الفصل الثالث

قمر متقلب

«إنه خطأ القمر: يقترب من الأرض أكثر مما ينبغي له، ويصيب البشر بالجنون.»

ويليام شيكسبير، «عطيل»

قمرنا كبير للغاية.

إنَّ قطره يزيد عن ربع قطر الأرض؛ فهو أكبر من غالبية الأقمار الأخرى: الحق أنه كبير للغاية حتى إنَّ نظام الأرض-القمر يُسمى أحيانًا بالكوكب المزدوج. (بالمصطلحات التقنية: تُسمى الأرض بالكوكب الرئيس، والقمر بالتابع.) ما من أقمار تدور بعطارد أو بالزهرة، بينما يدور بالمريخ، وهو الكوكب الأكثر شبهًا بالأرض، قمران صغيران. يمتلك المشتري، أكبر كواكب النظام الشمسي، ٦٧ قمرًا معروفًا، لكنَّ ٥١ منها لا يزيد قطر كلٍّ منها عن ١٠ كيلومترات. حتى القمر الأكبر، جانيميد، يقل حجمه عن واحدٍ على ١٣ من حجم المشتري. يُعد زُحل الأغزر في حصص الأقمار التابعة؛ إذ يدور به ما يزيد عن ١٥٠ من الأقمار والقميرات ونظام ضخم ومعقَّد من الحلقات. غير أنَّ قمره الأضخم، تيتان، لا يبلغ حجمه سوى واحد على ٢٠ من حجم زحل، وهو الكوكب الرئيس في النظام. لأورانوس ٢٧ قمرًا معروفًا، أكبرها تيتانيا الذي يقل قطره عن ١٦٠٠ كيلومتر. أما نبتون، فقمره الوحيد الكبير هو تريتون الذي يبلغ حجمه واحدًا على ٢٠ من حجم الكوكب، وإضافةً إليه، وجد علماء الفلك ١٣ قمرًا آخرَ صغيرًا للغاية. من بين جميع عوالم النظام الشمسي، وحده بلوتو هو الأفضل منا؛ فأربعة من أقماره صغيرة للغاية لكنَّ الخامس، شارون، يبلغ نصف حجم كوكبه الرئيس.

يُعد نظام الأرض-القمر غير مألوف في جانبٍ آخر أيضًا: وهو زخمه الزاوي الكبير للغاية. من الناحية الديناميكية، مقدار «الدوران» فيه أكبر مما ينبغي. ثمَّة مفاجآت أخرى بشأن القمر أيضًا، وسوف نتناولها في الوقت المناسب. إنَّ الطبيعة الاستثنائية للقمر تزيد من أهمية سؤال آخر تلقائي: كيف اكتسبت الأرض تابعها؟

درامية هي النظرية التي تتناسب مع الأدلة الحالية على أفضل نحو، وهي فرضية الاصطدام العملاق. ففي بداية تكوُّنه، كان حجم كوكبنا أصغر مما هو عليه الآن بمقدار ١٠٪، ثم ارتطم به جسم في حجم المريخ تقريبًا، وبعثر منه كميات ضخمة من المادة — كان الكثير منها صخورًا منصهرة في البداية — على شكل كريات من جميع الأحجام اتحد العديد منها عندما بدأت الصخور تبرد. اتحد جزء من الجسم المصادِم مع الأرض التي أصبحت أكبر. وجزء آخر منه صار القمر. أما البقية، فقد توزَّعت في مكانٍ ما بالنظام الشمسي.

تؤيد نماذج المحاكاة الرياضية سيناريو الاصطدام العملاق؛ إذ إن النظريات الأخرى أقل جودة. بالرغم من ذلك، فقد بدأت فرضية الاصطدام العملاق تواجه في السنوات الأخيرة بعض المشكلات، في نسختها الأصلية على الأقل. قد يكون أصل القمر ما يزال متاحًا للتنافس عليه.

•••

تتمثَّل النظرية الأبسط في أنَّ القمر قد تراكم من السديم الشمسي مع كل شيء آخر، في أثناء تكوُّن النظام الشمسي. كان يوجد الكثير من الغبار في مجموعة ضخمة من الأحجام. وحين بدأ هذا الغبار في الاستقرار، تكوَّنت منه كتل أكبر عن طريق جذب الكتل الأصغر التي اتحدت معها بعد تصادمات. لقد تكوَّنت الكواكب بهذه الطريقة، وكذلك الكويكبات والمذنَّبات والأقمار أيضًا. لذا؛ فمن المحتمل أن يكون قمرنا قد تكوَّن بهذه الطريقة.

غير أنه حتى إذا كان ذلك صحيحًا، فإنه لم يتكوَّن في أي مكان قريب من مداره الحالي. فالمشكلة العويصة هي الزخم الزاوي؛ إذ يوجد الكثير جدًّا منه. ومن المشكلات الأخرى أيضًا، بنية القمر. فبعد تكثُّف السديم الشمسي، كان يوجد الكثير من العناصر التي على مسافات مختلفة. ظلت العناصر الأثقل بالقرب من الشمس، بينما أطاح الإشعاع بالعناصر الأخف بعيدًا. وهذا هو السبب في أنَّ الكواكب الداخلية صخرية تتكوَّن ألبابها من الحديد والنيكل، بينما تتكوَّن الكواكب الخارجية بصفة أساسية من الغاز والجليد الذي هو في الأصل غازٌ صار باردًا للغاية حتى تجمَّد. إذا كانت الأرض والقمر قد تكوَّنا على المسافة نفسها تقريبًا من الشمس، وفي الوقت نفسه تقريبًا، فيجب أن يحتويا على صخور متشابهة وبنسب متشابهة. غير أنَّ لب القمر الحديدي أصغر كثيرًا من لب الأرض. حقيقة الأمر أنَّ النسبة الإجمالية للحديد في الأرض تبلغ ثمانية أضعاف نظيرتها على القمر.

في القرن التاسع عشر، توصَّل جورج، نجل تشارلز داروين، إلى نظرية أخرى، وهي أنَّ الأرض في بداية أيامها كانت ما تزال منصهرة وتدور بسرعة كبيرة للغاية حتى إنَّ جزءًا منها قد انشطر بفعل تأثير قوة الطرد المركزي. أجرى الحسابات باستخدام ميكانيكا نيوتن، وتنبأ بأنَّ القمر يبتعد ولا بد عن الأرض، وهو ما يتضح أنه صحيح بالفعل. إنَّ حدثًا كهذا كان ليخلِّف ندبة كبيرة، وقد كان لدينا مرشَّح واضح: المحيط الهادي. غير أننا نعرف الآن أنَّ صخور القمر أقدمُ كثيرًا من مواد القشرة المحيطية الموجودة في الهادي. وصحيح أنَّ هذا يستبعد المحيط الهادي، لكنه لا يستبعد بالضرورة نظرية الانشطار التي وضعها داروين.

اقتُرِحت العديد من التصورات الأخرى، وبعضها جامح بعض الشيء. ربما كان ثمَّة مفاعل نووي طبيعي (ونحن نعرف أنَّ واحدًا على الأقل كان موجودًا بالمناسبة)،1 وصار في مرحلة حرجة وانفجر، وأخرج المادة القمرية. لو كان المفاعل بالقرب من الحد الواقع بين الوشاح واللب، بالقرب من خط الاستواء، لذهب الكثير من صخور الأرض إلى المدار الاستوائي. أو ربما كان للأرض قمران في بداية الأمر وتصادما. أو ربما سرقنا قمرًا من الزهرة، مما يمثِّل تفسيرًا وجيهًا لعدم وجود قمر له. غير أنَّه إذا كانت هذه النظرية صحيحة؛ فهي لا تفسِّر السبب في عدم وجود قمرٍ للأرض في الأصل.

ثمَّة بديل أقل إثارة يتمثَّل في أنَّ الأرض والقمر تكوَّنا، كلٌّ على حدة، لكنَّ القمر اقترب من الأرض بالدرجة الكافية فيما بعد، وأَسَرته جاذبيتها. يوجد العديد من الأمور التي تؤيد هذه النظرية. فحجم القمر مناسب، وهو يوجد في مدار متوقَّع. إضافةً إلى ذلك، يفسِّر الأسر السبب في أنَّ القمر والأرض في حالة «تقييد مدي» بفعل جاذبيتهما المشتركة؛ لذا دائمًا ما يقابل الأرض الوجه نفسه من القمر. إنه يتأرجح بعض الشيء (المصطلح التقني: ميسان)، لكنَّ ذلك معتاد مع التقييد المدي.

المشكلة الأساسية هنا هي أنه بالرغم من منطقيةِ خيارِ أسْرِ الجاذبية (فالأجسام يجذب بعضها بعضًا على أية حال)، فإنه استثنائي بعض الشيء في الواقع. نادرًا ما تنطوي حركة الأجسام السماوية على أي احتكاك، يوجد مقدار منه بالتأكيد، في الرياح الشمسية على سبيل المثال لكن آثاره الديناميكية طفيفة؛ لذا تُحفظ الطاقة. فالطاقة (الحركية) التي يكتسبها جسم «ساقط» مع اقترابه من جسم آخر، مسحوبَيْن بفعل تفاعل الجاذبية بينهما، تكون كافية لأن «يفلت» الجسم من تلك السحبة مجددًا. عادةً ما يقترب الجسمان من أحدهما الآخر، ويتأرجحان حول أحدهما الآخر، ويفترقان.

أو يتصادمان بدلًا من ذلك.

من الواضح أن الأرض والقمر لم يفعلا أيًّا من الخيارين.

ثمَّة طرقٌ للتغلب على هذه المشكلة. ربما كان الغلاف الجوي للأرض في مرحلتها المبكرة ضخمًا وشاسعًا؛ مما أبطأ القمر حين اقترب، دون أن يكسره. توجد سابقة لهذا؛ فقمر نبتون المسمَّى «تريتون» ليس استثنائيًّا في حجمه مقارنةً بالكوكب فحسب؛ بل في اتجاه حركته أيضًا، وهي حركة «ارتجاعية»، أي في الاتجاه المعاكس لحركة معظم أجسام النظام الشمسي، بما في ذلك جميع الكواكب. يعتقد علماء الفلك أنَّ نبتون هو الذي أسرَ تريتون. لقد كان تريتون في الأصل من أجسام حزام كايبر، وهو الاسم الذي يُطلق على حشد من الأجسام الصغيرة التي تدور خارج مدار نبتون. إنه يتشارك في هذا الأصل مع بلوتو على الأرجح. وإذا كان الأمر كذلك، فحوادث الأسر تقع بالفعل.

ثمَّة ملاحظة أخرى تقيِّد الاحتمالات بدرجة أكبر. فبالرغم من أنَّ البنية الجيولوجية العامة للأرض تختلف أشد الاختلاف عن البنية الجيولوجية العامة للقمر، نجد أنَّ البنية الجيولوجية المفصَّلة لصخور سطح القمر تتشابه على نحوٍ ملحوظ مع دثار الأرض. (يقع الدثار بين القشرة القارية واللب الحديدي.) فللعناصر «نظائر» تكاد تكون متطابقة في التركيب الكيميائي لكنها تختلف في الجسيمات التي تكوِّن النواة الذرية. أكثر نظائر الأكسجين شيوعًا هو أكسجين ١٦ الذي يمتلك ثمانية بروتونات وثمانية نيوترونات. أما أكسجين ١٧ فيمتلك نيوترونًا إضافيًّا، ويمتلك أكسجين ١٨ نيوترونًا إضافيًّا ثانيًا. حين تتكوَّن الصخور، يُدمج الأكسجين فيها من خلال التفاعلات الكيميائية. وقد اتضح أنَّ عينات صخور القمر التي أحضرها روَّاد فضاء «أبولو» تحتوي على نسب الأكسجين ونظائره التي تحتوي عليها طبقة دثار الأرض.

في عام ٢٠١٢، قام راندال بانييلو وزملاؤه بتحليل نظائر الزنك في المادة القمرية، ووجدوا أنَّ نسبة الزنك الموجودة بها أقل من تلك التي توجد في الأرض، لكنها تحتوي على نسبة أعلى من نظائر الزنك الثقيلة. لقد استنتجوا أنَّ القمر فقدَ الزنك بالتبخر.2 ومرة أخرى عام ٢٠١٣، ذكر فريق بقيادة ألبرتو سال أنَّ ذرات الهيدروجين الموجودة في الزجاج البركاني القمري والأوليفين تحتوي على نسب نظائر شديدة الشبه بتلك الموجودة في مياه الأرض. إذا كان الأرض والقمر قد تكوَّنا في الأصل، كلٌّ على حدة، فمن غير المرجَّح أن تكون نسب النظائر فيهما على هذه الدرجة من التشابه.

إنَّ التفسير الأبسط هو أنَّ هذين الجسمين لهما أصل مشترك، بالرغم من الاختلافات بين لبَّيهما. غير أنه ثمَّة خيار بديل: ربما تكوَّنا، كلٌّ على حدة، وكانت بنيتهما مختلفةً حين تكوَّنا، لكنهما امتزجا معًا بعد ذلك.

•••

لنُراجع الدليل الذي يستدعي التفسير. يتمتع نظام الأرض-القمر بزخم زاوي كبير للغاية. تحتوي الأرض على حديدٍ أقلَّ مما يحتوي عليه القمر، لكنَّ سطح القمر يحتوي على نسب نظائر شديدة الشبه بتلك الموجودة في دثار الأرض. القمر كبير للغاية، ويرتبط بالتقييد المدي مع كوكبه. وسيكون على أي نظرية قابلة للتطبيق أن تفسِّر هذه الملاحظات أو تكون متسقة معها على الأقل، كي تكون مقبولة بحدٍّ أدنى. و«جميع» النظريات البسيطة لا توفِّر ذلك. إنَّ الأمر يشبه عبارة شيرلوك هولمز المتداولة: «حين تستبعد المحال، فلا بد أن يكون ما يتبقَّى لديك، أيًّا ما كان، هو الحقيقة.» والتفسير الأبسط الذي يلائم الدليل، هو شيء كان علماء الفلك حتى نهايات القرن العشرين سيرفضونه لأنه بدا غير محتمل الوقوع. يتمثَّل هذا التفسير في أنَّ الأرض تصادمت مع شيء آخر ضخم للغاية حتى إنَّ التصادم صهر كِلا الجسمين. تبعثرت بعض الصخور لتكون القمر، وما اتحد مع الأرض منها كوَّن الجزء الأكبر من دثار الأرض.

تعود فرضية الاصطدام العملاق في نسختها الحالية المفضَّلة إلى عام ١٩٨٤. وقد اتخذ الجسم المصادِم اسمًا أيضًا: «ثيا». غير أنَّ أحاديات القرن قد اتخذت اسمًا وليس لها من وجود. إذا كان لثيا أيُّ وجود على الإطلاق، فلن توجد آثاره المتبقية إلا على القمر أو في باطن الأرض؛ لذا فلا بد أن يكون الدليل غير مباشر.

قليلة هي الأفكار التي تتسم بالأصالة الحقة، ويعود تاريخ هذه الفكرة على الأقل، إلى ريجينالد دالي الذي اعترض على نظرية داروين للانشطار؛ لأنه عند القيام بالحسابات على النحو الملائم، لا يمكن تتبُّع مسار المدار الحالي للقمر إلى الأرض حين تعود بالزمن إلى الوراء. اقترح دالي أنَّ فرصة التأثير ستكون أفضل كثيرًا. وكانت المشكلة الأساسية الظاهرة في ذلك الوقت: التأثير بماذا؟ ففي تلك الأيام كان علماء الفلك والرياضيات يعتقدون أنَّ الكواكب قد تكوَّنت في مداراتها الحالية بدرجة كبيرة. غير أنه مع زيادة فعالية أجهزة الكمبيوتر، وصار من الممكن استكشاف نتائج رياضيات نيوتن في أوضاعٍ أكثرَ واقعية، أصبح واضحًا أنَّ النظام الشمسي المبكِّر استمر في التغير على نحوٍ كبير. في عام ١٩٧٥، أجرى ويليام هارتمان ودونالد دافيس حساباتٍ تقترح أنه بعد تكوُّن الكواكب، تبقَّت بعض الأجسام الأصغر حجمًا. يمكن أن تؤسَر هذه الأجسام وتصبح أقمارًا، أو يمكن أن يتصادم بعضها مع بعض، أو مع كوكبٍ ما. وقالا إنَّ تصادمًا كهذا يمكن أن يكون هو ما شكَّل القمر، وهو تفسير يتسق مع الكثير من خصائصه المعروفة.

في عام ١٩٧٦، اقترح ألاستير كاميرون وويليام وارد أنَّ كوكبًا آخر في حجم المريخ تقريبًا، تصادم مع الأرض، وتراكمت بعض المواد التي تبعثرت منه لتكون القمر.3 إنَّ المكونات المختلفة كانت ستتصرف على نحوٍ مختلف تحت تأثير القوى الضخمة والحرارة التي تولَّدت عن التأثير. فصخور السيليكات (على كلا الجسمين) كانت ستتبخر، لكنَّ لب الأرض الحديدي وأي لب معدني قد يمتلكه الجسم المصادِم، لن يتبخر. ومن ثمَّ، فسوف ينتهي الأمر بأن يحتوي القمر على قدرٍ من الحديد أقل مما تحتوي عليه الأرض، لكن صخور سطح القمر ودثار الأرض الذي تكثف من السيليكات المتبخرة، سيكونان شديدي الشبه في التركيب.
في ثمانينيات القرن العشرين، أجرى كاميرون وعدد من زملائه نماذج محاكاة حاسوبية لنتائج مثل هذا التأثير، وقد أوضحت أنَّ مصادِمًا في حجم المريخ — ثيا — هو أنسب ما يلائم الملاحظات.4 بدا من المستساغ في البداية أن يتمكَّن ثيا من إخراج قطعة من دثار الأرض مع المساهمة بقدر ضئيل للغاية من مادته في الصخور التي أصبحت هي القمر. إنَّ هذا يفسِّر السبب في التشابه الشديد في تركيب هذين النوعين من الصخور. وقد كان يُعَد بالفعل تأكيدًا قويًّا لفرضية الاصطدام العملاق.

كان معظم علماء الفلك يقبلون بهذه الفكرة حتى بضع سنوات سابقة. اصطدم ثيا بالأرض البدائية في وقتٍ مبكر للغاية (في السياق الكوني) بعد تكوُّن النظام الشمسي، قبل فترة تتراوح بين ٤٫٥ مليارات عام، و٤٫٤٥ مليارات عام. لم يتصادم العالَمان تصادمًا رأسيًّا؛ بل بزاوية قدرها ٤٥ درجة. كان التصادم بطيئًا بعض الشيء (نؤكد مرة أخرى أنَّ ذلك في السياق الكوني): بمقدار أربعة كيلومترات في الثانية تقريبًا. توضِّح الحسابات أنه إذا كان ثيا يمتلك لبًّا حديديًّا، لاتحد مع الجسم الأساسي للأرض، ولأنه أكثر كثافة من الدثار، كان سيغرق ويلتحم بلب الأرض؛ إذ يجب أن تتذكَّر أنَّ الصخور كلها كانت منصهرة في هذه المرحلة. وهذا يفسِّر السبب في أنَّ الأرض تحتوي على حديد أكثر مما يحتوي عليه القمر. خُمس دثار ثيا تقريبًا، والكثير من صخور السيليكات الموجودة في الأرض، قد طُرِح في الفضاء. نصف ذلك المقدار قد انتهى به الحال في الدوران حول الأرض، وتجمَّع لتشكيل القمر. أما النصف الآخر فقد أفلت من جاذبية الأرض ودار حول الشمس. ظل معظمه في مدارات مشابهة لمدار الأرض؛ لذا فقد تصادمت مع الأرض أو مع القمر الحديث التكوين. إنَّ الكثير من الفُوَّهات القمرية قد تكوَّنت بفعل هذه الاصطدامات الثانوية. أما على الأرض، فقد محت التعرية وغيرها من العمليات معظم فُوَّهات الاصطدام.

لقد منح الاصطدامُ الأرض كتلةً إضافية، والكثير أيضًا من الزخم الزاوي الإضافي؛ بل الكثير جدًّا حتى إنها كانت تدور حول نفسها مرة كل خمس ساعات. وأدَّى الشكل المفلطح الذي تتخذه الأرض بانبعاجها عند القطبين، إلى بذل قوى المد والجزر التي حاذت مدار القمر مع خط استواء الأرض، وأدَّت إلى استقراره هناك.

توضِّح القياسات أنَّ قشرة القمر على الجانب البعيد عن الأرض الآن أكثرُ سمكًا. ويُفسر هذا بأنَّ بعض المواد التي تبعثرت في مدار الأرض لم تُمتَص في البداية فيما قد أصبح القمر. وبدلًا من ذلك، تجمَّع قمرٌ ثانٍ أصغر في نقطةٍ تُعرف باسم «نقطة لاجرانج»، في المدار نفسه الذي يدور فيه القمر، لكنه أبعد منه بمقدار ٦٠ درجة (انظر الفصل الخامس). بعد ١٠ ملايين عام، مع انحراف الجسمَين ببطء بعيدًا عن الأرض، أصبح هذا الموقع غير مستقر، وتصادم القمر الأصغر مع القمر الأكبر. انتشرَت مادَّتُه على الجانب البعيد من القمر، مما أدَّى إلى زيادة سمك القشرة.

•••

لقد استخدمتُ الكلمتين «محاكاة» و«حسابات» كثيرًا، غير أنك لا تستطيع إجراءَ عمليةٍ حسابيةٍ ما لم تكن تعرف ما تريد حسابه، ولا يمكنك محاكاة شيء من خلال «وضعه على الكمبيوتر فحسب». يجب أن يقوم شخصٌ ما بإعداد العملية الحسابية بتفصيل بالغ؛ فيكتب البرنامج الذي يخبِّر الكمبيوتر بكيفية أداء العملية الحسابية. ونادرًا ما تكون هذا المهام مباشرة.

إنَّ محاكاة اصطدام كوني مشكلة حسابية مهولة. فالمادة التي ينطوي عليها الاصطدام يمكن أن تكون صلبة أو سائلة أو بخارية، وتختلف القواعد الفيزيائية التي تنطبق في كل حالة، مما يستلزم صيغًا حسابية مختلفة. تنطوي المحاكاة على أربعة أنواع من المادة على الأقل: اللب والدثار لكلٍّ من ثيا والأرض. ويمكن للصخور أيًّا كانت الحالة التي توجد عليها، أن تتشظى أو تتصادم. تسير حركة هذه الصخور وفقًا ﻟ «شروط الحدود الحرة»، أي أنَّ ديناميكا الموائع لا تنطبق في مكان محدَّد من مكان له جدران محددة. وبدلًا من ذلك، «يقرر» المائع مكان حده، ويتغير موقع هذا الحد مع حركة السائل. إنَّ التعامل مع الحدود الحرة أصعب كثيرًا من التعامل مع الحدود الثابتة، من الناحيتين النظرية والحسابية على حد سواء. وأخيرًا، نجد أنَّ القوة المؤثرة، هي قوى الجاذبية؛ ومن ثمَّ فهي ليست خطية. معنى هذا أنها لا تتغير تناسبيًّا مع المسافة؛ بل تتغير وفقًا لقانون التربيع العكسي. تشتهر المعادلات غير الخطية بصعوبتها الشديدة مقارنةً بالمعادلات الخطية.

لا يمكن للطرق الرياضية التقليدية التي تستخدم الورقة والقلم أن تطمح إلى حل المسألة، ولا حتى إلى حل النسخ المبسطة منها. بدلًا من ذلك، فإنَّ أجهزة الكمبيوتر السريعة التي تمتلك قدرًا كبيرًا من الذاكرة، تستخدم الطرق العددية لتقريب المسألة، ثم إجراء الكثير من حسابات القوة الغاشمة للحصول على إجابة تقريبية. معظم نماذج المحاكاة تصمم الأجسام المتصادمة على هيئة قطرات من مائع لزج يمكن أن ينقسم إلى قطرات أصغر أو يتحد لتكوين قطرات أكبر. تكون القطرات الأولية في حجم الكواكب، وهي أصغر في الحجم بالطبع، لكنَّ ذلك مقارنة بالكواكب فقط. والسبب في هذا أنها تظل كبيرة نسبيًّا.

يعود تاريخ أحد النماذج القياسية لديناميكا الموائع إلى ليونهارد أويلر ودانييل بيرنولي في بدايات القرن الثامن عشر. وهذا النموذج يصوغ القوانين الفيزيائية لتدفُّق الموائع على صورة معادلة تفاضلية جزئية، تصف كيفية تغيُّر السرعة المتجهة للمائع في كل نقطة في الفضاء بمرور الوقت، استجابةً للقوى المؤثرة. وباستثناء حالات بسيطة للغاية، لا يمكن التوصُّل إلى الصيغ التي تحل المعادلة، لكنَّ بعض الطرق الحسابية الدقيقة قد ابتُكِرت. تتمثَّل إحدى المشكلات الأساسية في طبيعة النموذج؛ وهو ما يستلزم منا بصفة أساسية دراسة السرعة المتجهة للمائع في كل نقطة في منطقةٍ ما بالفضاء. غير أنَّ أجهزة الكمبيوتر لا تستطيع إجراء عدد لا نهائي من الحسابات؛ لذا «نقطِّع» المعادلة: نقرِّبها بمعادلة ذات صلة لا تتضمن سوى عدد محدَّد من النقاط. تستند الطريقة الأبسط إلى استخدام نقاط شبكة بصفتها عينة تمثيلية للمائع بأكمله، وتتابع تغيُّر السرعة المتجهة على نقاط الشبكة. ويُعد هذا التقريب جيدًا إذا كانت الشبكة دقيقة بالدرجة الكافية.

من سوء الحظ أنَّ هذا النهج ليس جيدًا للقطرات المتصادمة؛ لأنَّ مجال السرعة المتجهة يصبح متقطعًا حين تنفصل القطرات. ثمَّة تنويعة أخرى بارعة من طريقة الشبكة تنقذ الموقف. يمكن تطبيق هذه الطريقة حتى حين تنفصل القطرات أو تتَّحد. تُدعى هذه الطريقة باسم الديناميكا المائية للجسيمات الناعمة، وهي تقسم المائع إلى «جسيمات» متجاورة؛ أي مناطق ضئيلة للغاية. وبدلًا من استخدام شبكة ثابتة، نتتبع الجسيمات في استجابتها للقوى المؤثرة. إذا كانت الجسيمات القريبة تتحرك بالسرعة نفسها تقريبًا وفي الاتجاه نفسه، فهذا يعني أنها في القطرة نفسها، وستظل في تلك القطرة. أما إذا كانت الجسيمات المتجاورة تتحرك في اتجاهات شديدة الاختلاف، أو تتخذ مستويات شديدة الاختلاف من السرعة المتجهة، فهذا يعني أنَّ القطرة تنفصل.

تسمح الرياضيات بنجاح هذه الطريقة من خلال «تمليس» كل جسيم إلى ما يشبه كرة وبرية ناعمة (المصطلح التقني: دالة التداخل الكروي للنواة)، ومطابقة هذه الكرات. تُحسَب حركة المائع من خلال جمع حركات هذه الكرات الوبرية. يمكن تمثيل كلٍّ من هذه الكرات بنقطتها المركزية، ويتعيَّن علينا حساب الكيفية التي تتحرك بها هذه النقاط مع مرور الوقت. يُطلق علماء الرياضيات على هذا النوع من المعادلات اسم مسألة الجسم n؛ حيث n هو عدد النقاط، أو ما يكافئه؛ أي عدد الكرات الوبرية.
figure
تمثيل كثافة مائعٍ ما (خط متصل) على هيئة قطرات صغيرة وبرية (منحنيات متقطعة على شكل الجرس).

•••

بالرغم من هذا كله، فمسائل الجسم n صعبة. لقد درس كيبلر مسألةً تتضمَّن جسمين، وهي مدار كوكب المريخ، واستنتج أنه على شكل القطع الناقص. وأثبت نيوتن رياضيًّا أنه حين يتحرك جسمان وفقًا لقانون التربيع العكسي للجاذبية، فكلاهما يدور في مداراتٍ على شكل القطع الناقص حول مركز كتلتهما المشتركة. غير أنَّه حين حاول الرياضيُّون في القرن الثامن عشر والتاسع عشر فَهْم مسألة الأجسام الثلاثة — تتمثَّل الحالة الأساسية منها في الشمس والأرض والقمر — اكتشفوا أنها ليست واضحةً ولا منظمة على الإطلاق. حتى صيغة ديلواني الضخمة ليست سوى تقريب. الواقع أنَّ المدارات عادةً ما تكون فوضوية؛ أي أنها على درجة كبيرة من عدم الانتظام، وما من صيغٍ سهلةٍ أو منحنياتٍ هندسيةٍ كلاسيكيةٍ لوصفها. انظر الفصل التاسع لمعرفة المزيد عن الفوضى.
لتصميم نموذجٍ لتصادم كوكبي على نحو واقعي، لا بد أن يكون عدد الكرات الوبرية n كبيرًا للغاية؛ ألفًا بل حبذا أن يكون مليونًا. يمكن لأجهزة الكمبيوتر أن تُجري حساباتٍ بأعداد كبيرة، لكنَّ n هنا لا تمثِّل الأعداد التي تظهر في المسائل الحسابية؛ بل تقيس مدى «تعقيد» هذه العمليات الحسابية. والآن، نواجه «وبال البُعدية»؛ حيث أبعاد النظام هي عدد الأعداد التي تحتاج إليها لوصفه.
لنفترض أننا نستخدم مليون كرة. يتطلب الأمر ستة أعداد لتحديد حالة كل كرة منها: ثلاثة لإحداثياتها في الفضاء، وثلاثة لمكونات سرعتها المتجهة. ومعنى هذا أننا نحتاج إلى ستة ملايين عدد لتحديد الحالة في كل لحظة. ونحن نرغب في تطبيق قوانين الميكانيكا والجاذبية للتنبؤ بالحركة المستقبلية. وتتمثَّل هذه القوانين في معادلات تفاضلية تحدِّد الحالة في فترة ضئيلة للغاية من المستقبل، ووفقًا للحالة الراهنة. إذا كانت الخطوة الزمنية إلى المستقبل صغيرة للغاية، ثانية على سبيل المثال، فستكون النتيجة قريبة جدًّا من الحالة المستقبلية. إذن، فنحن نُجري الآن عملية حسابية بستة ملايين عدد. وعلى وجه أكثرَ تحديدًا، نُجري ستة ملايين عملية حسابية. إذن، فتعقيد العملية الحسابية هو ستة ملايين «مضروبة في» ستة ملايين؛ أي ٣٦ تريليونًا. وهذه العملية الحسابية لا تخبرنا إلا بالحالة التالية بعد ثانية في المستقبل. إذا كرَّرنا هذه العملية مرة أخرى، فإننا نعرف ما يحدث بعد ثانيتين في المستقبل، وهكذا دواليك. ولمعرفةِ ما يحدث بعد ألف عام، فإنَّنا نعالج ٣٠ مليار ثانية، وتعقيد العملية الحسابية هو ٣٠ مليارًا مضروبة في ٣٦ تريليونًا، ١٠٢٤ تقريبًا؛ أي سيبتليون واحد.

وليس ذلك أسوأ ما في الأمر. فبالرغم من أنَّ كل خطوة بمفردها قد تكون تقريبًا جيدًا، فقد أصبح لدينا الآن عدد كبير جدًّا من الخطوات حتى إنَّ أصغر الأخطاء يمكن أن ينمو، والحسابات الكبيرة تستغرق وقتًا طويلًا. إذا كان من الممكن لجهاز الكمبيوتر أن يجري خطوة واحدة في الثانية؛ أي يعمل في «الوقت الفعلي»، فإنَّ الحسابات ستستغرق ألف عام. ثم إنَّ أجهزة الكمبيوتر الفائقة وحدها هي التي يمكن أن تقترب من تحقيق ذلك. إنَّ الطريقة الوحيدة للخروج من هذا المأزق هي إيجاد طريق أبرع لإجراء الحسابات. في المراحل الأولى من الاصطدام، قد يلزم أن تكون الخطوة الزمنية في قِصر الثانية؛ لأنَّ كل شيء فوضى معقَّدة. أما لاحقًا، فقد تكون الخطوات الزمنية الأطول مقبولة. علاوةً على ذلك، فور أن تبتعد نقطتان إحداهما عن الأخرى بالدرجة الكافية، يصبح مقدار القوة بينهما صغيرًا للغاية حتى إنه يمكن تجاهلها تمامًا. وأخيرًا، وهي الخطوة التي يأتي منها أكبر قدر من التحسُّن، يمكن تبسيط العملية الحسابية بأكملها بطريقة أبرع.

أجرت نماذج المحاكاة المبكرة للغاية خطوةً تبسيطية إضافية. فبدلًا من إجراء الحسابات في فضاء ثلاثي الأبعاد، اختصرت المسألة إلى بُعدين بافتراض أنَّ كل شيء يحدث في مستوى مدار الأرض. والآن، يتصادم جسمان دائريان لا جسمان كرويان. يوفِّر هذا التبسيط ميزتين. أولاهما أنَّ الستة ملايين تصبح أربعة ملايين (أربعة أعداد لكل كرة وبرية). والأفضل من ذلك، أننا لم نَعُد نحتاج إلى مليون كرة، ربما تكفي ١٠٠٠٠ كرة. والآن، يصبح لدينا ٤٠٠٠٠ كرة بدلًا من ستة ملايين، ويقل التعقيد من ٣٦ تريليونًا إلى ١٫٦ مليار.

ثمَّة شيء آخر أيضًا …

لا يكفي أن نقوم بإجراء الحسابات مرة واحدة. فنحن لا نعرف كتلة الجسم المصادِم ولا سرعته ولا الاتجاه الذي يأتي منه عند الاصطدام. وكل خيار يستلزم عملية حسابية جديدة. كان ذلك من القيود التي واجهتها الأعمال المبكرة لأنَّ أجهزة الكمبيوتر كانت أبطأ. وكان قضاء الوقت على أجهزة الكمبيوتر الفائقة باهظًا أيضًا؛ لذا فلم يكن يُسمَح للمنح البحثية إلا بعدد صغير من المرات. ونتيجةً لهذا، كان على الباحث أن يقوم بعدد من التخمينات الجيدة من البداية، وذلك بناءً على بعض الاعتبارات الأساسية مثل «هل يمكن لهذا الافتراض أن ينتج المقدار النهائي الصحيح للزخم الزاوي؟» بعد ذلك، لا يتبقى سوى أن تتحلَّى بالأمل.

تمكَّن الرواد من التغلب على هذه العقبات. لقد توصَّلوا إلى تصوُّر ناجح. وحسَّنته الأعمال اللاحقة. لم يَعد أصل القمر لغزًا.

•••

هل تحقَّق ذلك فعلًا؟

إنَّ تصميم محاكاة لنظرية الاصطدام العملاق لتكوُّن القمر يتضمن مرحلتين أساسيتين: الاصطدام نفسه، وتكوين قرص من الغبار، وما تلا ذلك من تراكم لجزء من ذلك القرص لتكوين قطعة متماسكة؛ القمر الوليد. حتى العام ١٩٩٦، حصر الباحثون حساباتهم على المرحلة الأولى، وكانت طريقتهم الأساسية هي الديناميكا المائية للجسيمات الملساء. وقد كتب5 روبين كانوب وإريك أسباوج في عام ٢٠٠١ أنَّ هذه الطريقة «تلائم الأنظمة الشديدة التشوه التي تتطوَّر في فضاء فارغ في معظمه»، وهو ما نحتاج إليه تحديدًا في هذه المرحلة من المسألة.
ولأنَّ نماذج المحاكاة كبيرة وصعبة، اكتفى الباحثون بالتوصُّل إلى ما حدث بعد الاصطدام مباشرة. تتوقَّف النتائج على العديد من العوامل: كتلة الجسم المصادِم وسرعته، والزاوية التي يصطدم بها مع الأرض، والسرعة الدورانية للأرض، والتي كانت قبل العديد من مليارات الأعوام مختلفة عمَّا هي عليه اليوم على الأرجح. إنَّ هذه القيود العملية على حسابات الجسم n، كانت تعني مبدئيًّا أنَّ العديد من الخيارات لم تُستكشف. فمن أجل إبقاء الحسابات ضمن حدود الممكن، كانت النماذج الأولى ثنائية الأبعاد. بعد ذلك، صارت المهمة هي البحث عن الحالات التي أخرج فيها الجسم المصادِم قدرًا كبيرًا من مادة دثار الأرض إلى الفضاء. كان المثال الأكثر إقناعًا هو وجود جسم مصادِم في حجم المريخ؛ فصار هذا التصوُّر هو المنافس الرئيس.

كانت جميع هذه النماذج لمحاكاة الاصطدام العملاق تنطوي على سمة واحدة مشتركة فيما بينها، وهي أن الاصطدام قد شكَّل قرصًا ضخمًا من الغبار يدور بالأرض. عادةً ما كانت نماذج المحاكاة تصمم ديناميكيات هذا القرص لبضعة مدارات فقط، وهو ما يكفي لتوضيح أنَّ الكثير من الغبار قد ظل في المدار ولم يصطدم وهو يتقهقر مرة أخرى ولم يندفع أيضًا إلى الفضاء الخارجي. لقد «افترض» العلماء أنَّ العديد من الجسيمات الموجودة في قرص الغبار كانت ستتراكم في نهاية المطاف لتكوين جسم كبير، وأنَّ هذا الجسم هو ما سيصبح القمر، لكنَّ أحدًا لم يتحقَّق من هذا الافتراض لأنَّ تتبُّع الجسيمات إلى درجةٍ أبعدَ يكون باهظًا للغاية وسيستغرق الكثير من الوقت.

افترضت بعض الأعمال اللاحقة افتراضًا ضمنيًّا مفاده أنَّ المعلمات الأساسية، مثل كتلة الجسم المصادِم وما إلى ذلك، قد سُويت في هذا العمل الريادي بالفعل، وركِّزت على حساب تفاصيل إضافية بدلًا من حساب معلمات بديلة. صار هذا العمل الريادي ضربًا من العقيدة الأرثوذكسية، ولم تَعُد بعض افتراضاته تُطرح للتساؤل. بدت أول علامة على وجود المشكلات مبكرًا. فالتصورات الوحيدة التي تلاءمت منطقيًّا مع الملاحظات، كانت تستلزم من المصادِم أن يخدش الأرض لا أن يصطدم بها مباشرة؛ لذا فمن غير الممكن أنه كان موجودًا في مستوى المدار الأرضي. إذن، فالنموذج الثنائي الأبعاد ليس بكافٍ، ولا بد من وجود محاكاة كاملة ثلاثية الأبعاد لتحقيق المهمة. من حسن الحظ أنَّ قوى أجهزة الكمبيوتر الفائقة تتطور بسرعة، ومع وجودِ ما يكفي من الوقت والنفقات، صار من الممكن تحليل التصادمات في نماذج ثلاثية الأبعاد.

غير أنَّ معظم نماذج المحاكاة المحسَّنة هذه أوضحت أنَّ القمر يجب أن يحتوي على قدرٍ كبير من صخور «الجسم المصادِم»، وقدرٍ أقل منه كثيرًا من صخور دثار الأرض. ومن ثمَّ، فقد صار التفسيرُ البسيطُ الأصلي المتمثِّلُ في وجود تشابهٍ بين صخور القمر وصخور دثار الأرض؛ أقلَّ إقناعًا بدرجة كبيرة؛ بدا أنه يستلزم أن يكون دثار ثيا شديدَ الشبه على نحوٍ مذهل بدثار الأرض. بالرغم من هذا، رأى بعض علماء الفلك أنَّ هذا هو ما حدث حتمًا، غافلين بذلك عن أنَّ التشابُه بين الأرض والقمر من الألغاز التي كان يُفترَض بالنظرية تفسيرها. إذا لم تكن مقبولةً في حالة القمر، فلماذا تُقبَل في حالة ثيا؟

ثمَّة إجابة جزئية: ربما تكوَّن كلٌّ من ثيا والأرض على المسافة نفسها من الشمس في الأصل. والاعتراضات التي ظهرت قبل ذلك في حالة القمر لا تنطبق في هذه المرة. فما من مشكلةٍ مع الزخم الزاوي لأننا لا نعرف على الإطلاق ما فعلَتْه بقية قطع ثيا بعد الاصطدام. ومن المنطقي أن نفترض أنَّ الأجسام التي تكوَّنت في مواقع متشابهةٍ في السديم الشمسي؛ تتشابه في تركيباتها. غير أنه لا يزال من الصعب تفسيرُ السبب في بقاء ثيا والأرض جسمَين منفصلَين لفترةٍ طويلةٍ بالدرجة التي تكفي لأن يُصبحا كوكبَين مستقلَّين، لكنهما يصطدمان بعد ذلك. ليس ذلك محالًا، لكنه لا يبدو مرجحًا.

ثمَّة نظرية مختلفة تبدو أكثر منطقية؛ لأنها لا تطرح أية افتراضاتٍ بشأن تركيب ثيا. لنفترض أنَّ صخور السيليكات قد امتزجت تمامًا معًا بعد أن تبخَّرت وقبل أن تبدأ في التجمُّع. بعد ذلك، سيكون الأرض والقمر كلاهما قد حظيا بمساهماتٍ من صخورٍ شديدة التشابه. تشير الحسابات إلى أنَّ هذه الفكرة لا تنجح إلا إذا كان البخار قد ظل موجودًا على مدار قرن، مكوِّنًا ما يشبه غلافًا جويًّا قد امتد ليغطي المدار المشترك لثيا والأرض. تُجرى الدراسات الرياضية لتحديدِ ما إذا كانت هذه النظرية ممكنةً من الناحية الديناميكية أم لا.

بالرغم من ذلك، فإنَّ الفكرة الأصلية المتمثلة في أنَّ الجسم المصادِم قد طرح قطعة من دثار الأرض في الفضاء، لكنه هو نفسه لم يساهم كثيرًا في تكوين ما سيصبح القمر؛ تظل أكثرَ إقناعًا. ولهذا، بحث علماء الفلك عن بدائل تتضمن حدوث تصادم، لكنها تستند إلى افتراضات مختلفة تمامًا. ففي عام ٢٠١٢، حلل أندريا رويفر وزملاؤه نتائج مصادِم سريع الحركة أكبر كثيرًا من المريخ يمر بجانب الأرض بدلًا من أن يصطدم بها رأسيًّا.6 وقد اتضح أنَّ قدرًا ضئيلًا من المادة المبعثرة يأتي من المصادم، وحسابات الزخم الزاوي ملائمة، واتضح أيضًا أنَّ تركيب القمر والدثار أكثر تشابهًا مما كان يُعتقد من قبل. ووفقًا لتحليلٍ جديدٍ أجراه فريق جونجون تشانج للمادة القمرية التي أحضرتها بعثة «أبولو»، كانت نسبة النظيرين تيتانيوم ٥٠ وتيتانيوم ٤٧، مساويةً للنسبة الموجودة في الأرض حتى أربعة أجزاء في المليون.7

ثمَّة احتمالات أخرى قد دُرِست أيضًا. فقد أوضح ماتيا تشوك وزملاؤه أنَّ التركيب الكيميائي الصحيح لصخور القمر والزخم الزاوي الإجمالي كان يمكن أن ينشآ من اصطدام مع مصادِم أصغر، إذا كانت الأرض تدور بسرعة أكبر كثيرًا من تلك التي تدور بها اليوم. فالدوران يغيِّر كمية الصخور التي تتبعثر والجسم الذي تأتي منه. بعد التصادم، قد تكون قوى الجاذبية من الشمس والقمر أبطأت من سرعة دوران الأرض. ومن ناحية أخرى، وجد كانوب نماذج محاكاة مقنعة لم تكن الأرض تدور فيها إلا بسرعة أكبر قليلًا من تلك التي تدور بها اليوم، بافتراض أنَّ المصادِم أكبر من المريخ بدرجة ملحوظة. أو ربما تصادم جسمان يبلغ حجمهما خمسة أضعاف حجم المريخ، ثم تصادما من جديد، مشكِّلين قرصًا كبيرًا من الغبار كوَّن في نهاية المطاف كلًّا من الأرض والقمر. أو …

•••

أو ربما تكون نظرية المصادِم صحيحة، وأنَّ تركيب ثيا كان شديد الشبه بتركيب الأرض بالفعل، وأنها لم تكن مصادفة على الإطلاق.

في ٢٠٠٤، أوضح كانوب8 أنَّ النوع الأكثر منطقية لثيا أن تكون كتلته سُدس كتلة الأرض، وأن تكون أربعة أخماس من مادة القمر الناتجة قد أتت من ثيا. ينطوي ذلك على أنَّ التركيب الكيميائي لثيا كان قريبًا ولا بد من تركيب الأرض، بالدرجة نفسها التي يتشابه بها تركيب القمر وتركيب الأرض. يبدو ذلك غير محتمل على الإطلاق: ذلك أن أجسام النظام الشمسي يختلف بعضها عن بعض بدرجة ملحوظة؛ فما المختلف بشأن ثيا؟ من الإجابات المحتملة كما رأينا سابقًا، أنَّ الأرض وثيا قد تكوَّنا في ظروف متشابهة، على المسافة نفسها من الشمس؛ لذا فقد اكتسح كلاهما المواد نفسها. ثم إنَّ وجودهما في المدار نفسه تقريبًا يزيد من فرصة التصادم.
من جانب آخر، هل يمكن لجسمين كبيرين أن يتكوَّنا في المدار نفسه؟ ألن يفوز أحدهما باكتساح معظم المادة المتاحة؟ يمكنك أن تتجادل بشأن ذلك إلى الأبد … أو يمكنك أن تُجري الحسابات. في عام ٢٠١٥، استخدمت أليندرا مستروبونو-باتيستي وزملاؤها طرق الجسم n لإجراء ٤٠ نموذج محاكاة للمراحل المتأخرة في التراكم الكوكبي.9 بحلول ذلك الوقت، كان المشتري وزحل كاملَي التكوين؛ إذ ابتلعا معظم الغاز والغبار، وكانت الجسيمات الكوكبية و«الأجنة الكوكبية» الأكبر تتجمَّع معًا لتشكيل الأجسام الكبيرة جدًّا. بدأت كل دورة بما يقرب من ٨٥–٩٠ من الأجنة الكوكبية ومن ١٠٠٠–٢٠٠٠ من الجسيمات الكوكبية التي تقع في قرصٍ يمتد إلى ما بين ٠٫٥–٤٫٥ وحدات فلكية. كان مدارا المشتري وزحل يميلان بشكل طفيف، واختلفت درجات الميل بين الدورات.

في معظم الدورات، تكوَّنت ثلاثة أو أربعة من الكواكب الصخرية الداخلية في نطاق فترة تتراوح بين ١٠٠–٢٠٠ مليون عام، بينما اتحدَّت الأجنة والجسيمات الكوكبية. تتبعت نماذج المحاكاة منطقة التغذية في كل عالَم من العوالم؛ أي المنطقة التي ابتلع الكوكب منها مكوِّناته. وبافتراض أنَّ التركيب الكيميائي للقرص الشمسي يتوقف بصفة أساسية على المسافة من الشمس؛ ومن ثمَّ يكون التركيب الكيميائي للأجسام التي تقع في مدارات تبعد المسافة نفسها عن الشمس متشابهًا بدرجة كبيرة، نستطيع مقارنة التركيبات الكيميائية للأجسام المتصادِمة. ركَّز الفريق على مدى التشابه بين كلٍّ من الكواكب الثلاثة المتبقية أو الأربعة، وبين أحدث الأجسام التي اصطدمت به. يؤدي الرجوع بالمحاكاة إلى مناطق تغذية هذه الأجسام إلى توزيعات الاحتمالات بشأن تركيبِ كلٍّ من هذه الأجسام. بعد ذلك، تحدِّد الطرق الإحصائية مدى تشابه هذه التوزيعات. يكون التركيب الكيميائي لكلٍّ من المصادم والكوكب متشابهًا بدرجةٍ كبيرة في سُدس نماذج المحاكاة. ومع مراعاة احتمالية أن يمتزج أحد الكواكب الأولية أيضًا في القمر، فإنَّ هذه النسبة تتضاعف إلى الثلث تقريبًا. ومعنى هذا باختصارٍ أنه يوجد «احتمال واحد من بين ثلاثة احتمالات» بأنَّ التركيب الكيميائي لثيا كان هو نفسه التركيب الكيميائي للأرض. إنَّ هذا منطقي تمامًا؛ لذا فبالرغم من المخاوف السابقة، نجد أنَّ تشابه التركيب الكيميائي بين صخور القمر ودثار الأرض، متسقٌ في حقيقة الأمر مع التصوُّر الأصلي المتمثل في الاصطدام العملاق.

لدينا الآن وفرة من النظريات: العديد من نظريات الاصطدام العملاق المختلفة، وكلها تتفق مع الآلة الأساسية. لا يزال علينا أن ننتظر كي نعرف أي من هذه النظريات صحيح؛ إذا كان بها نظرية صحيحة أصلًا. بالرغم من ذلك، فلكي يكون التركيب الكيميائي والزخم الزاوي كلاهما صحيح، يبدو أنَّ وجود مصادم كبير أمرٌ لا مفر منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤