مغامرة بنَّاء نوروود

قال السيد شيرلوك هولمز: «لقد صارتْ لندن من وِجهة نظرِ الخبيرِ الجنائي مدينةً مُملَّةً إلى حدٍّ غير عادي منذ وفاة المأسوف عليه البروفيسور الراحل موريارتي.»

فأجبتُه: «لا أكاد أتوقَّع أنك ستجِد كثيرًا من المواطنين الشُّرفاء يوافِقونك الرأي.»

قال مُبتسمًا، وهو يدفَع كرسيه للخلْف مُبتعدًا عن طاولة الإفطار: «حسنٌ، حسنٌ، يجِب ألَّا أكون أنانيًّا، فالمجتمع هو الرابح بالتأكيد، وما من خاسرٍ غير المُتخصِّص المسكين العاطل عن العمل، الذي ضاعتْ وظيفته. لقد كانت الجريدةُ الصباحية تُتحِفُ المرءَ بفُرص غيرِ مُتناهيةٍ عندما كان هذا الرجل حاضرًا في الميدان. لمْ يكن يُوجَد في كثيرٍ من الأحوال غيرُ أَهْوَن الآثار وحسْبُ يا واطسون؛ أضعف الإشارات. ورغم هذا فقد كانتْ كافيةً لتُخبرني أنَّ ذلك العقل الخبيث الكبير كان موجودًا هناك، مثلما تُذَكِّر المرءَ أخفُّ الارتِعاشات في أطراف الشبكة بذلك العنكبوت البشِع الكامِن في مركزها. سرقاتٌ بسيطة، اعتداءات غير مُبرَّرة، انتهاكات جُزافية، لكن بالنسبة إلى من يمتلك الأدلَّة فقد كان من المُمكن ربطُها جميعًا في وَحدةٍ واحدةٍ متَّصِلة. لمْ تكن عاصمةٌ في أوروبا تُتيح للطالب المُتخصِّص الذي يدرُس عالم الجريمة العتيدة ما كانتْ تمتلِكه لندن في ذلك الحين. لكن الآن …» وهزَّ كتفَيه في استهجانٍ ساخرٍ من الموقف الذي بَذلَ هو نفسُه الكثيرَ لتحقيقه.

في هذا الوقت الذي أروي فيه تلك القصة، كان قد مرَّ على عودةِ هولمز بضعةُ أشهر، وكنتُ، بِناءً على طلبه، قد بِعتُ عيادَتي وعدتُ لمُشارَكته السكن القديم في شارع بيكر ستريت، حيث اشترى طبيبٌ شاب، يُدعى فيرنر، عيادتي الصغيرةَ الواقعة في مُقاطَعة كينزينجتن، ودفعَ دون كثير تَردُّد، وعلى نحوٍ مُدهشٍ، أعلى قيمةٍ جرؤتُ على طلَبِها، وهي حادثة لمْ تتَّضحْ حقيقتُها إلَّا بعد بضع سنين عندما اكتشفتُ أنَّ فيرنر كان أحد معارف هولمز البَعيدِين، وأنَّ صديقي هو الذي أمَدَّه بالمال في واقع الأمر.

لمْ تكن شهور شراكتنا خاليةً من الأحداث إلى هذا الحدِّ الذي ذَكرَه هولمز؛ حيث إنني وجدتُ، وأنا ألقي نظرةً على مُفكرتي، أن تلك الفترة تضمَّنتْ قضيةَ أوراق الرئيس السابق موريُّو، وكذلك القضية المُروِّعة المُتعلِّقة بالباخرة الهولندية فريسلاند، التي أوشكَت للغاية أن تُكلِّفنا حياتَنا نحن الاثنين. لكنَّ طبيعته الفاتِرة المشاعِر والمُعتزَّةَ بذاتِها كانتْ تَنفِر دائمًا من أيِّ مظهر من مظاهر الإطراء العَلَني، وقد ألزَمَني، بأشدِّ العبارات صرامةً، ألَّا أنبِسَ ببِنت شَفةٍ عنه، أو عن أساليبه، أو نجاحاته؛ وهو إلزام، كما سبَقَ أنْ أوضحتُ، لمْ يُرفَع إلَّا الآن.

كان السيد شيرلوك هولمز مُتكئًا على كرسيه بعد أن انتهى من شكواه الهزْلية، وقد بسَط جريدته الصباحية على مهَل، حين اجتذَب انتباهَنا دقٌّ صاخِب للجرس، تَبِعه مباشَرةً صوتُ قرعٍ أجوفُ، وكأنما كان شخصٌ ما يطرُق بقبضته على الباب الخارجي. وما إن فُتِح الباب حتى سمِعنا اندفاعةً صاخِبة إلى داخل الردْهة، ثم دوَّى وقْعُ أقدامٍ سريعةٍ صُعودًا على الدَّرَج، وبعد لحظةٍ اندفعَ إلى الغرفة شابٌّ هائج العينَين شديدُ الاضطراب، وقد بدا شاحِبَ اللون، أشعثَ الشَّعر، مُرتجفًا. أخذ بصرُه يتردَّدُ بين كلٍّ مِنَّا. وتحت تأثير نظراتنا المُتسائلة أدركَ الشابُّ أنَّ عليه تقديمَ بعض الاعتِذار بسبب دُخوله المُفتَقِر إلى اللباقة.

صرخَ الشاب قائلًا: «أعتذر، يا سيد هولمز، ينبغي ألَّا تلومَني؛ فقد كدتُ أفقد عقلي. أيها السيد هولمز، أنا البائس جون هيكتور مكفارلِن.»

صرَّح الشاب باسمه وكأنما الاسمُ وحده يكفي لتبريرِ كُلٍّ من زيارته وكيفيَّتها، ولكني رأيتُ من جمود وجهِ رفيقي أنَّ ذلك لمْ يعنِ له أكثرَ مما عنى لي.

قال هولمز وهو يمرِّر علبةَ سجائره: «تناوَل سيجارة، يا سيد مكفارلِن. أنا متأكدٌّ أنه في ظلِّ ما تُعانيه من أعراض، فإن صديقي الدكتور واطسون سوف يصِف لك عقارًا مُهدِّئًا. لقد كان الجوُّ حارًّا جدًّا على مدار الأيام القليلة الماضية. والآن، إذا كنتَ تشعُرُ أنك أصبحتَ أهدأ قليلًا، فسيُسعِدني لو تفضَّلْتَ بالجلوس على ذلك الكرسي وأخبرتَنا بتمهُّلٍ وهُدوءٍ شديدَيْن مَن أنتَ وماذا تريد. لقد ذكرتَ اسمك وكأنه من المُفترَض أن أكون عارفًا به، ولكنِّي أؤكد لك أنني لا أعلَم عنك أيَّ شيءٍ مُطلقًا، باستِثناء تلك الحقائق الواضِحة وهي أنك محامٍ أعزب، وأنك عضوٌ في مُنظَّمة البنَّائين الأحرار، وتُعاني من داء الربو.»

ولحُسن مَعرفتي بأساليب صديقي، لمْ يكن صعبًا عليَّ أن أستوعِب استنتاجاته، وأن أُلاحظَ الأمور التي دفعَتْه إليها وهي هيئته غير المُهندَمة، وحزمة الأوراق القانونية، والحِلية المُتدلِّية من سلسلة الساعة، وطريقة تنفُّسه. أمَّا عميلنا، فقد حدَّقَ في اندِهاش.

«نعم، كلُّ ما قلتَه عنِّي صحيح يا سيد هولمز، وفوق هذا فإني أتعسُ الناس حظًّا في لندن في هذه اللحظة. بربِّك لا تتخلَّ عنِّي يا سيد هولمز! إذا أتَوْا للقبضِ عليَّ قبل أن أُنهيَ سردَ قصتي، فاجعلْهم يُمهِلونني؛ لعلِّي أتمكَّن من إخبارك بالحقيقة كاملةً. إنَّ بإمكاني أنْ أدخل السجنَ راضِيًا إذا علمتُ أنك تعملُ خارجَه من أجلي.»

قال هولمز: «يقبِضون عليك! إنَّ هذا حقَّا ليبعثُ على المُتع … أقصد يبعث على الاهتمام البالِغ. بأيَّةِ تُهمةٍ تتوقَّع أن يُقبضَ عليك؟»

«بتُهمة قتل السيد جونيس أولديكر، من ضاحية لُووِر نوروود.»

أظهرتْ ملامحُ وجه رفيقي المُعبِّرةُ تعاطُفًا، لكنِّي أخشى أنه لمْ يكن خاليًا كليةً من الرِّضا.

وقال: «يا للعَجَب! لقد كنتُ لتوِّي أقول لصديقي الدكتور واطسون، ونحن على مائدة الإفطار، إنَّ القضايا المُثيرةَ قد اختفت من صُحفنا.»

مدَّ ضيفُنا يدًا مُرتعِشة وتناوَل بها جريدةَ الديلي تليجراف، التي كانتْ لا تزالُ فوق رُكبَة هولمز.

«لو أنكَ كنتَ نظرت فيها يا سيدي، لكُنتَ عرفتَ على الفور سبب زيارتي لك هذا الصباح. إنني أشعُر وكأنَّ اسمي ومُصيبتي قد أصبحا ملء الأفواه لا محالة.» وقلبَ صفحات الجريدة ليعرِض الصفحة الوسطى. «ها هي ذي، وإذا سمحتَ لي فسأقرؤها عليك؛ استمِع لهذا سيد هولمز. تقول العناوين الرئيسية: «قضية غامِضة في ضاحية لووِر نوروود. اختفاء بنَّاء مشهور. اشتِباه في قتل وإحراق مُتعمَّدَين. دليل على هُوية المجرم.» ذاك هو الدليل الذي يتَتبَّعونه بالفعل سيد هولمز، وأنا أعلَم أنه سيقودُهم حتمًا إليَّ. إنهم يُلاحقونني من محطَّة مترو أنفاق لندن، وأنا مُتأكدٌ أنهم ينتظِرون فقط حتى تصدُر مُذكرة توقيف للقبض عليَّ. سيُحطم ذلك قلبَ أُمِّي، سيُحطم قلبها!» وأخذ يفرُك يدَيه حسرةً وإشفاقًا، ويهتزُّ في كرسيِّه للخلْف والأمام.

نظرتُ باهتمامٍ إلى ذلك الرجل المُتَّهم بارتكاب جريمة عُنف. كان أشقر الشَّعر، وسيمًا على نحوٍ ذابلٍ باهِت، ذا عينَين زرقاوَين تفيضان خَوفًا، ووجهٍ حليق اللِّحية والشاربَين، له فمٌ صغير حسَّاس. ربما كان عمره يُناهِز السابعة والعشرين، وكانتْ ثيابُه وهيئتُه تدُلَّان على نُبله، وقد برزتْ من جَيب مِعطفه الصَّيفي الخفيف حزمةٌ من المُستندات المُوقَّعة التي أفصحَت عن مِهنته.

ردَّ هولمز: «يجِب أن نستثمِر ما لدينا من وقت. واطسون، هلَّا تناوَلتَ الجريدة من فضلك وقرأتَ لي الفقرة المقصودة؟»

فقرأتُ أسفل العناوين الرئيسية الساخِنة التي أوردَها عميلنا هذه القصةَ المُثيرة:

وقعتْ في وقتٍ مُتأخر من الليلة الماضية، أو باكرًا هذا الصباح، في منطقة لووِر نوروود حادثةٌ يُخشى أنها تُشيرُ إلى جريمةٍ خطيرة. السيد جونيس أولديكر هو أحد السكان المعروفين في هذه الضاحِية التي ظلَّ يعمل فيها بنَّاءً مدةَ سنواتٍ عديدة. السيد أولديكر أعزب، يبلُغ الثانية والخمسين من العمر، ويُقيم في منزل ديب دين هاوس، عند نهاية الطريق المارِّ بمقاطعة سيدنام الذي يحمِل الاسم نفسه، وقد اشتُهِر عنه أنه رجلٌ غريب الأطوار، وأنه مُتحفِّظٌ ومُنطوٍ على ذاتِه. كان السيد جونيس شِبه مُعتزِلٍ لمِهنته منذ بضع سنواتٍ، تلك المِهنة التي يُقال إنه جمَع منها ثروةً طائلة. لكنَّه، برغم هذا، لا يزالُ يمتلك مَخزنَ أخشابٍ صغيرًا في الجُزء الخلفي من منزله. وفي الليلة الماضية، وفي حوالي الساعةِ الثانية عشرة، انطلَق تحذيرٌ من اندلاع النار في إحدى أكوام الحطب هناك. هُرعَتْ سيارات الإطفاء إلى المكان في الحال، ولكنَّ النيران اضطرَمَت في الأخشابِ اليابسةِ في ضراوةٍ شديدة، وكانَ من المُستحيل السيطرةُ على الحريق إلى أن الْتَهَمَ كومة الحطب بالكامل. حتى هذا الحدِّ فإن الواقعة بدت كأنها حادثة عادية، لكن هناك إشارات جديدة تُنبئ بوقوع جريمة خطيرة؛ فقد أبدى الحاضرون دهشتَهم لغياب صاحب المُنشأة عن مَوقع الحريق، فتَلَتْ ذلك تحرِّياتٌ أسفرَت عن اختفائه من المنزل. أظهرت مُعاينةُ غرفته أنَّه لمْ ينَمْ على فراشه، وأن الخِزانة التي في الغرفة مفتوحة، وأنَّ عددًا من الأوراق المُهمة كان مُتناثِرًا في أرجاء الغرفة. وأخيرًا، فقد أظهرت التحرِّيات وجودَ علاماتٍ على وقوع صراعٍ عنيف؛ حيث وُجدت آثارُ دمٍ خفيفة داخل الغرفة، وعصا مَشيٍ مصنوعةٌ من خشب السنديان، وقد لطَّخَت مِقبضَها هي الأخرى بُقَعُ دماء. هذا ومن المعلوم أنَّ السيد جونيس أولديكر كان قد استقبل ضيفًا في حجرةِ نومه في وقتٍ مُتأخر من تلك الليلة، وقد تَبيَّنَ أنَّ العصا التي عُثِر عليها تعود ملكيَّتها لهذا الشخص، وهو محامٍ شابٌّ من لندن يُدعى جون هيكتور مكفارلِن، وهو شريك ثانوي في شركة جِرايم ومكفارلن، وعنوانها مبنى رقم ٤٢٦، مباني جريشم، منطقة إيسترن سنترال البريدية في لندن. تعتقد الشرطة أنَّ بِحَوزتها دليلًا يقدِّم دافعًا مُقنعًا جدًّا لارتكاب الجريمة، وعلى كُلٍّ فلا شكَّ أنه سوف يتبَع هذا تطوُّراتٌ مُثيرة.

في وقتٍ لاحق أُشيعَ، ونحن نُعدُّ الخبرَ للنشر، أنَّه قد قُبِض بالفعل على السيد جون هيكتور مكفارلِن بتُهمة قتل السيد جونيس أولديكر. من المؤكد على أقلِّ تقديرٍ أنه قد أُصدرَت بحقِّه مُذكرة اعتقال. هذا وقد تضمَّنَ التحقيق الذي أُجري في نوروود المزيدَ من التطوُّرات المُنذِرة بالسوء؛ فبالإضافة إلى آثارِ الصراع في حُجرة البنَّاء التعيس الحظِّ فقد عُثِر على أنَّ النوافذَ الفرنسية لحُجرته (الواقِعة بالطابق الأرضي) كانت مفتوحة، وأنَّ هناك آثارًا على الأرض، وكأن شيئًا ضخمًا قد جُرَّ حتى كومة الحطب. وأخيرًا، يجزِم التحقيقُ بأنه عُثِرَ على رُفاتٍ مُتفحِّمٍ بين الرماد الفحمي الذي خلَّفَه الحريق. ذهبت تخميناتُ الشرطة إلى ارتكاب جريمة من أشدِّ الجرائم إثارة؛ حيث ضربَ المُتَّهمُ القتيلَ في غرفة نومه بهراوةٍ حتى الموت، وفتَّشَ أوراقه، وسحَب جُثته إلى كومة الحطب؛ ومن ثَمَّ أضرَم فيها النار لإخفاء جميع آثار الجريمة. وقد أُوكِل الإشرافُ على التحقيق الجنائي إلى المُفتِّش المُتمرِّس لستريد، من شرطة سكوتلاند يارد، وهو يتعقَّبُ الأدلَّةَ بحماسته وحصافته المعهودتَين.

استمَع شيرلوك هولمز إلى هذه القصة العجيبة وهو مُغلقٌ جَفنَيه وضامٌّ أنامِل أصابعه بعضها إلى بعض.

ثم قال بطريقته الفاترة: «إنَّ في القضية بعض النقاط المُثيرة للاهتمام بالتأكيد. هل لي أن أسأل، أولًا يا سيد مكفارلن، كيف لا تزال طليقًا، رغم وجود ما يكفي من الأدلَّة لتبرير اعتِقالك؟»

«إنَّني أُقيم مع والدَيَّ في تورينجتن لودج، بمقاطعة بلاكهيث، يا سيد هولمز، لكن اللَّيلةَ الماضية، اضْطُررتُ لعقد مُقابلة عملٍ في وقتٍ مُتأخرٍ جدًّا مع السيد جونيس أولديكر، فنزلتُ في فندقٍ في منطقة نوروود، وأتيتُ إلى المُقابلة من هناك. ولمْ أعلم أيَّ شيءٍ عن هذه القضية إلَّا وأنا في القطار، عندما قرأتُ ما سمِعتَهُ لتوِّكَ الآن، فأدركتُ من فوري الخطورةَ المُفزعةَ التي تكتنِف موقِفي، وهُرِعتُ لوضعِ القضية بين يدَيك. لا شكَّ لديَّ في أنه كان ينبغي أن أكونَ قد اعتُقلتُ إمَّا من مكتبي بلندن أو من بَيتي. لقد لاحَقَني رجلٌ من محطة مترو أنفاق لندن، ليس عندي شكٌّ … يا إلهي! ما هذا؟»

كان هذا صوت رنين الجرس، وقد تَبِعه على الفور وقعُ خطوات ثقيلة على الدَّرَج، وبعد لحظةٍ ظهرَ صديقُنا القديم لستريد عند مدخل الباب، ولمحتُ وراءَ كتِفِه رجُلًا أو اثنين من رجال الشرطةِ واقفَيْن بالخارج في ملابِسهما الرسمية.

قال لستريد: «السيد جون هيكتور مكفارلن؟»

فقام زبوننا التعيسُ ووجهُه شاحبٌ كالموتى.

«إنني أعتقلك بتُهمةِ قتلِ السيد جونيس أولديكر، المُقيم بمنطقة لووِر نوروود، عمدًا.»

التفتَ إلينا مكفارلن الْتِفاتةً يائسة، ثمَّ غاصَ في كرسيِّه مرةً أخرى مُنكسرًا.

قال هولمز: «انتظِر قليلًا يا لستريد؛ فحوالي نصف ساعة لا تُشكل فارقًا بالنسبة إليك، وقد كان الرجل على وَشك سرْد أحداث هذه القضية المُثيرة على مسامِعنا، عسى أنْ يُساعدنا هذا على حلِّها.»

فقال لستريد مُتجهِّمًا: «أظنُّ أنه لن تُوجَد صعوبة في حلِّها.»

«لكن مع ذلك، وإذا سمحتَ لي، فإنني مُتطلِّع جدًّا لسَماع قصته.»

قال لستريد: «حسنٌ يا سيد هولمز، من الصعب عليَّ أن أرفُضَ لك أيَّ طلب، فلقد ساعدتَ قوةَ الشرطةِ مرةً أو مرَّتَين فيما مضى. ونحن — شرطة سكوتلاند يارد — مَدينون لك بالشكر على معروفك، لكن يجِب في الوقت نفسه أن أبقى مع سجيني، وأنا مُلزَم بتحذيره أنَّ أيًّا مِمَّا قد يقوله سوف يُؤخذُ دليلًا ضدَّه.»

قال عميلُنا: «لا أطمَع فيما هو أكثر من هذا. كلُّ ما أطلبُه هو أن تَسمعوا وتتعرَّفوا على الحقيقة الكاملة.»

نظر لستريد إلى ساعته، وقال: «سوف أمنحُكم نصف ساعة.»

قال مكفارلن: «ينبغي أن أوضِّح أولًا أنني لم أكن أعرِف أيَّ شيءٍ عن السيد جونيس أولديكر. كان اسمُه معروفًا بالنسبة إليَّ، حيث تعرَّف إلى والدي منذ سنواتٍ عديدةٍ مضتْ، لكنَّ علاقتَهما فترتْ بمرور الزمن وانتهتْ؛ لذا، تفاجأت كثيرًا، عندما دخلَ إلى مكتبي في المدينة بالأمس، في حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر. لكنِّي دُهشتُ أكثر عندما أخبرَني بالغرَض من زيارته. كان يحمِل في يده عدَّةَ ورقاتٍ من مفكرة، تملؤها كتابةٌ أشبَه بالخربَشة — ها هي ذي — ووَضَعها على طاولتي.

وقال: «هاكَ وصِيَّتي. أريدُك، يا سيد مكفارلن، أن تَضعَها في صيغةٍ قانونيةٍ مناسبة. وسوف أجلس هنا ريثما تنتهي من هذه المُهمَّة.»

عكفتُ على نسخِها، ولك أن تتخيَّل دهشتي عندما وجدتُ أنه، مع بعض التَّحفُّظات، قد أوصى لي بجميع مُمتلكاته. كان رجلًا غريبًا ضئيل البِنية، يُشبِه حيوان ابن مِقْرَض، وكانت أهداب عينَيه بيضاء، وعندما تطلَّعتُ إليه وجدتُ عينَيه الرَّمادِيَّتَين الثاقبتَين مُثبتتَين عليَّ ومِلؤهُما تعبير مُتندِّر. كدتُ لا أُصدِّق حواسِّي وأنا أقرأ بنود الوصية، لكنه أوضح لي أنه كان أعزب بلا أقرِباء أحياء تقريبًا، وأنه قد تعرَّف إلى والديَّ في شبابه ولطالما سمع عنِّي أنني شابُّ جديرٌ جدًّا بالدَّعم وأنه واثِق أن ماله سوف يذهب لمن يستحقُّه. بالطبع، لمْ أستطع إلَّا أن أُتمتِم بعبارات الشكر مُتلعثِمًا. أتممتُ صياغة الوصية كما ينبغي، ووقَّعْنا عليها، وشهد عليها كاتبي. الوصيَّة هي تلك المكتوبة على الورقة الزرقاء، وهذه الوُرَيقات، كما أوضحتُ من قبل، هي المُسوَّدة. ثم أخبرَني السيد جونيس أولديكر بعد ذلك أنَّ هناك عددًا من المُستندات — عقود مبانٍ، وصكوك تمليك، وصكوك رهانات عقارية، وسند، وما إلى ذلك — التي كان من الضروري أنْ أطَّلعَ عليها وأعِيَها. وقال إنه لن يَطمئنَّ له بال حتى يُحسَم الأمر بالكامل، وألحَّ عليَّ أنْ أزورَه تلك الليلة في منزلِه في منطقة نوروود، وأن أُحضِرَ الوصيَّة معي لتسوية الأمور. وقال: «تذكَّر، يا بُني، لا تَبُح لوالدَيك بكلمةٍ واحدةٍ عن الأمر قبل حسمِ كلِّ شيء. فسوف نُبقي الأمرَ مُفاجأةً صغيرةً لهما.» كان الرجل مُصِرًّا جدًّا على هذه النقطة، وجعلني أتعهَّد مُخلصًا على الوفاء بها.

يُمكنك أن تتخيل، يا سيد هولمز، أنني لمْ أكن في حالةٍ ذِهنية تُؤهِّلني أن أرفضَ له أيَّ مَطلبٍ قد يَسألُنِيه؛ لقد كان وليَّ نِعمتي، وكان كلُّ ما أريده هو أن أُنفِّذَ رغباتِه بحذافيرها. لذا، بعثتُ برقيَّةً إلى أسرتي، أقول فيها إنني مُنشغلٌ بعملٍ مُهم، وأنه يتعذَّر عليَّ أنْ أعرفَ إلى متى قد أتأخَّر. كان السيد أولديكر قد أخبَرَني أنه يُريدُني أن أتناوَل العشاءَ معه في الساعة التاسعة؛ لأنه قد لا يكون في بيته قبل هذا التوقيت. ولكنِّي واجهتُ بعضَ الصُّعوبة في التعرُّف على بيته، حتى قارَبَت الساعةُ التاسعةَ والنصف قبل أن أصلَ إليه. ووجدته …»

قال هولمز: «على رِسْلِك! من فتح لك الباب؟»

«سيدةٌ في منتصف العمر، وهي، فيما أظن، مُدبِّرةُ منزلِه.»

«وأحسَبُ أنها هي التي ذكرَت اسمَك؟»

قال مكفارلن: «بالضبط.»

«أكمِلْ من فضلك.»

مسحَ مكفارلن جَبينَه المُخْضَلَّ ثم استأنفَ قصَّته:

«اصطحبتْني هذه السيدة إلى غُرفة جلوس أُعِدَّ فيها عشاءٌ زهيد، وبعد تناوُله أدخلَني السيد جونيس أولديكر إلى غرفة نومه، حيثُ تنتصِبُ هناك خِزانةٌ ثقيلة. فتَحَها السيد أولديكر وأخرجَ منها عددًا كبيرًا من المُستندات فَحَصْناها مَعًا. كانت الساعة بين الحادية عشرة والثانية عشرة عندما انتهَينا. نبَّهَني ربُّ المنزل أننا يجِب ألَّا نُزعجَ مُدبِّرةَ المنزل، فاصطحبَني إلى الخارج عبرَ نافِذته الفرنسية، التي كانتْ مفتوحةً طِيلة هذه المدَّة.»

سألَ هولمز: «هل كانت الستارة الأفقيَّة مُغلَقة؟»

«لا أستطيع أن أجزِم، لكنَّني أعتقدُ أنها كانتْ نِصف مُغلَقة. نعم، فأنا أذكُر كيف رفَعَها إلى أعلى كي يفتحَ مِصراعَ النافذة. لمْ أتمكن من العثورِ على عصايَ، فقال: «لا تقلق يا بُني؛ فأنا آمَلُ أن أراكَ كثيرًا الآن، وسوف أحتفِظ بعصاك رَيثما تعود لاستِرجاعها.» تركته هناك، وكانت الخِزانةُ مفتوحةً، والأوراقُ مَلفوفةً في رُزم فوق الطاولة. كان الوقت مُتأخِّرًا جدًّا بحيث لمْ أستطع الرُّجوع إلى بلاكهيث، فقضَيتُ الليلةَ في فندق أنِرلي آرمز، ولم أعرِف المزيد عن الأمر حتى قرأتُ عن قضيته المُروِّعة في الصباح.»

قال لستريد الذي ارتفعَ حاجِباه مرةً أو مَرتَين أثناءَ هذا الشرح المُثير للاهتمام: «أتودُّ أن تسأل عن أيِّ شيءٍ آخر يا سيد هولمز؟»

«ليس قبل أن أزور بلاكهيث.»

قال لستريد: «تقصِد نوروود.»

قال هولمز، وهو يبتسمُ ابتسامته المُلغِزة: «آه، أجل؛ لا شكَّ أنَّ هذا هو ما كنتُ أقصِده.» لقد أدركَ لستريد — من خلال عدد كبير من التجارب، أكبر من أن يَحرِصَ على الاعترافِ به — أنَّ ذاكَ الذكاء الحاد كالسيفِ كان يستطيعُ أنْ ينفُذَ فيما يعدُّه هو مُستغلِقًا على الفهم. ورأيته ينظرُ إلى رفيقي نظرةً مُفعَمة بالفضول.

قال لستريد: «أودُّ أن أتحدَّث معك الآن سيد شيرلوك هولمز. والآن يا سيد مكفارلن، يُوجَد بالباب اثنان من رجالي وعربةٌ في انتظارك.» نهضَ الشابُّ التعيسُ وخرجَ من الغُرفة وهو يَرمُقنا بنظرةِ استِجداء أخيرة، فاقتاده الضابِطان إلى العربة، لكنَّ لستريد بقِي.

كان هولمز قد التقطَ الوُرَيقات التي تُشكل مُسوَّدة الوصية، وأخذَ يُطالِعها وعلى وجهه اهتمام بالِغ.

قال هولمز وهو يدفعها: «هناك بعض المُلاحَظات بشأن هذه الوثيقة يا لستريد. أليس كذلك؟»

فنظر إليها المُفتِّش وعليهِ تعابيرُ الحيرة.

وقال: «يُمكنني قراءة السطورِ القليلة الأولى، وهذه التي في منتصف الصفحة الثانية، وسطرٍ أو اثنين في النهاية. فتلك السطورُ واضحةٌ كحروف المطبعة، لكنَّ الكتابة الواقعة فيما بينها رديئة جدًّا، وهناك ثلاثةُ مواضعٍ لا أستطيعُ قراءتها مُطلقًا.»

قال هولمز: «وماذا تستنتجُ من ذلك؟»

«حسنٌ، أخبِرني أنتَ ماذا تستنتجُ منه؟»

«أستنتِجُ أنها كُتبت في قطار؛ فالخطُّ الجيِّدُ يُمثِّل المحطات، والخطُّ الرديء يُمثِّل الحركة، والخطُّ البالغُ السوءَ يمثلُ المرورَ من فوقِ مُحولَّاتِ السكة الحديدية. بوُسْع خُبراء علم الخطوط الإعلان فورًا عن أنها قد صِيغتْ على أحد خطوط السكك الحديديةٍ المارَّة عبر ضاحية ما، حيثُ لا يُمكن أن يُوجَد في أيِّ مكانٍ — غير الجوارِ المُباشرِ لمدينةٍ كبرى — مثلُ هذا التتابُع السريع في محولَّات السكة الحديدية. وإذا افترَضْنا أنَّ صياغةَ الوصيَّةِ استغرقَتْ وقتَ الرحلةِ كلَّه، فالقطار إذن كان قطارًا سريعًا لم يتوقَّف إلَّا مرةً واحدةً بين محطةِ نوروود ومحطة مترو أنفاق لندن.»

شرع لستريد يضحكُ.

ثم قال: «إنك تَغلبني يا سيد هولمز عندما تبدأ في طرحِ نظرياتك. ما تأثيرُ هذا على القضية؟»

«حسنٌ، إنَّه يُعزِّز قصةَ الشابِ من حيث إنه يُثبِت أن جونيس أولديكر قد صاغَ الوصيةَ في رحلته بالأمس. وهذا غريب — أليس كذلك؟ — أنْ يصوغَ رجلٌ مثلَ هذه الوَثيقة البالِغة الأهمية بهذه الطريقة المُغرِقة في العشوائية. وهذا يدلُّ على أنَّه لم يكن يَعتقِد أنها ستكون ذات أهميةٍ عمليَّةٍ كبيرة. فلو صاغَ رجلٌ وصيَّةً وهو لا ينوي لها أن تكون نافِذة المفعول أبدًا لَصاغها بهذه الطريقة.»

قال لستريد: «حسنٌ، لقد خَطَّ شهادة وفاتِهِ بيده في الوقت نفسه.»

«أوه! هل تعتقد ذلك؟»

«ألا تعتقِد أنت ذلك؟»

«حسنٌ، فهذا جائزٌ جدًّا، لكنَّ القضيةَ لا تزالُ غيرَ واضحةٍ لي.»

«غيرُ واضحة؟ حسنًا، إذا لمْ تكن هذه القضية واضحةً، فماذا قد يكون واضِحًا؟ ها هو ذا شاب يعلمُ فجأةً أنه إذا تُوفِّيَ رجلٌ كهل بعينِه فسوفَ يرثُ ثروة. فماذا يفعل؟ لن يُخبِر أيَّ أحدٍ بأيِّ شيء، لكنَّه يُعدُّ لرؤية عميله في تلك الليلة تحتَ ذريعةٍ ما، وينتظِر حتى ينام الشخصُ الوحيدُ الآخر في المنزل، ثمَّ يقتُل الرجل وهو بمُفرده في غُرفته، ويُحرِق جثَّتَه مع كومة الحطب، ثم يُغادِر إلى فندقٍ مُجاوِر. إنَّ بُقَع الدَّم في الغرفة طفيفة للغاية وكذلك على العصا. ربما ظنَّ أنَّ جريمته يُمكن أن تكتمِل دون إراقة للدماء، وكان يأمل في أنْ يُخفيَ إحراقُ الجثةِ آثارَ طريقةِ مَوتها كاملةً؛ تلك الآثارُ التي كانَ ينبغي — لسببٍ ما — أنْ تُشيرَ إليه. أليس هذا كلُّه واضِحًا؟»

قال هولمز: «إنَّ ما يُثير دهشتي عزيزي لستريد، هو ما تتَّسِم به المسألة من ذلك الوضوح الشديد. إنك لا تُضيفُ القُدرَة على التخيُّل إلى مُميزاتك العظيمة الأخرى، لكنك لو استطعتَ للحظةٍ واحدةٍ أن تضع نفسكَ مكان هذا الشاب، فهل كنتَ ستختارُ الليلةَ التاليةَ لكتابةِ الوصيَّةِ تحديدًا لارتِكاب جريمتك؟ أَمَا كان سيبدو لك خطيرًا أنْ تخلُقَ رابطًا وَثيقَ الصِّلةِ إلى هذا الحدِّ بين الحدَثَيْن؟ ثُمَّ، هل كُنتَ ستختارُ وقتًا معلومًا فيه أنك كُنتَ في المنزل وقد سمحَتْ لك خادِمةٌ بالدخول؟ وأخيرًا، هل كُنتَ ستتكبَّد المشقَّة العظيمة لإخفاءِ الجُثة ثم تترُك عصاكَ، برغم هذا، كي تُشيرَ إلى أنك أنت المُجرِم؟ اعترِف يا لستريد، أنَّ هذا كلَّه مُستبعَدُ الوقوع جدًّا.»

«بخصوص العصا، سيد هولمز، فإنك تعلَم كما أعلم أنَّه غالبًا ما يكون المُجرم مُرتبكًا، وأنه يفعل أشياءَ ما كان رجلٌ هادئُ الأعصاب ليفعَلَها. من المُرجَّح جدًّا أنه كانَ يخشى العودةَ إلى الغرفة، وإلَّا فأعطِني نظريةً أخرى تتناسَب مع الوقائع.»

قال هولمز: «أستطيع بسهولةٍ بالِغة أن أُعطيَك ستَّ نظريات. إليك، على سبيل المثال، نظرية مُمكنة جدًّا بل ومُرجَّحة الحُدوث، وسأقدِّمُها هديةً مجانيةً لك: يُظهر الرجل العجوز أوراقًا ذات قِيمةٍ واضحة، فيراها صعلوكٌ مارٌّ من خلال النافذة، التي كانتْ ستارتها نِصفَ مُغلقة فقط. يخرُجُ المحامي، فيدخل الصعلوك! ويُمسِك بعصًا يُلاحظُ وجودَها هناك، ويقتُل أولديكر، ثم يُغادِر بعد إحراق الجثة.»

«ولِمَ قد يُحرِقُ الصعلوك الجثة؟»

«قياسًا على ذلك، فلِمَ قد يُحرِقها مكفارلين؟»

«لإخفاءِ دليلٍ ما.»

«ربما أراد الصعلوك أن يُخفيَ وقوعَ أيَّةِ جريمةِ قتلٍ من الأساس.»

«ولِمَ لمْ يَستولِ الصعلوك على أيِّ شيء؟»

«لأنها كانتْ أوراقًا لا يستطيعُ المُساوَمة عليها.»

هزَّ لستريد رأسَه، ورغم هذا فقد بدا لي أنَّ طريقته صارت أقلَّ اصطِباغًا بالثِّقة المُطلَقة من ذي قبل.

«حسنٌ، سيد شيرلوك هولمز، يُمكنك البحث عن ذلك الصعلوك، ورَيثما تجِده فسوف نحتفِظ بصاحبنا هذا. سوف يُظهر المُستقبل أي نظرية هي الصحيحة. انتبِه فقط لهذه النقطة، يا سيد هولمز: على حدِّ علمِنا لمْ يُزِل أحدٌ أيًّا من الأوراق، والسجين هو الرجل الوحيد في العالَم الذي ليس لديه ما يدفعه إلى إزالتها، وذلك لأنه كان وريثًا قانونيًّا وكانَت ستَئُول إليه على أيَّة حال.»

بدا أنَّ صديقي قد بُوغِت بهذه الملاحظة، وقال: «لا أقصد إنكارَ أنَّ الأدلَّة — بطريقةٍ ما — تؤيِّد نظريَّتك تأييدًا قويًّا للغاية، إنما أُريد أن أُشير فقط إلى وجود نظريَّاتٍ مُمكنة أخرى. وكما تقول، فسيفصِل المُستقبل بيننا. عِمتَ صباحًا! أعتقدُ أني سأمُرُّ بنوروود خلال هذا اليوم لأرى كيف تُبلي في التحقيق.»

نهضَ صديقي إثرَ مُغادرةِ المُفتِّش وأخذ يُرتِّب لعمل اليوم بهمَّةِ رجُلٍ تنتظرُه مُهمَّةٌ تَليق به.

قال، وهو يَجدُّ في ارتداء مِعطفِه الفراك: «لا بُدَّ أن تكون أول تحرُّكاتي يا واطسون، كما قلتُ، في اتِّجاه مُقاطعة بلاكهيث.»

«ولِمَ لا تكون باتِّجاه نوروود؟»

«لأن لدَينا في هذه القضية حدثًا غريبًا وقعَ مُباشرةً عقِبَ حدثٍ غريبٍ آخر، والشرطةُ واقِعةٌ في خطأِ تركيزِ انتِباهِها على الحدثِ الثاني؛ إذ صادف كونه الحدثَ الجنائي بالفعل. لكن من البديهي بالنسبة إليَّ أنَّ الأسلوبَ المنطقيَّ لمُعالجةِ هذه القضية هو البدءُ بمُحاولة إلقاء بعض الضوء على الحدَث الأول — الوصيةِ الغريبة، التي كُتِبتْ على نحوٍ مُفاجئ جدًّا، ولوريثٍ غيرِ مُتوَقَّعٍ تمامًا، فقد يُسهِمُ هذا في إيضاحِ ما تلاه. ولا يا رفيقي العزيز، لا أظنُّ أنَّك تستطيعُ مُعاوَنتي؛ فليس هناك احتِمالٌ لوقوع خطر، وإلَّا لما جال بخاطري حتَّى أنْ أتزحزحَ من مكاني من دونك. إنني واثقٌ أنَّني سوف أستطيع أن أُخبِرك عندما أراكَ في المساءِ أنني قد تمكَّنتُ من عمل شيءٍ لأجل هذا الشاب السيِّئِ الحظِّ الذي احتمى بي.»

كان الوقتُ مُتأخرًا عندما عاد صديقي، واستطعتُ باستِراق النظر إلى وَجهه الشاحِبِ القَلِق أن أرى أنَّ الآمالَ العريضة التي بدأَ بها لمْ تتحقَّق. ظلَّ هولمز لساعةٍ يَعزِف نغماتٍ ثابتة على آلةِ الكمان الخاصَّة به، مُحاوِلًا تهدئة مِزاجه المُتكدِّر. وفي النهاية طرحَ الآلةَ أرضًا وانغمَس في وصفٍ مفصَّلٍ لحظوظه العاثِرة.

«الأمرُ كُلُّه آخذٌ في السوء يا واطسون؛ الأمرُ كلُّه يتَّجِه إلى أسوء ما يُمكن أن يبلُغه. لقد أظهرتُ وَجهًا صفيقًا أمام لستريد، لكنْ، لعَمْري، إنني أعتقِد أنَّ الرجل يَمضي هذه المرَّة في المَسار السليم بينما نسلُك نحن الطريق الخاطئ. إنَّ مَلكاتي الحَدْسية كلها تسير باتجاهٍ والحقائقُ جميعها تسير باتجاهٍ آخر، وأخشى كثيرًا ألَّا تكون هيئاتُ المُحلَّفين البريطانية قد أحرزتْ بعدُ تلك الدَّرجةَ من الذكاء بحيثُ يُعطون الأولويةَ لنظريَّاتي على حساب حقائق لستريد.»

«هل ذهبتَ إلى مُقاطعة بلاكهيث؟»

«نعم يا واطسون، لقد ذهبتُ إلى هناك، واكتشفتُ سريعًا جدًّا أنَّ الراحِل المأسوف عليه أولديكر كان وغدًا كبيرًا. كان الوالِد قد خرَج للبحث عن ابنه، وكانت الأم في البيت، وهي امرأةٌ ضئيلة البِنية، مُفرطة المشاعر، زرقاء العينَين، ترتجِفُ خَوفًا وسُخطًا. وبالتأكيد، ما كانتْ لتُقِرَّ ولو حتى باحتماليةِ أن يكون ابنُها قد أذنب، لكنها لمْ تُبدِ دهشةً ولا أسفًا على مصير أولديكر، بل على العكس تمامًا، لقد تكلَّمتْ عنه باحتقارٍ شديد لدرجةِ أنها كانتْ — ودون وعيٍ منها — تُعزِّزُ دعوى الشرطة ضدَّ ابنها إلى حدٍّ بعيد؛ لأنه، بالتأكيد، لو كان ابنُها قد سمِعها تتكلَّم عن الرجل بهذه الطريقة لَأوجَدَ هذا فيه نُزوعًا إلى الكراهية والعُنف. فلقد قالتْ: «لقد كان أكثرَ شبهًا بالقِرد الخبيث الماكِر منه بالإنسان، وكان دائمًا كذلك، منذ أن كان شابًّا.»

«وهل كنتِ تعرفينه في ذلك الحِين؟»

«نعم، لقد كنتُ أعرِفه جيدًا؛ فقد كان يَتودَّد إليَّ قديمًا طالبًا الزواج منِّي، والحمد لله أنني أُلهِمتُ الابتِعادَ عنه والزواجَ برجُلٍ أفضل منه، وإن كان أفقر منه. لقد كنتُ خطيبتَه، يا سيد هولمز، حين سمعتُ قصةً صادِمةً تصفُ كيفَ أطلقَ قطةً لتنقضَّ على قفَص طيور، وقد فزعتُ جدًّا من قَسوته الوَحشية بحيث لمْ أعُد أجِد أيَّ شيءٍ يُبرِّر بقائي معه.» وأخذَت تفتِّش في مكتب، ثم أبرزَتْ من توِّها صورةَ امرأة، وقد طُمِستْ وشُوِّهتْ بطريقةٍ مُخزية باستِخدام سكين. وقالت: «هذه صُورتي الخاصة، وقد أرسلَها إليَّ على هذه الحالة، مصحوبةً بلَعَناته، صبيحة زفافي.»

قلتُ: «حسنٌ، على أيَّةِ حالٍ لقد سامحكِ الآن؛ حيثُ تركَ لابنِكِ مُمتلكاتِه كلَّها.»

فصرختْ بحسمٍ كامل: «لا أنا ولا ابني نُريد أيَّ شيءٍ من جونيس أولديكر، لا في حياته ولا بعد موته. إنَّ في السماء ربًّا يا سيد هولمز، وهذا الربُّ الذي عاقبَ ذاكَ الرجلَ الخبيث هو نفسُه مَن سيُظهِر — في الوقت المُناسب — أنَّ يدَي ابني بريئتانِ من دَمِه.»

حسنٌ، لقد تتبَّعتُ دليلًا أو اثنين، لكنْ لمْ أستطِع الوصولَ إلى أيِّ شيءٍ يُمكنه تعضيدَ فرضيَّتِنا، بل توصَّلتُ إلى عدةِ نقاطٍ تستطيع أنْ تُعارِضها. فتوقفتُ عن المُحاولة في النهاية وغادرتُ إلى نوروود.

هذا المكان، ديب دين هاوس، فيلَّا حديثة كبيرة مَبنية من الطوب اللافت للنظر، وهي تقوم في الجُزء الخلفي من مساحةٍ من الأرضِ التابعةِ لها والمُحيطةِ بها، ويمتدُّ أمامها مَرْجٌ من آجامِ نباتات الغار. أما في جِهة اليمين وعلى مسافةٍ ما خلفَ الطريق كان يقَع مَخزن الأخشاب الذي حدثَ فيه الحريق. وها هو ذا مُخطَّطٌ تقريبيٌّ للفيلَّا على وَرقةٍ من دفترِ مُلاحظاتي. هذه النافذةُ على اليسار هي النافذة المُطِلَّة على غرفة أولديكر. يُمكنك النظرُ داخلَها من مَوضعك في الطريق، كما ترى. هذه تقريبًا هي مسحةُ العَزاء الوحيدة التي حصلتُ عليها اليوم. لمْ يكن لستريد هناك، لكنَّ كبيرَ ضباطه أدَّى الواجب؛ فقد أنجزوا لتوِّهم اكتشافًا عظيمًا. لقد أمضى الرجال الصباحَ يُنقِّبون بين رماد كومة الحطب المُحترقة، وبالإضافةِ إلى البقايا العضويةِ المُتفحِّمة فقد عثروا على عدَّة أقراصٍ معدِنية مُتغيِّرة اللَّون. وقد فحصتُها بعنايةٍ، ولا شكَّ في أنها كانتْ أزرارَ بنطلون. بل لاحظتُ أيضًا أن أحدَها كان مَوسومًا باسم «هايامز» الذي كان الخياطَ الخاصَّ بأولديكر. مسحتُ بعد ذلك المرجَ بعنايةٍ شديدةٍ بحثًا عن إشارات وآثارٍ، لكنَّ هذا الجفاف قد جعلَ كلَّ شيءٍ في صلابة الحديد. لمْ يكن هناك ما يُمكن رؤيتُه باستثناء أنَّ جسمًا أو حزمةً ما كانت قد سُحِبتْ عبر سياجٍ مُنخفِضٍ من شُجيراتِ الحنَّاء موازٍ لكومة الحطب. كان هذا كله، بالتأكيد، يتناسَب مع النظرية الرسمية التي تتبنَّاها الشرطة. ظللتُ أزحَفُ فوق المرْج وشمسُ أغسطس تلفَح ظهري، ولكنِّي قمتُ بعد ساعةٍ ولمْ أزدَدْ بصيرةً عن ذي قبل.

حسنٌ، بعد هذا الإخفاق التام توجَّهتُ إلى غرفة النوم وفتَّشتُها هي الأخرى. كانت بُقَعُ الدم ضئيلةً جدًّا، مُجرَّد بُقَع ولطخات، لكنها تبدو حديثةَ العهد بلا شك. وقد أُزِيلت العصا، لكنَّ علاماتِ الدم عليها كانتْ قليلةً كذلك. ما من شكٍّ أن العصا هي ملك عميلِنا، وهو مُقِرٌّ بهذا. يُمكن تمييزُ آثار أقدامِ كلا الرجُلَين على السجاد، لكن لا وجودَ لِآثارِ أقدام أيِّ شخصٍ ثالث، وهي حُجةٌ أخرى لصالِح الطرف الآخر. لقد كانوا يَجمعون نقاط التقدُّم طوال الوقت بينما ظللْنا نحن نراوِح مكاننا.

لم يَلُح لي غيرُ بريقِ أملٍ واهنٍ وحيد، لكنَّه لم يُسفِر عن أي شيء. فقد فحصتُ مُحتوَيات الخِزانة، التي كان معظمُها قد أُخرِج وتُرِك على المِنضدة. كانت الأوراقُ مُجمَّعةً في أَظرُفٍ مختومة، وقد فَتحت الشرطةُ واحدًا أو اثنين منها، لكنَّها — وبقدر ما استطعتُ أن أُقيِّمها — لمْ تكن لها أيُّ قيمةٍ كبيرة، ولمْ يكُن دفتر الحساب المصرفي يدلُّ على تمتُّعِ السيد أولديكر بهذا القدرِ الكبير من الثراء. لكنْ بدا لي أنَّه لمْ تكن الأوراقُ جميعُها موجودة؛ حيث كانت هناك إشاراتٌ إلى بعض المُستندات — وربما الأكثر قيمةً — التي لمْ أستطِع أن أجدها. ويُمكن لهذا بالطبع، إذا استطعْنا إثباتَه على نحوٍ قاطع، أنْ يُحوِّلَ حُجَّةَ لستريد ضدَّه، فمَن ذا الذي يرغبُ في سَرِقة شيءٍ إذا كان يعلمُ أنه عمَّا قريبٍ سيرِثه.

وأخيرًا، وبعد أنْ سبرتُ غَورَ كلِّ دليل آخَر ولمْ أعثر على أيِّ خيط، جرَّبتُ حظِّي مع مُدبِّرة المنزل؛ السيدة ليكسينجتون، هكذا تُدعى، وهي سيدةٌ ضئيلة البنية، داكِنة البشرة، قليلة الكلام، تنظُر إليك من طرفَيْ عينَين مُريبتَين. كان بإمكانها أن تُخبِرنا شيئًا ما لو أرادتْ، أنا على قناعةٍ بذلك، لكنها كانتْ تكتمُ أسرارَها كالقبور. أجل، لقد استقبَلَت السيد مكفارلن في التاسعة والنصف، وودَّتْ لو أنَّ يدَها قد شُلَّت قبل أن تفعل ذلك، ثم أوَت إلى فراشِها في العاشرة والنصف. كانتْ غرفتُها في أقصى الجانب الآخر من المنزل، فلمْ تستطِع سماعَ شيءٍ ممَّا حدَث. كان السيد مكفارلن قد ترك قُبَّعته، وفي أقصى ما يبلُغه ظنُّها ترَك عصاه أيضًا، في الغرفة. لم يُوقِظها إلا صوتُ إنذار الحريق. لقد قُتِلَ سيِّدُها العزيز المسكين بالتأكيد. أكان لدَيه أيُّ أعداء؟ حسنٌ، كلُّ رجلٍ له أعداء، لكنَّ السيد أولديكر كان مُنعزِلًا للغاية عن الآخرين، ولمْ يكنْ يُقابل الناسَ إلَّا بخصوص العمل. وحين رأت الأزرارَ كانت على يقينٍ من أنها أزرارُ الثِّياب التي كان يرتديها الليلة الماضية. كانت كومة الحطب جافَّةً جدًّا؛ حيث إن السماء لمْ تُمطِر منذ شهر، ولذا اشتعلتْ كأنها الصُّوفان، وعندما وَصلَت السيدة ليكسينجتون إلى مَوقع الحادِث لمْ يكن هناك ما يُمكن رؤيتُه غير ألْسِنة اللَّهب، وقد شمَّتْ هي ورجالُ الإطفاء جميعُهم رائحةَ الجسدِ المُحترِق المُنبعثةَ منه. وفيما يَخصُّ الأوراق، لم تعلمْ أيَّ شيءٍ عنها، ولا عن شُئون السيد أولديكر الخاصة.

«هكذا، عزيزي واطسون، ذاك هو تقريري عن إخفاقي. ولكن … ولكن …» وأطبَقَ هولمز يدَيه النَّحيلتَين وقد انتابَتْه فجأةً حالة من اليقين الراسِخ، وقال: «أنا مُوقنٌ أنَّ هذا كلَّه غير صحيح. قلبي يُحدِّثُني بذلك. هناك شيءٌ ما لمْ يتَّضِح، ومُدبِّرةُ المنزل تلك تعرِفه. كانَ هُناكَ ما يُشبِه التحدِّي الواجِم في عينَيها، الذي لا يُرافِق إلَّا التَّستُّر المُتعمَّد على جريمة ما. ومع ذلك، فلا طائل من وَراء الحديث عن الأمر أكثر من هذا يا واطسون، لكنْ إذا لمْ يُواتِنا شيءٌ من حُسن الحظِّ فإنَّني أخشى حينئذٍ أن قضيَّة اختفاء نوروود لن تظهَر في سِجلِّ نجاحاتنا، وهو أمر أتوقَّع أنَّ الجمهور الصَّبور سيكون عليه أن يتقبَّلَه عاجِلًا أم آجلًا.»

قلتُ: «من المؤكد أن هيئة الشاب سوف تنجَح في استِعطاف أيَّةِ هيئةِ مُحلَّفين. أليس كذلك؟»

«هذه حُجةٌ يكتنِفُها الخطرُ، عزيزي واطسون. أتَذْكرُ ذلك القاتِلَ الفظيع، بيرت ستيفنز، الذي أراد منَّا أن نُخلِّصه من العقوبة سنةَ ١٨٨٧؟ أكان هناك شابٌّ من طُلَّاب مدارس الأحد أرقَّ أخلاقًا منه قَط؟»

«هذا صحيح.»

«إذا لمْ ننجحْ في إيجادِ نظريةٍ بديلةٍ فسيضيعُ هذا الشاب. إنكَ لا تكاد تجِدُ ثغرةً في القضية التي يُمكن الآن طرْح جميع حيثياتها ضدَّه، وقد أسهم كلُّ تحقيقٍ إضافيٍّ في تعزيزِها. بالمُناسبة، فإنَّ هناكَ ملحوظةً صغيرةً لافتةً للانتباه بخصوص تلك الأوراق ويمكنُ أن نتَّخِذَها نقطةَ انطلاقٍ لتحقيقنا: فعند فحص دفتر الحساب المصرفي، وجدتُ أنَّ انخِفاضَ حالةِ الرصيد راجعٌ في الأساس إلى تحرير عددٍ كبيرٍ من الشيكات المصرفية على مدار العام الماضي لصالِح السيد كورنيليس. وأُقرُّ بأنني مُتشوِّقٌ لمَعرفةِ من عساهُ يكونُ السيد كورنيليس هذا كي يعقِدَ معه بنَّاء مُتقاعدٌ مثلَ هذه المُعاملات المالية الضخمة. هل من المُمكن أن تكون له يدٌ في القضية؟ ربما كان كورنيليس سمسارًا، لكننا لمْ نجِد أيَّ صكٍّ يتطابَق مع هذه المدفوعات الكبيرة. نظرًا لإخفاقي في إيجاد أيِّ دليلٍ آخر، فينبغي أنْ تتَّجهَ تحرِّياتي الآن إلى إجراءِ استِعلامٍ في البنك عن ذلك السيد الذي صرَفَ تلك الشيكات. ولكنِّي أخشى، يا رفيقي العزيز، أن تنتهيَ قضيَّتُنا نهايةً غير مُشرِّفة يُعدِمُ فيها لستريد عميلَنا شنقًا، وسيكون هذا بالتأكيد انتِصارًا لشرطةِ سكوتلاند يارد.»

لا أدري مِقدارَ ما حصل عليه شيرلوك هولمز من النومِ تلكَ الليلة، ولكن عندما نزلتُ لتناوُلِ الإفطار وَجدتُه شاحِبًا مُنهَكًا، وقد أصبحَت عيناهُ المُتألِّقتان أكثرَ تألُّقًا لِمَا أحاطَ بِهما من ظِلالٍ قاتمة. كانتْ أعقابُ السجائر والطبعات الأولى من جرائد الصباح مُبعثرةً فوق السجاد المُحيط بكرسيِّه، وعلى المِنضدةِ برقية مفتوحة.

سألَ وهو يَقذِفُ بالبرقيةِ إليَّ: «ما رأيكَ بهذه، يا واطسون؟»

كانتْ من مُقاطعةِ نوروود، وكان فيها:

ظهور دليل جديد مُهم. إدانة مكفارلِن ثابِتة لا محالة. أنصحُك بتركِ القضية.

لستريد

قلتُ: «تبدو نبرةُ الكلامِ جادَّة.»

فأجاب هولمز، وعلى وَجهه ابتسامة ساخِرة: «إنَّه لستريد يتشدَّق بصَيحاتِ النصر التافِهة. لكن ربما لا يزال تركُ القضية سابقًا لأوانه. على كلِّ حال، فإنَّ الدليلَ الجديدَ المُهِمَّ سلاحٌ ذو حدَّين، وربما يُصيب في اتِّجاهٍ مُخالفٍ تمامًا لذاكَ الذي يَتخيَّله لستريد. تناولْ فُطوركَ يا واطسون، وسوف نَخرُج معًا ونرى ما يُمكننا فعلُه. فأنا أشعرُ وكأنني سأحتاجُ إلى مُرافقتِك ودعمِك المعنوي اليوم.»

لمْ يتناولْ صديقي نفسه إفطارَه، حيث كانتْ إحدى عاداته الغريبة أنه لمْ يكن يسمح لنفسه بِتناوُل أيِّ طعامٍ عندما يكون في أكثر أوقاته انفِعالًا، وقد رأيتُه يستغلُّ في هذا قُوَّتَه الحديديةَ حتَّى غُشِيَ عليه من شدَّة الإعياء. «لا يُمكنني الآن إهدارُ طاقتي ولا قوَّة أعصابي في عملية الهَضم.» هكذا كان ردُّ هولمز على اعتِراضاتي الطبيَّة. ولذلك، لمْ أُفاجأ في هذا الصباح عندما تركَ وَجبتَه التي لمْ تُمسَّ وانطلَقَ معي إلى نوروود. كان حشدٌ من المُتفرِّجين المَهووسين بتَتَبُّعِ أخبار الحوادث لا يزال مُتجمِّعًا حول منزل ديب دين هاوس، الذي كان فيلَّا كبيرةً واقعةً بضاحية المدينة تمامًا كما تخيَّلتُه. استقبلَنا لستريد عندَ البوابة، بوجهٍ مُتهلِّل بالنَّصر وهيئةٍ مُنتشِية بالظَّفَر إلى حدِّ المُبالَغة.

صاح لستريد مُتسائلًا: «حسنٌ سيد هولمز، ألمْ تُثبِتْ بعدُ أنَّنا مُخطئون؟ هل وجدتَ ذلك الصعلوك؟»

فأجاب رفيقي: «لمْ أُكوِّن أيَّ استِنتاج على الإطلاق.»

«لكننا كوَّنَّا استنتاجاتِنا بالأمس، والآن ثَبتتْ صحتُها؛ لذا يجِبُ عليك الاعتِرافُ بأننا تقدَّمْنا عليك قليلًا هذه المرَّة، يا سيد هولمز.»

قال هولمز: «إنَّ هيئتكَ تؤكدُ وقوعَ شيءٍ غيرِ عادي.»

فضحِك لستريد بصوتٍ عالٍ، وقال: «إنَّ كراهيَّتك للهزيمة لا تزيدُ عن أيِّ واحدٍ منَّا، لكن لا يُمكن للمرءِ أن يتوقَّعَ أنْ تسير الأمورُ على هواه دائمًا. أليس كذلك يا دكتور واطسون؟ اتبَعوني من فضلِكم أيها السادة، فأنا أعتقدُ أنني أستطيعُ أن أُقنِعكم، وعلى نحوٍ حاسمٍ، أنَّ جون مكفارلن هو من ارتكَب هذه الجريمة.»

قادَنا لستريد عبر الرَّدهة، ومنه إلى قاعةٍ مُظلِمةٍ في الجانب الآخر.

قال لستريد: «هذا هو المكان الذي لا بُدَّ أنَّ الشابَّ مكفارلن قد خرَج إليه لجلْبِ قُبَّعته بعد تنفيذ الجريمة. والآن، انظروا إلى هذا.» أشعلَ لستريد عودَ ثقابٍ بطريقةٍ درامية مُفاجئة وكشفَ بضوئه بقعةَ دمٍ على الحائطِ المَطليِّ بالكلس. وعندما قرَّبَ عودَ الثقاب اكتشفتُ أنها كانتْ أكثر من مُجرَّد بُقعة. كانتْ بصمةَ إبهامٍ واضِحة.

انْظر إلى ذلك بعدسَتِك المُكبِّرةِ يا سيد هولمز.»

«نعم، ها أنا أفعل.»

«أتعرِفُ أنه لا تتطابَقُ بصْمَتا إبهامَين؟»

«سمعتُ بشيءٍ من هذا القبيل.»

«حسنٌ إذن، هلَّا تفضَّلتَ بمُضاهاةِ تلك البصمة بهذه الطبعة الشَّمعِية لبصمة إبهامِ مكفارلن الأيمن، التي أمرتُ بنَسخِها هذا الصباح؟»

وعندما قرَّبَ البصمةَ الشمعيةَ من بُقعةِ الدَّمِ لمْ يتطلَّب الأمرُ عدسةً مُكبرةً للتأكُّدِ من أن الاثنتَين كانتا من الإصبع نفسها بلا شك. بدا لي جليًّا أنَّ عميلنا البائس قد هلَك.

قال لستريد: «ذلك دليل حاسِم.»

فرددتُ لا إراديًّا: «نعم، إنه حاسِم.»

وقال هولمز: «إنه حاسم.»

جذبَ شيءٌ ما في نبرةِ صوتِه أُذني، فاستدرتُ كي أنظرَ إليه. لقد اعترى وجهَه تغيُّرٌ عجيب، فقد كانَت ملامِحه تُصارِع شُعورًا داخليًّا بالبهجة. كانت عيناه تلمَعان كالنجوم، وقد بدا لي أنه كان يُحاوِل باستماتةٍ أنْ يكبحَ نوبةً من الضحك الهيستيري.

ثم قال أخيرًا: «يا للعَجَب! يا للعَجَب! حسنٌ الآن، من كان عساه أن يُصدِّق ذلك؟ وكم بإمكان المظاهر أن تكون خادِعة، بالتأكيد! يا له من شابٍّ يبدو للرائي لطيفًا! إنه درْس يعلِّمُنا ألَّا نثِقَ في أحكامنا الشخصية. أليس كذلك يا لستريد؟»

فقال لستريد: «نعم، فبعضُنا كثير المَيل إلى الثِّقة المُفرِطة في ذاته يا سيد هولمز.» كانت غطرسة الرجُل مُستفزَّةً، لكنَّنا لمْ نستطِع التعبير عن استيائنا منها.

«يا له من تصرُّفٍ حكيم أنْ يضغطَ هذا الشابُّ إبهامه اليُمنى على الحائط وهو يأخُذ قُبَّعته من على المِشجَب! وإنه، علاوة على ذلك، لتَصرُّفٌ طبيعي جدًّا، إذا أعملتَ فيه عقلك.» كان هولمز هادئًا ظاهريًّا، لكنَّ جِسمه كلَّه كان ينتفِض وهو يتحدَّثُ انتِفاضة من يكبِتُ انفِعالَه. «بالمناسبة، يا لستريد؛ من قام بهذا الاكتِشاف الرائع؟»

«إنها مُدبِّرة المنزل، السيدة ليكسينجتون، هي التي لفَتَت انتِباهَ شُرطيِّ الدَّورية المسائية لهذا.»

«وأين كان شُرطي الدورية المسائية؟»

«لقد ظلَّ قائمًا على حراسة غرفة النوم حيث ارتُكِبت الجريمة، كيما يتأكَّد أن شيئًا لم يُمَس.»

«لكنْ لمَ لمْ ترَ الشرطةُ هذه البصمةَ بالأمس؟»

«حسنٌ، لأنه لمْ يكن لدَينا دافِع مُحدَّد لفحص القاعة فحصًا دقيقًا. ثم إنها لمْ تكن في مكانٍ ظاهرٍ جدًّا، كما ترى.»

«كلا، كلا، بالطبع لا. أحسَب أنه ما من شكٍّ في أن البصمة كانت هناك بالأمس. أليس كذلك؟»

نظرَ لستريد إلى هولمز وكأنه يعتقِد أنه قد فقدَ صوابه، وأعترِف أنني شخصيًّا كنتُ مُتفاجئًا بكلا الأمرين؛ طريقتُه الجذِلة وملاحظاته الجزافية.

قال لستريد: «لا أدري إن كنتَ تظنُّ أن مكفارلن قد خرج من السجن في غياهِب الليل كيما يُعزِّز دليلَ إدانته. إني لأدَعُ لأيِّ خبير بصماتٍ في العالَم مُهمَّة إخبارنا ما إذا كانت هذه بصمة إبهامه أم لا.»

«إنها بصمة إبهامه بلا جِدال.»

قال لستريد: «ها قد انتهَينا، هذا يكفي. إنني رجلٌ عملي يا سيد هولمز، وعندما أحصل على الدليل أتوصَّل إلى النتائج. إذا كان لديك أيُّ شيءٍ تُريد أن تقولَه فستجِدُني أكتُب تقريري عن القضية في غرفة الجلوس.»

كان هولمز قد استعادَ اتِّزانه، رغم أني ظللْتُ ألمَح في تعابير وَجهه وَمَضاتٍ من التلذُّذ.

وقال: «وا أسفاه! هذا تطوُّر مؤسِف جدًّا للوضع يا واطسون. أليس كذلك؟ وبالرغم من ذلك، فإن هذا التطوُّر تكتنِفه نِقاطٌ غريبة تلُوحُ ببعض الآمال لعَميلِنا.»

فقلتُ بحماسة: «يُسعِدني أن أسمع ذلك، فلقد خَشيتُ أن يكون الأمر كله قد حُسِم بالنسبة إليه.»

«لم أكن لأتشاءم إلى هذا الحدِّ عزيزي واطسون. فالحقيقة هي أنَّ هناك ثغرةً واحدة خطيرة حقًّا في هذا الدليل الذي يُوليه صاحِبُنا كثيرًا من الأهمية.»

«حقًّا يا هولمز؟! وما هي هذه الثغرة؟»

«فقط هذه النُّقطة؛ إنني مُوقنٌ أن هذه البصمة لمْ تكن موجودةً عندما فحصتُ القاعةَ بالأمس. والآن يا واطسون، لِنتنزَّه قليلًا في ضوء الشمس.»

رافقتُ صديقي في نُزهةٍ حول الحديقة بعقلٍ مُشوَّش، ولكن بقلبٍ بدأ يعود إليه شيءٌ من دفء الأمل. أخذ هولمز يفحَص واجهات المنزل واحدةً تلوَ الأخرى بعنايةٍ فائقة، ثم تقدَّم إلى الداخل وفتَّش المبنى بالكامل من طابِقه الأرضي وحتى الأخير. كانت غالبيَّةُ الغُرَف خاليةً من الأثاث، لكن وبرغم هذا فقد فتَّشَها هولمز جميعها بدقَّة. وأخيرًا، وفي المَمرِّ العُلوي، الذي يمتدُّ خارجَ ثلاثِ غُرَف نومٍ خالية، استولتْ عليه مرةً أخرى نوبةٌ من البهجة.

وقال: «هناك بالفِعل بعض السِّمات البالِغة التفرُّد في هذه القضية يا واطسون، وأظنُّ أنه قد حان الوقتُ الآن لنأتَمِن صديقنا لستريد على أسرارِنا. لقد نَعِم بابتساماته البغيضة على حسابنا، وربما نستطيع أن نَنْعَم بمِثلها على حِسابه إذا ثَبتتْ صحَّةُ قراءتي لهذه القضية. أجل، أجل، أظنُّ أنني أعرِف كيف يَجدُر بنا أن نتعامل معها.»

كان مُفتش شرطة سكوتلاند يارد لا يزال يكتُب في غرفة الجلوس، وإذا بهولمز يُقاطِعه قائلًا:

«لقد فهِمتُ أنك كنتَ تكتبُ تقريرًا عن هذه القضية.»

«وهكذا أفعل.»

«ألا تظنُّ أن هذا قد يكون سابقًا قليلًا لأوانه؟ فأنا لا أستطيع الكفَّ عن الاعتِقاد بأن أدلَّتك غير مُكتمِلة.»

كانت مَعرفة لستريد بصديقي أقوى بكثيرٍ من أن يَتجاهَل كلماته تلك، فوضَع قلَمَه ونظرَ إليه باهتمام.

«ماذا تعني يا سيد هولمز؟»

«أعني فقط أن هناك شاهدًا مُهمًّا لمْ تَرَه بعد.»

«أتستطيعُ إحضاره؟»

«أظنُّ ذلك.»

«فلْتفعل إذن.»

«سأبذُل قصارى جهدي. كم شرطيًّا لدَيك؟»

«هناك ثلاثة رهْن الاستِدعاء.»

قال هولمز: «عظيم! هل لي أن أسأل إن كانوا جميعًا رجالًا ضِخامًا، أقوياءَ البنية، أصحاب أصوات جهورية؟»

«لا أشكُّ أنهم كذلك، لكني لا أفهَمُ ما علاقة أصواتهم بالموضوع.»

قال هولمز: «ربما أستطيع مُساعدتك على فَهْم هذا وأمرٍ أو أمرَين آخرَين كذلك. من فضلك استدْعِ رجالك، وسوف أحاوِل.»

وبعد خمس دقائق تجمَّع ثلاثةٌ من رجال الشرطة في القاعة.

فقال لهم هولمز: «ستجِدون في المبنى الإضافي كميةً كبيرةً من القش. أستأذِنُكم أن تأتوا بِحُزمتَين منه. أعتقِد أنه سيكون له أكبر إسهامٍ في إحضار الشاهِد الذي أُريده. شكرًا جزيلًا لكم. أعتقِد أنَّ لدَيك بعض أعواد الثِّقاب في جَيبك يا واطسون. والآن يا سيد لستريد، أستأذِنكم جميعًا أن تُرافِقوني إلى مُنْبَسَط الدَّرَج العلوي.»

كما قلتُ من قبل، كان يُوجَد ممرٌّ واسِع هناك، وهو يمتدُّ خارجَ ثلاث غُرفات نوم خالية. عند أحد طرفَي المَمرِّ أخذَ شيرلوك هولمز يُنظِّمنا جميعًا، فراح رجال الشرطة يُقطِّبون جِباهَهم وأخذ لستريد يُحدِّق في صديقي بملامِحَ فيها مشاعر الذُّهول والترقُّب والتَّهكُّم يُطارِد بعضها بعضًا، أمَّا هولمز فقد وَقف أمامنا بهيئة ساحرٍ يَستعدُّ لأداء إحدى خدَعِه.

«أتسمحُ بإرسال شرطيٍّ من رجالك لإحضار دلوَيْ ماء؟ ضعوا القشَّ على الأرض هنا، وأبعِدوه عن الحائط من كلا الجانِبَين. والآن أظنُّ أننا جميعًا مُستعِدُّون.»

بدأ وجهُ لستريد يزداد احمرارًا وغَضبًا.

ثم قال: «لا أدري إن كنتَ تلعَب لُعبةً معنا يا سيد شيرلوك هولمز. إذا كنتَ تعلَم أيَّ شيءٍ فبإمكانك الإفصاح عنه بالتأكيد من دون كلِّ هذه السخافة.»

«أؤكد لك عزيزي لستريد، أن لديَّ سببًا وَجيهًا لكلِّ ما أفعله. ولعلَّك تذكُر أنك تندَّرتَ عليَّ قليلًا منذ بِضع ساعات، عندما بدَت الشمس في الجانب الذي كنتَ تقِف فيه من السياج، فيجدُر بك ألَّا تَستكثِرَ عليَّ بعض الزَّهوِ والاحتفال. والآن، إذا سمحتَ لي يا واطسون، هل تتفضَّل بفتْح تلك النافذة، ثم إشعال عود ثِقابٍ في طرف كَومة القش؟»

فعلتُ ذلك، فأخذَتْ سحائب الدُّخان الرَّمادِيَّة تدُور في الممرِّ مُتأثِّرةً بتيَّار الهواء، وراحت كومة القشِّ تُطقطِقُ وتضطَرِم.

«ينبغي الآن أن نرى ما إذا كنَّا نستطيع أن نجِد لك هذا الشاهِد يا لستريد. أتَسمَحون بمُشاركتي جميعًا في الصِّياح بكلمة «حريق»؟ الآن إذن؛ واحد، اثنان، ثلاثة …»

فَصِحْنا جميعًا: «حريق!»

«أشكركم. سوف أُثقِل عليكم ثانيةً.»

«حريق!»

«مرة أخرى وفقط أيها السادة، وفي وقتٍ واحد.»

«حريق!» لا بُدَّ أنَّ الصِّياح قد دوَّى في أرجاء نوروود.

وما كاد الصَّوتُ يتلاشى حتى حدَث شيءٌ مُذهِل. لقد انفتح بابٌ فجأةً ممَّا بدا أنه حائط مُصمَت عند نهاية المَمر، واندَفَع منه رجلٌ هَرِم ضئيل البِنية، وكأنَّه أرنَب يقفِز من جُحره.

قال هولمز بهدوء: «ممتاز! واطسون، دلوًا من الماء على القش؛ سوف يَفي هذا بالغرَض! لستريد، اسمح لي أن أُهدِيَك شاهِدَك الرئيسي المفقود؛ السيد جونيس أولديكر.»

حدَّق المُحقِّق في الوافد الجديد باندِهاش تام. وكان الأخير يفتَح عينَيه بصعوبةٍ في ضوء الممرِّ الساطع، ويُحدِّق إلينا وإلى دُخان النار الخابِية. كان وَجهه بغيضًا: له ملامِح ماكِرة، شريرة، خبيثة، وعينان مُراوِغتان ذَواتا لَونٍ رمادي فاتِح وأهدابٍ بِيض.

قال لستريد في النهاية: «ما هذا إذن؟ ماذا كنتَ تفعل طِيلة هذه المدَّة، ها؟»

فضحِك أولديكر ضحكةً مُرتبِكةً وهو يَتقهقَر بعيدًا عن وَجه المُحقِّق الغاضِب وقد احمرَّ حنَقًا.

«لمْ أؤذِ أحدًا.»

«لمْ تُؤذِ أحدًا؟ لقد بذلتَ قُصارى جهدك لتتسبَّب في إعدام رجلٍ بريء، ولولا وجود هذا الرَّجُل المُحترَم هنا، لَمَا كنت واثقًا من إخفاقِك فيما أردْتَ.»

فشرعَ الكائن الوَضيع في النَّشيج.

«أنا مُتأكد يا سيِّدي؛ ليس سوى مَقلَب.»

«أوه! مَقلَب، أهكذا كان؟ لن يكون المِزاح في صالِحِك، أعِدُك بذلك. خُذوه للأسفلِ وأبقُوه في غُرفة الجلوس حتى آتي.» وبعد ذَهابهم، استأنَف قائلًا: «سيد هولمز، لمْ أستطِع الحديث أمام رجال الشرطة، لكنني لا أجِد غَضاضةً في أن أقول أمام الدكتور واطسون، إنَّ هذا أذكى شيءٍ قُمتَ به حتى الآن، رغم كوْن كيفية قِيامك به لُغزًا بالنسبة لي. لقد أنقذتَ حياة رجلٍ بريء، ومنعتَ فضيحةً خطيرة كانت ستُدمِّر سُمعَتي بين رجال الشرطة.»

فابتسم هولمز وربتَ على كَتِف لستريد.

«بدلًا من تدمير سُمعتِك، سيدي الكريم، ستجِد أنها قد تعزَّزتْ بصورةٍ كبيرة. فقط أدخِلْ قليلًا من التعديلات على ذلك التقرير الذي كنتَ تكتُبه، وسوف يُدرِكون مدى صعوبة مُخادَعة المُفتِّش لستريد.»

«وأنتَ لا تُريد لاسمك أن يَظهر؟»

«مُطلقًا؛ فالإنجاز مكافأة في حدِّ ذاته وربما يُنسَب لي الفضلُ أيضًا يومًا ما في المستقبل البعيد، عندما أسمَح لمؤرِّخي الهُمام بنشرِ أوراقِه مرةً أخرى … أليس كذلك يا واطسون؟ حسنٌ، والآن، لنرَ أين كان يختبئ ذلك الفأر.»

كان يَمتدُّ عبر الممر جدارٌ داخليٌّ فاصلٌ مصنوع من ألواح الخَشب والجصِّ على بُعْد ستَّة أقدامٍ من نهاية المَمر، وبه بابٌ مَخفيٌّ فيه ببراعة، وكان داخِلُه مُضاءً بشقوقٍ موجودة تحت الأفاريز. لاحَظْنا وجودَ القليل من قِطَع الأثاث ومئونة من الطعام والشراب بالداخل، بالإضافة إلى عددٍ من الكُتب والأوراق.

قال هولمز، عندما خرجْنا: «تلك هي فائدةُ أن يكون المرء بنَّاءً؛ لقد استطاع تجهيزَ مَخبئه الصغير دُون مُساعدة أيِّ حليف … ما عدا، بالتأكيد مُدبِّرة مَنزله الغالية تلك، التي يَجدُر بي ألَّا أُهدِر الوقت قبل وَضْعِها في حقيبة غنائمك يا لستريد.»

«سوف آخُذ بنصيحتك. لكن كيف عرفتَ بوجود هذا المكان يا سيد هولمز؟»

«لقد أيقنتُ أن الرجل كان يَختبئ في المنزل؛ فعندما قِستُ بخُطايَ أحدَ الممرَّات ووجدتُه أقصرَ من نظيره الذي في الأسفل بِمقدار ستَّة أقدام، تبيَّنْتُ بوضوح أين كان يَختبئ، واعتقدتُ أنه لمْ يكن يَملك من الشجاعة ما يُبقيه هادئًا في وجود إنذار حريق. لقد كان بإمكاننا، بكلِّ تأكيد، أن ندخُل إلى هناك ونقبِض عليه، ولكن راقَني أن أجعلَه يكشِف نفسه، بالإضافة إلى أنني كنتُ مَدينًا لك بقليلٍ من الإرباك يا لستريد، بسبب تَندُّرِك عليَّ في الصباح.»

«حسنٌ يا سيدي، لقد تعادلتَ معي بالتأكيد في ذلك الشأن. لكن كيف بربِّك تأتَّتْ لك معرفة أنه كان موجودًا في المنزل أصلًا؟»

«بصمة الإبهام يا لستريد. لقد قلتَ إنها كانتْ حاسِمة؛ وقد كانت كذلك، لكن بطريقة مُختلِفة تمامًا. كنتُ أعلم أنها لمْ تكن موجودةً في اليوم السابق. وأنا أُولي مسألةَ التفاصيل قدْرًا كبيرًا من الاهتِمام، لعلَّك لاحظت ذلك، وكنتُ قد فحصتُ القاعةَ وتأكدتُ أن الحائط كان نظيفًا؛ لذا، فقد وُضِعتْ في أثناء الليل.»

«لكن كيف؟»

«ببساطةٍ شديدة، عندما خُتِمتْ رِزَمُ الأوراق تلك، طلب جونيس أولديكر من مكفارلن أن يُحكِم غلْقَ أحد الأختام بوضعِ إبهامه على الشمع الطري. لا شكَّ أن الأمر تمَّ بسرعةٍ شديدة وبصورة طبيعية جدًّا لدرجةِ أنَّني أظنُّ أنَّ الشابَّ نفسه لا يذكُر عنه شيئًا. من المُرجَّح جدًّا أن الأمر قد جرى على هذا النحو، ولم يكن لدى أولديكر نفسِه فكرةٌ عما سوف يَستغلُّه فيه، وعندما أطال التفكير في القضية داخل وَكْرِه ذاك، خطرَ ببالِه فجأةً كم هو دليلٌ مُهلِك قطعًا ذاك الذي يستطيع تلفيقَه ضدَّ مكفارلن إذا استغلَّ بَصمةَ الإبهام تلك. لقد كان من أسهل ما يُمكِن بالنسبة إليه أن يأخُذَ طبعةً شمعيَّة من على الخاتم، ثم يُخضِّبها بما يستطيع الحصول عليه من دماء من وَخزة دبُّوس، ثم يَضع البصمة على الحائط أثناء الليل، إما بيده هو نفسه أو بيد مُدبِّرة منزله. إذا فتَّشْتَ بين تلك المُستندات التي أخذَها معه إلى مأواه، فإني أراهِنُك أنك ستجِد الخاتم الذي يَحمِل بصمةَ الإبهام.»

قال لستريد: «رائع! رائع! لقد أضحى الأمر كله واضحًا كالشمس بتفسيرك إياه. لكن ما الغاية من وراء هذا الخِداع المُعقَّد يا سيد هولمز؟»

لقد راق لي أن أرى كيف استحال فجأةً أسلوبُ المُحقِّق المُتغطرِس أسلوبَ طفلٍ يَطلُب من مُعلِّمه إجابةَ أسئلته.

«حسنٌ، لا أظنُّ أن هذا يَستعصي كثيرًا على التفسير. إنه شخص داهِية وشرير وحقود جدًّا، ذلك الرجل الذي يَنتظرنا الآن بالأسفل. هل تعلَم أن والِدة مكفارلن رفضت الزَّواج منه من قبل؟ لا تعلم! لقد أخبرتُك أنه ينبغي لك الذَّهابُ إلى مُقاطعة بلاكهيث أولًا ثم نوروود بعد ذلك. حسنٌ، لقد ظلَّتْ هذه الإساءة — كما رآها هو — تعتَمِلُ في عقله الشرير الماكر، وظلَّ طوال حياته يَتوق للانتِقام، دون أن تَسنَح له فرصةٌ قط. وخلال السنة أو السنَتَين الماضيتَين سارت الأمورُ في غير صالِحه بسبب مُضارباتٍ سرِّية في البورصة — على ما أظنُّ — ووجد نفسَه في وضعٍ سيئ، فعزَمَ على خِداعِ دائنيه؛ ومن أجل هذا الغرَض دفَع شيكاتٍ مصرفيَّة بقِيَمٍ ضخمةٍ لشخصٍ بعينِه يُدعَى السيد كورنيليس، الذي أتخيَّل أنه هو أولديكر نفسه، ولكن تحت اسمٍ آخَر. أنا لمْ أتتبَّع هذه الشيكات بعدُ، لكنِّي لا أشكُّ أنها قد أُودِعتْ مصرفًا ما تحتَ ذلك الاسم في إحدى مُدن المُقاطعات حيث كان يحيا أولديكر هناك، من وقتٍ لآخر، حياةً مُزدوَجة. نوى أولديكر أن يُغيِّر اسمه بالكليَّة، وأن يسحَب هذا المال ثم يختفي، ليبدأ حياته من جديد في مكانٍ آخر.»

«حسنٌ، إن ذلك مُحتملُ الحدوث بما يكفي.»

«ولعلَّه قد خطَر بذهنِه أنه يستطيع باختفائه أن يتخلَّص من كلِّ المُلاحَقات، وأن يَنتقِم في الوقت نفسه من حبيبتِه القديمة انتقامًا كبيرًا وساحِقًا، وذلك إذا تمكَّنَ من أن يُعطي انطباعًا أنه قد قُتِل على يد ابنِها الوحيد. لقد كانتْ خُطَّته تُحفةً من تُحَفِ النذالة، وقد نفَّذَها تنفيذَ البارِعين؛ ففكرةُ الوصية، التي يُمكِن أن تُقدِّم دافعًا واضحًا لارتكاب الجريمة، والزيارةُ السرِّية التي لا يعلَم بها والِدا الشاب نفسه، واستبقاءُ العصا، وآثارُ الدم، وجثةُ الحيوان والأزرار التي ألقاها في كومة الخشب؛ كلُّها كانتْ تفاصيلَ مُثيرةً للإعجاب. لقد كانتْ شبكةً بدا لي منذ ساعاتٍ قليلةٍ مَضتْ أنه لا يُمكن الهروب منها. لكنَّه كان يفتقِر لتلك المَوهِبة الفائقة التي يتمتَّع بها الفنان؛ أن يعرِف متى يتوقَّف. لقد تمنَّى تحسينَ ما كان مُمتازًا بالفعل — كي يُضيَّق الخِناق أكثرَ حولَ رقبة ضحيَّتِه المِسكينة — وبهذا أفسدَ كلَّ شيء. هيا بنا ننزِل يا لستريد، فأنا أودُّ أن أطرَح عليه سؤالًا أو سؤالَين.»

كان الكائن الخبيث جالسًا في غرفة الجلوس الخاصَّة به، وعن يمينه ويساره رجُلا شرطة.

راحَ يتذمَّر ناحِبًا كالأطفال بلا توقُّف: «لقد كانتْ مُزحة سيدي الكريم، مَقلبٌ مُضحِك لا غير. أؤكد لك يا سيدي أنَّني أخفيتُ نفسي فقط لأرى نتيجةَ اختفائي، وأنا مُتأكد أنَّكم لن تكونوا جائرين لدرجةِ أن تتخيَّلوا أنَّني كنتُ سأسمَح بإلحاقِ أيِّ ضرَرٍ بالشاب المِسكين السيد مكفارلن.»

قال لستريد: «ستُقرِّر هيئةُ المُحلَّفين بشأن هذا، وعلى أية حال، فسوف نقبِض عليك بتُهمة التآمُر، إن لمْ يكن بتُهمة الشُّروع في القتل.»

قال هولمز: «وربما ستجِدُ دائنيك يُصادِرون الحسابَ البنكيَّ للسيِّد كورنيليس.»

فانتفضَ الرجل الضئيل البِنيَة واقِفًا وحوَّل عينَيه الخَبيثتَين نحوَ صديقي.

وقال: «عليَّ أن أشكرك لأجل الكثير والكثير، وربما أتمكَّن من توفيةِ حقِّك يومًا ما.»

فابتسم هولمز بتسامُح، وقال: «أتصوَّر أنَّ وقتك سيكون مشغولًا جدًّا لبضع سنواتٍ قليلة قادِمة. بالمُناسبة، ما الذي وضعتَه في كومة الحطب بالإضافة إلى سراويلك القديمة؟ أكان كلبًا مَيِّتًا، أم أرانِب، أم ماذا؟ ألن تقول؟ يا للعَجَب! ما أقساك! حسنٌ، حسنٌ، أظنُّ أن زَوجَين من الأرانِب يكفِيان لتفسير كلٍّ من الدَّم والرُّفات المُتفحِّم. إذا سردتَ القصةَ يومًا يا واطسون، فيُمكن أن تؤدِّي الأرانبُ الغرَض.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤