الفصل السادس عشر

مؤتمر فلسطين في لندن

كان آخر دراسة شبه دولية لقضية فلسطين، ذلك المؤتمر الذي عقد في لندن في أوائل عام ١٩٣٩م، فقد اجتمعت وفود الحكومات العربية في القاهرة ثم غادرتها في ٢٤ يناير ١٩٣٩م، وكان وفد مصر مؤلفًا من سمو الأمير محمد عبد المنعم وعلي ماهر باشا رئيس ديوان جلالة الملك فاروق الأول يومئذ، وحسن نشأت باشا سفير مصر في لندن يومئذ، وعبد الرحمن عزام بك وزير مصر المفوض في تركيا يومئذ.

وفي ٥ يناير سنة ١٩٣٩م أرسل الملك عبد العزيز آل سعود إلى الرئيس روزفلت كتاب احتجاج على ما أذيع عن موقف حكومة الولايات المتحدة في مناصرة اليهود في فلسطين.

(١) الوفود العربية إلى مؤتمر فلسطين في لندن١

  • (١)
    الوفد السعودي: وهو مؤلف من الأمير فيصل آل سعود رئيسًا وشقيقه الأمير خالد وسعادة فؤاد حمزة بك وكيل الخارجية العربية، والسيد عبد الله السليمان السكرتير الخاص لسمو الأمير فيصل أعضاءً.
  • (٢)
    الوفد اليمني: برياسة الأمير سيف الإسلام الحسين ولي عهد اليمن وبعضوية القاضي علي بن الحسين العامري، والسيد حسن الكبسي، والسيد علي بن محمد بن عقيل.
  • (٣)
    وفد شرق الأردن: مؤلف من سعادة فؤاد الخطيب باشا مستشار إمارة شرق الأردن، والسيد عبد الله النمر الحمود بك.
  • (٤)
    الوفد العراقي: برياسة نوري السعيد باشا رئيس الوزارة العراقية يومئذ.

وفي ١٧ يناير عقد رؤساء الوفود العربية وأعضاؤه اجتماعات هامة برياسة رفعة محمد محمود باشا استغرقت أسبوعًا تمهيدًا لمؤتمر لندن.

وفي ١٨ يناير أقام رفعة محمد محمود باشا مأدبة في فندق شبرد باسم الحكومة المصرية لرؤساء الوفود العربية وأعضائها. وقد ألقى في هذا الاجتماع كلمة قيمة حيَّى فيها الزعماء الفلسطينيين قائلًا: إنني لعظيم الرجاء في أن تؤدي الحكمة وأن يؤدي روح العدل إلى ما نبتغيه جميعًا من إقرار السلام في هذه الربوع التي تضم الأماكن المقدسة على نحو يزيل مخاوف إخواننا العرب من أهلها ويرد الطمأنينة إلى نفس كل المقيمين بها. ورد عليه كل من الأمير فيصل والأمير سيف الإسلام.

وفي ٧ فبراير ١٩٣٩م، افتتح مؤتمر فلسطين في لندن، وخطب المستر تشمبرلين رئيس الوزارة البريطانية في الوفود العربية، ورد عليه الأمير عبد المنعم والأمير اليمني سيف الإسلام. وفي ١٧ مارس ارفضَّ مؤتمر فلسطين بعد مباحثات دامت ستة أسابيع دون الوصول إلى قرار بسبب رفض العرب واليهود المشروع البريطاني.

وبعد أن افتتح مؤتمر فلسطين في قصر سان جيمس في ٧ فبراير سنة ١٩٣٩م كما ذكرنا، اجتمع المستر شمبرلين بكل من الفريقين العرب واليهود على حدة، وألقى في هذه المناسبة خطبتين. وجاء في خطبته في الوفود العربية ما يأتي: إنني سعيد بأن أرى هنا ليس فقط زعماء عرب فلسطين السياسيين، بل أيضًا الممثلين المختارين للدول المجاورة لها أيضًا. وقد جاءوا يعاونوننا على إيجاد حل حكيم للصعوبات الحالية يَحْفَظُ حقوق العرب وفلسطين، ثم ختم خطابه مبديًا الأسف على ما وقع من الحوادث في فلسطين. وقد رد عليه الأمير محمد عبد المنعم بخطاب استهله بالإعراب عن اغتباطه وامتنانه للترحيب العظيم الذي لقيه من الحكومة البريطانية، وقال: إن وجودنا بينكم لخير شاهد على ميلنا الودي نحو الأمة البريطانية، وفيه خير برهان على حسن نيتنا. ونحن واثقون من أن حسن النية المتبادل هذا، لن يعجز عن الظهور في مباحثاتنا القادمة. وأعقبه الأمير سيف الإسلام قائلًا: إن العقل الراجح الذي مكنك من حل أعقد المسائل في الأمور الدولية الأخيرة هو الذي نعتمد عليه إلى درجة بعيدة، في حل مشكلة فلسطين. وبعد أن ألقى المستر تشمبرلين خطابه على الوفود العربية استقبل الوفد اليهودي في غرفة خاصة. وكان مؤلفًا من الدكتور وايزمان وبرودتسكي ومنجور وسرنوك وناحوم جولدمان. وقد أثنى رئيس الوزراء في خطابه على النظام وضبط النفس الذي أبداه اليهود في أثناء عهد الصعوبات الخطيرة في فلسطين، وكرر لهم الأغراض والأهداف التي يتوخاها، كما جاء في خطابه السابق إلى العرب. ورد عليه الدكتور وايزمان مؤكدًا رغبة اليهود في السلم، وقال: إننا نجتمع في مرحلة مظلمة من مراحل تاريخنا، ولا نغالي إذا قلنا: إن آمال ملايين اليهود المنتشرين في العالم وصلواتهم تتجه مع الثقة الوطيدة في حسن نية بريطانيا إلى هذه المباحثات.

ثم تكلم المسيو رين زبعي رئيس المجلس الوطني اليهودي في فلسطين فأكد معاونة يهود فلسطين للحكومة البريطانية، وخطب لورد ريدنج، باسم يهود إنجلترا، فنوه بضرورة إعادة السلم في أقرب وقت، وبرغبة الجميع في الوصول إلى تسوية. ثم تكلم أخيرًا الحاخام وايز مندوب اليهود الأمريكيين فصرح بأن يهود الولايات المتحدة يتتبعون في اهتمام الجهود التي تبذل في الوقت الحاضر للتوفيق بين شعبين يمكن ويجب أن يعيشا في سلام تحت رعاية الإمبراطورية البريطانية.

وفي ٨ فبراير عقدت الجلسة لتسوية الخلاف القائم بين حزبي عرب فلسطين، الأول وهو الأكثرية العظمى برئاسة سماحة السيد أمين الحسيني، والثاني أقلية برئاسة راغب النشاشيبي بك، وفي ٩ فبراير بدأ المؤتمر عمله في قصر سان جيمس، وكان اللورد هاليفاكس والمستر ماكدونالد والمستر بتلر في الجانب البريطاني، وقرر مندوبو فلسطين في هذا اليوم ضم راغب النشاشيبي بك ويعقوب فراح أفندي مندوبين عن حزب الدفاع العربي. وقد ألقى جمال الحسيني بك بيانًا هامًّا عن القضية الفلسطينية بسط فيه ما لعرب فلسطين من حقوق طبيعية وسياسية وعهود مقطوعة، وبطلان تصريح بلفور وصك الانتداب الذي قال عنه: إنه وثيقة غير مشروعة، ومخالف لعهد عصبة الأمم، وقال: إن العرب يعدون مسألتي الهجرة وبيع الأراضي باطلتين لاستنادهما إلى صك الانتداب الباطل. ثم أجمل البيان مطالب فلسطين النهائية كما يلي: الاعتراف باستقلال فلسطين، والعدل عن محاولة تأسيس الوطن اليهودي، وإلغاء الانتداب، واستبدال عوضًا عنه معاهدة كمعاهدة العراق، ووقف الهجرة، ومنع بيع الأراضي بتاتًا في الحال.

أما بيان الدكتور وايزمان في المؤتمر البريطاني اليهودي فقد استغرق ساعتين كاملتين، وطلب الدكتور وايزمان في بيانه تنفيذ وعد بلفور، وصك الانتداب، وإنشاء وطن قومي لليهود، وإلغاء القيود الوقتية الأخيرة على الهجرة اليهودية، ومنحهم الحرية للسير في سبيل ترقية الأراضي والحالة الاقتصادية، والتعهد بعدم وضع اليهود في مركز الأقلية، وأعرب عن استعداد اليهود للتعاون مع عرب فلسطين في إعادة السلام إلى البلاد، ثم تحدى دعوى العرب بأن فلسطين بلد عربي صميم قائلًا: إن مركز اليهود المادي والروحي حفظ لفلسطين كيانها طول الأجيال. وفي ١٠ فبراير دارت مباحثات عامة شفوية، وفي ١١ فبراير عقد المؤتمر العربي جلسة سرية. وقد رد المستر مكدونلد على البيان الفلسطيني فقال: إن ما أعربت عنه فلسطين من رغبتها في تأمين المصالح البريطانية له قيمة عظيمة، ثم قال: إنه يعتب على العرب لشكواهم من عدم وجود حكومة دستورية في فلسطين، ويرى أن هذه الشكوى في غير محلها؛ لأن إنجلترا أعربت غير مرة عن رغبتها في إنشاء حكومة دستورية في البلاد، ثم تكلم عن صداقة إنجلترا للعرب، ثم تكلم عن مسألة الهجرة فقال: إن العرب يخشون سيادة اليهود ونحن نصرح بأننا لا نقبل سيادة اليهود على العرب ولا سيادة العرب على اليهود. وعلق المستر مكدونلد على البيان اليهودي، فبسط الخطة البريطانية تجاه المأزق الذي تصطدم به مشكلة فلسطين، وبعد أن شرح لليهود نظرية العرب قال لهم: بالنظر إلى توتر الحالة الدولية تعلق الحكومة البريطانية أهمية كبرى على وجوب الوصول إلى حل سريع لمشكلة فلسطين. ثم أشار إليهم بأن تقسيم فلسطين يكون وقت الحرب خطرًا على اليهود أنفسهم بقدر خطره على المصالح البريطانية.

وفي ١٢ فبراير قضت الوفود هذا اليوم في راحة وزيارات، فقضى الوفد المصري يومه في ضيافة المستر مكدونلد بمنزله الريفي، وذهب الوفد السعودي إلى ولاية «لكس»، وهي المقر الريفي لأرل أثلون والأميرة أليس قرينته، وتناولوا الغداء على مائدتهما، وقضى الوفد الفلسطيني يومه في زيارة بعض المعاهد العلمية. وفي ١٣ فبراير عقد المؤتمر العربي جلسة سرية في الصباح حضرها المستر مكدونلد والمستر بتلر … وقد ألقى نوري السعيد باشا بيانًا في ١٣ صفحة، تضمن وصفًا مسهبًا للعهود المقطوعة للعرب، وللمباحثات التي جرت على أساسها مع المغفور له الملك فيصل وغيره، واستطرد إلى مسألة فلسطين، وكيف كان اليهود راتعين في بحبوحة العيش في البلاد العربية، قبل تصريح بلفور، وكيف تبدلت الحالة منذ زيارة السر ألفرد موند للعراق. وقال: إن الهياج الذي أثارته الصهيونية تعدى العراق إلى جميع البلاد العربية والإسلامية، وهزها هزة عنيفة. ثم تناول الوثائق التي بسط فيها السر هنري ماكماهون للملك حسين القواعد الأساسية لتسوية الحالة في الشرق الأدنى بعد الحرب، ونصت على إجابة أماني العرب الوطنية.

هذا؛ وقد أصدرت الوكالة اليهودية في مؤتمر فلسطين بيانًا كان مما جاء فيه:

ومن بواعث الأسف أن يباشر المؤتمر أعماله قبل إعادة النظام إلى فلسطين، وإن زعم العرب أن فلسطين بلد عربي هو حلم غير قابل للتحقيق. فاليهود الآن يبلغون ثلث سكانها، ويقومون بثلثي النشاط الاقتصادي والثقافي فيها، وهم لم يتخلوا يومًا عن المطالبة بحقهم التاريخي فيها.

وفي ١٤ فبراير استأنف المؤتمر العربي اجتماعه بالمستر مكدونلد وزير المستعمرات والمستر بتلر وكيل وزارة الخارجية. وقد ألقى الأمير فيصل بيان الوفد السعودي عن موقف بلاده بإزاء المشكلة الفلسطينية، فبعد أن بسط سموه العهود المقطوعة للعرب، وأقام الأدلة على صحتها وقوتها، تكلم عن علاقات الصداقة الوثيقة بين بلاده وإنجلترا، وقال: إن هذه العلاقات التي يريدها العرب وطيدة يخشى أن تتصدع إذا لم يعامَل عرب فلسطين بالعدل والإنصاف. وقد رد المستر بتلر عليه قائلًا: إن إنجلترا نفذت عهودها للعرب، وإن فلسطين ليست داخلة في هذه العهود.

وفي مساء اليوم استأنف المستر مكدونلد والمستر بتلر اجتماعهما بالمندوبين اليهود. وكذلك اجتمع مستر تشمبرلين بعلي ماهر باشا ونوري السعيد باشا وفؤاد حمزة بك، وقد حضر الاجتماع المستر مكدونلد وبعض كبار موظفي وزارة الخارجية والمستعمرات: وفي ١٥ فبراير خُصِّصَت جلسة المؤتمر لبحث العهود التي قطعتها إنجلترا للعرب.

وتكلم الأمير سيف الإسلام مؤيدًا وجهة النظر العربية ومطالبًا بتحقيقها.

وتكلم أبو الهدى باشا ممثل شرق الأردن، فوصف الصعوبات التي تلقاها حكومته في حفظ الأمن بسبب تأثير حوادث فلسطين في البلاد، وقال: إنه يخشى كثيرًا ألا تستطيع الحكومة ذلك في المستقبل، إذا لم تحل القضية حلًّا مرضيًا يحقق أماني فلسطين والعهود المقطوعة للملك حسين.

وتكلم علي ماهر باشا فأيد باسم مصر مطالب الوفود العربية، وأوضح تأثير حوادث فلسطين فيها. وقال: إن البيانات التي سمعها لا تترك شكًّا في أن عهود السر هنري ماكماهون تتناول فلسطين.

وفي ١٦ فبراير دار البحث حول طلب العرب الخاص بإنشاء دولة عربية مستقلة، وقد افتتح وزير المستعمرات البحث بخطبة بسطت بعض آراء عامة للتحقق من المقترحات التي يمكن قبولها كبديل لاقتراح العرب الخاص بإنشاء دولة عربية مستقلة. وقد رد جمال الحسيني بك على هذه الآراء ذاكرًا أن عدم وجود دولة عربية مستقلة لا يتعارض مع سلامة الأقلية اليهودية. وتكلم الوفد الفلسطيني في هذه الجلسة قائلًا: إن الحالة لا يمكن الصبر عليها، وأنْ لا علاج لها إلا بإنالة البلاد استقلالها، وإن كل حل آخر يكون عقيمًا!

وقد أيد الوفد العراقي طلب فلسطين وقال: إنها لا تقل عن العراق استحقاقًا للاستقلال، وإن في العراق أقلية يهودية حقوقها مكفولة كما ستكون حقوق الأقلية اليهودية في فلسطين. وتكلم الوفد البريطاني عن الضمانات التي يجب أن تنالها الأقليات اليهودية في فلسطين المستقلة، وأشار إلى بعض الضمانات القائمة في الهند. فأجيب بأن الحالة في فلسطين تختلف عنها في الهند، وأن فلسطين مستعدة لقبول الضمانات التي أقرتها عصبة الأمم.

وقال علي ماهر باشا: إذا وافقت إنجلترا على استقلال فسطين سهل البحث في مسألة الضمانات، فهل هي موافقة على ذلك؟

فأجاب الوفد البريطاني بأنه سيجيب عن هذا السؤال في الجلسة المقبلة. وفي ١٧ فبراير لم يجتمع المؤتمر العربي، ولكن المباحثات الخاصة ظلت متوالية وهي تدور حول استقلال فلسطين والضمانات المطلوبة للأقليات. أما المؤتمر اليهودي الإنجليزي فقد اجتمع وتبادل الفريقان الآراء. وقد أكد اليهود في هذا الاجتماع أنهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن يقبلوا أي اقتراح يجعل من اليهود أقلية في فلسطين. وفي ١٨ فبراير عقدت جلسة المؤتمر العربي، وقد افتتحها المستر مكدونلد برد شديد على التهم التي وجهها الوفد الفلسطيني إلى إنجلترا في الجلسة السابقة. وقال: إنه لا ينكر أخطاء السياسة البريطانية، ولكنه يعتقد أنها لا تبرر بعض حوادث الثورة. ورد عليه السيد الحسيني ذاكرًا حوادث من هذا النوع قام بها الإنجليز واليهود، واقترح علي ماهر باشا أن تضع الوفود العربية بيانًا مشتركًا، تضمنه رأيها في استقلال فلسطين والضمانات التي يمكن تقديمها للأقليات اليهودية.

وفي ٢٠ فبراير اجتمع الوفد البريطاني مع الوفود المصرية والعراقية والسعودية والأردنية في قصر سان جيمس. وقد بدأ المؤتمر بحث مسألة الهجرة، وقد افتتح ماهر باشا الجلسة بخطبة مهمة باسم الوفود العربية، بسط فيها الحد الأدني الذي تستطيع البلدان العربية أن تعده حلًّا مرضيًا للمشكلة الفلسطينية، ومما قاله: إن السياسة الرشيدة البعيدة النظر، لا يمكن أن تغفل أقل من إنشاء دولة عربية مستقلة في فلسطين يتمتع في ظلها جميع السكان، وأفاض علي ماهر باشا في الكلام عن أهمية السلام في فلسطين من وجهة نظر الدول الديموقراطية الكبرى، خاصة بريطانيا العظمى، التي تعد مركزًا لأكبر إمبراطورية إسلامية في العالم. وذكَّر رفعته سامعيه بأن فلسطين كانت في سنة ١٩١٩ بلادًا عربية للمسلمين والمسيحيين فيها لغة واحدة، وعادات واحدة، على حين كانت الأقلية اليهودية الصغيرة فيها تتكلم العربية أيضًا، وتعيش مع العرب والمسيحيين في مودة وإخاء كشعب واحد.

وفي ٢١ فبراير لم يجتمع المؤتمر العربي ولا المؤتمر اليهودي. بل كان يوم اجتماعات خاصة بين معرب والمستر مكدونلد واليهود. وقد علقت الصحف الإنجليزية قائلة: إن فشل المؤتمر أصبح أمرًا واقعًا. وفي ٢٢ فبراير اجتمع أعضاء المؤتمر العربي الإنجليزي، واستأنفوا مباحثاتهم في مسألة الهجرة. وفي ٢٣ فبراير اجتمع زعماء اليهود ببعض مندوبي الحكومات العربية بدعوة من المستر مكدونلد. وقد افتتح المستر مكدونلد الجلسة ببيان ذكر فيه رغبة إنجلترا في حل عادل يعيد الطمأنينة إلى فلسطين، ثم تكلم علي ماهر باشا فقال: إن الحق والمنطق والمصلحة تقر مطالب فلسطين التي لا يمكن إيجاد حل عادل إلا على أساسها، وإن تصريح بلفور ليس حجة، فهو باطل لصدوره قبل احتلال فلسطين.

وفي ٢٤ فبراير فرغ المؤتمران العربي الإنجليزي واليهودي الإنجليزي من المحادثات التمهيدية. وقد أبلغ المستر مكدونلد الوفود العربية أن الحكومة قررت قبول وجهة نظر الحكومات العربية الصديقة، والعمل على حل مشكلة فلسطين، على أساس جديد هو تأليف دولة مستقلة فيها، وإبدال الانتداب بمعاهدة. وفي يوم ٢٤ فبراير، قدم الأمير فيصل رسالة والده إلى المستر تشمبرلين، وعلى أثر ذلك اجتمعت اللجنة الوزارية برياسة المستر مكدونلد، وأبلغت أعضاء الوفود العربية أن الحكومة قررت قبول وجهة نظر الحكومات العربية والعمل على إيجاد حل لمشكلة فلسطين على أساس جديد هو تأليف دولة مستقلة فيها وإبدال الانتداب بمعاهدة. وفي ٢٥ فبراير اجتمعت الوفود العربية لدرس مقترحات الحكومة الإنجليزية. وفي ٢٨ فبراير رفض الوفد اليهودي المقترحات البريطانية. وفي ٢ مارس، بُحثت المسألة الفلسطينية في مجلس الوزراء البريطاني. وفي ٣ مارس، صدر في لندن الكتاب الأبيض حاويًا المراسلات التي دارت بين الشريف حسين والسير هنري ماكماهون سنة ١٩١٥م. وفي ٣ مارس سافر أمين عثمان باشا — وكيل وزارة المالية — لمقابلة مفتي فلسطين في لبنان. وفي ٨ مارس اجتمع مندوبو العرب بالوفد البريطاني وقد تم الاتفاق على أن تضع إنجلترا بمساعدة مندوبي الحكومات العربية مشروعًا للحل النهائي يعرض على المؤتمر. وفي ١٠ مارس عقد اجتماع بين الوفد البريطاني وبين علي ماهر باشا وفؤاد حمزة بك وتوفيق السويدي بك بالنيابة عن الدول الثلاث. وقد بسطت إنجلترا فيه مشروعها الجديد، وهو ينص على إنشاء حكومة مؤقتة لعشر سنين، وتحديد عدد المهاجرين بثمانين ألفًا.

وفي ١٢ مارس، كتب المهاتماغاندي إلى جريدة صنداي تيمس رسالة قال فيها: تلقيت بضع رسائل يطلب أصحابها فيها إليَّ أن أعلن آرائي في مسألة العرب واليهود في فلسطين وفي اضطهاد اليهود في ألمانيا، فأقول: إنني أعطف العطف كله على اليهود، والخطة الشريفة تقضي بأن يعامل اليهود أينما ولدوا معاملة منصفة عادلة. ثم ختم رسالته قائلًا: ليبرهن اليهود الذين يدعون أنهم شعب الله المختار على أنهم يستحقون هذا اللقب فيختاروا طريقًا بعيدًا عن وسائل العنف لتثبيت مركزهم في العالم، وكل بلد هو وطن، ومنه فلسطين. ولكن لن يكون لهم ذلك بالعنف والاعتداء بل بالمحبة. وفي ١٦ مارس رفض العرب واليهود المشروع البريطاني. وفي ١٧ مارس فُضَّ مؤتمر فلسطين بعد مباحثات دامت ستة أسابيع. وقد صرح عبد الرحمن عزام بك عضو وفد مصر قبل سفره لمدير مكتب «الأهرام» في لندن قائلًا: «أعتقد أن هذه الأسابيع الستة قد غرست بذور الوحدة بين العرب، كما أنها ستغرس بذور الصداقة والتعاون في النهاية بين العرب والإنجليز.»

(٢) الكتاب الأبيض عن القضية الفلسطينية

في يوم الأربعاء ١٧ مايو سنة ١٩٣٩م أذيع في وقت واحد في لندن والقاهرة والقدس ملخص الكتاب الأبيض عن فلسطين، وها هو نص الملخص:

أولًا: الدستور

  • (١)

    إن الهدف الذي ترمي إليه حكومة جلالة الملك هو أن تنشأ في غضون عشر سنوات دولة فلسطينية مستقلة تربطها ببريطانيا العظمى معاهدة تنظم بموجبها العلاقات التجارية والحربية للمستقبل بطريقة مرضية، وفقًا لاحتياجات البلدين، ومشروع إنشاء هذه الدولة المستقلة يقتضي استشارة مجلس عصبة الأمم فيما يختص بإنهاء الانتداب.

  • (٢)

    يشترك كل من العرب واليهود في حكومة هذه الدولة المستقلة بطريقة تضمن مصالحهما الجوهرية.

  • (٣)

    يسبق إنشاء هذه الدولة المستقلة فترة انتقال تستمر فيها حكومة جلالة الملك على تحمل مسئولية الحكم في البلاد. وفي خلال فترة الانتقال هذه يُعطَى لأهل فلسطين نصيب في حكومة البلاد يُزاد تدريجيًّا، وتتاح الفرصة للفريقين بالاشتراك في إدارة الأداة الحكومية، وسينفذ هذا المشروع بقطع النظر عن استعداد الفريقين للانتفاع به.

  • (٤)

    حالما يعود الأمن والنظام إلى فلسطين تتخذ الإجراءات لتنفيذ هذه السياسة، وذلك بمنح أهل فلسطين نصيبًا أوفر في حكم البلاد. والغرض من ذلك هو أن تُسلَّم جميع مصالح الحكومة لموظفين فلسطينيين يعاونهم فيها مستشارون بريطانيون تحت إدارة المندوب السامي. ولهذا الغرض ستكون حكومة جلالة الملك مستعدة لأن تنتدب حالًا لرياسة بعض هذه المصالح موظفين فلسطينيين يساعدهم مستشارون بريطانيون، وسيشترك رؤساء المصالح الفلسطينيون في المجلس التنفيذي الذي يقوم بتقديم المشورة إلى المندوب السامي، ويُحدَّد عدد رؤساء المصالح من عرب ويهود على وجه التقريب طبقًا لنسبتهم في عدد السكان. وسيزداد عددهم كلما سمحت الظروف إلى أن يصبح جميع رؤساء المصالح من الفلسطينيين الذين سيتولون جميع الأعمال الإدارية والاستشارية التي يقوم بها الآن موظفون بريطانيون. وعند بلوغ هذه المرحلة ينظر في أمر تحويل المجلس التنفيذي إلى مجلس وزراء يعقبه تغيير هام في مركز واختصاصات رؤساء المصالح الفلسطينيين.

  • (٥)

    لا تقدم حكومة جلالة الملك في هذه المرحلة على اتخاذ أية إجراءات لإنشاء مجلس تشريعي بطريق الانتخاب، ولكنها تنظر إلى هذا التطور الدستوري كخطوة مناسبة، وتساعد على تنفيذها إذا ظهر فيما بعد أن الرأي العام في فلسطين يحبذ هذا التطور بشرط أن تسمح الظروف المحلية بإيجاد الإدارة اللازمة لذلك.

  • (٦)

    بعد مضي خمس سنوات من إعادة الأمن والنظام، تُعَيَّن هيئة وافية ممثلة لأهالي فلسطين ولحكومة جلالة الملك، وذلك للبحث في الإجراءات الدستورية التي تمت في غضون فترة الانتقال وللنظر وللتوصية في أمر الاستقلال الدستوري لدولة فلسطين.

  • (٧)
    فيما يختص بالمعاهدة المشار إليها في الفقرة رقم (١) أو في الدستور المشار إليه في الفقرة رقم (٦) ترغب حكومة جلالة الملك أن تحتاط احتياطًا كافيًا لما يأتي:
    • (أ)

      تأمين الأماكن المقدسة وحرية الوصول إليها، كذلك حماية مصالح وممتلكات الهيئات الدينية المختلفة.

    • (ب)

      حماية الهيئات والجماعات المختلفة في فلسطين بموجب التزامات حكومة جلالة الملك لكل من العرب واليهود وللمركز الخاص للوطن القومي اليهودي في فلسطين.

    • (جـ)

      الوثوق في الاحتياطات الحربية اللازمة كما تراه حكومة جلالة الملك ضروريًّا على ضوء الظروف السائدة وقتئذ؛ لذلك تطلب حكومة جلالة الملك أن تقتنع بأن مصالح بعض البلاد الأجنبية، والتي هي مسئولة عنها الآن قد كفلت الكفالة التامة.

  • (٨)

    ستبذل حكومة جلالة الملك كل ما في وسعها لإيجاد الظروف التي تمكن من قيام دولة فلسطينية مستقلة بعد عشر سنوات. أما إذا وجدت حكومة جلالة الملك خلافًا لما تأمل بعد مضيِّ هذه العشر سنوات فإنها مضطرة لتأجيل إنشاء هذه الدولة المستقلة، فستستشير مندوبي أهالي فلسطين ومجلس عصبة الأمم والدول العربية المجاورة قبل إقرار التأجيل. فإذا اتضح لحكومة جلالة الملك أنه لا بد من التأجيل تطلب معاونة الهيئات السالف ذكرها لوضع تصميم للمستقبل يكون الغرض منه الوصول إلى الهدف المقصود في أول فرصة ممكنة.

    وستتخذ الإجراءات أثناء فترة الانتقال لزيادة سلطة المجالس البلدية والمجالس المحلية.

ثانيًا: الهجرة

  • (١)
    تباح هجرة اليهود خلال الخمس سنوات الآتية بمعدل يمكن توصيل عددهم إلى ما يقرب من ثلث سكان البلاد كلها، بشرط أن تسمح بذلك مقدرة البلاد الاقتصادية لاستيعابهم. فبعد مراعاة الزيادة الطبيعية المنتظرة بين السكان العرب واليهود، وكذلك عدد المهاجرين اليهود الذين دخلوا البلاد بطريقة غير مشروعة، يمكن السماح بدخول ٧٥٩٠٠ مهاجر يهودي ابتداءً من شهر أبريل سنة ١٩٣٩م أثناء السنوات الخمس المقبلة، وسيسمح بدخول هؤلاء المهاجرين بعد مراعاة شروط الاستيعاب على النمط الآتي:
    • (أ)

      سيسمح بدخول ١٠٠٠٠ مهاجر يهودي سنويًّا خلال هذا الخمس سنوات، مع ملاحظة أنه يمكن سد النقص في العدد الذي يدخل في أي عام بزيادة العدد في عام آخر من الأعوام الخمسة، بشرط أن تسمح بذلك مقدرة الاستيعاب الاقتصادية.

    • (ب)

      علاوة على العدد المشار إليه، وبمثابة المساهمة في حل مشكلة المهاجرين اليهود يسمح بدخول ٢٥٠٠٠ مهاجر منهم متى اقتنع المندوب السامي بأنه قد اتُّخِذَت الإجراءات اللازمة لإعالتهم، وتُعطى الأفضلية للمهاجرين الأولاد الذين ليس لهم من يعولهم.

  • (٢)

    سيحتفظ بالإدارة الحالية للتحقق من مقدرة الاستيعاب الاقتصادية، وسيكون للمندوب السامي السلطة النهائية لتقدير حدود هذه المقدرة. ويستشار مندوبو اليهود والعرب قبل كل تصديق دوريٍّ.

  • (٣)

    متى انتهت مدة الخمس سنوات لا يسمح بهجرة اليهود إلا بموافقة عرب فلسطين.

  • (٤)

    تنوي حكومة جلالة الملك أن تمنع الهجرة الغير شرعية، وقد شرع في اتخاذ التدابير اللازمة لذلك، فإذا تسرب إلى البلاد مهاجرون بطريقة غير مشروعة رغمًا عن هذه الاحتياطات ولم يمكن إخراجهم، يخصم عددهم من النصاب السنوي.

ثالثًا: الأراضي

يمنح المندوب السامي سلطة عامة لمنع وتنظيم نقل ملكية الأراضي. وتبتدئ هذه السلطة من تاريخ نشر هذا البيان عن سياسة الحكومة، وتستمر في خلال كل فترة الانتقال.

وستتجه سياسة الحكومة إلى تعمير الأراضي وتحسين طرق الزراعة فيها عندما يكون ذلك ممكنًا. وفي هذه الحالة يكون للمندوب السامي السلطة في إعادة النظر وتعديل أية أوامر صدرت بمنع أو تحديد نقل ملكية الأراضي إذا وجد أن حقوق السكان العرب ومركزهم تظل محفوظة.

١  وفد مصر رأسه الأمير عبد المنعم وأعضاؤه علي ماهر وعزام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤