الفصل السادس

الكوكب الذي ابتلع أطفاله

«إنَّ نجم زحل ليس نجمًا مفردًا، وإنما يتركَّب من ثلاثةٍ يكاد يلمس بعضها بعضًا، لا تتغير أبدًا بالنسبة إلى بعضها البعض أو تتحرك، وهي تترتَّب في صف على دائرة البروج، ويبلغ حجم الأوسط منها ثلاثة أضعاف الطرفين؛ فتجدها تتخذ هذه الصورة: oOo
جاليليو جاليلي، «رسالة إلى كوزيمو دي ميديشي»، ٣٠ يوليو ١٦١٠

حين وجَّه جاليليو تلسكوبه إلى زحل لأول مرة، ورسم ما رآه، بدا على هذا النحو:

figure
رسمة جاليليو لزحل عام ١٦١٠.
يمكنك أن تفهم السبب الذي دفعه لوصفه بالشكل oOo في خطابه المتحمس إلى راعيه كوزيمو دي ميديشي. لقد بعث بنبأ اكتشافه إلى كيبلر، لكنه أرسله في صورة جناس تصحيفي smaismrmilmepoetaleumibunenugttauiras، مثلما كان شائعًا في ذلك الوقت. ذلك أنه إذا توصَّل أحد إلى الاكتشاف نفسه لاحقًا، كان سيصبح بمقدور جاليليو المطالبة بالأولوية لنفسه من خلال فك شفرة الجناس التصحيفي إلى Altissimum planetam tergeminum observavi: «لقد رصدت أنَّ أبعد الكواكب له نظام ثلاثي.»
من سوء الحظ أنَّ كيبلر فك شفرة الرسالة على أنها: salve umbistineum geminatum Martia proles: «أحييك، قبضة مزدوجة، أبناء المريخ.» أي للمريخ قمران. كان كيبلر قد تنبأ بهذا بالفعل على أساس أنَّ المشتري له قمران، وللأرض قمرًا واحدًا؛ لذا فلا بد أن يكون لما بينهما قمران؛ لأنَّ ١، ٢، ٤، تسلسل هندسي. وكان من المفترض أن يكون لزحل ثمانية أقمار. والزهرة، أيكون له نصف قمر؟ لقد كانت قدرة كيبلر على رؤية الأنماط متكلَّفة بعض الشيء. غير أنني سأسحب تهكمي؛ لأنه، وبأعجوبة، للمريخ قمران «بالفعل»؛ فوبوس وديموس.

حين نظر جاليليو مجددًا عام ١٦١٦، أدرك أنَّ تلسكوبه البدائي قد خدعه بصورة باهتة أوَّلها على أنها ثلاثة أقراص. غير أنَّ الأمر كان لا يزال محيرًا. كتب جاليليو أنَّ زحل يبدو وكأنه يمتلك أذنين.

figure
رسم جاليليو جاليلي لزحل عام ١٦١٦.

بعد ذلك ببضعة أعوام، نظر مجددًا ووجد أنَّ الآذان أو الأقمار أو أيًّا ما كان ذلك الذي رآه، قد اختفى. تساءل جاليليو ببعض المزاح عمَّا إذا كان زحل قد ابتلع أطفاله. كانت تلك إشارية غير مباشرة إلى أسطورة يونانية دموية يرتعب فيها الجبار كرونوس من أن يطيح أحد أبنائه به من على العرش، فيأكل كل واحد منهم حين يولَد. والمكافئ الروماني لكرونوس هو «ساترن» (زحل).

حين عادت الآذان، كان جاليليو أكثر دهشة.

إننا نعرف الآن بالطبع حقيقة ملاحظات جاليليو. وهي أنَّ زحل محاط بنظام ضخم من الحلقات الدائرية. تميل هذه الحلقات بالنسبة إلى مدار الشمس؛ ولهذا حين يدور زحل حول الشمس نرى «الوجه الكامل» للحلقات، وهي تبدو أكبر من الكوكب في بعض الأحيان، كما يبدو في رسمة «الآذان». وفي أحيان أخرى، نراها من الحافة وهي تختفي تمامًا ما لم نستخدم تلسكوبًا أفضل كثيرًا من تلسكوب جاليليو.

إنَّ هذه الحقيقة وحدها تخبرنا بأنَّ الحلقات رفيعة للغاية مقارنةً بالكوكب، لكننا نعرف الآن أنها رفيعة للغاية بالتأكيد؛ فهي لا تزيد عن ٢٠ مترًا. أما قطرها في المقابل، فهو يبلغ ٣٦٠ ألف كيلومتر. إذا كانت حلقات زحل في سمك البيتزا، فإنها ستكون في حجم سويسرا. لم يكن جاليليو يعرف أيًّا من هذا. غير أنه عرف أنَّ زحل غريب وغامض ويختلف كثيرًا عن أي كوكب آخر.

•••

استخدم كريستيان هوجنس تلسكوبًا أفضل، وكتب عام ١٦٥٥ أنَّ زحل «محاط بحلقة مسطحة رفيعة لا تتلامس معه في أي مكان، وتميل على مدار الشمس». ورصد هوك وجود ظلال للكوكب أمام الحلقة، وللحلقة أمام الكوكب أيضًا، مما يوضِّح الهندسة الثلاثية الأبعاد من خلال توضيح أيهما يكمن أمام الآخر.

figure
على اليسار: رسمة هوك عام ١٦٦٦ لكوكب زحل، وتظهر فيها الظلال. على اليمين: صورة حديثة توضح حاجز كاسيني، وهو فجوة معتمة بارزة في الحلقات.

أتكون حلقات زحل مصمتة كحافة قبعة، أم أنها تتكوَّن من عددٍ لا يُحصى من كتل ضئيلة صخرية أو جليدية؟ ممَّ تتكوَّن إذا كانت متواصلة؟ ولماذا تبدو صلدة لا يتغير شكلها إذا لم تكن متواصلة؟

أتت الإجابات تدريجيًّا في مزيج من الملاحظات والتحليل الرياضي.

رأى الراصدون الأوائل حلقة واحدة واسعة. غير أنه في عام ١٦٧٥، توصَّل جيوفاني كاسيني إلى درجة أفضل من الرصد كشفت عن عدد من الفجوات الدائرية تقسم الحلقة بأكملها إلى مجموعة من الحلقات الفرعية المتحدة المركز. تُعرف الفجوة الأبرز من بينها باسم حاجز كاسيني. وتُعرف الحلقة الأبعد إلى الداخل باسم الحلقة B، بينما تُعرف الحلقة الأقرب إلى الخارج باسم الحلقة A. عرف كاسيني أيضًا حلقة أكثر شحوبًا توجد داخل الحلقة A، وسُمِّيت بالحلقة C. لقد عمَّقت هذه الاكتشافات من اللغز، لكنها مهَّدت الطريق لحله النهائي.

أشار لابلاس في عام ١٧٨٧ إلى وجود مشكلة ديناميكية في الحلقة المصمتة الواسعة. فقانون كيبلر الثالث يخبرنا بأنه كلما زاد بُعد الجِرم عن مركز الكوكب، قلَّت سرعته في الدوران. غير أنَّ الحافتين الداخلية والخارجية في الحلقة المصمتة تدوران بالسرعة الزاوية نفسها. ومن ثمَّ؛ فإما أن تكون الحافة الخارجية تتحرك سريعًا جدًّا، أو تكون الحافة الداخلية تتحرك بطيئًا جدًّا، أو ربما يحدث الأمران معًا. يشكِّل هذا التباين إجهادًا في مادة الحلقة؛ لذا فسوف تتفكك ما لم تكن مكوَّنة من مادة قوية للغاية. وقد كان حل لابلاس لهذه المعضلة أنيقًا؛ فقد اقترح أنَّ الحلقات تتكوَّن من حليقات ضيقة للغاية تتلاءم الواحدة منها داخل الحلقة التالية. وبالرغم من أنَّ الحليقات جميعها مصمتة، فإنَّ سرعاتها في الدوران تتناقص مع كِبَر أنصاف أقطارها. تملَّص هذا الحل بأناقة من معضلة الإجهاد؛ لأنَّ الحافتين الداخلية والخارجية في حلقة ضيقة تدوران بالسرعة نفسها تقريبًا.

حلٌّ أنيق لكنه خاطئ. ففي عام ١٨٥٩، أثبت الفيزيائي الرياضي جيمس كليرك ماكسويل، أنَّ الحليقة المصمتة الدوَّارة ستكون غير مستقرة. لقد حل لابلاس معضلة الإجهاد الذي يسببه دوران الحواف بسرعات مختلفة، لكنَّ هذا الإجهاد من نوع «المقص»، كتلك القوى التي تحدث بين بطاقات في علبة إذا حاولت تحريك البطاقات جانبيًّا مع إبقائها في كومة. غير أنَّ أنواعًا أخرى من الإجهاد يمكن أن تحدث أيضًا، كثني البطاقات على سبيل المثال. أثبت ماكسويل أنَّ أي اضطراب طفيف يحدث في حليقة مصمتة بفعل مصادر خارجية، ينمو مؤدِّيًا بالحليقة إلى التموج والانثناء، فتنكسر مثلما ينكسر عود من الإسباجيتي فور أن تحاول ثنيه.

استنتج ماكسويل أنَّ حلقات زحل لا بد أن تكون مؤلفة من عدد لا يُحصى من الأجسام الضئيلة التي تتحرك كلها في دوائر بصفة مستقلة، وبأي سرعة تتوافق رياضيًّا مع شدة الجاذبية المبذولة عليها. (ظهرت حديثًا بعض المشكلات في هذا النموذج المبسط: انظر الفصل الثامن عشر. لا تزال النتيجة المترتبة على نماذج الحلقات غير واضحة. وسوف أرجئ التوسع في المناقشة إلى ذلك الفصل، وأذكر النتائج المتفق عليها هنا.)

نظرًا لأنَّ كل شيء يتحرك في دوائر، يتسم البناء كله بالتناظر الدوراني؛ لذا تتوقَّف سرعة الجسيم على المسافة التي يبعدها عن المركز فحسب. وبافتراض أنَّ كتلة المادة التي تتكوَّن منها الحلقة لا تُذكر مقارنةً بكتلة زحل وهو الأمر الذي نعرفه، فإنَّ قانون كيبلر الثالث يؤدي إلى صيغة بسيطة. سرعة جسيم حلقي بالكيلومتر في الثانية يساوي ٢٩٫٤ مقسومًا على الجذر التربيعي لنصف قطره المداري، ويُقاس بصفته من مضاعفات نصف قطر زحل.

وبدلًا من ذلك، يمكن أن تكون الحلقات سائلة. غير أنه في العام ١٨٧٤ أثبتت صوفيا كوفاليفسكايا، وهي واحدة من أعظم عالمات الرياضيات، أنَّ الحلقة السائلة ستكون غير مستقرة هي أيضًا.

بحلول العام ١٨٩٥، صدر حكم علماء الفلك بناءً على الملاحظات الرصدية. تتكوَّن حلقات زحل من عددٍ هائل من الأجسام الصغيرة. وأدت المزيد من الملاحظات الرصدية إلى اكتشاف العديد من الحلقات الفرعية الجديدة الأكثر شحوبًا، وقد سُمِّيت على نحوٍ مبتكر بالأسماء: D وE وF وG. وقد مُنِحت هذه الأسماء وفقًا لتاريخ اكتشافها وترتيبها المكاني، وسيكون ترتيبها بدايةً من الكوكب إلى الخارج على النحو التالي: DCBAFGE. ليست فوضوية بقدر جناس جاليليو التصحيفي، لكنها تقترب من ذلك.

•••

ما من خطة عسكرية تبقى على حالها عند الالتحام مع العدو. وما من نظرية فلكية تبقى على حالها عند التوصل إلى ملاحظات أفضل.

في عام ١٩٧٧، أرسلت ناسا مسبارين فضائيين هما «فوياجر ١» و«فوياجر ٢»، في رحلة كبيرة للكواكب. من حسن الحظ أنَّ كواكب النظام الشمسي قد اصطفت؛ فصار من الممكن زيارة الكواكب الخارجية بالترتيب. زار مسبار «فوياجر ١» المشتري وزحل، ومرَّ «فوياجر ٢» بأورانوس ونبتون. تابع المسباران رحلاتهما، متوجهين إلى الفضاء بين النجمي، الذي يُعرَّف بأنه المنطقة التي تقع فيما وراء حافة الغلاف الشمسي؛ حيث تخفت الرياح الشمسية. إذن، فمعنى «بين النجمي» أنَّه لا يعود للشمس أي تأثير مهم سوى شدة جاذبية ضعيفة للغاية. وصل «فوياجر ١» منطقة العبور هذه عام ٢٠١٢، ومن المتوقع أن يصلها «فوياجر ٢» عام ٢٠١٦. ويستمر المسباران في إرسال البيانات للأرض. لا بد أنهما أنجح بعثتين فضائيتين على الإطلاق.

في أواخر ثمانينيات القرن العشرين تغيرت أفكار الإنسانية عن زحل إلى الأبد حين بدأ «فوياجر ١» في إرسال صور للحلقات قبل ستة أسابيع من وصوله إلى أقرب نقطة له من الكوكب. وأوضحت تفاصيل دقيقة لم تُرَ من قبلُ أنه يوجد المئات، إن لم يكن الآلاف، من الحلقات المنفصلة التي تتوزع على مسافة قريبة للغاية بعضها من بعض، مثلما تتوزع الأخاديد على تسجيل جرامافون قديم. لم يكن هذا الأمر في حد ذاته بالمفاجأة الكبيرة، لكنَّ ثمَّة سمات أخرى لم تكن متوقعة، وحيَّرت العلماء في بادئ الأمر. فقد كان العديد من العلماء النظريين يتوقَّعون أن تتوافق السمات الأساسية للنظام الحلقي بالرنين مع أقمار الكوكب (المعروفة) الأقرب إلى الداخل، غير أنها لا تفعل في مجمل الأمر. وقد اتضح أيضًا أنَّ حاجز كاسيني ليس فارغًا؛ بل توجد به أربع حلقات رفيعة على الأقل.

figure
الصور من (اليسار إلى اليمين) لحلقات زحل: D وC وB وA وF، مثلما التقطتها مركبة كاسيني عام ٢٠٠٧.

لاحظ ريتش تيريل، وهو أحد العلماء الذين كانوا يعالجون الصور، أمرًا غير متوقَّع على الإطلاق: ظلال معتمة تشبه أسلاك عجلة مغبشة تدور. لم يرَ أحد من قبل في الحلقات أي شيء لا يتسم بالتناظر الدائري. وقد كشف التحليل الدقيق لأنصاف أقطار الحلقات عن لغز آخر، وهو أنَّ إحدى الحلقات ليست دائرية.

جاء بعد ذلك «فوياجر ٢» الذي كان قد انطلق قبل «فوياجر ١» لكنه كان يتحرك على نحوٍ أبطأ كي يُتاح له الاستمرار حتى أورانوس ونبتون، ليؤكد على هذه المشاهدات حين مر بزحل بعد ذلك بتسعة شهور. ومع تدفُّق المزيد والمزيد من المعلومات، ظهر المزيد من الألغاز. ثمَّة حلقات تبدو مضفرة، وحلقات بها عقد غريبة، وحلقات غير مكتملة تتكوَّن من عدة أقواس منفصلة توجد فراغات فيما بينها. وُجِدت أقمار زحل التي لم تكن مُكتشَفة من قبل، داخل الحلقات. قبل لقاءات «فوياجر» كان علماء الفلك المقيدون بالأرض قد اكتشفوا تسعة أقمار لزحل. وخلال فترة قصيرة، ارتفع العدد إلى أكثر من ٣٠. واليوم، وصل إلى ٦٢ إضافةً إلى ١٠٠ أو أكثر من القميرات الصغيرة التي تقبع في الحلقات. من بين هذه الأقمار، يوجد الآن ٥٣ يتخذ أسماءً رسمية. إنَّ مسبار «كاسيني» الذي يدور بزحل، يقدِّم سيلًا من البيانات عن الكوكب وحلقاته وأقماره.

تفسِّر الأقمار بعض سمات الحلقات. فالمؤثر الأساسي للجاذبية على الجسيمات الموجودة في الحلقات هو زحل نفسه. وما يأتي بعد ذلك في ترتيب الأهمية هي قوى الجاذبية التي يبذلها العديد من الأقمار، لا سيما تلك الأقمار القريبة. ولهذا، فبالرغم من سمات الحلقات قد تبدو غير ذات صلة بالأقمار «الأساسية»، يمكن أن نتوقَّع أن تكون متصلة بأقمار أصغر لكن أقرب. يتضح هذا التنبؤ الرياضي على نحوٍ مذهل في البنية الدقيقة للمنطقة الخارجية من الحلقة A. تحدث كل سمة بصورة فعلية على مسافة تتناظر مع رنين للقمرين باندورا وبروميثيوس، اللذين يقعان على جانبي الحلقة F القريبة، وتلك علاقة سنعود إليها بعد قليل. ولأسباب رياضية، تنطوي علاقات الرنين وثيقة الصلة على عددين صحيحين متتاليين، مثل ٢٨ : ٢٧.
figure
الجزء الخارجي للحلقة A، يوضح سمات ترتبط بالرنين مع باندورا (الخطوط المُنقَّطة) ومع بروميثيوس (الخطوط المتواصلة). شبكة النقاط ناتجة عن عملية التصوير.
يوضح الرسم الحافة الخارجية للحلقة A، والخطوط البيضاء المائلة هي المناطق التي تكون كثافة الجسيمات فيها أكبر من المتوسط. وتميز الخطوط الرأسية تلك المدارات ذات علاقات الرنين المتناظرة؛ حيث يمثِّل الخط المُنقَّط الرنين مع باندورا، ويمثِّل الخط المتصل الرنين مع بروميثيوس. وبصفة أساسية، تمثِّل جميع الخطوط البارزة مدارات رنينية. يتضح في الصورة أيضًا موقعان لموجة انثناء حلزونية، وموجة كثافة حلزونية تتناظران مع قمر آخر يُدعى ميماس برنين تبلغ نسبته ٨ : ٥.

•••

إنَّ الحلقة F ضيقة للغاية، وهو أمر محير؛ لأنَّ الحلقات الضيقة إن تُرِكَت لحالها دون تدخُّل، تكون غير مستقرة وتتسع ببطء. يضم التفسير الحالي باندورا وبروميثيوس، لكن بعض السمات لا تزال غير مرضية.

ظهرت هذه المشكلة لأول مرة فيما يتعلق بكوكب آخر هو أورانوس. لقد ظل زحل حتى وقت قريب هو الكوكب الوحيد في النظام الشمسي (أو أي مكان آخر)، المعروف بامتلاكه لنظام من الحلقات. غير أنه في العام ١٩٧٧، كان جيمس إليوت وإدوارد دانهام وجيسيكا مينك، يرصدون بعض الملاحظات باستخدام مرصد كايبر المحمول، وهو عبارة عن طائرة نقل مزودة بتلسكوب وغير ذلك من الأجهزة. كانت نيتهم هي معرفة المزيد بشأن الغلاف الجوي لأورانوس.

بينما يتحرك الكوكب في مداره، يمر في بعض الأحيان أمام نجم، فيغطي جزءًا من ضوئه في حدثٍ يُعرف بالاحتجاب. ومن خلال قياس خَرج الضوء الظاهر من النجم عندما يخفت ويسطع، يتمكَّن علماء الفلك من الحصول على بعض المعلومات عن الغلاف الجوي للكوكب بقياس منحنى الضوء؛ أي كيفية تغيُّر مقدار من الضوء (يتكون من أطوال موجية متعددة). وفي عام ١٩٧٧، حدث احتجاب للنجم SAO 158687 بفعل أورانوس، وهذا هو ما خطَّط إليوت ودانهام ومينك لملاحظته. لا يقدِّم هذا الأسلوب معلومات عن الغلاف الجوي فحسب؛ بل عن أي شيء يدور بالكوكب، إن حدث وحجب النجم. وقد أظهر منحنى الضوء سلسلة من خمس ومضات ضئيلة قبل الحدث الأساسي حين صار النجم أكثر خفوتًا بدرجة كبيرة، وسلسلة من خمس ومضات متطابقة حين مرَّ أورانوس أمامه. قد يكون السبب في مثل هذه الومضة قمرًا ضئيلًا، بشرط أن تحدث في الوقت نفسه تحديدًا والموقع نفسه مرتين. أما الحلقة، فسوف تمر بالنجم بأكمله، فلا يلزم التزامن للتأثير في منحنى الضوء. ولهذا، فقد كان التفسير الأكثر منطقية للبيانات هو أنَّ أورانوس لديه خمس حلقات رفيعة للغاية وباهتة.
حين التقى مسبارا «فوياجر» بأورانوس، أكَّدا هذه النظرية برصد الحلقات مباشرة. (يبلغ عدد الحلقات المعروفة الآن ١٣ حلقة.) أوضح المسباران أيضًا أنَّ عرض الحلقات لا يتسع إلى أكثر من ١٠ كيلومترات. تبدو بذلك ضيقة على نحوٍ لافت للنظر؛ ذلك أنَّ الحلقات الرفيعة غير مستقرة مثلما أشرنا من قبل، وهي تتسع ببطء مع مرور الوقت. ومن خلال فهم الآلية التي تؤدي إلى هذا الاتساع، يمكن تقدير العمر المحتمل لحلقة رفيعة. يتضح من ذلك أنَّ حلقات أورانوس لن تبقى أكثر من ٢٥٠٠ عام. ربما تكوَّنت الحلقات قبل أقل من ٢٥٠٠ عام، لكن يبدو من غير المرجَّح على الإطلاق أن تتكوَّن تسع حلقات على فترات زمنية متقاربة للغاية. ثمَّة احتمال بديل يتمثَّل في وجود عامل آخر يؤدي إلى استقرار الحلقات ويمنعها من الاتساع. وفي عام ١٩٧٩، اقترح كلٌّ من بيتر جولدرايش وسكوت تريمين1 آلية مميزة لتحقيق ذلك بالضبط: الأقمار الراعية.

تخيل أنَّه يتصادف وقوع الحلقة الضيقة المعنية داخل مدار قمر صغير. وفقًا لقانون كيبلر الثالث، يدور القمر حول الكوكب بدرجة أبطأ قليلًا من تلك التي تدور بها الحافة الخارجية للحلقة. توضح الحسابات أنَّ هذا يؤدي إلى أن يتسم المدار الإهليلجي للجسيم الحلقي بدرجة أقل من الانحراف المركزي، أي يصبح أسمن، ومن ثمَّ تقل المسافة القصوى التي يبعدها عن الكوكب بدرجةٍ طفيفة. يبدو الأمر كما لو أنَّ القمر يُبعد الحلقة، لكنَّ التأثير ينتج في الواقع عن قوى الجاذبية التي تبطئ جسيمات الحلقة.

يبدو هذا جيدًا جدًّا لكنَّ مثل ذلك القمر يؤدي أيضًا إلى اضطراب بقية الحلقة، لا سيما حافتها الداخلية. الحل: إضافة قمر آخر يدور داخل الحلقة. يكون لهذا تأثير مشابه على الحافة الداخلية، لكنَّ القمر يدور الآن بأسرع مما تدور الحلقة. ولهذا، فهما يتحركان بعيدًا عن الكوكب، ومرةً أخرى يبدو الأمر كأنَّ القمر يُبعد الحلقة.

إذا حُشِرت حلقة رفيعة بين قمرين صغيرين، فإنَّ هذه التأثيرات تجتمع لتبقيها محشورة بين مداريهما. يلغي هذا أي نزعة أخرى كانت ستؤدي إلى اتساعها. تُعرف مثل هذه الأقمار بالأقمار الراعية؛ لأنها تبقي الحلقة في مسارها مثلما يسيطر الراعي على قطيعه من الأغنام. ربما كان مصطلح «أقمار كلاب الراعي» سيصبح تشبيهًا أفضل، لكنَّ الفعل «يرعى» يصف ما تفعله الأقمار. يوضح التحليل الأكثر تفصيلًا أنَّ جزء الحلقة الذي يتخلف وراء القمر الداخلي وأمام القمر الخارجي، سيكتسب تموجات، لكنها تموت نتيجة للاصطدام بين الجسيمات الحلقية.

حين وصل مسبار «فوياجر ٢» إلى أورانوس، أوضحت إحدى صوره أنَّ حلقة أورانوس التي تُسمى ، تقع بعناية بين مداري قمرين هما أوفيليا وكورديليا. (تُسمى حلقات أورانوس بالحروف اليونانية الصغيرة، ويرمز إلى الحرف إبسلون.) وبهذا فقد سُوِّغَت نظرية جولدرايش وتريمين. يتعلق الأمر بالمدارات الرنينية أيضًا. فالحافة الخارجية من حلقة أروانوس ، تتناظر مع أوفيليا في رنين تبلغ نسبته ١٤ : ١٣، وتتناظر الحافة الداخلية مع كورديليا في رنين تبلغ نسبته ٢٤ : ٢٥.
وعلى نحو مشابه، تقع الحلقة F لأورانوس بين مداري بندورا وبروميثيوس، ويُعتقد أنَّ هذا هو المثال الثاني على الأقمار الراعية. غير أنه توجد بعض التعقيدات؛ إذ إنَّ الحلقة F ديناميكية على نحوٍ مدهش. تظهر الحلقة F في الصور التي التقطها «فوياجر ١» في نوفمبر ١٩٨٠، بتكتلات وعقد ويبدو جزء منها مضفرًا. وحين مرَّ «فوياجر ٢» في أغسطس ١٩٨١، لم يُرَ من هذه السمات إلا جزء يشبه الضفيرة. يُعتقد الآن أنَّ السمات الأخرى قد اختفت فيما بين المرتين، مما يدل على إمكانية حدوث تغييرات في شكل الحلقة F في غضون بضعة شهور.
يقترح العلماء أنَّ هذه الآثار الديناميكية العابرة هي أيضًا تحدث بفعل باندورا وبروميثيوس. فالموجات التي تتولَّد نتيجة لاقتراب الأقمار الشديد لا تتلاشى؛ لذا تظل بعض بقاياها حتى المرة التالية لمرور القمر. وهذا يجعل ديناميكيات الحلقة أكثر تعقيدًا، وهو ما يعني أيضًا أنَّ التفسير المنمَّق المتمثِّل في أنَّ الأقمار الراعية هي ما يبقي على الحلقات الضيقة في مكانها، تبسيطي للغاية. ثم إنَّ مدار بروميثيوس فوضوي بسبب اقترانه مع باندورا في رنين تبلغ نسبته ١٢١ : ١١٨، لكنَّ بروميثيوس وحده يساهم في تقييد الحلقة F. ولهذا، بالرغم من أنَّ نظرية الأقمار الراعية توفِّر بعض الرؤى بشأن ضيق الحلقة F، فإنها لا تمثل القصة بأكملها.
ووفقًا للأدلة اللاحقة، لا تتناظر الحافتان الداخلية والخارجية للحلقة F مع أية مدارات رنينية. والواقع أنَّ أقوى المدارات الرنينية بالقرب من الحلقة F، تتعلَّق بقمرين مختلفين تمامًا، هما جانوس وإيبيميثيوس. يتسم هذان القمران بسلوك غريب للغاية؛ فهما مشتركان مداريًّا. إنَّ المعنى الحرفي لهذا المصطلح هو أنهما «يتشاركان المدار نفسه» وهما يفعلان ذلك من ناحيةٍ ما. ففي معظم الأحيان، يكون مدار أحدهما أكبر من مدار الآخر ببضعة كيلومترات. ولأنَّ القمر الأبعد إلى الداخل يتحرك بسرعة أكبر، فإنه سيصطدم بالقمر الأبعد إلى الخارج إذا التزما بمداريهما الإهليلجيين. لذا فهما يتفاعلان بدلًا من ذلك، و«يتبادلان مكانيهما». يحدث هذا كل أربع سنوات. ولهذا السبب وصفتهما ﺑ «الأبعد إلى الداخل» و«الأبعد إلى الخارج». ذلك أنَّ الوصف الذي يتخذه كلٌّ منهما يتوقف على التاريخ.

إنَّ هذا النوع من التبديل يختلف اختلافًا كبيرًا عن القطوع الناقصة المنضبطة التي تصورها كيبلر. وهو يحدث لأنَّ القطوع الناقصة هي المدارات الطبيعية لديناميكيات «جسمين». وحين يدخل جسم ثالث إلى الصورة، تتخذ المدارات أشكالًا جديدة. في هذه الحالة التي نناقشها، يُعد تأثير الجسم الثالث صغيرًا في الغالب بما يكفي لتجاهله؛ لذا يتحرك كلٌّ من القمرين في مدار على شكل القطع الناقص بدرجة كبيرة، كما لو أنَّ القمر الآخر غير موجود. غير أنهما حين يقترب أحدهما من الآخر، تفشل هذه الحيلة التقريبية. فهما يتفاعلان، ويتأرجحان أحدهما حول الآخر في هذه الحالة، حتى ينتقل كل قمر إلى المدار السابق للقمر الآخر. ومن ناحيةٍ ما، يمكن وصف المدار الفعلي لكل قمر بأنه قطع ناقص واحد يتبدل مع الآخر، مع مسارات انتقالية قصيرة بين الاثنين. يتبع كلا المدارين مثل ذلك المدار، بناءً على القطعين الناقصين نفسيهما. كلُّ ما في الأمر أنهما ينتقلان إلى اتجاهين متقابلين في الوقت نفسه.

•••

يعرف البشر بوجود حلقات زحل منذ عصر جاليليو، وإن كان غير متأكد بشأن ماهيتها. وعرف البشر بوجود حلقات أورانوس عام ١٩٧٩. ونحن نعرف الآن بوجود نظامين حلقيين باهتين للغاية حول المشتري ونبتون. ومن المحتمل أيضًا أن يكون لقمر زحل، ريا، نظامه الحلقي الخاص الرقيق للغاية.

علاوةً على ذلك، اكتشف كلٌّ من دوجلاس هاميلتون ومايكل سكروتسكي في عام ٢٠٠٩، أنَّ زحل يمتلك حلقة ضخمة للغاية لكنها باهتة جدًّا، وهي أكبر من الحلقات التي رصدها جاليليو ومسبارا «فوياجر». لقد غفلوا عنها، ويعود ذلك جزئيًّا إلى أنها لا تظهر إلا في ضوء الأشعة تحت الحمراء. تبعد حافتها الداخلية عن الكوكب بمقدار ستة ملايين كيلومتر تقريبًا، وتبعد حافتها الخارجية مسافة ١٨ مليون كيلومتر تقريبًا. يدور القمر فيبي بداخلها، ومن المرجَّح أن يكون مسئولًا عن وجودها. رقيقة هي الحلقة للغاية؛ إذ إنها تتكوَّن من الجليد والغبار، وقد تساعد في حل لغزٍ طويل الأمد هو الجانب القاتم للقمر إيابيتوس. ذلك أنَّ أحد جانبي القمر إيابيتوس أسطع من الآخر، وهي ملاحظة حيرت علماء الفلك منذ عام ١٧٠٠ حين لاحظ كاسيني الحلقة لأول مرة. وكان الحل المقترح أنَّ إيابيتوس يكتسح موادَّ قاتمةً من الحلقة الضخمة.

وفي عام ٢٠١٥، أعلن2 ماثيو كينورثي وإريك مامجيك أنَّ كوكبًا خارجيًّا بعيدًا يدور بالنجم J1407، يمتلك نظامًا من الحلقات يجعل نظام زحل أقل أهمية، حتى مع مراعاة الحلقة الأحدث. يستند هذا الاكتشاف إلى التقلبات المرصودة في منحنى الضوء، مثلما استند إليها اكتشاف حلقات أورانوس، وهي الطريقة الأساسية لتحديد مواقع الكواكب الخارجية (انظر الفصل الثالث عشر.) فبينما يمر (يعبر) الكوكب بالنجم، يخفت ضوء النجم. وفي هذه الحالة، تكرر خفوته على مدار شهرين، لكنَّ حدثَ الخفوت كان سريعًا نسبيًّا في كل مرة. استنتج العلماء من هذا أنَّ كوكبًا خارجيًّا له عدد من الحلقات كان يعبر المسار من النجم إلى الأرض. يضم النموذج الأفضل للحلقات ٣٧ حلقة، ويمتد نصف قطره إلى ٠٫٦ وحدة فلكية (٩٠ مليون كيلومتر). لم يُكشَف عن الكوكب الخارجي نفسه، لكن يُعتقَد أنَّ حجمه يتراوح بين ١٠ أضعاف المشتري و٤٠ ضعفًا له. يوجد في نظام الحلقات فجوة واضحة، سرعان ما فُسِّرت بوجود قمر خارجي يمكن تقدير حجمه هو أيضًا.
وفي عام ٢٠١٤، اكتُشِف نظام حلقي آخر في مكان مستبعد بالنظام الشمسي يقع بالقرب من (١٠١٩٩) تشاريكلو، وهو نوع من الأجرام الصغيرة يُسمى بالقنطور.3 يدور هذا القنطور بين زحل وأورانوس، وهو أكبر القناطير المعروفة. ظهرت حلقاته في صورة انخفاضين طفيفين للسطوع في مجموعة من الملاحظات التي غطى (المصطلح التقني: حجب) تشارليكو فيها على عدد من النجوم. كان الموقعان النسبيان لهذين المنخفضين قريبين من القطع الناقص نفسه، مع وجود تشارليكو بالقرب من المركز؛ مما يشير إلى وجود حلقتين قريبتين في مدارين دائريين إلى حدٍّ ما، يُرى مستواهما من زاوية. يبلغ نصف قطر إحدى الحلقتين ٣٩١ كيلومترًا ويمتد إلى ٧ كيلومترات تقريبًا، ثم توجد فجوة تبلغ تسعة كيلومترات، ثم تأتي الحلقة الثانية بنصف قطر يبلغ ٤٠٥ كيلومترات.

لأنَّ الأنظمة الحلقية تحدث مرارًا وتكرارًا، فلا يمكن أن تكون مجرد صدفة. فكيف تتكوَّن الأنظمة الحلقية. توجد ثلاث نظريات أساسية لمحاولة تفسير وجودها. ربما تكوَّنت حين التأم قرص الغاز الأصلي لتكوين الكوكب، ويمكن أن تكون آثار قمر تهشَّم بفعل اصطدام، ويمكن أيضًا أن تكون بقايا قمر اقتربت إلى ما هو أكثر من حد روش الذي تتجاوز القوى المدية عنده قوة الصخرة، فتفتت.

من غير المرجح أن يصل العلماء إلى نظام حلقي في أثناء تكوينه، بالرغم من أنَّ اكتشاف كينورثي ومامجيك يوضح أنه أمرٌ ممكن، لكنَّ أفضلَ ما يمكن أن يقدمه ذلك محض لقطة فحسب. إنَّ ملاحظة العملية ستستغرق مئات الأعمار. غير أنَّ ما يمكننا فعله هو تحليل التصورات الافتراضية رياضيًّا، والتوصل إلى تنبؤات ومقارنتها بالملاحظات. يشبه الأمر اصطياد حفريات لكن في السماء. فكل «حفرية» تقدم دليلًا على ما حدث في الماضي، لكنك تحتاج إلى فرضية لتأويل الدليل، وتحتاج إلى نماذج محاكاة رياضية أو استنتاجات، أو مبرهنات، وهو الأفضل، لكي تتمكَّن من فهم نتائج تلك الفرضية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤