جغرافية ولاية سيواس

سيواس هي إحدى الولايات الجسام التي اختُطفت في الأناضولي، ينتهي شمالها إلى طرابزون، وشرقها إلى أرضروم، وجنوبها الشرقي إلى معمورة العزيز، وجنوبها إلى حلب وأدنة، وغربها إلى أنقرة، وغربها الشمالي إلى قسطموني؛ فهي بين الدرجة الثامنة والثلاثين والدقيقة العاشرة وبين الدرجة الحادية والأربعين والدقيقة العشرين من العرض الشمالي، وشكلها شكل مثلث غير مستقيم الخطوط، وتبلغ مساحتها ٨٣٧٠٠ كيلومتر مربع، وعدد سكانها على ما جاء في إحصاء سنة ١٣٢٥ هجرية هو كما يأتي:

٩٦٨٧٨٦ مسلمون ومنهم الأكراد والمستوطنون من مهاجري القوقاس
١٤١٦٤٣ أرمن
٦٤٥٠١ أروام
٣٢٧٨ كاثوليك وأكثرهم من الأرمن
٤٣٣٦ بروتستانت وأكثرهم من الأرمن
٢٢٩ يهود
٢١٧٣ أقباط
١١٨٥٠١٦ المجموع ستة عشر وخمسة وثمانون ومائة ألف ومليون

فإذا قُسِّم هذا المجموع على مساحة الولاية أصاب كل كيلومتر ثلاثة عشر نفسًا، وعدد الذكور ٦١٨٣٤٥ وعدد الإناث ٥٦٦٦٧١. وإني لأتعجب أن يكون عدد الذكور أكثر من عدد الإناث في بلاد مثل بلادنا دائمة الفتن وشديدة الكلف بالتجنيد، وما ذاك إلا من حسن الطالع دام للأمة ابتسامه.

جبال الولاية

أعظم جبال سيواس سلسلتان، إحداهما تبتدئ من أدنة ممتدة من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، فتقطع سيواس من جنوبها الشرقي حتى تنتهي إلى جبال أرضروم، وكان القدماء يسمونها «أنتي طاورس» والأخرى تبتدئ من جبال أرضروم ممتدة غربًا بين طرابزون وسيواس، وتسمى «بونت». وأعلى شامخات السلسلة الأولى هو جبل «قرة بل»، فعلوُّ ذروته ٣٢٧٦ مترًا. أما سائر الذرى فعلوُّها بين الألفين وبين الألفين والخمسمائة من الأمتار، وأشهر جبال السلسلة الثانية هو جبل «جاملي بل»، وعلو ذروته ٢٥٠٠ متر، وقد سبق ذكره في سياق الكلام على رحلتي إلى سيواس.

أنهار الولاية

في ولاية سيواس نهران هما أعظم أنهارها؛ اسم الأول «قيزيل إيرماق» ومعناه النهر الأحمر، واسم الثاني «يشيل إيرماق» ومعناه النهر الأخضر. أما «قيزيل إيرماق» فينبع في جبل «قيزيل طاغ» الكائن بقضاء «قوجكيري»، فيجري في جنوب الولاية متجِّهًا إلى الغرب الجنوبي منها حتى يدخل ولاية أنقرة، ثم يتدفق إلى الغرب في مجرى كالقوس الكبير فيطوف حدود ولاية قونية وحدود ولاية قسطموني، ثم يعود إلى الشمال الغربي لسيواس فيأخذ مجراه بينها وبين قسطموني وطرابزون، ثم يدخل ولاية طرابزون ويظلُّ بها باقي مجراه إلى أن يختلط بالبحر. وطول «قيزيل إيرماق» ألف كيلومتر، أكثر من نصفها يجري بسيواس. وأمَّا «يشيل إيرماق» فحاصل من تلاقي نهيرين، أحدهما نهير «طوزانلي» ينبع في شمال جبل «كوسة» وطوله ٢٣٠ كيلومترًا، وثانيهما نهير «جيقريق» ينبع في «جاملي بل» وطوله ٢٢٠ كيلومترًا، وإنما يتلاقى النهيران بعد أن يجتازا «قاز أووه»، فيمر «يشيل إيرماق» بمدينة آماسية فيتلاقى بالنهير المُسَمَّى «ترس آقان» ثم يقطع «طاش أووه» فيلحق به نهير «كلكيت» فيتدفق حتى ينتهي إلى البحر الأسود مجتازًا بولاية طرابزون.

وقد شاءت الحكومة الحميدية أن تُطهِّر «قيزيل إيرماق» وتُسيِّر فيه السفن تسهيلًا للتجارة، ولكنها استكثرت النفقات فرجعت إلى العجز وسكتت.

الهواء والصحة في الولاية

الأرض في ولاية سيواس كثيرة اختلاف المواضع صعودًا وصبوبًا وماءً وشكلًا وحالًا. وهذه الاختلافات تستحدث الاختلافات في الصحة، إذ لا يصح أن يكون إقليم مدينة سيواس وهي تعلو عن سطح البحر ثلاثمائة وألف متر مثل إقليم آماسيا، وهي لا تعلو عن سطح البحر إلا أربعمائة متر، وبعد فالولاية كلها جيدة الهواء خلا مواضع قليلة فيها، وتلك المواضع هي ولا ريب خيرٌ من ولايتي طرابزون وأدنة، ولولا جهل المستوطنين وإفلاس الحكومة الزائلة وخستها لخلصت البلاد من أمراض كثيرة لازمتها ملازمة المستوطن؛ فإن الحمى التيفوئيدية وحمى التيفوس لا تكُفَّان عن الفتك، وتأتي بعدهما الحمى القرمزية ثم السل وضحاياهما قليلة ولله الحمد. أما داء الحصاة فلا يغادر سيواس أبدًا. على أن زيادة المواليد مضطردة عامًا فعامًا؛ فهي تزداد كل عام نحو العشرة آلاف مولود.

أجل أن هنالك عظائم لا تُفلح في مغالبتها المساعي، كتوالي التغيرات الهوائية في أيام الربيع وتمادي المطر أيَّامًا كثيرًا يقلع ليلًا ويغدق نهارًا ودوام الوحل والرطوبة في الطرق كلها، ولكن مضار هذه الأشياء لا تُذكر إذا قيست إلى ما يتولَّد من البرك والمستنقعات من الأمراض، وتلك تسْهُل إزالتها بمال لا تعجز عنه الحكومة لو تكلفته، هذا ودرجة الحرارة لا تتجاوز الثمانية والثلاثين في الشتاء تحت الصفر ولا الثلاثين فوقه في الصيف.

الزراعة في الولاية

ولاية سيواس هي من أكثر ولايات الأناضولي خضبًا ومن أجودها تربةً وأحسنها مرعًى، لا يجد الباحث المُجد في جبالها الشامخة وسهولها المنبسطة موضعًا لا يصلح للزرع إلا نادرًا، وإنما يختلف خصبها باختلاف أرضها، فما ينبت في توقاد وفي آماسية لا ينبت في مدينة سيواس وفي «قرة حصار». تجود تلك الأراضي بما يُغرس فيها من أعواد وما يُلقى فيها من بذور سوى ما كان خاصًّا منها بالبلاد الحارة كالتمر، وما كان أليفًا بشواطئ البحار كأشجار الليمون والبرتقال والزيتون.

غير أن الزراعة في سيواس مهملة إهمالًا، فلا أهلها يعنون بها ولا الحكومة تُرغِّبهم فيها، وكم يرى السائر في أرجائها من أرض خصبة بالنبات البري تركها أصحابها عجزًا عن استثمارها، وفن الزراعة عندهم مفقود، وليس في تلك البلاد أثر للآلات التي استحدثها العصر الجديد، ولا بها شيء من معدَّات النقل يبعثون به ثمرات أرضهم إلى البلاد القاصية.

على أن توقاد وآماسية تجودان من الفاكهة بكل لذيذ طيب، فليس على وجه الأرض تفاح مثل تفاح آماسيا، وعنب توقاد مشهور يُخمر نبيذًا ويقطر عرقًا ويؤكل فلا يُستنفد ولا يُمل، وكرومها غاية في الحسن والكثرة، ولكنها لم تمتع بيسير ما جاد به الترقي العصري في أسلوبها.

حيوانات الولاية ووحوشها وأطيارها

البقر والغنم والماعز وداجنات الطيور في الولاية كثيرة يقتنيها المُوسر والمُعسر، اشتريت فيها بقرةً حلوبًا ومعها عجلها بثلاثمائة قرش، وفي ذلك دليل على الكثرة والابتذال، والدجاجات والحمامات الداجنة والبرية لا يحصيها العد. لقد كنَّا نبتاع الزوجين من الحمام البري بقرش واحد، وكذلك الحجل. أما الدراج فكنا نذهب لصيده ونجهد في طلبه والبط والإوز وسائر أجناس الطير أكثر من أن يُعدَّ، هذا مع تهافت الناس على الصيد في غير أوانه ومع كثرة الطيور الخاطفة كالعقبان والصقور، وجبال الولاية كثيرة الأرانب والثعالب والذئاب، وإنما تكثر ذئابها في الشتاء فهي تطوف جماعات فيشتد فتكها ويعم ضررها، وفي حراج العزيزية ونيكسار من الدب والوعل والخنزير البري ما لا يجهد قنَّاصًا. ولأهل الولاية سيواس كلف شديد باقتناء الخيل وأكثرها من الجنس القوقاسي، وأشدهم عنايةً بها وكلفًا هم المهاجرون من القوقاس (الجراكسة)، ففي قضاء العزيزية وحده من الخيل نحو الثلاثين ألف رأس. وهذه الخيل أصلب من خيول العرب قوائم وأحمل ظهورًا وأكثر صبرًا على السير والجري، ولكن الخيول العربية أحسن منها أشكالًا وأكرم أحسابًا وأسرع ركضًا وأسلس قيادًا وألين متونًا، وقلَّ في الجركس رجلٌ لا يملك جوادًا أو جوادين. وقد يجد فرسان الجيش العثماني في سيواس حاجتهم من الخيل غير أنهم يجدون تربيتها صعبة المرام.

التجارة والصناعة في الولاية

لو كانت ولاية سيواس متمتعة بما تتمتع به بلاد الله من أسباب العمران لأفادت الدولة واستفادت؛ فإن أهلها ولا سيَّما الأرمن، منهم أهل جد واجتهاد لا يعرفون الملل ولا يعجزهم شيء، وإنهم مع ما بُلوا به من الحرمان من الآلات والأدوات يصنعون لأنفسهم ما يكون لهم معوانًا على الاستمرار في صناعتهم. عرفت صانعًا من مهرة صنَّاعها اسمه الحاج أوسكيهان، كان يصنع بنادق المارتيني والمسدَّسات فتفوق ما تصنعه مصانع أوروبا، ضربت الحكومة الحميدية على يده وقالت: أنت أرمني وربما أعتت قومك وأعددت لهم عدَّتهم من السلاح، فكفَّ الرجل عن البنادق والمسدسات، وأخذ يصنع الأقفال والكوانين وغيرها، ثم اتَّهمته الحكومة بضرب النقود الزائفة فصادرت آلاته وأدواته وتركته يطلب قوته فلا يجده، فلما أعيته الحال فرَّ مهاجرًا إلى أمريكا، وبلغني بعد ذلك أنه بات يلعب فيها بالذهب، وعرفت صانعًا آخر اسمه نورادنجيان، كان لا يحتاج آلة من الآلات إلا صنعها بنفسه، وله من المصنوعات ما يتباهى به كل محبٍّ للوطن، ولأهل سيواس مهارة تُذهل عندها الألباب في صنع الخناجر والمطاوي؛ فقد فاقوا في ذلك على صناع شفيلد، غير أن مطاوي سيواس لا تُشبه مطاوي شفيلد حسنًا ولا شكلًا. أما الخناجر الجركسية فليس في صناع الأقطار من ينافسهم فيها.

كذلك النجارة؛ فلقد اقتنيت من نفائس مصنوعات القوم ما لم أرَ خيرًا منه، ولو تهيَّأ لي استحضار بعضه لفعلت، ولو رأى القارئ الكريم مهارة الصياغ فيما يصوغون من الحُلي ذهبًا وفضةً لتناهى في تعجبه، كل ذلك يبدعونه ويجيدونه بلا آلة تُذكر سوى ما لا تخلو منه كف حدَّاد شرقي من مبرد ومحفر وما ماثلهما.

ومن جيد الصناعة السيواسية نسج الحرير. غير أنهم لا يبدعون في أجزاعه وأنماطه، أما النسيج فحسن دقيق وأمَّا الألوان فكثيرة زاهية، فلا تروج في أسواق الغرب، وأهل أماسية وتوقاد متفرِّدون بصناعة نسج الحرير.

أما الطنافس والسجادات فقد فاقت ما يُصنع منها في بلاد الفُرس جودةً ورونقًا، وقلَّت نسوة هنالك لا تحكمنَ نسج السجادات، هذه صناعة لا تكاد تجهلها فتاة سيواسية ولا يكاد يخلو منها بيت في سيواس، ولتلك المنسوجات منزلة في البلاد الغربية لا تسمو إليها بضاعة من بضاعات الشرق بأسره، ويبلغ عدد المصانع التي تصنع السجادات والطنافس في مدينة سيواس وضواحيها أكثر من العشرة آلاف مصنع، لا يعمل فيها إلا النساء والبنات. وقد تجد نساء القُرى في هذه الصناعة تسلية إذا اشتدت أيام الشتاء وطالت البطالات. والطنافس في جودتها وبهائها درجات، فالطنافس المسماة «رشوان» هي المتفردة بمنتهى الرونق، لا ينصل لها صبغ ولا يتغلب عليها القدم، ومثلها الطنافس المنسوجة بقضاء العزيزية وتسمى صارز وإفشار، ودون هذه الأستار الكردية وتُنسج بقرية «قرانلق» التابعة لقضاء «قانغال» وفي قرية «إيوالي درة» التابعة لقضاء «دارندة»، ودونها الطنافس المسمَّاة «إيلبكلو»؛ فهي وإن أشبهت نوع «رشوان» إحكامًا ولكنها لا تُماثلها حسنًا، وهي تُصنع في ناحية «إيلبكلو» ثم تأتي الطنافس المعروفة بالمشبك وتُنسج في أكثر القرى التابعة «لقانغال» و«يلديز إيلي» وغيرهما.

وتبقى هذه الطنافس الأخيرة منها أكثر من الخمسين عامًا، تطؤها الأقدام وتُستعمل في الخلوات على التراب وغيرها وهي لا تزداد إلا جدة، وكلما تقادم عهدها كثُرت قيمتها.

وسجادات سيواس هي من بدائع الصنعة في هذا العصر، عرف ذلك الأجانب وأدركوا رجحانها على سجادات الفرس، فأغلوا أثمانها وتنافسوا في اقتنائها وتسابقوا إلى الإكثار منها، وفي سيواس مصنع اليوتي الشهير وهو شركة بين المسيو آلبراليوتي والمسيو بيكر والمسيو داندريا، وتختلف قيمة ما يصنع من السجادات من عشرة إلى خمسين جنيهًا ثمنًا للسجادة الواحدة.

ولا تقف المنسوجات السيواسية عند هذا القدر، بل هناك أنواع أُخَر من الصوف والكتان والقطن، ينالها الفقير ويُعجب بها الغني ويتَّخذها المسافر تحفة وتهاداها الأحباب فيما بينهم، ويوم تُمد خطوط الحديد بين سيواس وصامسون يسعد أهلها ويكثر رزقهم وتتجدد فيهم العزائم.

المعارف في الولاية

إذا لم تكن سيواس أكثر ولايات الأناضولي جهالًا فهي من أكثرها جهالًا؛ ذلك بأن المسلمين طُبِعوا على حب قديمهم فلا يريدون الجديد منه بديلًا، ولا تزال في خزانات بعض المتعصبين كتب طوت معارف هذا العصر لغوها، وينظر أولئك القوم إلى ما كلف به شباب هذا العصر من المعارف، فلا يجدون فيها لذة ويكرهون تداولها بينهم. هذا شأن من في بيوتهم كتب يقرءونها، فما ظنُّك بمن ليس في بيوتهم إلا المسدَّسات ولا البنادق! أما المسيحيون فهم فريقان: قليلٌ من الروم وكثيرٌ من الأرمن، ففريق الروم لا يفوق المسلمين في حال من الأحوال، ولا مشابهة بينهم وبين من عرفت من روم الآستانة وإزمير وغيرهما، وقلَّ فيهم الغني ومن له جاه أو منزلة تميِّزه عن غيره. وفريق الأرمن بمثابة من العلم والصناعة والتجارة لا يساميهم فيها أحد ولهم السبق في كل مضمار، ولولا ما دهمتهم به المذابح من نهب أموالهم وقتل سراتهم لبلغوا شأوًا تقصُر عنه الهمم.

والأرمن قوم أولو جدٍّ ونشاط، كلفون بالعلوم لا يستكف لهم شوق ولا تفُل لهم عزيمة؛ فهم يتسابقون إلى مدارس اليسوعيين والبروتستانت وإلى مدارسهم الأهلية فيصيبون منها الحظ الأوفر، والمسلمون يصدُّون عن سبيل تلك المدارس خوفًا أن تُفسد على أبنائهم دينهم. وإذا خالفهم في رأيهم مخالف لجُّوا في الوقيعة به وأطالوا اجتنابه. وكم يرى نزيل سيواس في أهل الحرف وأبناء التجار من سكانها الأرمن شبَّانًا إذا تكلموا بالفرنساوية أو بالإنكليزية ما شك أنهم تعلَّموها في مدارس أوروبا. وليس في أبناء الوجهاء من المسلمين خمسة يكتبون التركية ويؤدُّونها صحيحة. وليس في مدينة سيواس سوى مدرسة إعدادية واحدة وهي كأحسن ما رأيت من البنايات وأوسعها، وحظُّها من العلم كحظِّ الصخرة الصماء من النبت، والكُتب التي تُقرأ في هذه المدرسة كتب مهجورة لا يعرفها أكثر فضلاء هذا العصر، مثل كتاب المشذب في قواعد اللغة العربية، كل تصريف فعل نصر، فترى صحائفه حواشي وأنماطًا بنصر ينصر نصر منصورًا منتصرًا مستنصرًا منصَّرًا متناصرًا. واللغات الغربية لا يحسنها الأساتذة والعناية بعلوم الدين بالغة منتهاها.

سألت بعض المتقدمين من تلامذة تلك المدرسة أسئلة فيما يعاني من الفنون فبدا عليه العجز وبُهت لا يجد جوابًا، ثم سألته عن أركان الصلاة والصوم فانطلق انطلاق الصقر من وكره، فأخذ مني التعجب، فقلت: ما بالك تُحسن الجواب في هذه القواعد وإذا بلغت إلى غيرها غلب عليك الوجوم؟ فقال: هذه من أمور الدين، لا يكون المسلم مسلمًا إلا بمعرفتها، أما تلك فليست من الدين في شيء. فاستشعرت في فؤادي حسرات على تلك الشبيبة وقلت: لقد بلغ بكم السفهاء مبلغًا لا يُرجى بعده خيركم. وأيقنت أن للبلاد العثمانية أيَّامًا باقيةً من الشقاء لا بدَّ لها أن تستوفيها.

وفي سيواس جوامع عتيقة بها معاهد للعلم يسمُّونها مدارس، وهم يسمُّون المدارس مكاتب، وقد نَحَوت نحوهم في كثيرٍ من مواضع هذا الكتاب، وإنما يجاور في تلك الجوامع أناس من أهل البطالة فرارًا من الجندية واكتفاءً من الرزق بما لا يتجشم له تعب. فإذا أفلح في علومهم أحدهم رأى في نفسه مفرد العلم وخرج في طلب الوظائف أو جلس في المساجد يعظ الناس ويُضلُّ عقولهم ويُميت نفوسهم بالتعصب. ولا يطهر الله البلاد العثمانية من هؤلاء القوم إلا بعد سنين عديدة أقلها عصر وأكثرها عصران.

ومن تمام البلية أن نظارة المعارف تتخذ أساتذة مدارسها من رجال تشفع فيهم القرابات والوصايات وما يهبون لبعض رجالها من المال، فلا تُختار ولا تُمتحن. والتلامذة يذهبون إلى مدارسهم ومعهم الأسلحة من مسدسات وخناجر ينازل بعضهم بها بعضًا. وقد يكمنون في الطريق لمن يشدد عليهم العقاب من الأساتذة ولمن يخافونه عند الامتحان، فيخرجون عليه متوعدين ولا يفارقونه إلا إذا حلف لهم الأيمان المُغلَّظة أن يراعي جانبهم. وهذه معايب ما أظنُّ أن لها أشباهًا في سائر أقطار الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤