الفصل الأول

كان الأستاذ الشيخ محمد عبد العليم يلقي على تلاميذ الفصل الأول من السنة الأولى بالمدرسة الخديوية في الساعة الثالثة بعد الظهر درسًا في «المبتدأ والخبر»، وكانت التلاميذ مصغية إليه إصغاء الطفل لنصائح أبيه؛ لا حبًّا في الأستاذ ولكن خوفًا من شدته؛ إذ كان معروفًا بينهم ببأسه وغلظ كبده، حتى لقبه أشقياؤهم بالصاعقة، فكان إذا لاح شبحه من بعيد وهم يلعبون ويمرحون في فناء المدرسة، صاح أحدهم قائلًا: «هلم بنا نغادر هذا المكان قبل أن تحل به الصاعقة.» وتعقب هذه الصيحة ضحكات متواليات تدل على بغضهم للأستاذ ونفورهم منه، وما كان الأستاذ بالرجل ذي القلب الأسود كما يزعمون، ولكنه كان ممن يتفانون في حب النظام ومراعاة الآداب، وكم من مرة رأف بتلاميذه وأشفق عليهم وساعدهم إذا خانهم الحظ في الامتحان.

أتم الأستاذ درسه ونظر في ساعته، ثم قال: «ليرفع سبابته من تعسر عليه فهم شيء من درس اليوم.» وأجال ببصره بين صفوف تلاميذه فلم يجد بينهم من أجاب سؤاله، فابتسم ابتسامة الظافر، وقال: «نتيجة حسنة تبشر بمستقبل باهر، إن كنتم فيما فعلتم صادقين.» وحوَّل بصره لوجه شاب أسمر اللون نحيف القوام، أقنى الأنف أسود العينين، يرى الناظر فيهما أثرًا للحزن والتفكير. نظر إليه الأستاذ مليًّا والتلميذ حاسر الطرف، ثم قال له بلهجة الهازئ: «ما رأْي أبي الإنشاءِ في درس اليوم؟» فلم يجب التلميذ ببنت شفة، فأردف الأستاذ جملته بجملة أخرى أغضى لها التلميذ حياءً، وكاد يجول الدمع في عينيه؛ إذ كان من خُلُقهِ الحياء الشديد، حياء يقرب من الجبن.

قال له الأستاذ: «أتلوي عطفك أنفة وتصعر خديك استكبارًا؟!» وألقى عليه سؤالًا في درس اليوم وطلب منه الإجابة، فلازم التلميذ الصمت لتشتت فكره، فقال الأستاذ وهو يحرق الأرم: «لقد أهملت النحو وانصرفت نفسك للإنشاء؛ ولذا تأتي بالخطأ الفادح في جملك المنمقة، ولو تبعت نصحي وخصصت جزءًا من وقتك لدراسة النحو، لكان لك في فن الإنشاء شأن عظيم؛ إذ لا ينكر أحد جمال أسلوبك، ولكني أبشرك بخمول الذكر ما دمت لا تسمع إلا ما توحيه إليك نفسك.» وتمشى الأستاذ يمنة ويسرة وهو غير ملتفت للتلميذ، ثم أدار إليه وجهه وقال: «اجلس.» ودق الناقوس معلنًا للطلبة ساعة انصرافهم، فخرج الأستاذ تتبعه التلاميذ إلى فناء المدرسة.

وقف التلاميذ في الفناء صفًّا صفًّا، ونادى الضابط المعاقبين وكانوا كثيرين في ذلك اليوم، وانتظر التلاميذ ناظر المدرسة إلى أن وافاهم، وأدوا له التحية وهو واقف على درج لم يكن غير «سلم الفناء»، فأذن لهم بالانصراف، فغادروا باب المدرسة وهم ثملون بخمرة حريتهم بعد سجنهم.

خرج حسن أمين «أبو الإنشاء» مع من خرجوا من التلاميذ وهو يتعثر بأثواب خجله وخيبته، وما زال يفكر فيما سمعه من أستاذه أمام إخوانه إلى أن وصل إلى باب المدرسة الخارجي، فابتدره البواب قائلًا: ما الذي يشغل بالك يا حسن بك؟

– لا شيء يا عم طه.

وسار حسن في شارع درب الجماميز وهو مطأطئ الرأس إلى أن وصل إلى ساحة باب الخلق، وهناك عرج على قهوة وطنية معلقة عليها لوحة مكتوب عليها بالثلث «النادي المصري»، وجلس في ركن من أركانها يفكر كالشاعر الذي يمنعه خياله عن رؤية ما حوله، ثم وافاه خادم القهوة حاملًا تحت إبطه جريدتين، وضعهما أمامه وهو يقول: هاك اللواء والمؤيد يا سيدي، وسآتيك بالأهرام والمقطم بعد أن أعد لك القهوة.

وتركه ليجيب طلبَ معمَّمٍ من لابسي الجلاليب الزرقاء.

أمسك حسن ﺑ «اللواء» في يده، وقرأ كل ما فيه مستثنيًا الإعلانات، وهمَّ بقراءة المؤيد وإذا به يرى الخادم يضع أمامه فنجان القهوة يحف به المقطم والأهرام، فأعطاه حسن قرش صاغ وشكره الخادم وانصرف.

وقرأ حسن الجرائد الأربع، ثم هم واقفًا وحمل محفظته تحت إبطه، وسار الهوينا لمنزله، وكان يسكن الحمزاوي. وصل حسن منزله عند الغروب بعد أن قال لنفسه في الطريق: «لقد امتلكتْ تلك المقالة نفسي، وأسرت لبي، فلله در كاتبها فهو أفضل من كتب!» وتاه في بيداء أفكاره قليلًا، ثم علت شفتيه ابتسامة تشف عما في قلبه من فرح وقال: «يا حبذا لو تحققت تلك الأحلام! أأغدو يومًا ما كاتبًا؟! من يدري؟!» ثم قرع باب منزله ثلاثًا، ففتح له الباب وصعد السلم، فرأى والدته تنتظره في ردهة البيت، فقبل يدها وقبلته في خديه، وقالت له: لقد تأخرت يا حسن، فأين كنت؟

– كنت أقرأ الجرائد يا أماه.

– قراءة الجرائد يا ولدي أكبر مدعاة لإهمال الدروس، فخلِّ عنك قراءتها واشتغل بما ينفعك.

– إنك يا أماه تجهلين ما يجري خارج المنزل؛ ولذا تلقين القول جزافًا.

– أنا لا أنكر يا ولدي أني جاهلة، ولكن شعوري يوحي إليَّ بما ينفعك.

– لقد أنبني أستاذي اليوم؛ لأني تبعت ما يوحيه إليَّ شعوري، فوالله لا أدري أأصغي لنصائح الأم أم لنصائح الأستاذ!

وترك أمه ودخل إلى غرفته.

•••

حسن أمين هو ابن المرحوم مصطفى أفندي أمين، الذي كان كاتبًا بنظارة المعارف العمومية في عهد توفيق باشا، والذي أحيل على المعاش قبل وفاته بسنتين. توفي مصطفى أفندي في سنة وفاة عزيز مصر، تاركًا ولده حسن وزوجته عزيزة وبيتين صغيرين في شارع الحمزاوي استبدلهما بمعاشه، كان يسكن الطبقة العليا من أكبرهما، ويتقاضى سبعة جنيهات أجرة الثلاث طبقات الباقيات.

مصطفى أفندي رجل لا يُعرف عنه إلا أنه مصري الأرومة، طويل القامة بدين الجسم، إذا غضب استرسل في غضبه دفعة واحدة وتناساه دفعة واحدة، وكان أكولًا، له في أنواع الأطعمة وألوانها آراء جرت بين أهل ناحيته مجرى المثل، ولكنه كان محبوبًا من جيرانه يعظمونه ويذكرونه بالحسنى، ويقفون له إذا مرَّ أمامهم كأنه سيدهم وعميدهم.

لم يذق مصطفى أفندي في حياته الحب، ولم يستوجف فؤاده ذلك الشيطان الرجيم، ولكنه كان ممن إذا مرت أمامهم سيدة تحدثوا بجمالها الفتان وحسنها الرائع. تزوج مصطفى أفندي في شبابه سيدة لم تضرب في الجمال بسهم وافر، ولكنها كانت عفيفة سلسة القياد، تقتصد في بيتها وتكره التغالي في الزينة والتبهرج. عاشرته تلك السيدة دهرًا طويلًا أذاقته فيه حلاوة العيش، ثم ماتت ولم تترك في أحضانه ولدًا ولا بنتًا.

أسف مصطفى أفندي على زوجته أسفًا كبيرًا، وبكاها آناء ليله وأطراف نهاره؛ حتى أصيب بمرض أورثه الضعف والهزال. وكان قد بلغ الخامسة والخمسين، فأشار عليه بعض أصدقائه أن يتزوج فتاة حسناء تزيل ألحاظُها الساحرة عن قلبه نارَ آلامه المستعرة. ضحك مصطفى أفندي لهذه الفكرة، وظنها كالحلم العذب اللذيذ الذي يمر ببال النائم في ظلام الليل، ولا يلبث أن يزول إذا ظهر في الفضاء شعاع الشمس، ولكنه راود فكره كثيرًا، ورأى في نفسه الحاجة لتلك الزوجة، وما زال يجادل نفسه ويزيل العقبات من سبيله إلى أن تجسمت في مخيلته تلك الفكرة، وأصبح تحقيقها أمنيته الوحيدة، وبحث مصطفى أفندي عن تلك الفتاة كثيرًا إلى أن وفق لعائلة ربتها شركسية، توفي زوجها المصري تاركًا لها ابنة وولدًا، فخطب مصطفى أفندي الابنة وكانت تبلغ الثامنة والعشرين، وقبلت الأم وهي متهللة الوجه لانصراف شبان الناحية عن ابنتها، ولم يهتم مصطفى أفندي بجمال زوجته؛ إذ لم يكن جمالها غاية الشيخ المريض الذي لا يرجو من امرأته إلا عفتها واعتناءها به، وتزوج بها وعاشت معه ثلاث سنوات، ماتت في السنة الأولى منها أمها، ثم ولدت له ولدًا سماه حسن، فرح به فرحًا كاد أن يقتله، وما زال يرتع الولد في أحضان أبيه وأمه إلى أن توفي مصطفى أفندي بالغًا الثامنة والستين، تاركًا ولده بالغًا من العمر عشر سنين.

نشأ حسن ضعيف الإرادة — وابن الشيخ المريض لا ينشأ إلا على هذه الحالة، لا يقدم على عمل إلا بعد أن يتردد فيه كثيرًا، وإذا أقدم عليه ود أن يتركه، ولكنه كان يميل للتفكير والخيال، وكان به شغف بالكتابة عظيم، استحق به في المدارس الابتدائية لقب «أبا الإنشاء»، ذلك اللقب الجميل الذي لم يفارقه يوم دخوله المدارس الثانوية.

عاشت عزيزة بالسبع دنانير التي كانت تتقاضاها من أجرة البيتين، ولكنها وجدتها غير كافية لقضاء حاجياتها وحاجيات ابنها البالغ السادسة عشرة؛ ولذا وطدت العزم على العمل، فاشتغلت بالخياطة والاتجار ببيع الأقمشة في بيوت الأغنياء والعظماء، فكانت تربح من وراء ذلك ما تسد به نفقاتها ونفقات تعليم ابنها.

دخل حسن غرفته بعد أن ترك والدته في ردهة البيت، ووقف فيها هنيهة كأنه يُقرئ السلام كل ما في الغرفة من كتب وفراش؛ إذ للجماد في قلوب أهل الخيال مكانة لا تقل عن مكانة بني الإنسان. وقف حسن هنيهة، ثم أرسل زفرة أطلقتها جوانحه، لم يسمعها غير كلبه الأمين «سحاب» الذي أتاه يبصبص بذنبه كأنه يسأله الصفح عن تأخره. جلس حسن على كرسي ونظر لكلبه نظرة العاتب، ثم ناداه بصوت حنون رقص له الكلب طربًا وقفز ليجلس على ركبتي سيده، فأمسك به حسن وداعبه قليلًا قائلًا له: «أين كنت يا سحاب؟ وإلى متى تهمل سيدك وهو الذي أحسن إليك وآواك إلى منزله ليلة كنت ترتعد بردًا أمام الباب، وقد نبذك أصحابك كما ينبذ الطفل النواة؟ أهذا جزاء الإحسان؟» وتمادى حسن في عتابه، واستمر الكلب في إظهار ولائه، وكان الوقت — كما قلنا — وقت الغروب، وقد اختفت الشمس ولم يبق في الأفق إلا احمرار الشفق، وحانت في تلك الساعة التفاتة من حسن للنافذة، فإذا به يرى في البيت الذي يقابل لبيته فتاة تطل من نافذتها لتمتع بصرها بجمال الطبيعة، وتنظر نظرة المعجب لتورد خدود السماء. نظر حسن للفتاة نظرة لم تعرها التفاتًا كأنها أتت للنافذة وفي قصدها غير لقائه؛ إذ الحياء كما نعلم من خلق النساء. ناداها حسن بصوت يسمع السامع منه رنين الحب والخوف، فالتفتت إليه جافلة كما يجفل الريم وقد سمع خطوات الصياد. ثم اطمأنت له بعد أن عرفته، وأشار إليها بالسلام فردته بأحسن منه، وتلى سلامه بقبلة أرسلها على أطراف أنامله، احمر لها وجه تلك الفتاة الخرود «الكثيرة الحياء»، فكسرت من طرفها، ثم رفعته إليه وقد علت شفتيها ابتسامة جمعت بين آية الجمال والهيام، وابتدأ حسن في محادثتها، فكانت تسمع كلامه كأنها كانت معه في غرفته؛ إذ لم يكن بين بيته وبيتها غير ثلاثة أمتار لا يعرفها إلا من عاش في أمثال ناحية الحمزاوي.

قال لها حسن: إني سعيد بلقائك يابنة خالتي، ولقد فكرت فيك طول اليوم وأنا مثلوج الفؤاد، وكنت كلما استرجعت في مخيلتي صورتك المحبوبة، أشعر بالفرح يهز عطفي، وبالسرور يتمشى في جوانحي. كيف حالك اليوم؟

– كما ترومه أنت، وكيف حالك؟

– المحب المحبوب لا يشعر بحزن، ولا يتفجع لمكروه.

– وهل حل بك مكروه؟

– لقد خاصمني أستاذ النحو اليوم، وعاقبني أمام إخواني الطلبة حتى نديَ وجهي عرقًا.

– أتعدُّ يا عزيزي خصام الأستاذ مصيبة تفتت الكبد وتمزق الأحشاء؟!

– خصام كل أستاذ سهل على أفئدة الطلبة، ولكن خصام «الصاعقة» …

– أما زلت تسمي أستاذ النحو ﺑ «الصاعقة»؟

– اسم وافق مسماه يا عزيزتي.

– دع عنك هذا الفكر جانبًا ولنفكر بأمر آخر.

– لنفكر بحبنا، فهو أحسن وقعًا على قلبي.

أمالت لبيبة بعطفها عند سماعها كلمة الحب للمرة الثانية، ونظرت إليه نظرة المحبة الوفية الصادقة، وقالت: وهل يبقى هذا الحب في قلوب الرجال طويلًا؟

– ما بقيت الأرض والسماء.

– ألم تستهو فؤادك اليوم نظرات الغيد في الطريق؟

– أسير في الطريق وصورتك في مخيلتي. أنت معي في كل مكان؛ في البيت وفي المدرسة وفي الشارع وفي الحدائق، حتى وفي الساعة التي أجتهد فيها لفهم درس يصعب على سواد الطلبة فهمه. أنت الحياة. أنت الوجود. أنت الدنيا وما فيها من نعيم، وإني أقسم لك على الوفاء حلفة عاشق صدوق المقال يبر بقسمه حتى آخر نسمة من نسمات حياته.

واستمر المحب يغازل حبيبته و«سحاب» جالس عند أقدام صاحبه كأنه الشاهد العدل على هذا الحب، وعلى هذه الأقسام التي تترى على ألسنة الناس ولا تلبث أن تذروها الرياح. وسمعت لبيبة أمها تناديها، فأسرعت للقائها بعد أن حمَّلت النسيم قبلات عديدة، وكاد أن يشعر حسن بحرارتها على خديه، وما لبيبة هذه إلا ابنة تبلغ السابعة عشرة تربت تربية حسنة، وتعلمت تعليمًا يحسدها عليه الكثيرات من أترابها، وأبوها عبد الرءوف أفندي خال حسن، رجل طيب السيرة والسريرة، سكن أمام منزل المرحوم مصطفى أفندي بعد وفاته؛ ليكون عونًا لأخته «والدة حسن» إذا دعتها الحال لطلب المعونة، والحياة تدعو النساء كثيرًا لذلك.

وقف حسن بعد أن غادرته ابنة خاله قليلًا، ينظر للسماء تارة ولنافذة حبيبته تارة أخرى، إلى أن سمع صوت أمه تناديه قائلة: لقد أعددت الطعام يا حسن. هيا لتتناول عشاءك.

– ها أنا ذا يا أماه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤