اللورد كرومر وأحرار العثمانيين

خيرُ ما يُقال عن اللورد كرومر أنه كان أبًا مشفقًا للمصريين وظهيرًا كبيرًا لأحرار العثمانيين، قدم مصر زمان أشكلت أمورها وجمت مخاوفها فشدَّ أزرها وأنهضها وسط مخاوفها ووقف بها على حد التصافي، فكان لها كالطبيب النِّطاسيِّ، كلما شكت وجعًا بادرها بالدواء بما يزيله، وظل إلى يوم فارقها يتحدث بفضله من عرفوا حسن مقاصده، وأدركوا مبتدأ أمره، غير أنه بُلِي بقومٍ لا يشكرون صنيعة وإن جلَّت، ولا يحمدون حالًا وإن صفت، فنالوا منه وسفهوا عليه، فكان حظهم من ذلك كله أن قال الناس إن هؤلاء ليسوا أهلًا للحكومة. ما أصاب مُصلح مصر من كيدهم سوء، بل زادت محبته تمكُّنًا من قلوب محبيه، وزاد أهل السداد إعجابًا بحلمه كما زادوا إعجابًا بحكمته.

ثم قضت الضرورة أن يسلك اللورد كرومر مع بعض الجهات المصرية طريق الخشونة، ردًّا للشر بالشر، فلما جاء فرمان الخديوية لأمير البلاد أبى الإذن بتلاوته قبل الاطِّلاع عليه، ثم طلب تغيير بعض أحكامه فيما يتعلق بالحدود بين مصر والبلاد العثمانية، فأذعن لذلك الباب العالي بعد جدال طال أيَّامًا، وأصرَّ على طلب إخراج عبد الله النديم من القطر المصري، وأسقط الوزارة الرياضية الأخيرة، ولم يشأ قبول الوزارة الفخرية، فسقطت بعد أن عاشت أربعًا وعشرين ساعة. هذه أشياء يؤاخِذ عليها اللورد كرومر من لم يعرف كيف وقعت. أما الذين خبروا الأمور وعرفوا أنه أحرج في حلمه واضطر إلى ركوب هذا المركب الخشن؛ يقولون إنه لم يفعل إلا بعض ما يجب عليه. وأنا ذاكر هنا ما جربته بنفسي من كرم طباعه وما عرفته يقينًا من مؤازرته لأنصار الحق.

figure
مصلح مصر «اللورد كرومر».

كانت بعض الجرائد الإنكليزية كتبت في وصف الجنس التركي فصلًا هو غاية في الذم، ثم ظهرت بعض الجرائد الحرة العربية فحذت حذوها. أما الجرائد الإنكليزية، فكانت ناطقة عمَّا في فؤاد المرحوم المستر غلادستون، فأرادت كشف الغطاء عن مساوئ الحكومة المستبدة التي انقلبت. غير أنها جعلت لومها خاصًّا بالترك قياسًا منها بأن الترك هم أولو الأمر في تلك الحكومة. وأمَّا الجرائد العربية الحرة فكان كلامها كلام من تجرَّع مرارة الظلم وعاش تحت أثقاله حتى عيل صبره؛ فهو كلام عثمانيين يشتكون عثمانيين. فآلمني كلام الفريقين وأوهمني اتفاقهما في البيان أن هنالك قصدًا آخر. فشبَّت الحرب يومئذٍ بيني وبين إخواني أولئك، وبالغت في التحامل على أصدقائي الإنكليز، ولما أنشأ مراد الطاغستاني ميزانه وادَّعى الرئاسة على الأحرار زدت لهم بغضًا وذلك لأمور نقمتها على الطاغستاني لا أذكرها في هذا الكتاب لكيلا يشوبه شيء من أشياء لم تكن إلا بين شخصين؛ وبذا خسرت ود كثير من إخواني العثمانيين مثل الفضلاء أصحاب المقطم وخِلَّاني النُّجباء وفي مقدمتهم الكاتب التركي الشهير علي سعاد بك وسليم سركيس أفندي صاحب المشير وغيرهم؛ إلا أن صاحب المشير لم يشأ أن يجعل خلاف الرأي خلافًا قلبيًّا، فكنا عدوَّين في مناظراتنا وأخوين في معاشراتنا. ولقد حفظ غيبتي ووفَّى لي بوده. وأصاب اللورد كرومر من قلمي ما أصاب إخواني العثمانيين.

هذه أشياء أذكرها مع ما أجد بذكرها من الألم لتكون عبرة لغيري فلا يقع في مثلها كما وقعت فيها. وإنما يحزنني منها أني أسأت الظن بقوم هجروا بلادهم لينقذوها من الظالم المستبد، وأني ظننت بالظالم خيرًا فأخلصت له الود. كل ذلك أنفة أن يكون مثل الطاغستاني من حماة وطني وثقة مني بأن للطاغستاني آرابًا يُسِرُّها بوطنيته الظاهرة. وشاء الله أن أزور وطن ميلادي الآستانة، وأشهد مصارع الشهداء من إخواني الأرمن، وأقف على حقائق كانت عني غامضة. ورجع مراد وترك زعامة الأحرار، فعدت إلى مصر وكان عبد الحميد أصدر إرادته بجعلي مراقبًا للجرائد مكان عبد الله النديم بعد موته، فاستقلت بعد أن ذكرت الجرائد في أقسامها الرسمية خبر تعييني.

ويروق لي أن أذكر هنا واقعة حالٍ جرت لي؛ ذلك أن المعية أنفذت إليَّ أحد مستخدميها في عصبةٍ لا أعلم من رجالها إلا نفرًا قليلًا، وأنا إذ ذاك بالإسكندرية أريد السفر إلى الآستانة لأرى عمًّا لي كان هناك. فجاءني الرسول في عصابته ليلًا وجعل يتوعدني بالضرب والتحقير إذا أنا لم أكتب له ورقة أقول فيها إن كل ما أدافع به عن عبد الحميد زور وبهتان. فكتبت له الورقة التي طلبها ودفعتها إليه، فلما كان الغد رجعت إلى القاهرة وقصدت إلى قصر الدوبارة ومعي اثنان من أصحابي، فاستقبلنا المستر «بويل» وأظهر لنا من البشاشة والظُّرف ما لا أنساه له إلى اليوم، وقام اللورد كرومر بمناصرتي خير قيام، وبقيت الإمارة لا تدري كيف تتحامى نبالي وكيف تخفض شماسي، ولو كان اللورد كرومر وسائر إخوانه الإنكليز ممن يُسِرُّون الأحقاد لأغضى عن شكاتي ولأخرجني من دار حكومته على أسوأ حال. هذا جميل لا أزال أذكره له وأشكره من أجله كلما هبَّت الشَّمال من بلاده تحمل أرج السلام، ولأسجلن وده في فؤاد لا يكتم ما يُخجل صاحبه ولا يضيع بين مكنونه شيءٌ من الجميل.

وما لاقاه المقطم من أعدائه أعظم؛ فكم تآمروا عليه جماعات وقصدوا إلى إدارته ليضربوا أصحابه ويُلحقوا بهم كل سوء فتعجلتهم الحكومة المصرية بحماة الأمن، ففرَّقوا المهاجمين ودفعوا عن المقطم شرَّهم. وكم حاولت حكومة الاستبداد كسر تلك الأقلام التي نمقت ديباجة المقطم والانتقام ممن صرَّت في أناملهم، فحال اللورد كرومر بينهم وبين ما يشتهون.

ولما طاردت الحكومة المستبدة صاحب المشير وجدَّت في طلبه بما في ذرعها من وسائل الشر، وخاف ذاك العثماني الحر على نفسه بَغْيَها؛ لم يجد أمامه من يستصرخ بعدُ له مثل اللورد كرومر. وإني لأقتبس من آخر عدد للمشير صدر بعد إعلان الدستور ما جاء بقلم صاحبه في حكاية واقعة، قال: دخلت ووقفت بحضرة الرجل الجليل فقال: ما هو مذهبك؟

– بروتستاني.

– من عادة البروتستانت أن يعلِّموا أولادهم الكتاب المقدس، فأنت عارف حافظ لآياته.

– نعم.

– ألا تذكر قول الكتاب والأنبياء: «لا تقل شيئًا في رئيس شعبك.» و«يد الله على قلب الملك» … إلخ؟

– نعم، أذكر ذلك.

– ولكنك تطعن على حكومتك طعنًا جارحًا؛ فإنني قرأت بعض مقالاتك (وكان المشير يومئذٍ يصدر باللغتين العربية والإنكليزية).

– لو علم الرسل والأنبياء بمثل هذه الحكومة ما قالوا قولهم.

فتبسم، فقلت: جنابك تقرأ عن مصائبنا في الجرائد ثم تنسى. وأمَّا نحن فنشعر بها كل حين. وترقرقت الدموع في عيني. فسكَّن روعي وصرفني قائلًا: إذا طلبوك فأنت لا تزايل مصر إن شاء الله.

فانصرفت مسرورًا، حتى إذا كان المساء دُعيت ثانية، وأنبَئوني أن قد وردت تعليمات من إنكلترا بعدم تسليم المجرمين السياسيين.

وما عضَّد اللورد كرومر أحرار العثمانيين وأخذ بناصرهم في هذه الواقعة وحدها، ولا اكتفى من الجميل وتأييد الحق بمثلٍ ولا مثلين، بل أخذ يُواصل أعماله فيما هو ميسَّر له من المعروف. ولما لجَّت المعية في إبادة الجماهير العثمانية الحرة وأبلت في ذلك بلاءها؛ رأت أن تُتِم الفتح المبين بأخذ المطبعة العثمانية من صاحبها المرحوم صالح جمال. فدسَّت له يومئذٍ من ساومه عليها عند أشد حاجته إليها، فلما أخذ ثمنها أو بعضه أقبل أناس من قِبل المعية فعمدوا إلى أبواب المطبعة فحمَوها، وإلى دفاترها فختموها، وإلى رسائلها فجمعوها. وبينا هم في شغلهم بأعمالهم هذه إذا باللورد كرومر وقد طلع عليهم طلوع البدر على ركبٍ ضلَّ عن الطريق، فاستخلص تلك الدفاتر والأوراق وأخذها إلى دار الوكالة البريطانية، وهي لا تزال محفوظة فيها إلى يومنا هذا، وكان ممن شهد هذه الملحمة التي استعرت نارها بين الحق والباطل شقيقي يوسف حمدي يكن أحد الذين جاهدوا مع الأحرار إذ ذاك.

ولو فازت المعية بتلك الدفاتر والكتب لاستخرجت منها أسماء كثيرين من المجاهدين العثمانيين القاطنين تحت سيطرة عبد الحميد؛ فمنهم من كان مشتركًا في جريدة القانون الأساسي التي كانت تُطبع في المطبعة العثمانية، ومنهم من كان يوافيها بمقالاته وما يبلغه من أعمال الحكومة المستبدة. ولو عرف عبد الحميد أحدًا من هؤلاء وهو يطاردهم في ليله ونهاره؛ لأنزل به نقمته ولأدلاه إلى أسماك البوسفور أو كبَّله بالحديد حتى تفيض نفسه ولخسرت الأمة العثمانية من أبنائها من هم عدَّتها ليوم شدَّتها.

وإن بهذه الصنائع تمكَّن ود اللورد من قلوب المجاهدين العثمانيين، وبها سيخلد له الثناء في كتبهم كما خلد للأمة الإنكليزية العظيمة التي منها نشأته ومنها أخلاقه. غير أن كثيرًا من أهل المعرفة ومصطنعي الجميل بُلوا بقوم يعادونهم حين لا داعية للعداء، كذا كان اللورد كرومر مع جماعة من المصريين، حاولوا أن يكذِّبوا بأقوالهم فعاله وأن يغطُّوا بباطلهم على حقه. وما ذلك بضائره أبدًا. غدًا تشهد كتب التاريخ بفضله على من ينكرونه، ويستغفر أبناء العصر الآتي لذنوب أبناء هذا العصر، وإنما حدا بي إلى كتابة سطوري هذه ما يحدو بكل ذي كلفٍ بالحق، وما باللورد من حاجة إلى من يستنصف بكلامه؛ فقد استنصف لنفسه بكتابه الذي سمَّاه «مصر الحديثة»؛ فهو الكتاب لا ينسيه القدم ولا تمحو سطوره الحقب. هكذا يظلُّ منقوشًا على القلوب. وإذا لم تبلغ قصيدة من الشهرة مبلغ «قفا نبك»، فلن يبلغ كتاب من الشهرة مبلغ «مصر الحديثة». وكم كتاب وكم كاتب! ما قلَّت العظات ولا أقصرت الحوادث في الإنذار، ولكن بعض الأفئدة لا تهتدي الحكمة إليها السبيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤