الفصل الثاني

– ألم تقرأ مقالة إبراهيم يسري في مؤيد أمس؟

– لم أطالع الجرائد أمس.

– أنا أعلم الناس بعاداتك يا محمود، فأنت ممن يأنفون من مطالعة الجرائد.

– بل أنا يا عبد العزيز ممن لا يضيعون أوقاتهم في قراءتها.

– بل ممن يضيعون أوقاتهم في لعب الكرة.

– الكرة ديدني يا عزيزي، وإني لا أجد فيها ضياعًا للوقت كما تزعم، وهل وقَّع إبراهيم مقالته باسمه؟

– كتبها تحت اسمه المستعار كعادته.

– إني لا أعرف لقبه الجديد.

– لقد كتبها تحت اسم «ابن بطليموس».

– لقب مضحك.

والتفت يمينًا فرأى حسن أمين يقترب منه فصاح به قائلًا: ألا ترى يا أبا الإنشاء في لقب «ابن بطليموس» ما يدعو للضحك؟!

– لقد قرأت مقالته، وأعجبني فيها سمو خياله، وجمال أسلوبه؛ إذ وصف الأهرام وأبا الهول وصفًا دل على سلامة ذوقه ونصاعة بيانه. ألا تشاطرني رأيي هذا يا محمود؟

– أنا لا أشاطر الناس أفكارهم في شيء لم أقف عليه، وأظن أخي عبد العزيز يوافقني على ذلك وإن كان ينكر عليَّ إهمال مطالعة الجرائد.

فقال عبد العزيز وهو كاره: إن أهوائي لا توافق أهواءك يا محمود، فعبثٌ الكلام في ذلك.

– إني ذاهب لأرى من أميل إلى مذهبه.

وترك محمود رفيقه ومشى يوسع الخطا مبتعدًا عمن لا يتكلمون إلا في جودة الإنشاء وطلاقة اللسان. ثم التفت عبد العزيز لحسن وقال له: وما رأيك أنت؟ إنك بلا شك ممن لا يغضبهم الكلام النافع.

– وهل ظننت فيَّ غير ذلك؟

– كلا وحاشا أن أظن فيك الظنون، ولكني أرى بين نابتة اليوم قومًا لا يعبَئون بخدمة بلادهم ولا يعملون إلا على خذلانها بانصرافهم للهو والألعاب؛ ولذا تراني أرثي لحال محمود مع اعترافي له بالتفوق في لعب الكرة. أنا لا ألوم التلاميذ الذين يخصصون جزءًا من وقتهم للتريض، ولكني ألوم الذين لا يفعلون ذلك. إن للدرس يا حسن ساعة وللتريض ساعة.

– بلا شك، ولكن أتعلم كيف توصل إبراهيم يسري للكتابة في جريدة كبيرة؟

– ابتدأ بالكتابة في جريدة صغيرة، وشجعه صاحبها على المثابرة حتى ثبتت أقدامه في ميدان الكتابة، وهو ميدان وعر كما تعلم، ووجد في نفسه الكفاءة لأن يحرر في جريدة يقرؤها سواد الناس في مصر، فكتب في المؤيد.

– ولكن علام تسألني يا أبا الإنشاء هذا السؤال؟ أفي نفسك ميل للكتابة في الجرائد؟

منع الحياء حسن أن يصرح عما يجول في خاطره، فأجاب صديقه قائلًا: أنا أكتب في الجرائد؟! هذا أمل قل أن يتحقق.

– ولم لا؟ إن أسلوبك يا عزيزي أنيق الديباجة مهذب اللفظ، ولا أغالي إنك في مدرستنا منقطع القرين.

وعندما سمع حسن عبارات المدح من فم صديقه قال دفعة واحدة، وقد أنساه المدح حياءه الطبيعي: أتظن أن أسلوبي أرق من أسلوب إبراهيم يسري؟

وعلت وجهه بعد ذلك حمرة الخجل كأنه لم يكن ينتظر من نفسه أن يتفوه أمام أحد إخوانه بكلام يشم منه رائحة للغيرة.

– إبراهيم كاتب تستعيد الأسماع عبارته، ولكنه دونك بمراحل.

– إنك تمزح يا عبد العزيز.

– لم أتعود المزح متى كنت جادًّا. إني ألومك على كسلك وإهمالك السير في الطريق التي اختطتها لك مواهبك، ولكني أحذرك لحيائك، فأنت وإن كنت أفصح التلاميذ عبارة فأنت أكثرهم حياءً وأشدهم خجلًا.

– هذا حق لا مرية فيه، وإني أشكو لنفسي حياء نفسي.

وسمع حسن تلميذًا يناديه من بعيد فاعتذر لصاحبه وفارقه وهو فرحان جذلًا، واتخذ بعد ذلك عبد العزيز وجهة الحديقة، وفيها لاقى إبراهيم يسري، فقابله وهو متهلل الوجه وصافحه وهو يقول له: لله درك! لقد قرأت مقالتك، وما زلت ثملًا بخمرة بلاغتك إلى الآن.

– خمرة بلاغتي؟ إنك تغالي في القول.

– أقسم لك بالله وبالشرف إني لا أقول إلا الصدق.

– وهل قرأت المقالة حتى آخرها؟

– واستعدتها ثلاث مرات متواليات، وقرأتها للمرة الرابعة صباح اليوم وأنا في الترام.

– وما رأي إخواني الطلبة فيها؟

– كلهم يحبذون عملك، ويقرون لك بالتفوق في ضروب الإنشاء، ومن بينهم من يحسدك.

– من يحسدني؟! وعلام هذا الحسد؟

لأنهم يودون الصعود بلا تعب إلى المكانة التي وصلت إليها بجدك وعملك.

– ومن هم هؤلاء؟

– لم أحادث إلا فردًا منهم.

– ومن هو؟

– إني لا أحب نقل الكلام من أفواه الحاسدين إلى آذان المحسودين.

– أنت صديقي وأخي، ولم أتعود منك إخفاء الحقيقة عني.

– اعذرني يا صديقي إذا كتمت اسمه عنك.

– وهل في ذكر اسمه من بأس؟

– كلا، ولكن علام كثرة الكلام في مثل ذلك.

– لقد عرفته، فهو بلا شك أحمد عبد الله. إنه نظيري من يوم أن أمسكت أناملي القلم.

– إن الله لا يحب الظالمين يا إبراهيم، وحرام أن تظلم الأبرياء.

– هو إذن علي فؤاد. إنه لا يقر لي بفضلي ويهزأ بمقالاتي.

– ولا هذا أيضًا. إنك تحتال عليَّ لأصرح لك باسم ذلك الذي أخطأ في غمطك لا في حسدك.

– إذا كان هو ممن يغمطونني، وليس ممن يحسدونني فلماذا لا تصرح باسمه؟

– أخشى أن تكون قد كتمت له الضغينة.

– لست خسيس النفس ولا غليظ الطبع لأفعل ذلك.

– حاشا أن تكون كذلك يا إبراهيم، ولكي أبرهن لك على حسن ظني فيك أقول لك: إن الذي غمطك هو حسن أمين.

– أبو الإنشاء! …

وضحك إبراهيم يسري ضحكة طويلة، وأردف ضحكه بقوله: لقد قرأت له موضوعًا إنشائيًّا رفع فيه المفعول ونصب الفاعل، وكاد أن يسكن المبتدأ لولا أن تداركته رحمة من ربه. إذا كان هذا الفتى — أستغفر الله — بل «هذه الفتاة» يحسدني على ما أنا فيه من نعمة وهناء فبشره بخذلانه وانحداره؛ لأنه لا ينهض ولن ينهض من الهاوية التي رماه فيها حياؤه النسائي.

– إن في نفسه ميلًا للكتابة في الجرائد.

– يريد أن يجاريني؟

– بل يريد أن يظهر للناس بلاغته.

– إنه قلق المعاني مضطرب المباني، وسيبقى كذلك إلى ما شاء الله.

ودق الناقوس فأسرع الطلبة للدخول في الفصول.

•••

جلس حسن أمام مكتبه، وأخرج من قِمَطْرِه كتاب كليلة ودمنة وألقاه أمامه غير عابئ به، ثم مكث هنيهة يفكر كأنه يسائل نفسه الإقدام على شيء، ثم أخرج من درجه ورقة بيضاء ومن جيبه قلمًا من الرصاص، وأسند رأسه بيده اليمنى واضعًا قلمه بين يديه مستسلمًا لأمانيه العذبة وأحلامه اللذيذة، ودخل في هذه الساعة أستاذ المطالعة — وكان غير الصاعقة — فقامت له التلاميذ وقوفًا لتؤدي له التحية، ومكث حسن جالسًا كأنه لم يعبأ بأستاذه، ولحسن حظه لم يلتفت إليه الأستاذ. ابتدأ التلاميذ في المطالعة، وكان أول القارئين فتى من أبناء ملوي، له لهجة أبناء الصعيد، وهي لهجة تستهجنها آذان أبناء مصر وإن كانت أقرب للعربية الفصحى من لهجتهم التي لا تنبو عن أسماعهم. قرأ التلميذ واسترسل في قراءته، وفسر الألفاظ المغلقة وكان يعارضه الأستاذ في معانيها، والأستاذ من الأساتذة الذين يتعمدون الكلام باللغة الفصحى، له منظار لا يفارق عينيه إلا ساعة نومه، ويقال إن أول شيء تمتد إليه يده عند استيقاظه من نومه هو منظاره الكريم؛ ولذا اعتاد أن يضعه تحت وسادته. وقيل إنه حل بالمنظار في إحدى الليالي حادث جلل، وكان الأستاذ مستغرقًا في النوم، فلما استيقظ في الصباح بحث عن منظاره كعادته، فوجد زجاجه مهشمًا؛ فلم يفارق سريره طول يومه. كل هذا لا شأن له في قيمة الأستاذ؛ لأنه كان وديع الأخلاق، لطيف السجايا، محبوبًا من التلاميذ لتساهله ورقَّته.

انتهى التلميذ الأول وابتدأ الثاني، وحسن تائه في بيداء أفكاره، يكتب في ورقته جملة ويشطب أخرى، ولا يسمع إلا «قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف» تقطع عليه أحلامه الخيالية. وما مرت الساعة إلا ومقالة حسن كادت أن تتم إلا قليلًا، ودق الناقوس فهرعت التلاميذ للخروج، وطوى حسن رسالته ووضعها في جيبه، وحمل محفظته تحت إبطه، ووضع يديه في جيبَي «بنطلونه»، ومشى يترنح يمنة ويسرة وقد أسكرته خمرة ما خطته يده.

خرج حسن مع من خرجوا من التلاميذ، ومر أمام البواب كعادته، فقال له البواب وقد رآه مسرورًا: أسعدت مساءً يا حسن بك.

– أسعدت مساءً يا عم طه.

وابتسم حسن للبواب وأخرج من كيسه قرشًا أعطاه له في يده، فشكره البواب ودعا له. وسار حسن في شارع درب الجماميز إلى أن وصل إلى قهوة «النادي المصري»، وجلس في الركن الذي اختارته نفسه منذ طرقت قدماه أرض هذا النادي المبارك، وطلب من الخادم القهوة كالعادة وورقة بيضاء وقلمًا وحبرًا، وما لبث في مكانه هنيهة إلا وأتاه الخادم بما طلب وزاد عليه الجرائد الأربع، وأتم حسن مقالته في النادي، وفيه انتهى من تبييضها أيضًا، وجلس يقرؤها للمرة الأخيرة، واستوقفه عنوانها ثلاث دقائق، وكيف لا يستوقفه هذا العنوان هذه المدة الطويلة وهو عنوان غريب وجميل؛ «الأم الشفيقة القاتلة»! وما هي تلك الأم التي تشفق على أبنائها، ثم لا تلبث أن تزهق أرواحهم؟! هي بلا نزاع البورصة، وإنه حقًّا اسم وافق مسماه. قرأ حسن العنوان للمرة الخامسة والعشرين بعد المائة وهو يبتسم ويقول لنفسه: «ليت شعري! أينشر صاحب الجريدة مقالتي هذه؟ ولم لا ينشرها؟ وهل أنا أقل شأنًا ممن يكتبون في جريدته؟! لقد شهد لي القاصي والداني في المدرسة بمتانة الأسلوب وعلو الأفكار. إنها بلا شك ستنشر ولا نزاع في ذلك.»

وقرأ مقالته مرتين، وأراد أن يقرأها للمرة الثالثة، ولكنه سئم من التكرار فطواها ووضعها في ظرف أتاه به الخادم وكتب على الظرف بخط واضح:
إدارة جريدة الحقائق بالقاهرة
حضرة الفاضل رئيس التحرير
مصر

وهمَّ واقفًا وهو يبتسم، ثم سار في شارع محمد علي موسعًا الخطا، ومر على أربعة من صناديق البريد، ولكنه فضل أن يلقي خطابه في «دار البريد الكبرى» بالعتبة الخضراء؛ ليكون آمنًا عليه، ولما وصل إلى تلك الدار ألقى في صندوقها الخطاب، ثم أرسل زفرة طويلة تعبر عما يخالج قلبه من ألم اليأس وحلاوة الأمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤