحظات إلى أنَّ ذلك ما كان يحدث حتى خمسة مليارات عام تقريبًا. تستند هذه الملاحظات على قانون هابل الذي يخبرنا بأنَّ معدل التمدد يزيد بمقدار ٢١٨ كيلومترًا في الثانية لكل مليون سنة ضوئية إضافية في المسافة. معنى هذا أنه يزيد بمقدار ٢١٨ كيلومترًا في الثانية لكل مليون سنة في الماضي؛ ومن ثمَّ فقد قلَّ بمقدار ٢١٨ كيلومترًا في الثانية لكل مليون عام بعد الانفجار العظيم.

سنرى في الفصل السابع عشر أنَّ هذا البطء في التمدد قد انعكس على ما يبدو؛ أي أنه يسرع من جديد، لكننا سنؤجل مناقشة ذلك الآن.

•••

كانت الخطوة التالية هي التوصُّل إلى أدلة مستقلة تؤيد الانفجار العظيم. في عام ١٩٤٨، تنبأ رالف ألفر وروبرت هرمان بأنَّ الانفجار العظيم ينبغي أن يكون قد ترك بصمة على مستويات الإشعاع في الكون على صورة إشعاع خلفية كونية ميكروي متساوٍ. وفقًا لحساباتهما، تبلغ درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي؛ أي درجة حرارة المصدر الذي كان يمكن أن ينتج ذلك المستوى من الإشعاع، ٥ درجات كلفنية تقريبًا. وفي ستينيات القرن العشرين، اكتشف كلٌّ من ياكوف زيلدوفيتس وروبرت دايكي هذه النتيجة نفسها من جديد وعلى نحوٍ مستقل. وفي عام ١٩٦٤، أدرك عالما الفيزياء الفلكية إيه جي دوروشكيفيتش وإيجور نوفيكوف، أنَّه يمكن من الناحية النظرية رصد إشعاع الخلفية الكونية الميكروية لاختبار نظرية الانفجار العظيم.

وفي السنة نفسها، بدأ ديفيد ويلكينسون وبيتر رول، وهما زميلان لدايكي، بناء مقياس إشعاع دايكي لقياس إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. هذا مستقبل راديوي يستطيع قياس متوسط قوة إشارةٍ ما في نطاق من الترددات. بالرغم من ذلك، فقد سبقهما فريق آخر في بنائه قبل أن يتمكنا من إنهاء العمل فيه. وفي عام ١٩٦٥، استخدم أرنو بينزياس وروبرت ويلسون مقياس إشعاع دايكي لبناء واحد من أولى التلسكوبات الراديوية. في أثناء التقصي عن مصدر «ضوضاء» مستمر، أدركا أنَّ منشأه كوني، لا عطلًا في معداتهما. لم يكن للضوضاء موقع محدد؛ بل كانت موزعة بالتساوي على السماء بأكملها. وبلغت درجة حرارتها ٤٫٢ درجات كلفنية تقريبًا. كان ذلك أول رصد لإشعاع الخلفية الكونية الميكروي.

كان تفسير إشعاع الخلفية الكونية الميكروي موضع نقاشات حامية في ستينيات القرن العشرين، واقترح الفيزيائيون الذين كانوا يفضلون نظرية الحالة الثابتة أنه ضوء نجوم متناثر من المجرات البعيدة. غير أنه بحلول العام ١٩٧٠ صار إشعاع الخلفية الكونية الميكروي دليلًا واسع القبول على نظرية الانفجار العظيم. وصف هوكينج هذه الملاحظة بأنها: «المسمار الأخير في نعش نظرية الحالة الثابتة.» كانت النقطة الحاسمة هي طيف ذلك الإشعاع الذي بدا كإشعاع الجسم الأسود تمامًا، على عكس ما تقول به نظرية الحالة الثابتة. يعتقد العلماء الآن أنَّ إشعاع الخلفية الكونية الميكروي من بقايا الكون حين كان عمره ٣٧٩٠٠٠ عام. في ذلك الوقت، انخفضت درجة حرارته إلى ٣٠٠٠ درجة كلفنية، مما أتاح للإلكترونات الاتحاد مع البروتونات لتكوين ذرات الهيدروجين. أصبح الكون شفافًا للإشعاع المغناطيسي. ليكن هناك ضوء!

تتنبأ النظرية بأنَّ إشعاع الخلفية الكونية الميكروي لا ينبغي أن يكون متساويًا تمامًا في جميع الاتجاهات. وإنما ينبغي أن توجد بعض التقلبات، تُقدَّر بما يتراوح بين ٠٫٠٠١ و٠٫٠١٪. في عام ١٩٩٢ قامت بعثة «مستكشف الخلفية الكونية» (COBE) بقياس هذه التقلبات غير المتجانسة. واتضح تركيبها التفصيلي بدرجة أكبر من خلال «مسبار ويلكينسون لتباين الأشعة الميكروية». وقد أصبحت هذه التفاصيل هي الطريقة الأساسية لمقارنة الواقع بتنبؤات النسخ المختلفة لنظرية الانفجار العظيم، وغيرها من التصورات الكونية.
figure
إشعاع الخلفية الكونية الميكروي بقياس «مسبار ويلكينسون لتباين الأشعة الميكروية». توضح الخريطة تقلبات درجة الحرارة بعد فترة قصيرة من الانفجار العظيم، وهي بذور عدم الانتظام التي نمت لتكون المجرات. تختلف درجات الحرارة عن المتوسط بمقدار ٢٠٠ جزء من مليون درجة كلفنية فحسب.

•••

حين سافرت عائلتي إلى فرنسا قبل بضع سنوات، سُرِرنا برؤية علامة إرشادية لمطعم «ريستورو يونيفير» (مطعم الكون). وبخلاف ابتكار دوجلاس آدامز الخيالي، «ذا ريستورانت آت ذا إند أوف ذا يونيفيرس»، الذي يقع إلى الأبد على حافة النقطة النهائية في الزمان والمكان، فقد كان ذلك مطعمًا عاديًّا تمامًا تابعًا لفندق «أوتيل يونيفير». وكان هذا بدوره فندقًا عاديًّا تمامًا في مدينة ريمس يقع في النقطة المناسبة من المكان والزمان لأربعة من المسافرين المرهقين الجوعى.

كانت المسألة العلمية التي حفزت ابتكار مطعم آدامز الخيالي هي: كيف سينتهي الكون؟ لن ينتهي بحفلة لموسيقى الروك ذات أبعاد كونية، وإن كانت هذه هي إجابته. ربما تكون تلك نهاية ملائمة للبشرية، لكنها قد لا تكون نهاية يمكن أن نلحقها بأي حضارة أخرى ربما توجد في الكون.

ربما لن ينتهي على الإطلاق. فقد يستمر في التمدد إلى الأبد. غير أنه إذا حدث ذلك، فسوف يتعطل كل شيء ببطء؛ ستباعد المجرات بعضها عن بعض حتى إنَّ الضوء لا يستطيع المرور بينها، وسنبقى وحيدين في البرد والظلام. بالرغم من ذلك، يرى فريمان دايسون أنَّ «الحياة» المعقدة قد تستمر في الوجود بالرغم من ذلك «الموت الحراري» للكون. غير أنها ستكون حياة «بطيئة» للغاية.

ثمَّة بديل أقل تخييبًا لآمال محبي الخيال العلمي، وهو أنَّ الكون قد ينهار في انفجار عظيم عكسي. ربما ينهار حتى إلى نقطة واحدة. وربما تكون نهايته أكثر فوضوية من ذلك؛ فينتهي ﺑ «انسحاق عظيم» تتمزق فيه المادة على صورة طاقة مظلمة تقطِّع نسيج الزمكان.

ربما تكون تلك النهاية. غير أنه من الممكن أيضًا أن يظهر الكون إلى الوجود من جديد بعد الانهيار. تلك هي نظرية الكون المتذبذب. وقد استخدمها جيمس بليش في نهاية قصته «تصادم الصنوج». قد تكون الثوابت الأساسية في الفيزياء بعد الظهور الجديد؛ فبعض الفيزيائيين يعتقدون ذلك. وبعضهم لا يعتقد بذلك. وربما سيُنتِج كوننا أطفالًا يشبهون أمَّهم تمامًا، أو يختلفون عنها تمامًا. وربما لا يفعل.

تسمح لنا الرياضيات باستكشاف كل هذه الاحتمالات، وقد تساعدنا ذات يوم على اختيار أحدها. غير أننا لا نستطيع حتى الآن سوى تخمين نهاية الكون، أو ربما عدم انتهائه؛ إذ ربما يكون الأمر كذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤