الفصل الثاني

انهيار السديم الشمسي

«قبل ما يقرب من ألفَيْ مليون عام، كان ثمَّة مجرتان تتصادمان؛ بل تجتاز إحداهما الأخرى على الأحرى … وفي الوقت نفسه تقريبًا، في نطاق هامش خطأ تبلغ قيمته ١٠٪ خاضعة للزيادة أو النقصان، صارت الغالبية العظمى من الشموس الموجودة في هاتين المجرتين، مسكونةً بالكواكب.»

د. إدوارد إي سميث، «ثلاثي الكواكب»

«ثلاثي الكواكب» هي الرواية الأولى في سلسلة روايات الخيال العلمي الشهيرة للكاتب إدوارد إي سميث، «لينزمان»، وتعبِّر فقرتها الافتتاحية عن نظرية بشأن نشأة الأنظمة الكوكبية، كانت رائجة عند ظهور الكتاب عام ١٩٤٨. تظل هذه الفقرة حتى اليوم طريقة مؤثِّرة لافتتاح رواية خيال علمي، وقد كانت أخَّاذة للغاية في وقتها. تُعد هذه الروايات من الأمثلة المبكِّرة على أسلوب «وايدسكرين باروك» أو أوبرا الفضاء، وهي معركة كونية بين قوى الخير (ممثَّلة في أريزيا) وقوى الشر (إيدور)، وتأتي في ستة كتب. صحيح أنَّ الشخصيات متخشبة والحبكة مبتذلة، لكنَّ تسلسل الأحداث آسر، وقد كان الإطار وقتها منقطع النظير.

لم نَعُد نعتقد اليوم أنَّ التصادمات المجرية ضرورية لتكوين الكواكب، وإن كان علماء الفلك يعتقدون بالفعل أنها واحدةٌ من الأسباب الأربعة الأساسيَّة لتكوين النجوم. تختلف النظرية الحالية بشأن تكوين نظامنا الشمسي والعديد من الأنظمة الكوكبية الأخرى عن ذلك، لكنها لا تقل تشويقًا عن تلك الفقرة الافتتاحية. وهي تتمثَّل فيما يلي.

قبل أربعة ملياراتٍ ونصف مليار1 من الأعوام، بدأت غيمةٌ من غاز الهيدروجين تمتد بعرض ١٠٠ تريليون كيلومتر، في تمزيق نفسها إلى قطعٍ على مهل. تكثفت كل قطعة منها لتكوِّن نجمًا. ومن مثل هذه القطع، وأقصد السديم الشمسي، تكوَّنت الشمس بنظامها الشمسي الذي يتألَّف من ثمانية كواكب، منها خمسة كواكب قزمة (حتى الآن)، مع الآلاف من الكويكبات والمذنَّبات. والصخرة الثالثة من الشمس، هي موطننا: الأرض.

وعلى عكس الروايات، ربما تكون هذه النظرية صحيحة بالفعل. فلندرس الأدلة.

•••

ظهرت الفكرة القائلة بأنَّ الشمس والكواكب تكثفت كلُّها من غيمة ضخمة من الغاز في وقت مبكر بدرجة ملحوظة، وظلت على مدار وقت طويل هي النظرية العلمية السائدة بشأن نشأتها. وحين ظهرت المشكلات، لم تَعُد تحظى بالتأييد على مدار ٢٥٠ عامًا، لكنها بُعِثت الآن من جديد بفضل بعض الأفكار الجديدة والبيانات.

يشتهر رينيه ديكارت بفلسفته — «أنا أفكِّر، إذن أنا موجود» — وبإسهامه في الرياضيات لا سيما في الهندسة الإحداثية التي تترجم الهندسة إلى جبر، والعكس أيضًا صحيح. غير أنَّ «الفلسفة» في عصره كانت تشير إلى العديد من مجالات النشاط الفكري، ومنها العلوم التي كانت تُسمى بالفلسفة «الطبيعية». وفي كتابه الذي صدر عام ١٦٦٤،2 «لو موند» (العالَم)، تناول ديكارت أصل النظام الشمسي. وجادل بأنَّ الكون في بدايته كان خليطًا عديم الشكل من الجزيئات التي تدور كالدوامات في المياه. ثمَّة دوامة كبيرة للغاية ظلت تدور عن قرب متزايد، وتقلَّصت لتكوِّن الشمس، وبعض الدوامات الأصغر حولها شكَّلت الكواكب.

شرحت هذه النظرية حقيقتين أساسيتين بضربة واحدة: السبب في وجود العديد من الأجسام المنفصلة في النظام الشمسي، والسبب في دوران الكواكب كلها حول الشمس في الاتجاه نفسه. لا تتفق نظرية ديكارت عن الدوامات مع ما نعرفه الآن عن الجاذبية، لكنَّ قانون نيوتن لم يظهر إلا بعد ذلك بعَقدين. وفي عام ١٧٣٤، اقترح إيمانويل سويدنبورج وجود غيمة من الغاز والغبار بدلًا من نظرية ديكارت عن الدوامات الدوارة. وفي عام ١٧٥٥، منح الفيلسوف إيمانويل كانط، مباركته للفكرة، ثم جاء الرياضي بيير-سيمون دو لابلاس ووصفها بصورة مستقلة عام ١٧٩٦.

لا بد لجميع النظريات التي تتحدَّث عن أصل النظام الشمسي أن تشرح ملاحظتين أساسيتين. أولاهما أنَّ المادة تجمَّعت معًا في أجسام منفصلة: الشمس والكواكب وغير ذلك من الأجسام. أما الملاحظة الثانية الأقل وضوحًا، فهي تتعلق بكمية تُعرف باسم «الزخم الزاوي». وقد ظهرت هذه الملاحظة من الدراسة الرياضية للنتائج الأعمق لقوانين نيوتن للحركة.

يمكن فهم مفهوم الزخم القريب الصلة بسهولة أكبر. وهو يحكم نزعة الجسم إلى الحركة بسرعة ثابتة في خط مستقيم في حالة عدم وجود أي قوة مؤثِّرة، مثلما يذكر قانون نيوتن الأول للحركة. يستخدم المعلِّقون الرياضيون المصطلح بصورة مجازية: «إنها تتمتع بالزخم الآن.» لا تقدِّم التحليلات الإحصائية سوى تأييد ضئيل للغاية على الاقتراح القائل بأنَّ مجموعة من الأهداف الجيدة غالبًا ما تؤدي إلى المزيد منها، ويبرِّر المعلقون فشل استعارتهم بالملاحظة (بعد الحدث) أنَّ الزخم قد فُقِد مجدَّدًا. في علم الميكانيكا، وهي الرياضيات التي تدرس الأجسام والأنظمة المتحركة، يوصَف الزخم بمعنًى محدَّد للغاية، ومن نتائجه أنَّك «لا يمكن» أن تفقد الزخم. كلُّ ما يمكنك فعله هو أن تنقله إلى شيء آخر.

تخيَّل كرة متحركة. ستخبرك سرعتها بمدى السرعة التي تتحرك بها: ٨٠ كيلومترًا في الساعة على سبيل المثال. يركِّز علم الميكانيكا على كمية أهم، وهي السرعة المتجهة التي لا تقيس السرعة فحسب؛ بل الاتجاه أيضًا. إذا كانت لدينا كرة مطاطية تمامًا تقفز عن جدار، فستظل سرعتها ثابتة لكنَّ سرعتها المتجهة ستعكس الاتجاه. وزخم هذه الكرة هو كتلتها مضروبة في سرعتها المتجهة؛ إذن فالزخم أيضًا له حجم واتجاه. إذا تحرَّك جسم خفيف وآخر ثقيل بالسرعة نفسها وفي الاتجاه نفسه، فسوف يكون زخم الجسم الثقيل أكبر. إذن، يلزم فيزيائيًّا بذل قدر أكبر من القوة لتغيير الكيفية التي يتحرك بها الجسم. يمكنك بسهولة أن تضرب كرة تنس طاولة تمر بسرعة ٥٠ كيلومترًا في الساعة، لكن ما من أحد في كامل قواه العقلية سيحاول فعل ذلك مع شاحنة.

إنَّ الرياضيين والفيزيائيين يحبون الزخم لأنه يُحفظ بالرغم من تغيُّر النظام بمرور الوقت، على عكس السرعة المتجهة. معنى هذا أنَّ الزخم الإجمالي للنظام يظل ثابتًا عند الحجم والاتجاه اللذين كان عليهما في البداية أيًّا كانا.

قد يبدو ذلك مستحيلًا. ذلك أنه إذا ارتطمت كرة بجدار وارتدت عنه، فإنَّ اتجاه زخمها يتغير؛ ومن ثمَّ فهو لم يُحفظ. غير أنَّ الجدار الذي هو أثقل كثيرًا، يرتد هو أيضًا شيئًا قليلًا في «الاتجاه المعاكس». بعد ذلك، يأتي دور بعض العوامل الأخرى، مثل طاقة وضع الجدار، وقد احتفظت لنفسي بشرط الخروج، وهو أنَّ قانون الحفظ لا يسري إلا في حالة عدم وجود قوًى خارجية؛ أي تدخلات خارجية. تلك هي الطريقة التي يكتسب بها الجسم زخمه في المقام الأول: أن يدفعه شيءٌ ما.

إنَّ الزخم الزاوي مشابه لهذا، لكنه ينطبق على الأجسام التي تدور لا الأجسام التي تتحرك في خط مستقيم. ليس من السهل تعريف الزخم الزاوي حتى وإن كان ذلك لجزيء واحد، لكنه يتحدَّد بناءً على كتلة الجزيء وسرعته المتجهة، مثله في ذلك مثل الزخم. أما السمة الأساسية الجديدة، فهي أنه يتحدَّد أيضًا وفقًا لمحور الدوران، وهو الخط الذي يُعد الجسيم يدور حوله. تخيَّل أنَّ لديك خُذْروفًا. وهو يدور حول الخط الذي يقطع القمة في المنتصف؛ ومن ثمَّ فإنَّ جميع جسيمات المادة الموجودة في القمة تدور حول هذا المحور. والزخم الزاوي للجسيم الذي يدور حول هذا المحور هو معدل دورانه مضروبًا في كتلته. غير أنَّ الاتجاه الذي يشير إليه الزخم الزاوي، هو «باتجاه محور الدوران». ومعنى هذا أنه عند الزوايا القائمة على المستوى الذي يتحرك فيه الجسيم. ويُحسب الزخم الزاوي للقمة بأكملها، والذي نؤكد مجددًا على أنه يتحدَّد وفقًا للمحور، من خلال إضافة جميع كميات الزخم الزاوية للجسيمات المكوِّنة لها معًا، مع أخذ الاتجاه في الاعتبار حين يكون ذلك ضروريًّا.

يخبرنا الحجم الإجمالي للزخم الزاوي لنظامٍ يدور حول نفسه، بمدى القوة التي يدور بها، ويخبرنا اتجاه الزخم الزاوي بالمحور الذي يدور حوله، في المتوسط.3 يُحفظ الزخم الزاوي في أي نظام من الأجسام لا يخضع لأي قوى ليٍّ خارجية (بالمصطلحات التقنية: عزم الدوران).

•••

تنطوي هذه الحقيقة المفيدة الصغيرة على نتائج مباشرة تتعلَّق بانهيار الغيمة الغازية: بعضها جيد وبعضها سيئ.

النتيجة الجيدة هي أنه بعد الاضطراب الأولي، تنزع جزيئات الغاز إلى الدوران في مستوًى مفرد. في البداية، يتمتَّع كل جزيءٍ بمقدارٍ معيَّنٍ من الزخم الزاوي حول مركز جاذبية الغيمة. وعلى عكس قمة الخُذْروف، غيمة الغاز ليست صلبة؛ لذا فإنَّ السرعات والاتجاهات تتنوَّع تنوعًا كبيرًا على الأرجح. من المستبعد أن تكون جميع هذه الكميات متساويةً تمامًا؛ ومن ثمَّ فالزخم الزاوي الابتدائي للغيمة لا يساوي الصفر. إذن، فالزخم الزاوي الإجمالي يُشير في اتجاهٍ ما محدَّد، وله حجم محدَّد. يخبرنا قانون الحفظ أنه بالرغم من تطوُّر غيمة الغاز تحت تأثير الجاذبية، فإنَّ زخمها الزاوي الإجمالي «لا يتغير». ومن ثمَّ يبقى اتجاه المحور ثابتًا متجمدًا على ما كان عليه في اللحظة التي تكوَّنت فيها الغيمة في البداية. وحتى الحجم، أو الكمية الإجمالية للدوران مثلما يمكن أن نقول، هو أيضًا ثابت. ما يمكن أن يتغيَّر هو توزيع جزيئات الغاز. يبذل كل جزيء من جزيئات الغاز قوة جذب على كل جزيء آخر، وتنهار غيمة الغاز التي كانت كرويةً فوضوية في بادئ الأمر، لتشكِّل قرصًا مسطحًا، يدور حول المحور مثلما يدور طبق على عمود في السيرك.

تُعد هذه الأخبار جيدةً لنظرية السديم الشمسي؛ لأنَّ جميع كواكب النظام الشمسي لها مداراتٌ تقع قريبًا جدًّا من المستوى نفسه — مدار الشمس — وجميعها يدور في الاتجاه نفسه. ولهذا السبب خمَّن علماء الفلك الأوائل أنَّ الشمس والكواكب جميعها قد تكثَّفت من غيمةٍ من الغاز، بعد أن انهارت لتشكِّل قرصًا كوكبيًّا بدائيًّا.

من المؤسف لهذه «الفرضية السديمية»، أنه توجد أيضًا بعض الأنباء السيئة؛ ذلك أنَّ ٩٩٪ من الزخم الزاوي للنظام الشمسي يتبقَّى في الكواكب، ولا يتبقَّى منه في الشمس سوى ١٪. وبالرغم من أنَّ الشمس تمثِّل كتلة النظام الشمسي بأكملِه تقريبًا، فهي تدور ببطءٍ بعض الشيء، وجسيماتها قريبة نسبيًّا من المحور المركزي. وبالرغم من أنَّ الكواكب أخف، فهي أبعد كثيرًا وتتحرك بسرعةٍ أكبر؛ لذا فهي تستحوذ على الزخم الزاوي بأكمله تقريبًا.

غير أنَّ الحسابات النظرية المفصَّلة توضح أنَّ غيمة غاز منهارة لا تؤدي إلى هذا. تلتهم الشمس غالبية المادة في غيمة الغاز بأكملها، بما في ذلك ما كان بعيدًا للغاية عن المركز في الأصل. ومن ثمَّ يتوقَّع المرء أنها كانت ستلتهم نصيب الأسد من الزخم الزاوي، وهو ما فشلت فيه على نحوٍ مدهش. بالرغم من ذلك، فالتوزيع الحالي للزخم الزاوي، الذي تحصل فيه الكواكب على نصيب الأسد، يتسق تمامًا مع ديناميكيات النظام الشمسي. إنها ديناميكيَّات «ناجحة»، وقد ظلَّت ناجحةً على مدار مليارات الأعوام. ما من مشكلةٍ منطقية في هذه الديناميكيات مثلما هي عليه الآن؛ بل المشكلة مع الكيفية التي بدأت بها فحسب.

•••

سرعان ما ظهرت طريقة محتملة للخروج من هذه المعضلة. فلنفترض أنَّ الشمس تكوَّنت «أولًا». بعد ذلك، التهمت جميع الزخم الزاوي الموجود في غيمة الغاز تقريبًا؛ لأنها التهمت الغاز بأكمله تقريبًا. تمكَّنت بعد ذلك من اكتساب الكواكب عن طريق «أسر» كتل المادة التي كانت تمر على مقربة. إذا كانت هذه الكتل بعيدة عن الشمس بالدرجة الكافية، وكانت تتحرك بالسرعة الصحيحة لأسرها، فستكون نسبة ٩٩٪ متلائمة مع النظام، مثلما هي اليوم.

غير أنَّ المشكلة الأساسية في هذا التصور هي الصعوبة الكبيرة في أسر كوكب. فأي جسم سيصبح كوكبًا فيما بعدُ يقترب بالدرجة الكافية، سيزيد من سرعته مع اقترابه من الشمس. وإذا تمكَّن من عدم السقوط في الشمس، فسوف يتأرجح حولها، ثم يرتد إلى الخارج من جديد. لمَّا كان من الصعب أسر كوكب واحد، فما بالك بثمانية؟

في عام ١٧٤٩، فكَّر كونت بوفون أنه ربما اصطدم مذنَّب ما بالشمس، وبعثر منها ما يكفي من المادة لتشكيل الكواكب. غير أنَّ لابلاس قد نفى ذلك عام ١٧٩٦؛ فكواكب تشكَّلت بتلك الطريقة كانت ستسقط مرة أخرى في الشمس. إنَّ هذا التبرير المنطقي شبيه بحجة «إنكار الأسر»، لكن في الاتجاه المعاكس. ليس الأسر بالأمر السهل لأنَّ ما ينخفض لا بد أن يرتفع مرة أخرى (ما لم يرتطم بالشمس وتبتلعه.) والبعثرة ليست بالأمر السهل؛ لأن ما يرتفع لا بد أن ينخفض. على أية حال، صرنا نعرف الآن (ما لم يكن معروفًا آنذاك) أنَّ المذنَّبات أخف كثيرًا من أن تبعثر أجسامًا في حجم الكواكب، وأنَّ الشمس تتكوَّن من المواد الخطأ.

في عام ١٩١٧، اقترح جيمس جينز نظرية المد التي تقول بأنَّ نجمًا متجولًا مرَّ بالقرب من الشمس وامتص بعضًا من مادتها في سيجار طويل نحيف. بعد ذلك، انفجر ذلك السيجار الذي لم يكن مستقرًّا إلى قطعٍ أصبحت هي الكواكب فيما بعد. مرة أخرى نجد أنَّ الشمس تتكوَّن من التركيب الخطأ، ثم إنَّ هذا الاقتراح يستلزم حدوث تصادم قريب مستبعد بدرجة كبيرة، وهو لا يزود الكواكب الخارجية بمقدار الزخم الزاوي الذي يكفي لإيقافها من السقوط للخلف. طُرِحت عشرات النظريات، كلها مختلفة لكنها في الوقت نفسه لم تكن سوى تنويعات على أفكار متشابهة. كل منها يلائم بعض الحقائق ويواجه صعوبة في تفسير البعض الآخر.

بحلول عام ١٩٧٨، صارت نظرية السديم التي كانت قد فقدت مصداقيتها فيما يبدو، رائجة من جديد. توصَّل أندرو برينتيس إلى حل منطقي لمشكلة الزخم الزاوي؛ تذكر أنَّ الزخم الزاوي للشمس قليل للغاية بينما هو كثير للغاية لدى الكواكب. ما نحتاج إليه هو طريقة تحول دون حفظ الزخم الزاوي؛ أي أن يزيد أو يقل. فاقترح برينتيس أنَّ حبات من الغبار تتركز بالقرب من مركز قرص الغاز، ويؤدي الاحتكاك مع تلك الحبات إلى إبطاء دوران الشمس المتكثفة حديثًا. طوَّر فيكتور سافرونوف أفكارًا مشابهة في الوقت نفسه تقريبًا، وقد أدَّى كتابه عن هذا الموضوع إلى الانتشار الواسع لنظام «القرص المنهار»، الذي يقول بأنَّ الشمس والكواكب (والكثير من الأجسام الأخرى) كلها قد تكثفت من غيمة غازية ضخمة واحدة تمزقت إلى كتل مختلفة الأحجام بفعل جاذبيتها، وعدَّلها الاحتكاك.

تتميز هذه النظرية بتفسير السبب في أنَّ الكواكب الداخلية (عطارد والزهرة والأرض والمريخ) صخرية بصفة أساسية، بينما الكواكب الخارجية (المشتري وزحل وأورانوس ونبتون) عملاقة غازية وثلجية. فالعناصر الأخف في القرص الكوكبي البدائي ستتراكم في مكانٍ أبعدَ من ذلك الذي ستتراكم فيه العناصر الثقيلة، مع قدرٍ كبير من الامتزاج المضطرب بالطبع. تتمثَّل النظرية السائدة بشأن الكواكب العملاقة في أنَّ اللب الصخري قد تكوَّن أولًا، ثم سحبت جاذبيته الهيدروجين والهيليوم وبعض بخار الماء مع كميات قليلة من المواد الأخرى. غير أنَّ أنظمة تكوين الكواكب قد واجهت صعوبة في إعادة إنتاج هذا السلوك.

في عام ٢٠١٥، قام هارولد ليفسيون وكاثرين كريتيك ومارتن دانكان، بإجراء نماذج محاكاة حاسوبية تدعم خيارًا بديلًا، وهو أنَّ اللب قد تجمَّع من «حصًى» أو كتلٍ من مواد صخرية يمتد عرضُها إلى متر تقريبًا.4 من الناحية النظرية، يمكن لهذه العملية أن تشكِّل لبًّا تبلغ كتلته ١٠ أضعاف كتلة الأرض في بضعة آلاف من الأعوام. طرحت نماذج المحاكاة السابقة مشكلةً مختلفة مع هذه الفكرة، وهي أنها تنتج مئات الكواكب في حجم الأرض. أما هذا الفريق فقد أثبت أنه يمكن تجنُّب هذه المشكلة إذا ظهر الحصى إلى الوجود بالبطء الذي يكفي لتفاعله معًا على نحوٍ جذبي. بعد ذلك، يبعثر الحصى الأكبر بقية الحصى خارج القرص. غالبًا ما كانت نماذج المحاكاة التي تَستخدم معلماتٍ مختلفة تنتج ما بين أربعة عمالقة غازية تبعد عن الشمس مسافة تتراوح ما بين ٥–١٥ وحدة فلكية، وهو ما يتسق مع الهيكل الحالي للنظام الشمسي. فوحدة فلكية واحدة هي المسافة التي تبعدها الأرض عن الشمس، وهي طريقة ملائمة لاستيعاب المسافات الكونية الصغيرة نسبيًّا.

ثمَّة طريقة جيدة لاختبار النموذج السديمي، وهي اكتشاف ما إذا كان ثمَّة عمليات مماثلة تجري في مكانٍ آخر في الكون. في عام ٢٠١٤، التقط علماء الفلك صورةً مميزة للنجم الصغير «إتش إل توري»، الذي يقع على بُعد ٤٥٠ سنة ضوئية في كوكبة الثور. تحيط بالنجم حلقات غازية لامعة متحدة المركز، وتتخللها حلقات مظلمة في المنتصف. من المؤكد تقريبًا أنَّ السبب في هذه الحلقات المظلمة هو الكواكب الناشئة تكنس الغبار والغاز. سيكون من الصعب إيجاد دليل أكثر قوة لتأكيد نظرية.

figure
صورة مصفوفة مرصد أتاكما المليمتري الكبير للنجم «إتش إل توري»، وتظهر فيها حلقات متحدة المركز تتكوَّن من الغبار، وتتخللها بعض الفجوات.

•••

من السهل أن نصدِّق أنَّ الجاذبية تتسبَّب في تجمُّع الأشياء، لكن كيف يمكن أن تُباعد أيضًا بينها؟ فلنضع بعض التخمينات. ومرة أخرى نجد أنَّ بعض الحسابات الرياضية المعقَّدة التي لن نذكرها هنا تؤكد الخلاصة العامة. سأبدأ بتوضيح كيفية التجميع.

إنَّ جسمًا غازيًّا تشد جزيئاته بعضها بعضًا على نحوٍ «جذبي»، يختلف تمامًا عن خبرتنا المعتادة بالغازات. ذلك أنك إذا ملأت غرفةً بالغاز، فسوف يبدأ في الانتشار بسرعة كبيرة فتصبح كثافة الغاز متساوية في كل مكان فيها. فأنت لا تجد في غرفة طعامك جيوبًا غريبة فارغة من الهواء. والسبب في هذا أنَّ جزيئات الهواء تتقافز بصورة عشوائية وسرعان ما تملأ أي مكان شاغر. وهذا السلوك منصوص عليه في القانون الثاني الشهير للديناميكا الحرارية، والذي يتمثَّل تفسيره المعتاد في أنَّ الغاز فوضوي بأكبر درجة ممكنة. ومعنى «فوضوي» في هذا السياق، أنَّ كل شيء ينبغي أن يكون ممتزجًا معًا تمام الامتزاج؛ أي لا توجد منطقةٌ ما أكثر كثافة من أي منطقة أخرى.

إنني أرى أنَّ هذا المفهوم، الذي يُعرف تقنيًّا بمصطلح «الإنتروبيا»، مراوغٌ بدرجة كبيرة لا يمكن معها تمثيله بكلمة بسيطة مثل «الفوضى»، وإن لم يكن ذلك لشيء إلا أن «التساوي في الامتزاج» يبدو لي حالة من «النظام». غير أنني سأمتثل الآن للمنهج التقليدي. الحق أنَّ الصيغة الرياضية لا تذكر النظام ولا الفوضى على الإطلاق، لكنها تقنية للغاية فلا يمكن أن نناقشها الآن.

إنَّ ما ينطبق على غرفةٍ ما، لا بد وأنه ينطبق على غرفة أكبر، فلماذا لا ينطبق على غرفة بحجم الكون بأكمله؟ في الكون نفسه بالفعل؟ لا شك بأنَّ القانون الثاني للديناميكا الحرارية يذكر أنَّ جميع الغاز الموجود في الكون ينبغي أن يوزِّع نفسه بالتساوي على هيئة ضباب خفيف، أليس كذلك؟

لو أنَّ هذا صحيح لأصبحت تلك أخبارًا سيئةً للعِرق البشري؛ لأننا لا نتكون من الضباب الخفيف. فمن الواضح أننا نتكون من كتل، ونعيش على كتلة أكبر تدور بكتلة كبيرة للغاية حتى إنها تتحمَّل تفاعلات نووية نشطة فتنتج الضوء والحرارة. ونجد بالفعل أنَّ الأشخاص الذين يرفضون الوصف العلمي المعتاد لنشأة البشرية غالبًا ما يستدعون القانون الثاني للديناميكا الحرارية كي «يثبتوا» أنَّنا لم نكن لنوجد لولا أنَّ كائنًا فائق الذكاء قد صنعنا قصدًا ورتَّب الكون ليناسب احتياجاتنا.

بالرغم من ذلك، فالنموذج الديناميكي الحراري للغاز الموجود في غرفة، غير مناسب لمعرفة الكيفية التي ينبغي أن يتصرَّف بها السديم الشمسي أو الكون بأكمله. ذلك أنه ينطوي على النوع الخاطئ من التفاعلات. تفترض الديناميكا الحرارية أنَّ الجزيئات لا يلاحظ بعضها بعضًا إلا حين تتصادم، ثم يرتد بعضها عن بعض. يكون الارتداد مرنًا تمامًا بمعنى أنه ما من طاقة تُفقد على الإطلاق؛ لذا تستمر الجزيئات في الارتداد بعضها عن بعض إلى الأبد. من الناحية التقنية، نجد أنَّ القوى التي تحكم تفاعلات الجزيئات في نموذج ديناميكي حراري للغاز، قصيرة المدى وتنافرية.

تخيَّل حفلةً جميعُ مَن فيها معصوب العينين ومسدود الأذنين؛ لذا فإنَّ الطريقة الوحيدة لمعرفةِ ما إذا كان أي شخص آخر حاضرًا، هو الارتطام به. تخيَّل أيضًا أنَّ الجميع معتلون اجتماعيًّا بدرجة كبيرة حتى إنَّه حين يلتقي أحدهم بالآخر، يدفع كلٌّ منهم الآخر على الفور. من المنطقي أنه بعد فترة من التصادم الأولي والتذبذب، سيوزِّعون أنفسهم بالتساوي إلى حدٍّ كبير. لن يحدث هذا طوال الوقت؛ لأنَّ أحدهم قد يقترب من الآخر أحيانًا عن طريق الخطأ، أو حتى يتصادمان، لكنهم يظلون موزَّعين في المتوسط. إنَّ النموذج الديناميكي الحراري للغاز شبيه بهذا، مع وجود أعداد ضخمة من الجزيئات تأخذ دور الأشخاص.

إنَّ غيمة غازية في الفضاء ستكون أكثر تعقيدًا. ترتد الجزيئات بعضها عن بعض حين تتصادم، لكنَّ ثمَّة نوعًا ثانيًا من القوى: الجاذبية. تُغفَل الجاذبية في الديناميكا الحرارية؛ لأنَّ آثارها في هذا السياق لا تكاد تُذكر على الإطلاق. أما في علم الكونيات، فنجد أنَّ الجاذبية عامل مهيمن؛ إذ توجد كمية مهولة من الغاز. تحافظ الديناميكا الحرارية على الحالة الغازية، أما الجاذبية، فهي تحدِّد ما يفعله الغاز على نطاقاتٍ أكبر. الجاذبية قوة طويلة المدى وجاذِبة؛ أي العكس تمامًا من الارتداد المرن. يُقصد بمصطلح «طويلة المدى» أنَّ الأجسام تتفاعَل حتى وبعضها بعيد عن بعض. فجاذبية القمر (والشمس بدرجة أقل) تؤدي إلى حدوث المد والجزر في محيطات الأرض، بالرغم من أنَّ القمر يبعد بمسافة ٤٠٠ ألف كيلومتر. أما مصطلح «جاذبة» فهو مباشر للغاية، ويعني أنها تؤدي إلى اقتراب الأجسام المتفاعلة بعضها من بعض.

يمكننا تشبيه ذلك بحفلةٍ يستطيع جميع مَن فيها رؤية الآخرين جميعًا من الجانب الآخر في الغرفة، وإن كان وضوح الرؤية يقل مع زيادة المسافة، وفور أن يرى أحدهم الآخر، يندفع نحوه. لا غرو في أن تتجمَّع كتلة من الغاز يتفاعل بعضها مع بعض تحت تأثير الجاذبية. في مناطق صغيرة للغاية من التجمعات، يسود النموذج الديناميكي الحراري، لكنَّ النزعة إلى التجمُّع تهيمن على النموذج الديناميكي الحراري في النطاقات الأكبر.

إذا كنا نحاول معرفةَ ما حدث لسديم شمسي افتراضي على نطاق الأنظمة الشمسية أو الكواكب، فعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار قوة الجاذبية الجاذِبة طويلة المدى. يمكن للتنافر القصير المدى بين الجزيئات المتصادمة أن يخبرنا شيئًا عن حالة منطقة صغيرة في الغلاف الجوي لكوكبٍ ما، لكنه لن يخبرنا شيئًا عن «الكوكب». الواقع أنه سيضللنا إلى تخيُّل أنَّه ما كان للكوكب أن يتكوَّن أبدًا.5

إنَّ التكتل نتيجةٌ حتمية للجاذبية. أما الانتشار المتساوي فهو ليس كذلك.

•••

لمَّا كانت الجاذبية تتسبَّب في تكتُّل المادة، فكيف يمكن أيضًا أن تباعد بين جزيئات الغيمة؟ يبدو ذلك تناقضًا.

وإجابة هذا السؤال أنَّ الكتل المتنافسة يمكن أن تتشكَّل في الوقت نفسه. فالحجج المنطقية التي تؤيد انهيار غيمة غازية إلى قرص مسطح دوَّار، تفترض أننا بدأنا بمنطقة غازية كروية تقريبًا، ربما تكون شبيهة بكرة القدم الأمريكية لكنها لا تشبه الدمبل. بالرغم من ذلك، ستضم منطقة كبيرة من الغاز أماكن تتوزَّع بصورة عشوائية وعرضية، يتصادف أن تكون المادة فيها أكثر كثافة مما هي عليه في الأماكن الأخرى. تعمل كل منطقةٍ من تلك المناطق بمثابة مركز، فتجذب المزيد من المادة من محيطها، وتبذل قوة جذب أقوى بدرجةٍ كبيرةٍ للغاية. يبدأ التجمع الناتج عن ذلك في صورةٍ كرويةٍ تقريبًا، ثم ينهار إلى قرصٍ دوَّار.

غير أنه في منطقة غازية كبيرة بالدرجة الكافية، يمكن أن يتشكَّل العديد من مثل هذه المراكز. فبالرغم من أنَّ الجاذبية طويلة المدى، فإنَّ قوَّتها تتضاءل مع زيادة المسافة بين الأجسام. ومن ثَمَّ تنجذب الجزيئات إلى المركز الأقرب. يُحاط كل مركز بمنطقةٍ يسود فيها سحب جاذبيته. إذا كان في الحفلة «شخصان» شهيران، وكلٌّ منهما في ركنٍ مقابل بالغرفة، فسوف تنقسم الحفلة إلى مجموعتين. لذا تنظم غيمة الغاز نفسها إلى مزيجٍ ثلاثي الأبعاد من المراكز الجاذبة. وهذه المناطق تُمزِّق الغيمة عند حدودها المشتركة. ما يحدث في الواقع أكثر تعقيدًا؛ إذ يمكن للجزيئات السريعة الحركة أن تفلت من تأثير المركز الأقرب وينتهي بها المطاف بالقرب من مركزٍ آخر، لكنَّ هذا ما نتوقعه بصورة عامة. يتكثف كل مركزٍ لتكوين نجم، وقد يكوِّن الغبار المحيط به مجموعةً من الكواكب وبعض الأجسام الأصغر.

إنَّ هذا هو السبب في أنَّ غيمةً غازيةً تكون متساوية في البداية، تتكثَّف إلى مجموعةٍ كبيرةٍ من الأنظمة النجمية المستقلة والمنعزلة بعض الشيء. يتطابق كلٌّ من هذه الأنظمة مع أحد المراكز الكثيفة. وحتى حينذاك، لا يكون الأمر مباشرًا تمامًا. إذا كان ثمَّة نجمان قريبان من أحدهما الآخر بالدرجة الكافية، أو يقترب أحدهما من الآخر لأسباب تصادفية، فقد ينتهي بهما الأمر في الدوران حول مركز كتلتهما المشترك. وحينها يشكِّلان نجمًا ثنائيًّا. ويمكن بالفعل أن تظهر أنظمة تتكوَّن من ثلاثة نجوم أو أكثر، ترتبط معًا بعض الشيء بفعل جاذبيتها المشتركة.

إنَّ هذه الأنظمة المتعددة النجوم، لا سيما الثنائية منها، توجد بكثرةٍ في الكون. فالنجم الأقرب للشمس، «بروكسيما سنتوري»، قريب نسبيًّا (في السياق الفلكي) من نظام نجمي ثنائي يُدعى «ألفا سنتوري»، الذي يتكوَّن من النجم «ألفا سنتوري إيه» والنجم «ألفا سنتوري بي». ويبدو من المرجَّح أنَّ «بروكسيما» يدور بهما، لكنه يستغرق على الأرجح نصف مليون عام ليكمل دورة واحدة. فالمسافة بين النجم «إيه» والنجم «بي» تقترب من مقدار المسافة من المشتري إلى الشمس؛ فهي تتراوح بين ١١ وحدة فلكية و٣٦ وحدة فلكية.

على العكس من ذلك، تبلغ المسافة من «بروكسيما» إلى النجم «إيه» أو النجم «بي»، ١٥ ألف وحدة فلكية، فهي أكبر بألف مرةٍ تقريبًا. ولهذا فوفقًا لقانون التربيع العكسي للجاذبية، يبلغ مقدار القوة التي يبذلها النجمان «إيه» و«بي» على «بروكسيما»، واحدًا على المليون من القوة التي يبذلها أحدهما على الآخر. وبخصوص ما إذا كان ذلك المقدار قويًّا بما يكفي لإبقاء «بروكسيما» في مدار مستقر، فهو يتوقَّف بدقةٍ على ما هو موجود بالقرب منه لينتزعه من قبضة «إيه» و«بي» الضعيفة. لن نكون موجودين على أية حال لرؤيةِ ما سيحدث.

•••

لا بد أنَّ التاريخ المبكِّر للنظام الشمسي قد تضمَّن فترات من النشاط العنيف. والدليل على هذا هو عدد الفُوَّهات الضخم الموجود على معظم الأجسام، لا سيما القمر وعطارد والزهرة والعديد من الأقمار الأخرى، مما يوضح أنَّ هذه الأجسام قد رُشِقت بعددٍ لا يُحصى من الأجسام الأصغر. يمكن تقدير الأعمار النسبية للفُوَّهات الناتجة إحصائيًّا؛ إذ إنَّ الفُوَّهات الأحدث تدمِّر جزءًا من الفُوَّهات الأقدم حين تتداخل، ومعظم الفُوَّهات المرصودة على هذه العوالم عتيقة للغاية بالفعل. بالرغم من هذا، تتشكَّل فُوَّهات جديدة في بعض الأحيان، لكن معظمها يكون صغيرًا للغاية.

تتمثَّل المشكلة الكبيرة هنا في ترتيب تسلسل الأحداث التي شكَّلت النظام الشمسي. في ثمانينيات القرن العشرين، مكَّننا اختراعُ أجهزة الكمبيوتر القوية الفعالة والطرق الحسابية الدقيقة، من تصميم نماذج حسابية تفصيلية للغيوم المنهارة. ومن الضروري توفُّر قدرٍ من التعقيد لأنَّ الطرق العددية البسيطة لا تراعي القيود الفيزيائية مثل حفظ الطاقة. إذا كانت هذه الأداة الرياضية تتسبَّب في نقص الطاقة ببطء، يكون التأثير شبيهًا بالاحتكاك. وبدلًا من اتباع مدار مغلق، يسير الكوكب ببطء في مدار لولبي باتجاه الشمس. ينبغي حفظ الكميات الأخرى أيضًا، مثل الزخم الزاوي. لم يتوصَّل العلماء إلى الطرق التي تتجنَّب هذا الخطر إلا قبل وقت قصير. تُعرف الطرق الأدق من بينها بطرق التكامل التماسكي، وقد اتخذت هذا الاسم من طريقة تقنية لإعادة صياغة معادلات الميكانيكا، وهي تحفظ جميع الكميات الفيزيائية المعنية «بالضبط». تكشف نماذج المحاكاة الدقيقة المضبوطة عن آليات منطقية ومثيرة للغاية بشأن تكوُّن الكواكب، وهي تلائم الملاحظات على نحوٍ جيد. وفقًا لهذه الأفكار، كان النظام الشمسي الأولي شديد الاختلاف عن ذلك النظام الشمسي الهادئ الذي نراه اليوم.

كان علماء الفلك يظنون أنَّ النظام الشمسي صار مستقرًّا للغاية فور أن أتى إلى الوجود. ظلت الكواكب تدور بروية في مداراتها المقدرة مسبقًا، ولم يتغير الكثير؛ فالنظام العجوز الذي نراه اليوم، شديد الشبه بما كان عليه في شبابه. غير أنهم لم يعودوا يعتقدون ذلك الآن! صاروا الآن يعتقدون أنَّ العملاقين الغازيين؛ المشتري وزحل، والعملاقين الثلجيين؛ أورانوس ونبتون، ظهرت أولًا خارج «خط الجليد» حيث تتجمَّد المياه، لكنها أعادت تنظيم بعضها بعضًا بعد ذلك في صراع تجاذبي طويل. أثَّر هذا في جميع الأجسام الأخرى، وكان التأثير كبيرًا في معظم الأحوال.

قادتنا النماذج الرياضية إضافةً إلى مجموعة متنوعة من الأدلة الأخرى المستمدة من الفيزياء النووية والفيزياء الفلكية والكيمياء وغير ذلك من فروع العلم، إلى الصورة الحالية: لم تتشكَّل الكواكب على هيئة كتل منفصلة متماسكة؛ بل بعملية فوضوية من التراكم. فعلى مدار أول ١٠٠ ألف عام، راحت «الجسيمات الكوكبية» النامية ببطء، تكتسح الغاز والغبار وشكَّلت في السديم حلقات دائرية عن طريق تكوين فراغات فيما بينها. امتلأت كل فجوة بالملايين من هذه الأجسام الضئيلة. في تلك المرحلة، لم يَعُد لدى الجسيمات الكوكبية أي مواد جديدة تكتسحها، لكنَّ عددها كان كبيرًا للغاية حتى إنها كانت ترتطم بعضها ببعض. انشطر بعضها، لكن البعض قد اندمج؛ ففازت الأجسام المندمجة وتراكمت الكواكب قطعة بقطعة.

في هذا النظام الشمسي المبكِّر، كانت بعض الكواكب العملاقة أقرب لبعض بأكثرَ مما هي عليه اليوم، وكانت الجسيمات الكوكبية تجوب المناطق الخارجية. نجد اليوم أنَّ ترتيب الكواكب العملاقة من الشمس إلى الخارج هو المشتري، زحل، أورانوس، نبتون. غير أنَّ أحد التصورات المحتملة تقول بأنه كان في الأصل على النحو التالي: المشتري، نبتون، أورانوس، زحل. وحين صار عمر النظام الشمسي ٦٠٠ مليون عام تقريبًا، انتهى هذا الترتيب المريح. كانت جميع الفترات المدارية للكواكب تتغيَّر ببطء، وصار المشتري وزحل في حالة رنين مداري بنسبة ٢ : ١؛ أي صارت «سنة» المشتري تساوي نصف سنة زحل بالضبط. تحدث حالات الرنين بصفة عامة حين توجد فترتان مداريتان أو فترتا دوران، يمكن تمثيل العلاقة التي تربط بينهما بكسر بسيط، وهو نصف في هذه الحالة.6 لحالات الرنين تأثير قوي على الديناميكيات السماوية؛ لأنَّ الأجسام التي توجد في رنين مداري تصطف مرارًا وتكرارًا بالطريقة نفسها تمامًا، وسوف أذكر المزيد عنها لاحقًا. يحول هذا دون «توزُّع» الاضطرابات على مدار فترات طويلة من الوقت. وهذه الحالة المحدَّدة من الرنين دفعت نبتون وأورانوس إلى الخارج، وحلَّ نبتون محل أورانوس.
أدَّى هذا الترتيب الجديد للأجسام الأكبر في النظام الشمسي، إلى توزيع الجسيمات الكوكبية، وتسبَّب في سقوطها باتجاه الشمس. حلَّت حالة عارمة من الفوضى إذ راحت الجسيمات الكوكبية تلعب لعبة الكرة والدبابيس السماوية بين الكواكب. تحرَّكت الكواكب العملاقة إلى الخارج، وانتقلت الجسيمات الكوكبية إلى الداخل. وفي نهاية المطاف، تنافست الجسيمات الكوكبية مع المشتري الذي كانت كتلته الضخمة عاملًا حاسمًا. لُفِظت بعض الجسيمات الكوكبية خارج النظام الشمسي بأكمله، بينما ذهب بعضها في مدارات طويلة نحيفة تمتد إلى مسافات ضخمة. بعد ذلك، استقر كل شيء بدرجة كبيرة، غير أنَّ القمر وعطارد والمريخ لا تزال تحمل ندبات المعارك التي نتجت عن هذه الفوضى.7 وتوزَّعت الأجسام من جميع الأشكال والأحجام والتركيبات في كل مكان.
استقرَّ كل شيء «بدرجة كبيرة». غير أنه لم يتوقَّف. في عام ٢٠٠٨، أجرى قسطنطين باتيجين وجريجوري لافلين نموذج محاكاة لمستقبل النظام الشمسي على مدار ٢٠ مليار عام، ولم تكشف النتائج الأولية عن اضطرابات شديدة.8 ومع تعديل الطريقة العددية للبحث عن أي اضطرابات محتملة، ومع تغيير مدار كوكب واحد على الأقل بطريقة أساسية، اكتشفا تصورًا محتملًا للمستقبل يصطدم فيه عطارد بالشمس بعد ما يقرب من ١٫٢٦ مليار عام من الآن، وتصورًا آخر تؤدي فيه حركات عطارد غير المنتظمة إلى لفظ المريخ من النظام الشمسي بعد ٨٢٢ مليون عام من الآن، ويتبع ذلك تصادم بين عطارد والزهرة بعد ٤٠ مليون عام أخرى. غير أنَّ الأرض تستمر في الإبحار بسكينة دون أن تتأثَّر بكل هذه الأحداث المثيرة.
كانت نماذج المحاكاة المبكِّرة تَستخدم في المجمل معادلات تقريبية غيرَ ملائمة للتصادمات، وتغفل الآثار النسبية. وفي عام ٢٠٠٩، أجرى جاك لاسكار ومايكل جاستينو نموذج محاكاة لخمسة مليارات عام تالية، باستخدام طريقة تجنَّبت هذه المشكلات،9 لكنَّ النتائج جاءت هي نفسها تقريبًا. لأنَّ الاختلافات الضئيلة في الظروف الأولية يمكن أن تخلِّف أثرًا كبيرًا في الديناميكيات على المدى الطويل، قاما بمحاكاة ٢٥٠٠ من المدارات تبدأ كلها بخطأ في رصد الظروف الحالية. وفي ٢٥ من الحالات تقريبًا، يضخِّم الرنين القريب الانحراف المداري لعطارد، مما يؤدي إلى تصادم مع الشمس، أو تصادم مع الزهرة، أو لقاء قريب يغيِّر مدارَي عطارد والزهرة كليهما تغييرًا جذريًّا. في حالة واحدة، يصبح مدار عطارد أقل انحرافًا؛ فيتسبَّب في زعزعة استقرار الكواكب الداخلية الأربعة على مدار ٣٫٣ مليارات عام قادمة. من المرجَّح بعد ذلك أن تصطدم الأرض بعطارد أو الزهرة أو المريخ. ومرة أخرى، يظهر احتمال طفيف بلفظ المريخ من النظام الشمسي بأكمله.10

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤