الفصل الثامن

رحلة على مذنَّب

«يجوز القول بصدق تام إنَّ صيادًا يقف على سطح الشمس ممسِكًا بصنارة طويلة بالدرجة الكافية، لا يمكن أن يطرح صنارته في أي اتجاه دون أن يعلق بها عددٌ كبير من المذنَّبات.»

جول فيرن «رحلة على مذنَّب»!

«عندما يموت الشحاذون، لا تظهر أية مذنَّبات، لكنَّ السماء نفسها تتقد لموت الأمراء.» هذا ما تقوله كالبورينا في المشهد الثاني من الفصل الثاني في مسرحية «يوليوس قيصر» لشكسبير، متنبئة بهلاك قيصر. من بين الإشارات الخمس للمذنَّبات في أعمال شكسبير، تعكس ثلاثة منها الاعتقاد القديم بأنَّ المذنَّبات تنذر بالكوارث.

فهذه الأجسام الغريبة المحيرة تظهر فجأة في سماء الليل تجر خلفها ذيلًا لامعًا منحنيًا، وتتحرك ببطء على خلفية النجوم، ثم تختفي من جديد. إنها أجسام متطفلة غير معروفة لا يبدو أنها تتبع الأنماط المعتادة للأحداث الفلكية. من المنطقي إذن أن تُفسَّر المذنَّبات على أنها رسل من الآلهة في العصور التي لم تتوفَّر فيها المعرفة، والتي كان الكهان والشامانات يسعون فيها على الدوام لتعزيز تأثيرهم. كان الافتراض الشائع أنَّ ما تأتي به من رسائل ينذر بالسوء. وقد كان يوجد ما يكفي من الكوارث الطبيعية حتى إنك إن لم تكن ترغب في تصديق هذا الافتراض، فما كان إيجاد تأكيد مقنع ليصبح عسيرًا. كان المذنَّب «ماكنوت» الذي ظهر عام ٢٠٠٧، هو الأكثر سطوعًا على مدار ٤٠ عامًا. ومن الجلي أنه أنذر بالأزمة المالية التي حدثت في الفترة ٢٠٠٧–٢٠٠٨. أرأيت؟ يمكن لأي شخص أن يقع في هذا الخطأ.

figure
المذنَّب العظيم لعام ١٥٧٧ فوق براج. نقش الفنان جيري داشيتسكي.

زعم الكهان أنهم يعرفون سبب المذنَّبات، لكنهم لم يكونوا يعرفون مواقعها، لا هم ولا الفلاسفة. أكانت أجرامًا فلكية كالنجوم والكواكب؟ أم أنها ظواهر جوية مثل السحب؟ لقد «بدت» شبيهة بالسحب بعض الشيء؛ فهي مغبشة وليست محددة كالنجوم والكواكب. غير أنها كانت تتحرك كالكواكب فيما عدا ظهورَها واختفاءها المفاجئين. وفي نهاية المطاف، حُسِم الجدال بالأدلة العلمية. فحين استخدم عالم الفلك تايكو براخي القياسات الدقيقة لتقدير المسافة إلى المذنَّب العظيم لعام ١٥٧٧، أثبت أنه أبعد كثيرًا من القمر. ولمَّا كانت السحب هي التي تحجب القمر وليس العكس، فإنَّ المذنَّبات تقطن الفلك.

•••

وبحلول عام ١٧٠٥، تقدَّم إيدموند هالي إلى ما هو أبعد، موضحًا أنَّ مذنَّبًا واحدًا على الأقل هو زائر منتظم لسماء الليل. فالمذنَّبات كالكواكب: تدور بالشمس. تبدو المذنَّبات قد اختفت حين تذهب بعيدًا عمَّا يمكن رؤيته لكنها تعاود الظهور حين تقترب بالدرجة الكافية مجددًا. لماذا تنمو لها ذيول ثم تفقدها؟ لم يكن هالي متأكدًا، لكنَّ الأمر يتعلق بقربها من الشمس.

لقد كانت فكرة هالي عن المذنَّبات، أحد الاكتشافات الكبيرة الأولى في علم الفلك التي تُستنتج من الأنماط الرياضية التي اكتشفها كيبلر، وأعاد نيوتن تأويلها بصفة أعم. لما كانت الكواكب تتحرك في مدارات إهليلجية، فقد تساءل هالي: لمَ لا تكون المذنَّبات تفعل ذلك هي أيضًا؟ وإذا كان هذا صحيحًا، فسوف تكون حركتها دورية، ويتكرر ظهور المذنَّب نفسه في السماء الأرضية، على فترات زمنية متساوية. عدَّل قانون نيوتن للجاذبية من هذه العبارة قليلًا: ستكون الحركة دورية «في معظمها»، لكنَّ سحب الجاذبية الناتج عن كواكب أخرى، لا سيما العملاقين: المشتري وزحل، ستسرع عودة المذنَّب أو تؤخرها.

لاختبار هذه النظرية، غاص هالي في سجلات غامضة للمرات التي شُوهدت فيها المذنَّبات. قبل اختراع جاليليو للتلسكوب لم تكن تُرى سوى المذنَّبات الظاهرة للعين المجردة. كان منها بضعة ساطعة على نحوٍ استثنائي، ولها ذيل مدهش. رأى بيتروس أبيانوس أحدها عام ١٥٣١، ورصد كيبلر آخر عام ١٦٠٧، وظهر مذنَّب مشابه خلال حياة هالي عام ١٦٨٢. تبلغ الفترتان الفاصلتان بين هذه التواريخ ٧٥ عامًا و٧٦ عامًا. أيمكن أن تكون هذه المشاهدات الثلاث كلها للجسم «نفسه»؟ كان هالي مقتنعًا بأنها كذلك، وتنبأ بأنَّ المذنَّب سيعود عام ١٧٥٨.

وقد كان محقًّا تمامًا. ففي يوم عيد الميلاد من ذلك العام، رأى الفلكي الألماني الهاوي يوهان باليتشش، بقعة خافتة في السماء سرعان ما ظهر بها الذيل المميِّز للمذنَّبات. بحلول ذلك الوقت، كان ثلاثة من الرياضيين الفرنسيين هم: أليكسيس كليروت وجوزيف لالاند ونيكول-رين ليبوت، قد أجرَوا حسابات أكثر دقة عدَّلت تاريخ أقرب ظهور للمذنَّب إلى يوم الأحد الموافق للثالث عشر من أبريل. كان التاريخ الفعلي قبل شهر من ذلك؛ ومن ثمَّ فقد أدت الاضطرابات الناتجة عن المشتري وزحل إلى تأخير المذنَّب ٦١٨ يومًا.

مات هالي قبل أن يتمكَّن من التحقق من تنبُّئه. وما ندعوه الآن بمذنَّب هالي (سُمِّي باسمه عام ١٧٥٩) هو أول جسم ليس بكوكب يثبت أنه يدور حول الشمس. من خلال مقارنة السجلات العتيقة لمداره السابق بالحسابات الحديثة لذلك، يمكن تتبُّع تاريخ مذنَّب هالي إلى عام ٢٤٠ قبل الميلاد، حين ظهر في الصين. وسُجِّلت المرة التالية لظهوره عام ١٦٤ قبل الميلاد على لوح طيني بابلي. رآه الصينيون مرة أخرى عام ٨٧ قبل الميلاد، ثم عام ١٢ قبل الميلاد، ثم عام ٦٦ ميلاديًّا، وعام ١٤١ ميلاديًّا … وغير ذلك من المرات. لقد كان تنبؤ هالي بعودة المذنَّب الحتمية، من أولى التنبؤات الفلكية المبتكرة بحق التي تستند إلى نظرية رياضية لديناميكيات الأجرام السماوية.

•••

ليست المذنَّبات لغزًا فلكيًّا عويصًا فحسب. فقد ذكرت في المقدمة نظرية واسعة النطاق تتضمن المذنَّبات وتفيد بأنها صارت على مدار العقود القليلة هي التفسير المفضَّل للكيفية التي حصلت بها الأرض على محيطاتها. تتكوَّن المذنَّبات من الجليد بصفة أساسية، ويتشكل الذيل حين يقترب المذنَّب من الشمس بما يكفي لأن «يتصعد» الجليد؛ أي يتحول مباشرة من مادة صلبة إلى بخار. توجد أدلة ظرفية مقنعة على أنَّ الكثير من المذنَّبات اصطدمت بالأرض في بداياتها، وفي تلك الحالة سيذوب الجليد ويتجمع ليشكل المحيطات. ستُدمج المياه أيضًا في التركيب الجزيئي لصخور القشرة الأرضية التي تحتوي بالفعل على الكثير منها.

إنَّ مياه الأرض ضرورية لأشكال الحياة الموجودة على الكوكب؛ لذا فإن فهمنا للمذنَّبات يمكن أن يخبرنا بشيء مهم عن أنفسنا. يذكر ألكساندر بوب في قصيدته «مقالة عن الإنسان» المنشورة في عام ١٧٣٤، ذلك البيت الشهير الذي يقول فيه: «أفضل ما يدرسه بنو البشر هم البشر أنفسهم.» بالرغم من ذلك، وبدون التعمق في الأهداف الروحانية والأخلاقية من القصيدة، فإنَّ أي دراسة للإنسانية ينبغي أن تتضمن دراسة «سياق» البشر، لا البشر أنفسهم فحسب. وهذا السياق هو الكون بأكمله؛ لذا فستكون مقولة بوب بخلاف هذا: أفضل ما يدرسه بنو البشر، هو «كل شيء».

حتى اليوم، صنَّف علماء الفلك ٥٢٥٣ من المذنَّبات. وهي تنقسم إلى نوعين أساسيين؛ المذنَّبات الطويلة الأمد التي تستغرق فترتها المدارية ٢٠٠ عام أو أكثر، وتمتد مداراتها إلى ما وراء النطاق الخارجي للنظام الشمسي، والمذنَّبات القصيرة الأمد التي تبقى قريبًا من الشمس، وعادةً ما تكون مداراتها أكثر استدارة وإن كانت ما تزال إهليلجية الشكل. يُعد مذنَّب هالي الذي تستغرق فترته المدارية ٧٥ عامًا، من المذنَّبات القصيرة الأمد. بضعة من المذنَّبات تتخذ مداراتها شكل القطع الزائد، وقد تناولنا القطوع الزائدة بالفعل في الفصل الأول، وهي من المقاطع المخروطية التي عرفها علماء الهندسة من اليونانيين القدماء. وهي لا تنغلق، على عكس القطوع الناقصة. تبدو الأجرام التي تسير في مداراتٍ تتخذ هذا الشكل من على مسافة شاسعة وهي تمر بالشمس سريعًا، وإذا تفادت الاصطدام بها، فإنها تخرج ثانيةً إلى الفضاء، ولا تُرى بعد ذلك أبدًا.

إنَّ شكل القطع الزائد يشير إلى أنَّ هذه المذنَّبات تسقط من الفضاء بين النجمي باتجاه الشمس، لكنَّ علماء الفلك يعتقدون الآن أنَّ معظمها، أو ربما كلها، كان يتبع في الأصل مدارات مغلقة قبل أن يتسبَّب المشتري في اضطرابها. إنَّ الفرق بين القطوع الناقصة والقطوع الزائدة يتضمن طاقة الجسم. فتحت قيمة حرجة من الطاقة، يكون المدار قطعًا ناقصًا مغلقًا. وفوق تلك القيمة، يكون المدار قطعًا زائدًا. وعند تلك القيمة، يكون المدار قطعًا مكافئًا. حين يكون أحد المذنَّبات في مدار كبير على شكل القطع الناقص يؤدي المشتري إلى اضطرابه، فإنه يكتسب طاقة إضافية يمكن أن تكون كافية لأن تزيد عن تلك القيمة الحرجة. ويمكن أن يؤدي اقتراب المذنَّب من كوكب خارجي إلى إضافة المزيد من الطاقة أيضًا من خلال تأثير المقلاع: يسرق المذنَّب بعضًا من طاقة الكوكب، لكنَّ الكوكب ضخم للغاية فلا يلاحَظ. وبهذه الطريقة، يمكن أن يصبح المدار على شكل القطع الزائد.

من غير المرجح أن يتخذ المدار شكل القطع المكافئ؛ لأنه يستلزم أن يكون الجسم عند القيمة الحرجة للطاقة تمامًا. ولهذا السبب بالتحديد، كثيرًا ما كانت القطوع المكافئة تُستَخدم بصفتها الخطوة الأولى في حساب العناصر المدارية لأحد المذنَّبات. فالقطع المكافئ قريب من القطع الناقص والقطع الزائد على حد سواء.

•••

يعيدنا هذا إلى مذنَّب قصير الأمد تصدَّر العناوين، يُسمى ٦٧ بي/تشوريوموف-جيراسيمنكو، على اسمي مكتشفيه: كليم تشوريوموف وسفيتلانا جيراسيمنكو. يدور هذا المذنَّب بالشمس كل ستة ونصف من الأعوام. ظل المذنَّب «٦٧ بي» في وجوده المعتاد، يتسكع حول الشمس ويُخرِج نفثات من بخار الماء الساخن إلى أن اقترب للغاية واسترعى انتباه علماء الفلك، وأُرسِلت مركبة الفضاء «روزيتا» للقائه. حين اقتربت «روزيتا» من هدفها، اتضح أنَّ «٦٧ بي» بطة مطاطية كونية؛ إذ كان على شكل كتلتين دائريتين تجمع بينهما رقبة ضيقة. في بداية الأمر، لم يكن أحد يعرف على وجه اليقين ما إذا كان هذا الشكل قد انبثق من جسمين دائريين التصقا معًا ببطء شديد، أم أنهما جسم واحد تآكل في منطقة الرقبة.

في أواخر عام ٢٠١٥، أمكن حل هذه المشكلة من خلال استخدام تطبيق مبتكر للرياضيات على صور تفصيلية للمذنَّب. تبدو تضاريس المذنَّب «٦٧ بي» للوهلة الأولى فوضوية وغير منتظمة، وبه جروف محززة ومنخفضات مسطحة تتوزع بصورة عشوائية، لكنَّ تفاصيل سطحه تقدِّم لنا بعض الإشارات عن أصوله. تخيَّل أنك أخذت بصلة وقطعت منها بعض الشرائح بصورة عشوائية، وبعض القطع الكبيرة. ستترك الشرائح الرفيعة القريبة من السطح رقعًا مسطحة، أما القطع الأكبر فستترك مكانها حفرًا أعمق تبدو منها كومة من الطبقات المنفصلة. المنخفضات المسطحة في المذنَّب تشبه الشرائح، أما الجروف والمناطق الأخرى فغالبًا ما تبدو بها طبقات متراصة من الجليد. يمكن رؤية مجموعة الطبقات الموجودة في القمة وفي المركز، بالصورة الأولى الواردة في مقدمة هذا الكتاب على سبيل المثال، وتظهر العديد من المناطق المسطحة أيضًا.

يعتقد علماء الفلك أنَّ المذنَّبات حين ظهرت لأول مرة في النظام الشمسي المبكر نمت بالتراكم؛ أي أُضيفَت طبقات الجليد تدريجيًّا واحدة تلو الأخرى، مثل طبقات البصل. ومن ثمَّ؛ يمكننا التساؤل عمَّا إذا كانت التكوينات الجيولوجية التي تظهر في صور المذنَّب «٦٧ بي»، تتفق مع هذه النظرية أم لا، وإذا كانت تتفق معها، فيمكننا استخدام الجيولوجيا لإعادة بناء تاريخ المذنَّبات.

figure
تصوران متنافسان لتفسير بنية المذنَّب «٦٧ بي». على اليسار: نظرية التصادم. على اليمين: نظرية التآكل.
نفَّذ ماتيو ماسيروني وزملاؤه هذه المهمة عام ٢٠١٥.1 وتقدِّم النتائج التي توصلوا إليها دليلًا قويًّا يؤيد نظرية أنَّ شكل البطة قد نتج عن اصطدام لطيف. تتمثَّل الفكرة الأساسية في أنَّه يمكن استنتاج تاريخ المذنَّب من خلال هندسة طبقاته الجليدية. عند التحديق إلى الصور، تبدو نظرية الجسمين رهانًا أفضل، لكنَّ ماسيروني وفريقه قد أجروا تحليلًا رياضيًّا دقيقًا باستخدام الهندسة الثلاثية الأبعاد، والإحصائيات، والنماذج الرياضية لمجال جاذبية المذنَّب. من خلال البدء بتمثيل رياضي لشكل المذنَّب المرصود وسطحه، توصَّل الفريق أولًا إلى مواقع ١٠٣ من المستويات وتوجهاتها، وكل منها يتلاءم على النحو الأمثل بسمة جيولوجية ترتبط بالطبقات المرصودة، مثل المصطبة (منطقة مسطحة) أو النجد (نوع من المنحدرات). ووجد الفريق أنَّ هذه المستويات تتلاءم معًا بانتظام حول كلٍّ من الفصين، لكنها لا تتلاءم عند الرقبة حيث يتحد الفصان. يشير هذا إلى أنَّ كلًّا من الفصين قد اكتسب طبقاته الشبيهة بالبصل في أثناء نموه قبل أن يقتربا ويلتصقا.
figure
رسم تخطيطي للمستويات التي تتلاءم على النحو الأنسب مع المصاطب والنُّجُد. على اليسار: نظرية الاصطدام. على اليمين: نظرية التآكل. أُجريت الحسابات الفعلية في ثلاثة أبعاد باستخدام إجراء إحصائي لأفضل مطابقة، واستخدم ١٠٣ من المستويات.

حين تتشكَّل الطبقات، تكون متعامدة تقريبًا على الاتجاه المحلي للجاذبية، وتلك هي الطريقة التقنية للقول إنَّ المادة الإضافية تسقط «لأسفل». ولمزيد من التأكيد، قام الفريق بحساب مجال جاذبية المذنَّب وفقًا لكلتا الفرضيتين، واستخدم طرقًا إحصائية لإثبات أنَّ الطبقات تلائم نموذج الاصطدام على نحو أفضل.

بالرغم من أنَّ المذنَّب «٦٧ بي» يتكوَّن بصفة أساسية من الجليد، فهو أسود كالليل الحالك، ومنقَّر بآلاف الصخور. حقق المسبار «فايلي» هبوطًا صعبًا، ومؤقتًا أيضًا مثلما اتضح، على رأس البطة. لم يَسِر أمر الهبوط مثلما كان مخططًا له. تضمنت معدات «فايلي» محركًا صاروخيًّا صغيرًا، وأوتادًا بمسامير لولبية، وحرابًا ولوحًا شمسيًّا. كانت الخطة هي تحقيق هبوط لطيف، وإطلاق الصاروخ كي يظل المسبار ثابتًا على سطح المذنَّب، وتثبيت المذنَّب بالحراب كي يبقى في مكانه بعد توقُّف الصواريخ، وغرس الأوتاد في المذنَّب للتأكد من بقائه في مكانه، ثم استخدام اللوح الشمسي لتوليد الطاقة من ضوء الشمس. وبالرغم من استخدام أفضل الخطط والاستعانة بأفضل الموارد البشرية، لم ينطلق الصاروخ، ولم تثبت الحراب، ولم تنغرس المسامير اللولبية؛ ونتيجةً لذلك كله، انتهى المطاف بوقوع اللوح الشمسي في ظل عميق دون جمع أي قدْر يُذكر من ضوء الشمس يمكن توليد الطاقة منه.

وبالرغم من «هبوطها المثالي ثلاثي النقاط: ركبتان وأنف»، الذي كان مضرب الأمثال، فقد حقق «فايلي» جميع أهدافه العلمية تقريبًا، وأرسل بيانات مهمة. وقد كان المرجو أن يتمكن من إرسال المزيد؛ إذ اقترب المذنَّب من الشمس، وصار الضوء أقوى، واستيقظ المسبار من سباته الإلكتروني. جدَّد «فايلي» الاتصال مع وكالة الفضاء الأوروبية لفترة وجيزة، لكنَّ الاتصال فُقِد مجددًا بسبب زيادة نشاط المذنَّب التي أتلفته على الأرجح. قبل أن تنفد طاقة «فايلي»، كان قد أكد لنا أنَّ سطح المذنَّب يتكوَّن من جليد مغطًّى بطبقة من الغبار الأسود. وأرسل أيضًا مثلما ذكرنا من قبل، قياسات توضح أنَّ نسبة الديوتيريوم الموجودة في الجليد، أكبر من تلك الموجودة في محيطات الأرض؛ مما يلقي بشكوك جدية على النظرية القائلة بأنَّ مياه محيطات الأرض قد أتت من المذنَّبات في أثناء تشكُّل النظام الشمسي.

قدَّمت لنا الأعمال المبتكرة التي استُخدِمت فيها البيانات التي وصلت إلى أرض الوطن مزيدًا من المعلومات المفيدة. فعلى سبيل المثال، يوضح التحليل الرياضي لكيفية انضغاط دعامات هبوط «فايلي»، أنَّ قشرة المذنَّب قاسية في بعض المناطق، لكن السطح أرق في الأماكن الأخرى. تتضمن الصور التي التقطها «روزيتا»، ثلاث علامات لأول أماكن اصطدمت فيها المركبة الفضائية بالمذنَّب على عمق كافٍ لتوضح أنَّ المادة الموجودة هناك لينة نسبيًّا. لم تتمكن المطرقة التي كانت على متن «فايلي» من اختراق الجليد في المكان الذي استقرت فيه؛ ومن ثمَّ فالأرض هناك صلبة. غير أنَّ القدر الأكبر من المذنَّب «٦٧ بي» مسامية للغاية؛ فثلاثة أرباع باطنه فضاء فارغ.

أرسل المسبار «فايلي» بعض العينات الكيميائية المثيرة للاهتمام أيضًا: العديد من المركبات العضوية البسيطة (والمقصود بعضوية أنها كربونية، ولا تشير إلى إمكانية وجود حياة)، ومركبًا واحدًا أكثر تعقيدًا هو بوليمر أوكسي الميثلين، الذي تشكَّل على الأرجح من جزيء الفورمالديهايد الأبسط بفعل ضوء الشمس. ذُهِل علماء الفلك من أحد الاكتشافات الكيميائية للمسبار «روزيتا»، وهو وجود الكثير من جزيئات الأكسجين في غيمة الغاز المحيطة بالمذنَّب.2 لقد كانت دهشتهم عظيمة للغاية حتى إنهم اعتقدوا في بداية الأمر أنهم قد أخطئوا. فالنظريات التقليدية عن نشأة النظام الشمسي تقول بأنَّ الأكسجين كان سيسخُن مما يؤدي إلى تفاعله مع غيره من العناصر لتكوين مركبات مثل ثاني أكسيد الكربون؛ ومن ثمَّ فلن يكون موجودًا في صورة أكسجين خالص. لا بد وأنَّ النظام الشمسي المبكر كان أقل عنفًا مما كان يُعتَقد عنه سابقًا، وهو ما يسمح لذرات الأكسجين الصلبة بالتراكم ببطء وتفادي تكوين المركبات.

إنَّ هذا لا يتعارض مع الأحداث الدرامية التي يُعتَقد أنها قد حدثت في أثناء تكوُّن النظام الشمسي مثل هجرة الكواكب وتصادم الجسيمات الكوكبية، لكنه يشير إلى أنَّ مثل هذه الأحداث كانت نادرة نسبيًّا، مؤكِّدًا على وجود أساس من النمو البطيء اللطيف.

•••

من أين تأتي المذنَّبات؟

لا يمكن للمذنَّبات الطويلة الأمد أن تبقى في مداراتها الحالية إلى الأبد. ففي أثناء مرورها بالنظام الشمسي، يوجد خطر بالتصادم أو الاقتراب الوشيك الذي يقذف بها إلى الفضاء دون عودة. ربما يكون الاحتمال ضئيلًا، لكن الاحتمال بتفادي مثل هذه الكوارث يزداد مع وجود الملايين من المدارات. ثم إنَّ المذنَّبات تتضاءل وتفقد من كتلتها في كل مرة تدور فيها بالشمس؛ فتمر بينما يتصعد منها الجليد. إذا ظلت في المدار لفترة طويلة، فإنها سوف تذوب.

في عام ١٩٣٢، اقترح إرنست أوبك مخرجًا: لا بد أنه يوجد مستودع ضخم من الجسيمات الكوكبية الجليدية في الأماكن الخارجية من النظام الشمسي، تجدِّد إمداد المذنَّبات. وتوصَّل جان أورط إلى هذه الفكرة نفسها بصفة مستقلة في عام ١٩٥٠. من حين إلى آخر، يتزحزح أحد هذه الأجسام الجليدية عن مكانه، ربما بسبب الاصطدامات التي كادت تحدث مع مذنَّبات أخرى، أو بسبب اضطرابات الجاذبية. يغير بعد ذلك مداره مقتربًا من الشمس، فتزيد درجة حرارته وتُولَد الذؤابة والذيل المميزان للمذنَّبات. درس أورط هذه الآلية بتفصيل رياضي كبير؛ ولهذا فإننا نسمي المصدر الآن بسحابة أورط، تكريمًا له. (ومثلما شرحنا من قبل في حالة الكويكبات، ينبغي ألا نفهم الاسم حرفيًّا. فهي سحابة متناثرة للغاية.)

يعتقد العلماء أنَّ سحابة أورط تشغل حيزًا كبيرًا حول الشمس يتراوح من ٥٠٠٠ وحدة فلكية إلى ٥٠٠٠٠ وحدة فلكية (من ٠٫٠٣ سنة ضوئية إلى ٠٫٧٩ سنة ضوئية). تمتد السحابة الداخلية إلى ٢٠٠٠٠ وحدة فلكية، وهي حلقة تتوازى مع مدار الشمس على نحوٍ تقريبي، أما الهالة الخارجية فهي قشرة كروية. توجد التريليونات من الأجسام التي يبلغ قطرها كيلومترًا واحدًا أو أكثر في الهالة الخارجية، وتضم السحابة الداخلية مئات أضعاف ذلك العدد. تبلغ الكتلة الإجمالية لسحابة أورط خمسة أضعاف كتلة الأرض تقريبًا. والحق أنَّ العلماء لم يرصدوا هذه البنية؛ بل استنتجوها من الحسابات الرياضية.

تشير نماذج المحاكاة وغيرها من الأدلة إلى أنَّ سحابة أورط قد ظهرت للوجود حين بدأ القرص الكوكبي البدائي المحلي في الانهيار؛ ومن ثمَّ تكوين النظام الشمسي. وقد ناقشنا الأدلة التي تؤيد أنَّ الجسيمات الكوكبية الناتجة كانت أقرب إلى الشمس في الأصل، ثم دفعتها الكواكب العملاقة إلى المناطق الخارجية الأبعد عن الشمس. ربما تكون سحابة أورط من بقايا النظام الشمسي المبكر وقد تكوَّنت من الغبار المتبقي. أو ربما تكون نتيجة التنافس بين الشمس والنجوم المجاورة لجذب مواد دائمًا ما كانت على هذه الدرجة من البعد، بالقرب من الحد الذي يلغي عنده مجالا جاذبية النجمين أحدهما الآخر. أو ربما يكون الأمر على النحو الذي اقترحه هارولد ليفيسون وزملاؤه في عام ٢٠١٠، وهو أنَّ الشمس سرقت الغبار من مجموعة الأقراص الكوكبية البدائية التي تقع في جوارها ويبلغ عددها ٢٠٠ تقريبًا.

إذا كانت نظرية الطرد صحيحة، فقد كانت المدارات الأولية لأجرام سحابة أورط إهليلجيةً طويلة للغاية ورفيعة. غير أنه لما كانت هذه الأجرام تبقى في السحابة غالبًا، فلا بد أنَّ مداراتها قد اتسعت الآن كثيرًا، وصارت دائرية تقريبًا. ويُعتَقد بأنَّ المدارات قد اتسعت بسبب التفاعل مع النجوم القريبة والمد المجري، وهو تأثير الجاذبية الإجمالي للمجرة.

•••

تختلف المذنَّبات القصيرة الأمد عن ذلك، ويعتقد العلماء أنَّ منشأها مختلف أيضًا، ويتمثل في حزام كايبر والقرص المبعثر.

حين اكتُشِف بلوتو، ووجد علماء الفلك أنه صغير إلى حدٍّ ما، تساءل العديد منهم عمَّا إذا كان من الممكن أن يكون جسمًا آخرَ من نوع سيريس: أول جسم جديد في حزام ضخم يضم آلاف الأجسام. أحد هؤلاء، وإن لم يكن أولهم، هو كينيث إدجورث الذي اقترح عام ١٩٤٣ أنه حين تكثَّف النظام الشمسي الخارجي فيما بعد نبتون، من سحابة الغاز الأولية، لم تكن المادة كثيفة بما يكفي لتشكيل كواكب كبيرة. وكان يرى أيضًا أنَّ هذه الأجسام مصدر محتمل للمذنَّبات.

في عام ١٩٥١، اقترح كايبر أنَّ قرصًا من الأجسام الصغيرة ربما يكون قد تجمَّع في تلك المنطقة في بداية تكوُّن النظام الشمسي، لكنه كان يعتقد (مثلما كان الكثيرون يعتقدون آنذاك) أنَّ بلوتو في حجم الأرض تقريبًا؛ ومن ثمَّ كان سيؤدي إلى اضطراب القرص وبعثرة محتوياته بعيدًا وعلى مسافات كبيرة. وحين اتضح وجود مثل ذلك القرص حتى الآن بالفعل، تلقَّى كايبر ذلك التشريف المثير للريبة بتسمية منطقة في الفضاء على اسمه؛ لأنه «لم» يتنبأ بها.

اكتُشِفت عدة أجرام منفردة في هذه المنطقة، وقد التقينا بها سابقًا بالفعل باسم الأجرام الوراء نبتونية. إنَّ ما أكَّد وجود حزام كايبر هو المذنَّبات. ففي عام ١٩٨٠، أجرى خوليو فرنانديز دراسة إحصائية عن المذنَّبات القصيرة الأمد. يوجد الكثير للغاية من هذه المذنَّبات بدرجة يصعب معها أن تكون قد أتت جميعًا من سحابة أورط. من بين كل ٦٠٠ مذنَّب قد انبثقت من سحابة أورط، يصبح ٥٩٩ من المذنَّبات طويلةَ الأمد، وواحد فقط هو الذي يؤسَر بفعل كوكب عملاق، ويتغير مداره ليصبح مذنَّبًا قصير الأمد. قال فرنانديز إنه يُحتمل وجود مستودع من الأجسام الجليدية على مسافة تتراوح بين ٣٥ وحدة فلكية و٥٠ وحدة فلكية من الشمس. لاقت أفكاره تأييدًا قويًّا من سلسلة من نماذج المحاكاة التي أجراها توم كوين وسكوت تريمين عام ١٩٨٨، واللذان قد لاحظا أيضًا أنَّ المذنَّبات القصيرة الأمد غالبًا ما تبقى بالقرب من مدار الشمس، أما المذنَّبات الطويلة الأمد، فهي تصل من أي اتجاه تقريبًا. صار الاقتراح مقبولًا، وعُرِف باسم «حزام كايبر». يفضِّل بعض علماء الفلك استخدام اسم «حزام إدجورث-كايبر»، بينما لا ينسب آخرون الفضل إلى أيٍّ منهما.

لا تزال أصول حزام كايبر غامضة. تشير نماذج محاكاة النظام الشمسي المبكر إلى التصور الذي ذكرناه سابقًا، والذي يتمثَّل في أنَّ الكواكب العملاقة الأربعة التي كانت قد تشكَّلت في البداية بترتيب مختلف عمَّا هي عليه اليوم (بدايةً من الشمس إلى الخارج)، ثم انتقلت من أماكنها وهي تنثر الجسيمات الكوكبية في الاتجاهات الأربعة. طُرِحَت معظم أجسام حزام كايبر الأولى بعيدًا، لكن تبقى منها جسم واحد من كل ١٠٠. وعلى غرار سحابة أورط، اتخذ حزام كايبر شكل حلقة مغبشة أيضًا.

إنَّ توزيع المادة في حزام كايبر غير منتظم، مثلما هو الحال في حزام الكويكبات، وهو مُعدَّل بفعل مدارات الرنين، مع نبتون هذه الحالة. وثمَّة منطقة تُدعى بمنحدر كايبر، وتوجد على بُعد ٥٠ وحدة فلكية تقريبًا، حيث يقل عدد الأجسام فجأة. ما من تفسير لهذا حتى الآن، لكنَّ باتريك لياكاوا يخمِّن أنه قد يكون نتيجة لوجود جسم كبير غير مُكتشَف؛ كوكب X حقيقي.

يُعد القرص المبعثر أكثر إلغازًا وغموضًا حتى من هذا. فهو يتشابك مع حزام كايبر بدرجة طفيفة، لكنه يمتد إلى مسافة أبعد، إلى مسافة ١٠٠ وحدة فلكية، ويميل بشدة بالنسبة إلى مدار الشمس. وتتسم أجرام القرص المبعثر بمدارات شديدة الإهليلجية، وغالبًا ما تنحرف إلى النظام الشمسي الداخلي. تظل هناك لفترة طويلة بصفتها قناطير، ثم يتغير المدار مجددًا وتتحول إلى مذنَّبات قصيرة الأمد. تُعرَّف القناطير بأنها أجسام تشغل مدارات تقطع مدار الشمس بين مداري المشتري ونبتون، وهي لا تبقى إلا لبضعة ملايين من الأعوام، ويوجد منها ٤٥ ألفًا على الأرجح يزيد قطرها عن كيلومتر. تأتي غالبية المذنَّبات القصيرة الأمد على الأرجح من القرص المبعثر لا حزام كايبر.

•••

في عام ١٩٩٣، اكتشف كلٌّ من كارولين ويوجين شوميكر، وديفيد ليفي، مذنَّبًا جديدًا سُمِّي فيما بعد باسم «شوميكر-ليفي٩». أسره المشتري على غير المعتاد، وراح يتحرك في مدار الكوكب العملاق. أشارت التحليلات التي أُجريت على مداره إلى أنَّ الأسْر قد وقع قبل فترة تتراوح من ٢٠–٣٠ عامًا. كان مذنَّب «شوميكر-ليفي٩» استثنائيًّا من جانبين. فقد كان هو المذنَّب الوحيد الذي رُصِد دورانه بكوكب، وبدا أنه مهشم إلى قطع.

figure
«شوميكر-ليفي٩» في ١٧ مايو ١٩٩٤.

ظهر السبب من نموذج محاكاة لمداره. فعند حساب مداره في الماضي، يتضح أنَّ المذنَّب قد مرَّ ولا بد عام ١٩٩٢، داخل حد روش للمشتري. بعد ذلك، حطمت القوى المدية للجاذبية المذنَّب، مشكِّلة خيطًا يتكوَّن من ٢٠ شظية تقريبًا. وقع المذنَّب في أسْر المشتري في الفترة ما بين ١٩٦٠–١٩٧٠ تقريبًا، وقد أدى هذا اللقاء التقاربي إلى تشويه مداره ليصبح طويلًا رفيعًا.

تنبَّأ نموذج محاكاة المدار في المستقبل بأنَّ المذنَّب سيصطدم بالمشتري في مروره التالي به في يوليو عام ١٩٩٤. لم يرصد علماء الفلك تصادمًا فلكيًّا من قبل؛ لذا فقد سبَّب هذا الاكتشاف قدرًا كبيرًا من الإثارة. ذلك أنَّ الاصطدام سيؤدي إلى اضطراب الغلاف الجوي للمريخ مما يسمح باكتشاف المزيد عن طبقاته الأعمق التي تخبئها عادةً تلك الغيمة الموجودة فوقها. وعند وقوع الحدث، كان الاصطدام أقوى حتى مما كان متوقعًا وترك على الكوكب سلسلة من الندبات الضخمة التي خفتت تدريجيًّا، بعد أن ظلت واضحة لشهور. رُصِد واحد وعشرون اصطدامًا في المجمل، وأنتج أكبرها من الطاقة ما يعادل ٦٠٠ ضعف طاقة جميع الأسلحة الموجودة على الأرض، إن هي فُجِّرت في آنٍ واحد.

figure
البقع الداكنة هي بعض مواقع الاصطدام من شظايا المذنَّب «شوميكر-ليفي٩».

تعلَّم العلماء الكثير من الأمور الجديدة عن المشتري من الاصطدامات. أحد هذه الأمور هي دوره ككنَّاسة فلكية. ربما يكون «شوميكر-ليفي٩» هو أول مذنَّب يُرصَد دورانه بالمشتري، لكنَّ خمسةً على الأقل من المذنَّبات قد فعلت ذلك في الماضي، بناءً على مداراتها الحالية. كل محاولات الأسر هذه تكون مؤقتة؛ فإما أن يقع المذنَّب في أسر الشمس مددًا، أو يصطدم في نهاية المطاف مع شيءٍ ما. وتشير ثلاث عشرة من سلاسل الفُوَّهات على كاليستو وثلاثة على جانيميد إلى أنَّ ما يصطدم به المذنَّب في بعض الأحيان لا يكون المشتري. وعند الجمع بين هذه الأدلة معًا، يتضح أنَّ المشتري يكنس المذنَّبات وغير ذلك من الغبار الكوني، ويأسرها ثم يصطدم بها. إنَّ هذه الأحداث نادرة بالنسبة إلينا، لكنها معتادة بالمقياس الزمني الكوني؛ ففي كل ٦٠٠٠ عام تقريبًا، يصطدم بالمشتري مذنَّب يبلغ قطره ١٫٦ كيلومتر، وتصطدم به المذنَّبات الأصغر بوتيرة أسرع كثيرًا من ذلك.

إنَّ هذا الجانب من المشتري يساعد في حماية الكواكب الداخلية من تصادمات المذنَّبات والكويكبات، مما يؤدي إلى اقتراح بيتر وارد ودونالد براونلي في كتابهما «الأرض النادرة»3 بأنَّ كوكبًا كبيرًا مثل المشتري يجعل كواكبه الداخلية صالحة للحياة بدرجة أكبر. من سوء حظ هذا التبرير المنطقي الجذَّاب أنَّ المشتري يخلخل أيضًا الكويكبات الموجودة في الحزام الأساسي، مما قد يؤدي إلى اصطدامها بالكواكب الداخلية. لو أنَّ المشتري كان أصغر قليلًا، لصار تأثيره الإجمالي مصيريًّا للحياة على الأرض.4 أما في حجمه الحالي، فلا يبدو أنَّه يقدِّم ميزة إجمالية بارزة للحياة الأرضية. إنَّ كتاب «الأرض النادرة» متناقض بشأن الاصطدامات على أية حال؛ فهو يهلل للمشتري بصفته مخلِّصنا من المذنَّبات، بينما يمتدح نزعته في خلخلة الكويكبات من أماكنها كطريقة لحث الأنظمة البيئية وتشجيع التطور الأسرع.

لقد جعل «شوميكر-ليفي٩» العديد من أعضاء مجلس النواب الأمريكيين يدركون العنف الاستثنائي الذي تسبِّبه تصادمات المذنَّبات. لقد كانت أكبر ندبات الاصطدام على المشتري في حجم الأرض تقريبًا. ما من طريقة تمكِّننا من حماية أنفسنا من تصادم بمثل هذا الحجم، بالتقنية الحالية أو حتى تقنيات المستقبل القريب، لكنَّ هذا الحدث قد ركَّز الذهن على تصادمات أقل حجمًا، سواء أكانت من مذنَّب أو كويكب، وهي تصادمات قد نتمكن من تجنُّبها إذا اتخذنا خطوات تنذرنا قبل وقوع الحدث بوقت كافٍ. وقد وجَّه مجلس النواب الأمريكي التعليمات بسرعة إلى وكالة ناسا بتصنيف جميع الكويكبات القريبة من الأرض التي يزيد قطرها عن كيلومتر واحد. وقد بلغ العدد المرصود حتى الآن ٨٧٢، ومن بينها ١٥٣ كويكبًا من المحتمل أن يصطدم بنا. تشير التقديرات إلى وجود ٧٠ كويكبًا آخر تقريبًا، لكنَّ أيًّا منها لم يُكتشَف حتى الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤